بعث أسامة إجراء وقائي:
ولمّا رأى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حالة المسلمين يومئذ وما أحدق بهم من شر مستطير، لابدّ له من اتخاذ تدبير وقائي لوحدة الصف، وما ذلك إلاّ إبعاد عناصر الشغب الّذين كان يخشى منهم الجفاء والعِداء لولي الأمر من بعده، لتخلو المدينة منهم ويصفو الجو لخليفته الّذي أمرته السماء بنصبه يوم الغدير. وقد تبين له - والوحي يخبره ويأمره - انّ الحاقدين والموتورين ممّن وترهم عليّ في سبيل الدين - فقتل آباءهم وأخوانهم وعشيرتهم - قد بدت منهم كوامن الشحناء على وجوههم، وبدأ التآمر والكيد. كلّ ذلك أحسّ به النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ورأى دنوّ أجله، فلابدّ له من اتخاذ ذلك التدبير الوقائي الّذي لو تمّ، لتمّ الأمر لولي الأمر دون منازع.
فأمر بتجهيز جيش أسامة إلى بلاد مؤتة، وفي تأميره شاباً لم يتجاوز العشرين من عمره على قيادة جيش يضم من شيوخ المهاجرين والأنصار أشخاصاً بأعيانهم مؤكداً عليهم الخروج، ولعن المتخلف منهم، كلّ ذلك له دلالة واضحة وعملية، على أنّ الفضل للكفاءة وليس للسنّ مهما كان صاحبه وإنّ هذا الاجراء الاحتياطي الوقائي لو تمّ لكانت الأمة في راحة من عناء الشقاء والشقاق، والّذي لم تزل ولا تزال تكتوي بناره، فهو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أختار أسامة دون غيره ممّن سبق له أن ولاهم قيادة السرايا في الغزوات، كان يعطي أمته درساً بليغاً بأنّ الجدارة والاستحقاق إنّما تكونان بقدر الكفاءة لا بقدر السنّ، ولا شك أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يرشح في توليته الرجال للمناصب إلاّ مستحقي الجدارة، فمن
فما الحداثـة عـن فـضلٍ بمانـعة | ولا الكفاءة في سـنّ وإن هـرموا |
قد أرسل الله عيسى وهو ابن ساعته | فلم يحابي شيوخاً ما الّذي نـقموا |
وكأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هيأ المسلمين لقبول (قاعدة الكفاءة) في ولاية أمورهم، ونبّههم عملياً على أن ليست الشهرة أو السن أو غيرها من مقوّمات الشخصية، كفيلة باستحقاق الإمارة والولاية، فلذا قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رداً على من نقم تأمير أسامة عليهم: (وأيم الله إن كان - زيد- لخليقاً للإمارة، وانّ ابنه لخليق للإمارة)، كما سيأتي ذلك عن صحيح البخاري وغيره.
وبهذا التدبير الحازم قطع حجة الزاعمين انّ الأمارة والولاية لمن كان في السنّ متقدماً.
من كان تحت اُمرة أسامة:
قال الرواة: لقد عقد اللواء لأسامة بيده، وأمّره على جيش عدته ثلاثة آلاف فيهم من قريش سبعمائة إنسان. وقد روى الرواة أسماء بعض الشيوخ الّذين كانوا في ذلك الجيش فكان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم وأسيد بن حضير وبشير بن سعد، وهناك آخرون»(1) ولكن كلّ من سمّينا منهم ومن لم نسمّ لم يمتثلوا أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بل تخلّفوا وطعنوا في تأمير أسامة عليهم.
____________
(1) طبقات ابن سعد 4/46 و 136، وتاريخ اليعقوبي 2/93، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1/159 ط محققة، وفتح الباري لابن حجر 9/218- 219، وكنز العمال 5/312 ط الأولى، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2/391، ومن كتب المتأخرين حياة محمّد لمحمد حسين هيكل /467. والملاحظ في هذه المصادر المذكورة كلّها قد ورد اسم أبي بكر وأسم عمر فيمن سمّاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخرجوا تحت قيادة أسامة، ولم تذكر أنهما سمعا وأطاعا، بل ذكرت أنهما كانا يخرجان ويعودان بحجة أو بغير حجة، ويكفي وجودهما عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم الخميس حين أمر بأحضار الدواة والكتف وهو دليل على أنهما كانا يرقبان حالة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويترقبان موته ولديهما خطة يجب أن يقوما بتنفيذها.
فغضب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) لما سمع ذلك، وخرج عاصباً رأسه، فصعد المنبر وعليه قطيفة فقال: (أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة؟ لئن طعنتم في تأمير أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايم الله ان كان لخليقاً بالامارة، وابنه من بعده لخليق بها...) »(1).
وقال أيضاً: «وثقل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأشتد ما يجده، فأرسل بعض نسائه إلى أسامة وبعض من كان معه يعلمونهم ذلك. فدخل أسامة من معسكره... فتطأطأ أسامة عليه فقبّله ورسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد اسكت فهو لا يتكلم، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثمّ يضعهما على أسامة كالداعي له، ثمّ أشار إليه بالرجوع إلى عسكره، والتوجه لما بعثه، فرجع أسامة إلى عسكره.
ثمّ أرسل نساء رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) يأمرنه بالدخول وقلن: انّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد أصبح بارئاً، فدخل أسامة من معسكره يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل، فوجد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) مفيقاً، فأمره بالخروج وتعجيل النفوذ، وقال: (أغد على بركة الله).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/159 ط محققة، صحيح البخاري (كتاب المغازي باب بعث النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أسامة بن زيد في مرضه).
فأقبل ومعه أبو بكر وأبو عبيدة، فانتهوا إلى رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين زالت الشمس من هذا اليوم وهو يوم الاثنين وقد مات، واللواء مع بريدة بن الحصيب، فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو مغلق»(1).
هذا ملخص حادث بعث أسامة ورزية من تخلف عنه.
(سؤال بعد سؤال فهل من جواب؟)
أوّلاً: لقد مرّ بنا انّ أبا بكر وعمر وابن عوف وسعداً أو سعيداً والزبير وأبو عبيدة كانوا فيمن سمّاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمرهم بالخروج فتخلفوا، وقد لعن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تخلف عن جيش أسامة(2) فهل هم ممّن شملتهم لعنة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ وكيف وهؤلاء ممّن زعم الزاعمون أنهم من المبشرين بالجنة، فهل يجوز أن يلعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من شهد له بالجنة وبشّره بها؟
ثانياً: لقد مرّ بنا أنّ بعض نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسلت إلى أسامة وبعض من كان معه.
فمن هي تلكم البعض من نسائه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ ومَن هم أولئك البعض ممّن كان مع أسامة؟
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/160 ط محققة.
(2) اُنظر الملل والنحل للشهرستاني 1/23 ط الثانية سنة 1395، وشرح المواقف للجرجاني 8/408 ط دار الكتب العلمية بيروت.
وهل من المستبعد أن يكونا هما اللتان تظاهرا عليه كما في سورة التحريم؟
ثالثاً: لقد مرّ بنا أيضاً انّ نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أرسلن إلى أسامة ثانياً يأمرنه بالدخول، فهل كنّ جميع نسائه؟ أوهنّ اللائي أرسلن إليه أوّلاً؟ ومهما يكن فهل من حقهنّ الإرسال؟ وما هو حقهنّ في الأمر؟
رابعاً: لقد مرّ بنا أيضاً انّ أسامة وبعض من كان معه أمتثلوا أمر النساء المرسلات، فهل كان أمرهنّ أوجب طاعة من أمر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فما بالهم تخلّفوا عن أمتثال أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يذهبوا حيث أمرهم وتباطؤا متثاقلين؟ ثمّ هم هبّوا سراعاً لأمتثال من أمرتهم من النساء طائعين سامعين فيعودوا مسرعين؟
خامساً: لقد مرّ بنا كتمان الرواة لأسماء تلكم النسوة فهل كان كلّ الرواة نسيّاً فنسوا أسماءهن كما نسوا الوصية الثالثة في حديث الكتف والدواة؟ أم انّ في كتمان ذلك ستر عليهن والله يحب الساترين؟
ومهما تكن حقيقة ذلك فسيبقى التساؤل قائماً - وبدون جواب مقنع - هل كان ثمة تنسيق وتدبير بين بعض نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين أسامة وبعض من كان معه؟
وهذا أيضاً ليس بالمستبعد من ساحة التصور، كما أنّه أيضاً غير مستبعد حتى في مرحلة التصديق، لأنّ أسماء الّذين ذكرتهم الرواية أنّهم أقبلوا مع أسامة هم الثالوث - أبو بكر وعمر وأبو عبيدة - ونجد لهذا الثالوث أهلية الترشيح للخلافة فيما ترويه عائشة وقد مرّ حديثها، كما نجد لهذا الثالوث تنسيقاً في
لذلك لم يكن تخلف من تخلف عن جيش أسامة عفوياً.
كما لم يكن تثاقل أسامة بالخروج عاجلاً عفوياً أيضاً.
ولم يكن تلك المراسلات بين بعض أزواج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين أسامة وبعض من كان معه عفوياً أيضاً.
كلّ ذلك يوحي بضلوع عناصر فاعلة وخطيرة في تلك المؤامرة، لذلك كان النفر الّذين وردت أسماؤهم يراوحون بيت النبيّ ولا يبارحونه، وان بارحه الرجال فلهم من نساء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عون وعين.
فهذا كلّه قد أحسّ به (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مضافاً إلى أنّ السماء توحي إليه بأخبارهم، ثمّ تأمره بتنفيذ أمر الله سبحانه، وإن كلّفه عناءً وجهداً، ولاقى عناداً ونَصَباً، فلذلك أتخذ التدبير الحازم والسريع. والأكثر ضماناً للنجاح - لو تم - فأمر أن يأتوه بالدواة والكتف، ليكتب للأمة كتاباً لن يضلوا بعده أبداً. وتلك الوثيقة هي الحجة الشرعية التحريرية الّتي لا يمكن أن تنكر أو تتناسى كسائر ما سبق منه شفاهاً. وتبقى حجة يحتج بها الخليفة من بعده.
فهذا هو ما أراده النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وهذا هو ما أدركه عمر وبقية من حضر من طائعين وعاصين. فنبذه عمر وتبعه قوم فشاقـّوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أمره، وقبله آخرون ودعوا إليه سامعين طائعين.
وهذا هو الّذي لم يخف من بعدُ على الصحابة فرووه كما رأوه.
وهذا هو الّذي تهرّب من ذكره صراحة بشكل وآخر علماء التبرير، فحاولوا جاهدين ليكتموا الحقّ، فقالوا أنّه اراد أن يكتب لأبي بكر، ولعمري لو كان ذلك صحيحاً لكان عمر أوّل المجيبين المستحبين. ولكن ذلك شأن الجدليين المعاندين، أيغالاً في صرف النظر عن حق الإمام عليّ (عليه السلام) الّذي أراد رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب له ذلك الكتاب، فأمعنوا في إخفاء الحقيقة. وهيهات أن تخفى الشمس وإن جللها السحاب.
رابعاً ـ لماذا أراد عليّاً دون غيره؟
والجواب على هذا يستدعي مُقدمة نعرف منها دور الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك. وتلك هي أن ننظر بتجرّد وموضوعية إلى ذلك الدور، فهل كان (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيه مأموراً؟ أو مختاراً؟ إذ لا يخلو من هاتين الحالتين.
فإن كان مأموراً - وهو لابدّ أن يكون كذلك كما هو شأن الرسالة {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}(1)- وما كان شأنه في التبليغ إلاّ على حد قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَالله يَعْصِمُكَ مِنْ النَّاسِ}(2).
____________
(1) النور /54.
(2) المائدة /67.
فليس من حقـّه أن يكون له أيّ دور سوى تبليغ ما أمره الله به، وقد مرّ التصريح منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك حين أعترض عليه جلف جاف في أمر بيعة الغدير لعليّ (عليه السلام): منك أو من الله؟ فأجاب قائلاً: الله الّذي لا إله إلاّ هو. من الله.
وحيث أنّ بيعة الغدير وكتابة الكتاب لو تمت، كلتاهما كانت لبيعة عليّ (عليه السلام) وخلافته، وهما من واد واحد، وفي الأولى كان عبداً مأموراً فكذلك هو في الثانية كان عبداً مأموراً، وأيضاً ليس من حقّ أيّ أحد أن يعترض عليه في تنفيذ أمره.
وإذا لم نقل بهذا فما هو إلاّ الإختيار، وإنّما أراد عليّاً من نفسه لعواطف شخصية - والعياذ بالله - فلننظر لماذا تلك العواطف؟
هل كانت نسبية، فهو قريبه وابن عمه؟ وهذا غير مقبول ولا معقول، لأن للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مِنَ العمومة وأبناء العمومة غير عليّ، وفيهم من هو أكبر سناً من عليّ، وليس فيهم من تحقد عليه قريش كما كانت تحقد على عليّ لأنّه قتل صناديدهم ووترهم في الله. فلماذا لم يشر إلى أيّ واحد من أولئك الأحياء فيؤهله لأي قيادة أو إمارة أو ولاية لا تصريحاً ولا تلميحاً.
إذن ليست رابطة النسب وحدها هي المرجّح لعليّ دون غيره، وليس لقاعدة النسب أيّ دور في الترشيح.
ثمّ هل كانت رابطة المصاهرة لأنّه كان صهراً له على أبنته؟ وهذا أيضاً غير مقبول ولا معقول إذ لم تكن رابطة المصاهرة تكفي للترشيح، على أنّها ليست أقوى من رابطة القربى.
____________
(1) الحاقة /44 - 46.
إذن ليس تعيين عليّ (عليه السلام) للخلافة دون غيره على حساب القربى النسبية وحدها، ولا عليها وعلى رابطة المصاهرة. ولابدّ أن يكون ليس للأختيار الشخصي من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في تعيينه أيّ دور، وإنّما هو أمر من الله تعالى، ودوره هو التبليغ فقط، للمؤهلات الّتي كانت في عليّ (عليه السلام) ولم توجد في غيره.
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِينًا}(1).
النتائج:
لقد تبين بوضوح على الأسئلة المتشابكة على النحو التالي:
1- ماذا أراد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتب في الكتاب؟ الجواب: أراد أن يكتب كتاباً يعيّن فيه وليّ الأمر بعده.
2- من أراد أن يكتب أسمه في الكتاب؟ الجواب: أراد أن يكتب اسم عليّ في ذلك الكتاب.
3- لماذا أراد أن يكتب له ذلك الكتاب؟ الجواب: لأنّه رأى ضغائن قوم خشي عليه منهم.
4- لماذا أراد عليّاً (عليه السلام) دون غيره؟ الجواب: لأن الله تعالى أمره بذلك.
____________
(1) الأحزاب /36.
من هم المعارضة؟
إذا رجعنا نستقريء صور الحديث نجد تعتيماً متعمداً على أسماء المعارضة سوى اسم عمر بطلها المقدام صاحب الكلمة النافذة، كالسهم في قلب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى (غمّ) أغمي عليه. وباختصار نجد: في الصورتين: (1، 2) المرويتين عن عليّ (عليه السلام) وابن عباس، فقام بعضهم ليأتي به فمنعه رجل من قريش(؟) وقال: «انّ رسول الله يهجر».
وفي الصورتين (3، 4) المرويتين عن عمر: «فكرهنا ذلك أشد الكراهية»(؟).
وفي الصورة (5) المروية عن جابر: فكان في البيت لغط وكلام وتكلم عمر...
وفي الصورة (6) فأختلف من في البيت وأختصموا فمن قائل يقول: القول ما قال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومن قائل يقول: القول ما قال عمر.
وفي الصورة (7) فقال بعض أصحابه: «انّه يهجر»، قال: - وأبى أن يسمي الرجل - فجئنا بعد ذلك، فأبى رسول الله أن يكتبه لنا.
وفي الصورة (8) فقال بعض من كان عنده: «إنّ نبيّ الله ليهجر».
وفي الصورة (9) برواية البخاري: فتنازعوا... فقالوا: «هجر رسول الله».
وبروايته الأخرى عن سفيان... فقالوا: «ما له أهجر» استفهموه.
وبرواية الطبري فقالوا: «ما شأنه أهجر» استفهموه.
وفي الصورة (10) برواية البلاذري، فقال: «أتراه يهجر»، وتكلموا ولغطوا.
وبرواية ابن سعد، فقالوا: «إنّما يهجر رسول الله».
وفي الصورة (12) فقال عمر: «قد غلبه الوجع» فاختلف أهل البيت فأختصموا فمنهم من يقول يكتب لكم... ومنهم من يقول ما قال عمر... فلمّا كثر اللغط والاختلاف، وغمّوا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: (قوموا عني).
وفي الصورة (14) فأقبل القوم في لغطهم.
وفي الصورة (15) فأخذ من عنده من الناس في لغط.
وفي الصورة (17) فلغطوا فقال: قوموا.
وفي الصورة (18) فتنازعوا عند رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال رجل من القوم: انّ الرجل ليهجر، فغضب رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمر بإخراجه وإخراج صاحبه.
وفي الصورة (19) فقال المعذول: انّ النبيّ يهجر كما يهجر المريض، فغضب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): فأخرجوه فأخرجناه.
وفي الصورة (20) فمنعه رجل...
وفي الصورة (21) فدعا العباس بصحيفة ودواة، وقال بعض من حضر: «انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يهجر».
وفي الصورة (22) فقالوا: «ما شأنه أهجر».
وفي الصورة (24) إنّ قوما قالوا عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ذلك اليوم: «ما شأنه هجر». رواه ابن حزم.
وفي الصورة (25) فتنازعوا فقال بعضهم: ما له أهجر استعيدوه، فقال عمر قد غلبه الوجع. كما في رواية المقريزي.
{وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(1).
وبعد هذا هل يصح أن يقول علماء التبرير أخيرهم العقاد وليس آخرهم، إنّ النبيّ كان يحبّ أن يحبّ الناس عليّاً، فهو يحبّه ويمهدّ له وينظر إلى غده... ثمّ يقول: وليس من الممكن... وليس من الممكن... ولابدّ لنا الآن من النظر في حال عمر وماذا أراد بقوله؟
ماذا قال عمر؟
ليس من شك فيما قال عمر، إذ نسب قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى الهجر: إنّ النبيّ يهجر، إنّما يهجر رسول الله.
وليس من شك في أنّ علماء التبرير أضفوا على جفاء هذه الكلمة، نسيجاً أوهى من نسيج العنكبوت، وألقوا ظلالاً - وضَلالاً - من التشكيك في تحوير ما قال لسماجته، وقد مرّ في صور الحديث ما طرأ على الكلمة من تحريف شائن، كما مرّ في أقوال علماء التبرير مقالة متهالك مائن، في تصريف الكلمة على وجوهها غير الصرفية، فقالوا يهجر إلى ليهجر، إلى أهجر إلى هَجر هَجَر
____________
(1) النجم /3 - 4.
ومهما يكن فإنّ الصحيح عندي أنّه قال: «انّ الرجل ليهجر» كما رواها الغزالي(1)، وإن ورد أيضاً: «انّه يهجر» كما في الصورة الحادية عشرة من صور الحديث، وقد مرّت نقلاً عن ابن سعد في الطبقات(2)، ونقلها البيهقي مسنداً(3)، وذكرناها عن المستخرج للإسماعيلي، نقلاً عن الملا عليّ القارئ في شرح الشفاء(4)، وفي طبقات ابن سعد أيضاً، ومسند أحمد(5)، وكتاب السنّة للخلال المتوفى سنة 311(6)، ومعجم الطبراني الكبير(7)، وغيرها: «فقالوا: إنّما يهجر رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) »، وفي لفظ الطبري: «انّ رسول الله يهجر»(8)، وفي تاريخ ابن خلدون: «فتنازعوا وقال بعضهم: انّه يهجر، وقال بعضهم: أهجر؟ يستفهم»(9).
____________
(1) سرّ العالمين /9 ط مصر سنة 1314 هـ. ولا يضرنا التشكيك في نسبة الكتاب إلى الغزالي بعد أن نسبه إليه سبط ابن الجوزي الحنبلي في تذكرة الخواص.
(2) طبقات ابن سعد 2 ق 2/36.
(3) سنن البيهقي 3/435 ط بيروت سنة 1411 (باب كتابة العلم في الألواح والأكتاف).
(4) شرح الشفاء لملا علي القارئ 2/353 ط استنابول سنة 1316، ونسيم الرياض للخفاجي 4/279 ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.
(5) مسند أحمد 5/355.
(6) كتاب السنّة 1/271 ط الرياض.
(7) معجم الطبراني الكبير 11/445 ط الموصل.
(8) تاريخ الطبري 3/193ط دار المعارف.
(9) تاريخ ابن خلدون 1/849 ط دار الكتب اللبناني.
ويدلنا على نسبة عمر الهجر إليه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، تلجلج بعضهم عند ذكر كلمته فيقول: «قال كلمة معناها إنّ الوجع غلب عليه»، وهذا ما صنعه ابن أبي الحديد وسائر من استهجن الكلمة من علماء التبرير لما فيها من مساس بقداسة الرسول وقدسية رسالته. فحذفوها وأثبتوا البديل عنها: «قد غلب عليه الوجع».
والآن ليفكر القارئ في أمر عمر أيّ شيء كان يدعوه لتلك المقالة النابية والكلمة القارصة؟ وماذا عليه لو كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كتب ذلك الكتاب ليعصم عمر وغير عمر من الأمة من الضلالة إلى الأبد؟
وهل كان عمر يحب أن يبقى الناس في طخياء الضلالة يعمهون؟ فليقل علماء التبرير ما عندهم؟ وهل كان عمر يعتقد في نفسه «إنّ النبيّ يهجر»؟ وكذلك فليقولوا ما شاؤا في ذلك، وقد مرّ بعض ما عندهم من تخليط.
أم كان عمر يريد أمراً آخر من وراء كلمته، فلم يرَ لديه أبلغ ممّا قاله ليبلغ مراده؟ وهذا ما نراه ولا نتجنّى عليه، فقد كان هو أيضاً يراه، وقد صرّح بذلك، ومرّت بعض تصريحاته في التعقيب على ما قاله علماء التبرير (عمريون أكثر من عمر) فراجع حيث علم أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يريد أن يكتب الكتاب باسم عليّ فمنع من ذلك.
فمنها قوله: «ولقد أراد - رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) - أن يصرّح بأسمه - يعني عليّاً - فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام»؟!
ومنها قوله: «لقد كان من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذرواً من قول لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً».
____________
(1) وسيأتي الحديث بتمامه.
ومنها قوله: «فكرهنا ذلك أشد الكراهية» (؟)
ولماذا يا أبا حفص؟ ولا نحتاج إلى الجواب، ما دمت أنت القائل لابن عباس: «إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة». ولماذا أيضاً؟ وأنت تعلم أنّ عليّاً كان أحق بها من غيره، وأنت الّذي أعترفت بذلك وقلت لابن عباس: «أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر».
وهذه الأقوال جميعها قد مرّت مسندة إلى مصادر موثوقة فراجع (عمريون أكثر من عمر).
من أين علم عمر مراد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟
والآن لنبحث من أين علم عمر أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد أن يكتب الكتاب باسم عليّ (عليه السلام)، وهو لم يذكره باسمه كما في الحديث، ولم يكتب بعد كتابه ليعلم بذلك عمر، فمن أين علم بذلك فقال «انّه ليهجر»؟
لقد علم ذلك من قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لن تضلوا بعده - بعدي - أبداً).
وهذه الكلمة لم ترد في شيء من الأحاديث النبوية إلاّ في بضعة أحاديث كلّها توحي بفضل عليّ منفرداً أو مجتمعاً مع أهل بيته خاصة، وهم فاطمة والحسن والحسين الّذين هم قرناء الكتاب، كما في حديث الثقلين والتمسك بهما عاصم من الضلالة.