ثمّ حضر وقت الصلاه فقال: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فقالت عائشة: «إنّه رجل أسيف لايستطيع أن يقوم مقامك فمر عمر». فامتنع عمر وصلّى أبو بكر، ووجد رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم خفّة فخرج، فلمّا اُحس به أبو بكر تأخر فجذبه رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأقامه مكانه، وقرأ من حيث انتهى أبو بكر ثمّ كان أبو بكر يصلي بصلاته والناس بصلاة أبي بكر.
قيل صلوا كذلك سبع عشرة صلاة. وكان يدخل يده في القدح وهو في النزع فيمسح وجهه في الماء ويقول: (اللّهم أعنّي على سكرات الموت).
فلمّا كان يوم الاثنين وهو يوم وفاته خرج إلى صلاة الصبح عاصباً رأسه، وأبو بكر يصلي فنكص عن صلاته ورده رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده صلّى قاعداً على يمينه ثمّ أقبل على الناس بعد الصلاة فوعظهم وذكرهم. ولمّا فرغ من كلامه قال له أبو بكر: «إنّي أراك قد أصبحت بنعمة الله وفضله كما تحب»، وخرج إلى أهله في السنح، ودخل رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في بيته فاضطجع في حجرة عائشة. ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر عليه وفي يده سواك أخضر فنظر إليه وعرفت عائشة أنّه يريده قالت: «فمضغته حتى لانَ واعطيته إياه فاستنّ به ثمّ وضعه»، ثمّ ثقل في حجري(1) فذهبت أنظر في وجهه، فإذا بصره قد شخص وهو يقول: (الرفيق
____________
(1) وابن خلدون حين يروي لنا حديث عائشة عن السواك الأخضر الّذي بيد عبد الرحمن بن أبي بكر ومضغ عائشة له وأعطته للنبيّ فاستنّ به ثمّ وضعه ثمّ ثقل في حجرها... الخ ولم يعقـّب عليه بشيء، وكأنه مصدّق به، ومهما تباله الراوي وأستغفل القارئ فلا يكاد يُصدّق بأن إنساناً في حالة النزع يمكنه أخذ السواك ليستنّ به. وما أدري كيف غفل ابن خلدون أو تغافل عن ذكر تتمة معزوفة السواك الّذي مضغته السيدة عائشة حين قالت ـ فجمع الله بين ريقي وريقه في آخر يوم من الدنيا (سير أعلام النبلاء للذهبي
=>
هذا ما أردنا نقله من قراءة ابن خلدون في مقدمته وتاريخه، لنوقف القارئ على تخبطه في عرض ماجرى في فترة مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحتى وفاته (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
وكأنّه قد جنّد نفسه لتكثيف حضور أبي بكر وآل أبي بكر. فأبو بكر فهم نعي النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نفسه حين قال: (انّ عبداً من عباد الله خيّره الله بين الدنيا وبين ماعنده)، وفهمها أبو بكر فبكى فقال: «بل نفديك بأنفسنا وأبنائنا» فقال: (على رسلك يا أبا بكر)؟
وأبو بكر يحظى ببقاء بابه شارعاً إلى المسجد وتغلق سائر الأبواب غير بابه؟
وأبو بكر يؤمر بالصلاة دون غيره؟ وأخيراً أضطجع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حجرة ابنة أبي بكر، وعبد الرحمن بن أبي بكر يدخل وفي يده سواك أخضر فينظر إليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتعلم عائشة ابنة أبي بكر أنّه يريده فتأخذه وتمضغه حتى لان وتعطيه فيستنّ به. وأخيراً توفي وهو في حجرها وبين سحرها ونحرها. فهذا الحضور المكثـّف لأبي بكر وآل أبي بكر يثير التساؤل عن عمل أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبقية نسائه أين كانوا وماذا كان في حضورهم؟ في قراءة أبن خلدون؟
____________
<=
1/431 نقلاً عن البخاري. وفي الهامش تخريجه عن مسلم في صحيحه، والقرطبي في تفسيره، والبيهقي في سننه الكبرى، والتبريزي في مشكاة المصابيح، والزبيدي في اتحاف السادة المتقين، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار، وابن حجر في فتح الباري. فراجع موارد ذكرهم).
وفي لفظ آخر: وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند الموت (سير أعلام النبلاء 1/431) نقلاً عن البخاري، وفي الهامش مصادر تخريجه فراجع، ولعل الرجل كان على قدر من الحكنة أحسّ بأن ذكر الحبكة بجميع خيوطها سيكشف للقاريء عن زيفها جملة وتفصيلاً.
(1) تاريخ ابن خلدون 2/849 ط دار الكتاب اللبناني.
ألم يقرأ ابن خلدون حديث حذيفة قال: «كان عليّ أسند رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى ظهره فقلت لعليّ هلمّ أراوحك؟ فقال رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم): (هو أحق به) »(2).
وإذا كان ابن خلدون لم يقرأ ذلك، فهل هو لم يقرأ. حضور العباس وحديث اللدود (3)؟ قال ابن أبي الحديد: «وقد وقع اتفاق المحدثين كلّهم على انّ العباس كان ملازماً للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أيام مرضه في بيت عائشة وهذا لاينكره أحد»(4).
وهو لم يقرأ حديث مسارّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لابنته فاطمة؟ مرتين بكت في الاُولى وضحكت في الثانية وهذا ما رواه الشيخان وغيرهما ممّا جل عن البيان(5).
وهو لم يقرأ حديث ابن عباس: «إنه خرج في مرضه الّذي مات فيه عاصباً رأسه بعصابة دسماء ملتحفاً بملحفة على منكبيه فجلس على المنبر وأوصى بالأنصار فكان آخر مجلس جلسه»(6).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/591 ط مصر الأولى.
(2) ذخائر العقبى /95 ط القدسي.
(3) سيرة ابن هشام تحـ السقا ورفاقه 4/225، وطبقات ابن سعد 2/232، وتاريخ الطبري 3/ 188 ـ 189و195 وغيرها.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/591 ط الاُولى و 10/268 ط محققة بمصر.
(5) صحيح البخاري برقم 6285 و 6286، وصحيح مسلم برقم 2450 و2450/98 و 2450/99، وسنن ابن ماجه /2621، ومسند أحمد 6/282، وطبقات ابن سعد 2 ق، ومشكل الآثار للطحاوي 1/48، ومشكاة المصابيح للتبريزي /6129، وحلية أبي نعيم 2/40، وغيرها.
(6) صحيح البخاري برقم 3799 و 3801 وغيره.
وهو لم يقرأ حديث أم الفضل قالت: «خرج رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو عاصب رأسه في مرضه وصلّى بنا المغرب فقرأ بالمرسلات، فما صلّى بعدها حتى لقي الله تعالى»(2).
وهو لم يقرأ حديث أم ألمؤمنين زينب: «ــ وهي تقول لأصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذين لغطوا عندما أمر بأحضار الدواة وصحيفة ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداًـ. فقال عمر بن الخطاب من لفلانة وفلانة - مدائن الروم - إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليس بميّت حتى نفتتحها ولو مات لانتظرناه كما انتظرت بنو إسرائيل موسى فقالت زينب زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): ألا تسمعون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعهد اليكم فلغطوا فقال: (قوموا)، فلمّا قاموا قـُبض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مكانه»(3).
وهو لم يقرأ حديث أم المؤمنين أم سلمة قالت: «والّذي أحلف به إن كان عليّ لأقرب الناس عهداً برسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) قالت عدنا رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) غداة بعد غداة يقول: جاء عليّ - مراراً - قالت: وأظنه كان بعثه في حاجة قالت: فجاء بعد وظننت إنّ له عليه حاجة، فخرجنا من البيت فقعدنا عند الباب فكنت من أدناهم إلى الباب، فأكبّ عليه عليّ فجعل يسارّه ويناجيه، ثمّ قبض رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يومه ذلك فكان أقرب الناس به عهداً»(4).
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/45.
(2) مسند أحمد 3/91.
(3) طبقات ابن سعد 2 ق 2/38 ط ليدن.
(4) مسند أحمد 6/300، والخصائص للنسائي /40 ط التقدم، ومستدرك الحاكم 3/138ـ139، وغيرها.
ألم يقرأ ابن خلدون هذا الحضور لعليّ والعباس عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد خرج متوكئاً عليهما حين صلّى أبو بكر فنحّاه وصلّى هو (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالناس؟ أوليس هذا في صحيح البخاري وتاريخ الطبري وطبقات ابن سعد، وابن خلدون قد رأى تلك الكتب جميعها وأخذ عنها خصوصاً عن كتاب الطبري الّذي قال عنه - في ذكره أمر الجمل - اعتمدناه للوثوق به لسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة.
ثمّ ما بال الناس الّذين سألوه عن مغسّله وكفنه والصلاة عليه وحتى عمّن يدخله القبر، ما بالهم لم يسألوه عمّن يتولى أمرهم من بعده؟
ثمّ ما باله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يقدم أبا بكر للصلاة عليه أولاً مادام قد أمر بتقديمه للصلاة بالمسلمين مكانه كما يروي ابن خلدون وغيره؟ ولندع ذكر ما في قراءة ابن خلدون من مثار التساؤل، ونعود إلى إنكاره الوصية للإمام كما مرّ عن مقدمته. وإلى إقراره بأن الّذي منع من كتابة ذلك هو عمر، وما صرّح به ثانياً بأنّ الّذي منع قال: «أنّه يهجر» فتكون النتيجة ماسبق أن ذكرناه في (ماذا قال عمر؟) وأنّه الّذي قال: «انّ الرجل ليهجر».
____________
(1) تاريخ الطبري 2/433، صحيح البخاري 1/135 باب إنّما جُعل الإمام ليؤتم به... ط بولاق.
ونحن لا نطيل الوقوف معه في سرد ما يستدل به الشيعة على وصاية عليّ عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إذ لم يكن دليلهم منحصراً بذلك الكتاب الّذي أراد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكتبه ومنع عمر منه فلم يقع. فإن لديهم من الأدلة الأخرى والّتي رووها عن مصادرهم ومصادر غيرهم وفي هذا القسم الثاني ما يرغم ابن خلدون على قبول أحاديثهم ففيها من صحاح قومه وسننهم ومسانيدهم وتواريخهم، وفيها أحاديث دلت على أنّ عليّاً كان وصيّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قبل يوم الخميس يوم حديث الرزية، بل كان هو وصيّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) من يوم بدء الدعوة كما في حديث الإنذار. وإليك بعض ما جاء في ذلك صريحاً بالوصية:
1- قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم)(1).
2- قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (فأنت أخي ووزيري ووصي وخليفتي من بعدي...)(2).
فإذا كان رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) جعله وصياً واختاره أخاً ووزيراً ووصياً ووارثاً وخليفةً من بعده منذ بدء الدعوة وحتى سائر المشاهد بعد ذلك وفيها أكثر من شاهد، فما ذنب الشيعة إذا آمنوا بصحّة ما رواه أسلافهم وأخلافهم، ووافقهم عليه سواهم من لم يمنعهم خلافهم. وحديث الوصية شائع ذائع هتف به الصحابه شعراً ونثراً، ولم ينكر عليهم أحد ذلك.
____________
(1) أنظر تاريخ الطبري 2/216 ط الحسينية، و 2/319 ط دار المعارف، و 3/1172 ط ليدن، وكنز العمال 6/392 - 397 ط الاُولى حيدر آباد، و 15/100 ط الثانية حيدر آباد، نقلاً عن ابن إسحاق وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كليهما في الدلائل.
(2) أنظر السيرة الحلبية 1/286 ط البهية: عن ابن جرير والبغوي انهما رويا ذلك.
ومنا عليّ ذاك صـاحبُ خيبرٍ | وصاحـب بـدر يوم سالت كتائبه |
وصيّ النبيّ المصطفى وابن عمّه | فمن ذا يدانـيه ومـن ذا يقـاربه |
- ثمّ استطرد يذكر أشعاراً لجماعة من الصحابة في ذلك منهم: عبد الرحمن بن جعيل، وأبو الهيثم بن التيهان - وكان بدرياً - وعمر بن حارثة الأنصاري، وسعيد بن قيس الهمداني، وزياد بن لبيد الأنصاري، وحجر بن عدي الكندي، وخزيمة بن ثابت الأنصاري ذي الشهادتين - وكان بدرياً - وابن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعمرو بن أحيحة، وزحر بن قيس الجعفي... ـ وقال بعد ذكر أشعار هؤلاء العشرة - ذكر هذه الأشعار والأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل، وأبو مخنف من المحدثين وممن يرى صحة الإمامة بالاختيار، وليس من الشيعة ولامعدوداً من رجالها ثمّ قال:
وممّا رويناه من أشعار صفين الّتي تتضمن من تسميته (عليه السلام) بالوصي ماذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين وهو من رجال الحديث، ثمّ ذكر أشعاراً وأراجيز لكل من الإمام أمير المؤمنين نفسه، وللأشعث بن قيس، وزحر بن قيس أيضاً، وجرير بن عبد الله البجلي، والنعمان بن عجلان الأنصاري، وعبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي، والمغيرة بن الحرث بن عبد المطلب وأخيراً قول صاحبنا عبد الله بن عباس حبر الأمة:
وصـيّ رسـول الله مـن دون أهلـه | وفـارسـه إن قيـل هـل مـن مـنازل |
فـدونكه إن كنت تبغـي مـهاجـرا | أشـم كنصـل السـيف غيـر حلاحـل |
ولنعم ما استدل به عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فقد ذكر فيه بسنده عن معمر عن قتادة أنّ عليّاً قضى عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أشياء بعد وفاته كان عامتها عِدَة. قال: حسبت أنّه قال خمس مائة ألف.
قال عبد الرزاق: يعني دراهم.
قلنا لعبد الرزاق وكيف قضى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأوصى إليه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بذلك؟
قال: نعم لا أشك أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى إلى عليّ، فلولا ذلك ما تركوه أن يقضي(2).
فبعد هذا كيف يستنكر ابن خلدون ما تدّعيه الشيعة من وصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ (عليه السلام) ومادام هو نفسه اعترف بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر بإحضار دواة وقرطاس ليكتب لأمته كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، واعترف أيضاً بأنّ عمر هو الّذي منع، واعترف بأنّ بعضهم - المانعين - قال: (إنّه يهجر). ولم يكن ذلك إلاّ عمر. فما دام ابن خلدون اعترف بجميع ذلك عليه أن يذعن بصحة ما تدعيه الشيعة، لأن ذلك ورد في اعترافات عمر، كما ذكرنا في (عمريون أكثر من عمر).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/47 ط الاُولى بمصر. وقد ترجم المرحوم السيد هاشم البحراني في كتابه التحفة البهية طائفة من أقوال قدماء الشعراء المتضمنة انّ أمير المؤمنين (عليه السلام) وصي النبي(صلّى الله عليه وآله وسلّم) فناهزت التسعين، وما فاته منهم ومن أشعار المحدّثين أضعاف ذلك.
(2) أنظر المصنف لعبد الرزاق 7/294.
وقال مرة أخرى في محاورة بينهما في الموضوع نفسه: «إنّ رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد ذلك وأراد الله غيره فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله»؟!
وقال في مرة ثالثة: «لقد كان من رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذرواً من قول لايثبت حجة ولايقطع عذراً».
إلى آخر ما هنالك من اعترافات خطيرة ذكرناها هناك فليرجع إليها من شاء.
والّذي يلفت النظر في القراءة الخلدونية التصريح بأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو الّذي عيّن قبره في بيته فقال: (دعوني على سريري في بيتي على شفير قبري)، فهو لم يترك ذلك مجهولاً حتى يحار أهل البيت في مكان دفنه فينقذهم من الحيرة أبو بكر بتعيين المكان كما يحلو رواية ذلك للبكريين، كما إنّ في تصريحه ذلك أيضاً نفي لمن زعم أنّ البيت هو لعائشة بل هو بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنما لها حجرتها فيه.
ومهما قيل عن فهم ابن خلدون في الاجتماع وفلسفة التاريخ فهو غير بارع في التحوير، ولا أمين في العرض كما رأيناه فيما مرّ من خلط عنده وخبط ممّا لايخفى على القارئ النبيه.
وإن لم يكن هو بدعاً في ذلك فقد رأينا قبله من وافق ابن خلدون في هواه، ومن بعده من شايعه على دعواه، وذلك هو الشهاب الخفاجي الّذي بهت الشيعة كما بهتهم ابن خلدون، فقال: «وقد ادعى الرافضة أنّ الكتاب
وبقيت تهمته للشيعة بوضع حديث الرزية منطوقاً ومفهوماً حتى الأمس القريب. ألم يقل محمّد عزة دروزة في كتابه (تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين): «ونحن لا نستبعد أن تكون الرواية من مصنوعات الشيعة المتأخرين»(2).
أقول: ونحن قد ذكرنا مصادر الرواية وعرضنا أسماء الرواة حسب القرون ولم نذكر فيهم من الشيعة أحداً، فهل كلّ أُولئك الحفاظ كانوا في غفلة عما رآه دروزة أو أنها منه طعنة الهمزة اللمزة!
والرجل بالرغم من كثرة كتبه التأريخية لا أراه إلاّ راجلاً في تميز أحداث التاريخ، ولست متجنياً عليه، فهنا يقرأ له قوله بعد ذكر رواية الطبري في إجبار أمير المؤمنين على البيعة لأبي بكر: «ونرجح أنّ هذا الخبر مصنوع مدسوس من الشيعة»(3)، ولم يَزَل يرسل في غير سدد، حتى جعل رواية أبي بكر في مطالبة الزهراء عليها السلام بفدك فروى لها «إنا لا نورّث ما تركناه صدقة»، هي نهاية الخصام وبها انقطع الكلام، ولعلّه يحاول من طرف خفي إشارة إلى الوئام فقال: «ويكون ماعدا ذلك من مزيدات الشيعة ومدسوساتهم»(4).
____________
(1) نسيم الرياض بشرح الشفاء للقاضي عياض للشهاب الخفاجي 4/284 ط أفست دار الكتاب العربي بيروت.
(2) تاريخ العرب في الإسلام تحت راية الخلفاء الراشدين /16-ـ 17.
(3) نفس المصدر /16- 17.
(4) نفس المصدر.
ثمّ إنّ من الغريب من ابن خلدون وأضرابه من الناصبة ذكرهم لقول عائشة: «مات بين سحري ونحري»، من دون أي تعليق عليه، أو توجيه له، مع أنّها لمّا حدثت به من سألها عن مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وجاء السائل فذكر ذلك لحبر الأمة عبد الله بن عباس فاستنكر عليه قولها وأبى تصديقها في زعمها، فقال له: «أتعقل والله لتوفي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإنه لمستند إلى صدر عليّ»(1)، وفي حديث ثانٍ رواه الطبراني عن ابن عباس قال: «جاء ملك الموت إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه الّذي قبض فيه فأستأذن ورأسه في حجر عليّ»(2).
وفي حديث ثالث عن ابن عباس أيضاً: «انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثقل وعنده عائشة وحفصة إذ دخل عليّ (عليه السلام) فلمّا رآه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) رفع رأسه ثمّ قال أدن مني أدن مني فأسنده إليه فلم يزل عنده حتى توفي»(3).
فهذا يعني أنّ قول عائشة لم يكن متفقاً على صحته بل هو مرفوض من قبل حبر الأمة عبد الله بن عباس وهو من أهل البيت الّذين كانوا عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين الوفاة. فكان على من يقول بقول عائشة معالجة ماورد عن ابن عباس في رفضه،
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/ ط ليدن.
(2) مجمع الزوائد 9/35.
(3) نفس المصدر 9/36.
أيّهما الشفيق الرفيق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أم عمر؟
لقد مرّت بنا كلمة عمر - مراراً - «فمنعت من ذلك اشفاقاً وحيطة على الإسلام»؟ كما مرّ في أقوال علماء التبرير انّ ذلك اشفاقاً منه على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومرت كلمته الأخرى: «أراد أن يذكره للأمر في مرضه فصددت عنه خوفاً من الفتنة»، وليس فيها من الشفقة شيء، وقد استوجب ذلك علينا أن نعمل الموازنة في الشفقة على المسلمين والرفق بهم بين الرسول الكريم الأمين (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وبين عمر.
وإنّها من سخرية القدر واحدى الكبر، ولكن فرضها علينا أبناء عمر ورددها الببغائيون فلا ضير ولاجير في ذلك:
فالرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي وصفه الله تعالى بقوله:{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(3)، وقال فيه تعالى مخاطباً المؤمنين:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}(4)، فهل بعد هذا من مجال للقول؟ أم هل يكون من المقبول والمعقول أن لايكون شفيقاً رفيقاً بالمؤمنين ويكون عمر هو الشفيق الرفيق فيحتاط على الإسلام ويخاف الفتنة؟!
____________
(1) مسند أحمد 6/300 ط مصر الاُولى، والخصائص للنسائي /40 ط التقدم بمصر، ومستدرك الحاكم 3/138ـ 139، والرياض النضرة 2/180 ط الخانجي، وذخائر العقبى /72 ط القدسي، ومجمع الزوائد 9/112، وتذكرة الخواص /47 ط الغري.
(2) طبقات ابن سعد 2 ق 2/51.
(3) القلم /4.
(4) التوبة /128.
وعمر هو الّذي قال فيه الصحابة لأبي بكر حين أراد استخلافه عليهم بعده: «تستخلف علينا فظاً غليظاً، فلو قد ولينا كان أفظ وأغلظ فما تقول لربك إذا لقيته»(2).
وعمر هو الّذي خطب في الناس فقال: «بلغني انّ الناس قد هابوا شدتي، وخافوا غلظتي، قد كان عمر يشتد علينا ورسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) بين أظهرنا، ثمّ أشتد علينا وأبو بكر (رضي الله عنه) والينا دونه، فكيف الآن وقد صارت الأمور إليه. ولعمري من قال ذلك فقد صدق»(3).
وهو الّذي وصف الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبته الشقشقية أيامه وطبيعته في الحكم فليرجع إليها.
أهكذا إنسان يمكن أن يوصف بأن ماصدر منه بتلك الغلظة والشدة، ونبّو الكلمة وجفوة اللهجة، كان منه ذلك إشفاقاً وحيطةً وخوف الفتنة!! والرسول الصادق الأمين الّذي يسدّده الوحي {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى}(4)، ويقول
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/183 ط محققة.
(2) كنز العمال 3/136 ط الأولى.
(3) اُنظر حياة الحيوان للدميري 1/49.
(4) النجم /3 - 4.
عملية التزوير من أنحاء التبرير:
لمّا كان حديث الكتف والدواة واضح الدلالة على أنّ المراد منه كان هو تأكيد النص على ولاية عليّ (عليه السلام) ولذلك منع منه عمر كما أعترف هو بذلك، وقد مرّ ذكره والإشارة إليه مراراً. وكذلك فهمه من تابعه على منعه. ولكن تعرض للمسخ والتشويه والتشكيك ولم يسلم من زبانية الوضاعين، ويزيد القارئ إيماناً بأنّهم فهموا ذلك منه، ما تشبث به رواة السوء وسجلته الأقلام المشبوهة تشويهاً للحقيقة، وإمعاناً في غثيثة التزوير حيث انبرى فريق منهم إلى مسخ أصل الحديث وتحوير نصه، بعد ان عجزوا في تبرير ما قاله عمر وما ساقوه من أعذار تافهة. فذكروا انّ الحديث كان لصالح أبي بكر، فرووا في ذلك عن عائشة وعن أخيها عبد الرحمن. فقد أخرج مسلم وأحمد والبغوي وغيرهم عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله(صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه ألذي مات فيه: (ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر أكتب لأبي بكر كتاباً لايختلف عليه أحد). ثمّ قال: (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) »(1).
____________
(1) وروى نحو هذا الحديث كثير من المؤلفين في الحديث والتاريخ. فراجع مصابيح السنّة للبغوي 2/194، وصواعق ابن حجر /13، ومشكاة المصابيح 3/220، وشرح مشارق الأنوار لابن الملك 2/258، وبهجة المحافل للعامري، وشرح البهجة للأشخر اليماني، ونور الأبصار للشبلنجي، وقد مرّ اعتماد ابن حزم في كتابه الأحكام 7/123 على هذا الحديث في حل ما أستشكل عليه من حديث أبن عباس في حديث الرزية. ومرّ منا التعقيب عليه في أقوال علماء التبرير.
قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: «وضعوه في مقابلة الحديث المروي عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه: (إئتوني بدواة وبياض أكتب لكم ما لاتضلون بعده أبداً)، فاختلفوا عنده، وقال قوم لقد غلبه الوجع حسبنا كتاب الله»(2).
وفي قول هذا المعتزلي وهو غير متهم على الوضاعين البكريين وهو من علماء التبرير أيضاً. ما يغني عن التعليق على ما في الحديثين من نظر، وفيه مايكفينا للتدليل على كذب الحديثين.
ففي آخر الحديث الأوّل: (معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر) وهذا ما قد وقع في السقيفة وخارجها، وتخلف عن بيعته أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه بنو هاشم وتخلف عنها سعد بن عبادة ومن معه من الأنصار وتخلف عنها سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة و و و فهل يجرأ أحد ان يقول هؤلاء جميعاً ليسوا من المؤمنين - والعياذ بالله - معاذ الله أن يقول ذلك أحد، كيف وهم من خيرة المؤمنين وفيهم أوّل المؤمنين إيماناً وهو عليّ (عليه السلام).
فمعاذ الله أيضاً أن يكون النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال كذلك.
____________
(1) تهذيب تاريخ ابن عساكر 3/139، ومنهاج السنّة لابن تيمية 3/135 ط الاُولى. وغير ذلك.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/17 ط الاُولى.
قال الدكتور أحمد محمود صبحي في كتابه: «ولا شك أنّ الوضع ظاهر في هذا الحديث وانه أريد به معارضته حديث الشيعة في أمر كتاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الّذي ينسب إلى عمر أنّه منعه، ولو صح كتاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى أبي بكر لكان نصاً جلياً لأبي بكر، وهو مالم يقل به جمهور المسلمين، ثمّ لم يطلب النبيّ أن يكتب الكتاب ثمّ يعدل عنه؟ ولم يثبت انّ عائشة دعت أباها ولا أخاها وما أحرصها على دعوتها في أمر جليل كهذا... ا هـ»(1).
سبحان الله حديث الدواة والكتف الّذي ترويه كتب الصحاح والمسانيد والتاريخ والسير من جميع المسلمين، يقول عنه الدكتور: (حديث الشيعة)؟ وحديث عائشة الّذي لا يشك هو بوضعه يقول لو صح... لكان نصاً جلياً لأبي بكر؟ وهو مالم يقل به جمهور المسلمين؟ ولعله لم يقف على قول ابن حزم في الفصل: «فهذا نص جلي على استخلافه عليه الصلاة والسلام أبا بكر على ولاية الأمة بعده...»(2)، وهكذا تبقى ازدواجية المعايير عند المحدَثين كما كانت عند السابقين.
ونعود لحديث عائشة وحديث عبد الرحمن فنقول: ولو كان للحديث أدنى نصيب من الصحة لأظهراه عند حاجة أبيهما إلى أدنى دعم في أحرج وقت، فلماذا كتماه وهما ولداه.
____________
(1) نظرية الإمامة لدى الشيعة الأثنى عشرية /236 ط دار المعارف بمصر.
(2) الفصل 4/108.