تقديم


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
به نستعين

الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن الصحابة المهتدين المرضيين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

وبعد فهذا هو الجزء الثاني من الحلقة الاُولى من (موسوعة عبد الله بن عباس) حبر الاُمة وترجمان القرآن، وهو يتضمن فترة ربع قرن من تاريخه، وهي فترة الشباب، مليئة بالحيوية والنشاط، وتبدأ من بعد وفاة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، سنة 11 من الهجرة وتنتهي بسنة 35 من الهجرة وفيها من الأحداث المريرة التي عاشها، وقاسى مرارتها طيلة عهود الثلاثة الخالفين من بعد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما رأئ وما جرى، منه وله وعليه، أيام تلك الحكومات، وسنقرأ له مواقف جريئة، تنبئ عن قابليات تميّز بها، فكان على صغر سنّه، فاق أكابر الشيوخ من الصحابة، فكانت له مكانته المتميزة في مجتمع الصحابة.

وسنبدأ حديثنا عنه من فترة بين عهدين:


الصفحة 8

الصفحة 9

الفصل الأول:



فترة بين عهدين





الصفحة 10

الصفحة 11

فترة بين عهدين:

لقد طالت واستطالت مع قِصر بُعدها الزماني، إلاّ أنها كانت بالغة التأثير في بصماتها على تاريخ الإسلام الكبير الخطير. فقد وقعت فيها حوادث جسام، كان شخوصها من الصحابة العظام، لذلك تغيّرت الموازين عند المحدثين من كتاب محققين.

فهم بين عاملَين قويين، عامل القداسة لكل الصحابة، وعامل الحقيقة الّتي عمدوا على تجاهلها وتُنازِعهُم على ذكرها، فشطّت بهم السبل إلا القليل منهم.

فيا لها من فترة لم تتجاوز اليوم والليلة، بل الأصح أنها كانت بعض يوم. وإن حاول بعض الكتاب تحديدها بثماني وأربعين ساعة. ولكن ما زعمه لا يتفق - مهما حاول - مع واقع الحالِ. فهو تحديد غير دقيق.

قال عمر أبو النصر في كتابه فاطمة بنت محمّد: «إنّ بين وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبين بيعة أبي بكر بالخلافة ثمانية وأربعين ساعة»(1). وهذا التحديد لا يتفق مع بيعة السقيفة لأنّها كانت يوم وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبل أن تغرب شمسه كما لا تتفق مع بيعة أبي بكر في المسجد فإنها كانت في اليوم الثاني وهي دون الثماني والأربعين ساعة. ولعل الاُستاذ عبد الفتاح مقصود الكاتب المصري الشهير كان أصوب منه

____________

(1) فاطمة بنت محمّد /115ط الأولى (الأهلية بيروت).


الصفحة 12
حين قال في كتابه السقيفة والخلافة في تحديدها بيوم: «لم يكن بعدُ قد ولّى عمره أو بلغت شمسه المنكودة حافة الغروب»(1).

ومهما يكن بُعدها الزماني فتلكم هي الفترة الّتي عاشها حبر الاُمة عبد الله ابن عباس وهو الحزين المصاب بفقد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو الكئيب الأسيف لما حَدَث في تلك الفترة.

فقد ابتدأت بإعلان نبأ وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإنتهت بإعلان بيعة أبي بكر خليفة بعد ملاحاة طويلة مع الأنصار في السقيفة، وتمت البيعة، وقد كانت فلتة - كما قال عمر بن الخطاب عنها - وقى الله المسلمين شرّها(2).

وقد سماها الدكتور أحمد أمين المصري: (غلطة)!، فقال: «ولذلك قال عمر: انّها غلطة وقى الله المسلمين شرّها»، ثم قال أحمد أمين: «وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر الخ...»(3).

وقال عبد الفتاح عبد المقصود في كتابه السقيفة والخلافة عن السقيفة وأحداثها: «وكفاها خطورة أن عاشت في الأذهان والأخيلة كما عاشت فوق ألسنة الأفواه وأسنة الأقلام نحو ألف ونصف ألف من الأعوام.

كفاها خطورة ان جعلت المسلمين فرقتين متقابلتين، تتحاوران وتتحاجان وإن كنت اُعيذهما اليوم من لدد العداء وعنف الخصام.

كفاها خطورة أن غيّرت اتجاه تاريخ الإسلام، أو لوّنت صورته السياسية بغير ما كان ينبغي أو - بأرفق تعبير- بغير ما كان يظن أن تكون الصورة وتكون الألوان.

____________

(1) السقيفة والخلافة /116.

(2) صحيح البخاري كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا 8/169ط بولاق سنة 1312هـ.

(3) يوم الإسلام /53.


الصفحة 13
وقال: السقيفة معروفة... لا يخفى أمرها عمن ألقى بنظرة عابرة عجلى على غرة الإسلام...»(1).

وقال أيضاً: «والسقيفة (الحدث) - في رأي المؤرخين كافة - هي أبرز المعالم على طريق التاريخ المبكر للإسلام... وفي رأي جم غفير من المسلمين ومن أهل الفكر نقطة تحول خطيرة ومنعطف شديد الإلتواء، لا في التاريخ الإسلامي وحده، بل في التاريخ الإنساني كله من لحظة أن حوّلت أولها عن مجراه وخرجت على خلاف المنتظر أو المظنون بتراث رسول الله من حوزة الأعزة الكرام من آل بيته الأطهار، إلى حوزة رفيق الغار!...»(2).

ولمّا كان تاريخ الحاكمين سجّل الأحداث بأقلام مأجورة لهم. فقلّ أن تجد حَدَثاً سجلته الأقلام بأمانة تامة، وإذا وجدت ذلك القليل فهو أيضاً فلتة، وإلاّ فتشويه الحقيقة وتلميع الصورة شأن جل رواة الأحداث. وأهم حَدَث تعرّض إلى كثير من اللف والتشويش هو حدث السقيفة. وتجد الدمدمة والهمهمة الّتي لا تفصح ببيان لمعرفة الجواب على تلك التساؤلات الّتي تفرض نفسها. وتجيش بها نفس القارئ:

1- لماذا في السقيفة أجتمع الأنصار يأتمرون، والنبي الكريم في آخر يوم من حياته؟ وكان الأحرى بهم الحضور عند بيته.

2- ثم لماذا بقوا في السقيفة بعد وفاته؟ ألم يبلغهم نبأ ذلك وكان الأحرى بهم أن يحضروا تجهيزه.

____________

(1) السقيفة والخلافة /30.

(2) نفس المصدر /31.


الصفحة 14
3- ثم لماذا جاء أبو بكر وعمر وأبو عبيدة إلى السقيفة سراعاً وابتداراً خوف الفتنة كما يقولون؟ ألم يسعهم تأخير ذلك إلى ما بعد مواراة الجثمان الطاهر؟

وليس لنا أن نقول فيهم إلا ما قاله أحمد أمين حيث قال: «وكان هذا ضعف لياقة منهم، إذ اختلفوا قبل أن يدفن الرسول، ولكن كان عذرهم في ذلك العمل على ضمّ الشمل وجمع الكلمة»(1)؟!

وليس لنا أن نقول إلاّ كما قال الاُستاذ محمّد ضياء الدين الريّس في كتابه النظريات السياسية الإسلامية: «وتوحي مبادرتهم بالإسراع في عقد هذا الأجتماع في نفس اليوم الّذي توفيّ فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقبل انهاء مراسم الدفن، توحي إلى المؤرخ بفكرة قوية: هي أنهم كانوا لا بد قد فكّروا في هذا الأمر قبل الأجتماع ولو ببضعة أيام»(2).

ولعل طموح سعد بن عبادة كبير الخزرج هو الّذي جعله يسرع إلى تكوين جبهة ليظفروا بقرار تأييد قبل أن يظهر من يزاحمه.

وهناك دلائل على أن هذه الفكرة قد جالت بخاطر آخرين إلى جانب الأنصار:

فيروي ابن هشام في سيرته، عن عبد الله بن عباس: «أنّ عليّاً خرج من عند رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وجعه الّذي توفي فيه، فقال له الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟ فقال: أصبح بحمد الله بارئاً.

فأخذ العباس بيده ثم قال: يا عليّ... إنّي والله لأرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوف يتوفى من وجعه هذا، إنّي لأعرف وجوه عبد المطلب عند الموت، فانطلق إلى

____________

(1) يوم الإسلام /54.

(2) النظريات السياسية الإسلامية /26 و 27 ط الثانية.


الصفحة 15
رسول الله، فإن كان هذا الأمر فينا عرّفناه، وان كان في غيرنا كلّمناه فأوصى بنا الناس، فقال له عليّ: إنّي والله لا أفعل، والله لئن منَعنَاه لا يؤتيناه أحد بعده»(1). وذكره البخاري أيضاً ببعض تغيير في اللفظ(2).

وروى ابن سعد في طبقاته، عن عبد الله بن عباس أنّه قال: «اشتد برسول الله وجعه فقال: (إئتوني بدواة وصحيفة أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً)، فأختلف أهل البيت واختصموا، فلمّا أكثروا اللغو والأختلاف أمرهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإنصراف»(3). وذكر ذلك البخاري ببعض تغيير في اللفظ(4)، والشهرستاني أيضا(5).

وأوضحت بعض الروايات انّ هذا كان بناءً على طلب بعض الصحابة، ممّا يشعر أنهم تباحثوا في هذا الأمر، ولسبب ما لم تتم كتابة الوثيقة(6).

____________

(1) سيرة ابن هشام 4/332 و 333 ط المكتبة التجارية الكبرى بالقاهرة.

(2) صحيح البخاري 3/61 مطبعة التقدم العلمية 1320. وليس من الغريب أن لا ينقل الريّس عن صحيح البخاري نص الحديث بلفظه، ما دام جاهداً في التعتيم على رموز المعارضة، والحديث قد مرّ بتمام صوره عند البخاري وعند غيره، ورأينا تصريحاً وتلويحاً من هم الذين كان يخشى العباس أن يدفعوهم عن الأمر، وهم الذين قد عناهم الأستاذ الريّس في أول كلامه بقوله: وهناك دلائل على أن هذه الفكرة قد جالت بخاطر آخرين إلى جانب الأنصار، ولكن عامل القداسة للصحابة يمنعه عن أن يفصح بأسمائهم، كما أن عامل الحقيقة الّتي يعلمها وتجيش بها نفسه، يدفعه أن يقولها، لهذا أختار طريقاً وسطاً فيما رأى. وان لم يكن ذلك بالسبيل الأوسط الأقوم.

(3) طبقات ابن سعد 4/58 ط لجنة نشر الثقافة بالقاهرة 1358.

(4) صحيح البخاري 3/60.

(5) نهاية الاقدام في علم الكلام /404، والملل والنحل /18- 19 ط الأزهر الحديثة.

(6) لقد تسامح الريّس في تعبيره وأوضحت بعض الروايات الخ فليس ذلك بصحيح ولم يرد في رواية واحدة تصريح بذلك، وانما ذلك كان من توجيهات علماء التبرير لدفع غائلة السماجة عن كلمة عمر (إن النبيّ ليهجر) فطرحوا تصور الاستفهام الإنكاري وعليه بنوا أوهامهم.


الصفحة 16
ومهما يكن فهذا التفكير كله ما كان قد تجاوز الأيام القليلة قبيل وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يزد على انّه كان خواطر جالت ببعض الأذهان، وكان التفكير في هذا طبيعياً لشعور المسلمين بقرب الساعة الّتي سيخلو فيها مكان القيادة، ولم يصل الأمر إلى درجة الإتفاق، أو وضع الخطط أو التآمر - كما ادعى الأب أو القس لامانس، وردد قوله بعض المستشرقين ارنولد - زاعماً أنّ اتفاقاً قد تم بين أبي بكر وعمر وأبي عبيدة على الاستئثار بهذا الأمر، وتداوله فيما بينهم، فانه لا يقول هذا إلاّ رجل يريد أن يطعن في شخصيات الصحابة وأخلاقهم، ويغمز في إيمانهم، ورجل لا يفهم روح العصر، ولا يدرك سمو هذه النفوس العالية الّتي بلغت مرتبة القديسين أو جاوزتها، وان هذا كلام ليس له أي دليل من عقل أو تاريخ، بل انّ حقائق التاريخ المجمع عليها تثبت انّه ليس اكثر من بهتان... أهـ.

عجيب أمر هذا الاُستاذ حين يزعم أنّ حقائق التاريخ تثبت عكس ذلك، وهذا الّذي يقوله الأستاذ الريّس يعبّر عن رأي الكثير الكثير من المحدثين ممن يزعمون توخي الحقائق في كتاباتهم. ولو أنصفوا أنفسهم وجرّدوها عن العواطف، لأذعنوا للحقيقة.

فإنّ الأحداث المتتابعة منذ مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى وفاته وما حدث بعدها من حوادث، لتوحي للباحث بأنه من الواضح كانت هناك - وبلا شك - فكرة تجول في أذهان الصحابة من مهاجرين وأنصار حول موضوع ولاية الأمر بعد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم تنشأ تلك الفكرة من فراغ، بل كانت مستوحاة من مواقف الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) السابقة سلباً وأيجاباً، ولا بد لنا أن نقول ذلك بصراحة، نعم لا نستبعد أن يكون بروز آثارها كانت بوضوح بعد الحدث المشؤوم في ذلك اليوم العبوس الكالح

الصفحة 17
وهو يوم الخميس، وبينه وبين وفاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أربعة أيام. وهذه الأيام كانت كافية للأنصار للمداولة والتفكير في التخطيط وبالتالي إلى التصميم على الفعل، فما دام أمر الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في آخر عمره لم يمتثل في حياته، ولو أمتثل لحسم كلّ نزاع يحتمل أن يحصل، وكانوا على حد قول دعبل الخزاعي:


ولو قلدوا الموصى إليه أمورهملَزُّمت بمأمون عن العثرات

لكن عمر منع من امتثاله، فما الّذي يمنع الأنصار أن يفكّروا في أمرهم وقد علموا أن المهاجرين قد أصروا في أيام مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أن يحوزوا سلطان محمّد، فأدركوا تلك الحقيقة فخافوا على مراكزهم إذا تولى الأمر من المهاجرين من لا يرعى فيهم إلاً ولا ذمة، ما دام لهم متسّع من الوقت لتكوين جبهة قويّة تصد عنهم أو تحفظ لهم حقوقهم، ولهم بعدُ حجتهم فهم أهل الدار، وهم الذين آووا ونصروا، وبذلك يكونّوا جبهة قوية في وجه المهاجرين الذين بدت من بعضهم فلتات توحي بما يبيّتون من نوايا.

فاتخذوا قرارهم واجتمعوا في سقيفتهم لكسب التأييد والنظر في مستقبلهم. وليس يعني ذلك إضفاء الشرعية على فعلهم، بل يدل على العكس مهما تعاظمت أقدارهم، وتعالت درجاتهم ومهما ومهما... وإلا فأي عذر مقبول لهم بعدما عاهدوا الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليه من أمتثال أوامره، فأين الوفاء بعهده؟ وأين ميثاق بيعة الشجرة والرضوان؟ وأين عهود ليلة العقبة؟ وأين وأين؟

وأمّا المهاجرون ومنذ ذلك الحدث أيضاً فقد بان انقسامهم إلى فريقين: فريق أهل البيت ومن شايعهم وعلى رأسه الإمام عليّ وعمّه العباس، فهم حين يرون أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد حيل بينه وبين ما أراد أن يكتبه لأمته لئلا يضلوا بعده فحال عمر دون ذلك وقال ما قال ممّا لا ينبغي له أن يقوله. فهم أيضاً كان لهم الحق في التفكير

الصفحة 18
بمصائر الأمور بعد ما رأوا مكاشفة بقية من حضر في بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في استبعادهم عن الساحة، بل أحسّوا بالعمل الدائب على منع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من كلّ ما من شأنه تهيئة الأجواء الصالحة لمصير الأمة، فأتخذوا هم أو بعضهم ما يمليه الموقف في تلك الساعات الحرجة، ومن ذلك ما قاله العباس لعليّ (عليه السلام) انّي لأرى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سوف يموت...الخ. وستأتي في مواقف العباس في تلك الفترة شواهد تكشف عن مدى القلق الّذي ساور نفوس الهاشميين - رجالاً ونساء ً - فأصابهم بالإحباط، فتوجّسوا الشر وما سوف يلحقهم من الأذى بعد فقد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).

لذلك قال العباس لعليّ (عليه السلام): «أنتَ بعد ثلاث عبد العصا»(1). وقالت أم الفضل وقد دخلت على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في مرضه فبكت، فقال: (ما يبكيكِ؟) قالت: خفنا عليك وما ندري ما نلقى بعدك يا رسول الله. فقال: (أنتم المستضعفون بعدي)(2) - (إنكم مقهورون مستضعفون بعدي)(3)-.

ولم يغب كلّ ذلك عن سيّد بني هاشم ووليّ الأمر من بينهم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الّذي كان يقول: (انّ ممّا عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّ الأمة ستغدر بي)(4).

وأمّا الفريق الثاني من المهاجرين وهم الذين كانوا يمثلون المعارضة بأظهر أشكالها، وكان أبرز رموزها من المهاجرين أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبو عبيدة بن الجراح ومعهم من الأنصار أسيد بن حضير وبشير بن سعد يشدان أمرهم، فقد كانوا يعملون جاهدين على أحتجان الأمر دون بقية المسلمين سواء من أهل البيت أو الأنصار. فقاموا بما قاموا من أعمال كلها توحي أنها لم تكن وليدة الساعة بل كانت عن سابق تفكير وتخطيط، وإن شئت قل إنّها كانت

____________

(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/38، والمصنف لعبد الرزاق 5/435.

(2) كما في رواية أحمد في مسنده 6/339.

(3) كما في رواية ابن سعد في الطبقات 8/204.

(4) مستدرك الحاكم 3/140.


الصفحة 19
مؤامرة مدبّرة أحكمت خيوطها منذ أمد ليس بالقريب، وقد يستفزّك هذا التعبير، ولكن لو تجرّدت عن الرواسب ورجعت إلى ما قبل ذلك التاريخ، فلا تعدم - وأنت الباحث - الشواهد على ذلك.

فمثلاً في غزوة الطائف حين كانت مناجاة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ (عليه السلام) وأطال نجواه، فورمت آناف ناس لذلك فقالوا ناقمين: لقد أطال نجواه لأبن عمه فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما أنا أنتجيته، بل الله أنتجاه). وحين تنقب عن أولئك الناس الناقمين تجد أسم أبي بكر لامعاً دون غيره!(1)

وأيضاً في تلك الغزاة قام (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: (يا أيها الناس انّي فَرَط لكم وأوصيكم بعترتي خيراً، وإن موعدكم الحوض، والذي نفسي بيده ليقيمنّ الصلاة وليؤتينّ الزكاة، أو لأبعثن اليهم رجلاً منّي أو كنفسي، فليضربنّ أعناق مقاتليهم وليسبينّ ذراريهم)، قال عبد الرحمن بن عوف - وهو راوي الحديث -: فرأى الناس انّه أبو بكر أو عمر فأخذ بيد عليّ فقال: (هو هذا)(2). وهنا أيضاً أبهم أسماء الناس الذين رأوا أنّ المعنيّ للرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) هو أبو بكر أو عمر، لكنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخذ بيد عليّ (عليه السلام) فقال: (هو هذا).

____________

(1) أخرج الترمذي في صحيحه 2/300، والخطيب البغدادي في تاريخه 7/402، وابن الأثير في أسد الغابة 4/27، وغيرهم انّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنتجى عليّاً فأطال مناجاته فقال الناس: لقد طال نجواه لأبن عمه، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : (ما أنا أنتجيته ولكن الله أنتجاه). واذا كان الناس مبهمين في هذا الحديث فانّهم عرفوا كما في حديث جابر بن عبد الله، وقد أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 2/186 ط الثانية، والسيوطي في جمع الجوامع كما في ترتيبه كنز العمال 15/122 ط الثانية حيدر آباد، قال: لمّا كان يوم غزوة الطائف قام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع عليّ ملياً من النهار، فقال له ابو بكر يا رسول الله لقد طالت مناجتك عليّاً منذ اليوم؟! فقال رسول الله: (ما أنا أنتجيته ولكن الله أنتجاه).

(2) المطالب العالية لأبن حجر 4/56، والصواعق المحرقة /75 ط الاُولى، ومجمع الزوائد 9/134، وكنز العمال 15/144 ط حيدر آباد الثانية، والفصول المهمة لأبن الصباغ المالكي /11 وغيرها.


الصفحة 20
فهذا يدل على أنّ ثمّة دواعي للتفكير فيمن سيكون خليفة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، حيث يقول الناس في طول المناجاة ما قالوا، وحيث رأوا ان ليس أبو بكر أو عمر هو المعنيّ بقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (رجلاً مني أو كنفسي)، إذ أوضح ذلك بأتم توضيح، وفيه دلالة ليس على الترشيح بل بالنص الصريح فأخذ بيد عليّ (عليه السلام) فقال: (هو هذا).

ثم تلاحقت الأيام فتكشفت الحقائق، وجاء موسم الحج عام تسع من الهجرة فدعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبا بكر وأرسله بتبليغ آيات من سورة براءة، ثم سرعان ما أتبعه بعليّ (عليه السلام) ليستعيد منه ما أمره بتبليغه ويتولى عليّ (عليه السلام) ذلك، فرجع أبو بكر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: هل نزل فيّ شيء؟ قال: (لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا ورجل من أهل بيتي، ولا يؤدي عني إلاّ أنا أو عليّ، عليّ مني وأنا من عليّ)(1).

وجاءت السنة العاشرة وفيها حجة الوداع فخطب (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في عرفات وفي منى وفي مكة وفي كلها يذكر الناس بالتمسك بالثقلين.

وأخيراً لا آخراً كان يوم الغدير بعد رجوعه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من حجة الوداع، فقد أمر بالإجتماع وصعد منبراً من حدوج الإبل وأخذ بضبع ابن عمه - حتى بان بياض أبطيهما- فأقامه للناس إماماً وهادياً وعلماً وخليفة من بعده وقال: (من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)(2).

فكلّ ما مرّ ويأتي من المواقف الّتي أوحت إلى فريق المعارضة بأنه سوف لن يحصلوا على شيء ما دام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستمراً في التأكيد على ذلك المنهج الّذي يُوحى إليه به من السماء وهو التنويه بابن عمه خليفة من بعده {يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ

____________

(1) مصادر حديث تبليغ براءة فيما أحصاها بعض الباحثين بلغت 85 مصدراً من كتب التفسير والحديث والسيرة والتاريخ ولم يسلم هذا الحديث من جنايات الرواة، ويكفي مراجعة صحيح البخاري 1/671 ط دهلي الهند إذ يجد من رواته أبا هريرة، ودسّه أنفه في أمر التبليغ، وهو لم يكن حينئذٍ في الحجاز بل كان في البحرين؟!

(2) يكفي مراجعة كتاب الغدير للمرحوم الحجّة الأميني.


الصفحة 21
مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}(1)، فأيّ مانع لهم من التفكير في السُبل الّتي تضمن لهم أحتجان الأمر من بعده، فقدّروا ودبّروا - والآن فقل وتآمروا - لذلك تحيّنوا الفرص وتربّصوا، فبدأوا يصارحونه بالخلاف وجهاً لوجه، وبدت مواقفهم تتكشف شيئاً فشيئاً.

وخذ على ذلك شاهداً قضية بعث اُسامة، حيث أمره (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يخرج أميراً على جيش إلى مؤتة وسمّى أشخاصاً بأعيانهم للخروج في جيشه كان منهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص واسيد بن حضير وبشر بن سعد والزبير بن العوام(2). لكنهم لم يخرجوا ولم يستجيبوا لأمره، وصعد المنبر يخطب في المسلمين قائلا: (نفذّوا جيش اُسامة، لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة)(3). فمهما كانت نوايا الذين كانوا يتملصون من الخروج بأعذار فلم يقبلها منهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسكت على مضض. لذلك أراد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يكبح جماح تلك

____________

(1) المائدة /67.

(2) راجع طبقات ابن سعد 2 ق 2/41 ط ليدن، ومهذب تاريخ ابن عساكر لابن بدران الدمشقي 2/391 في ترجمة اُسامة، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1/53 و 2/20 و 459 و 4/173، ومقدمة الملل والنحل للشهرستاني، وشرح المواقف في أول تذييل المواقف نقلاً عن الترمذي، ونقل بعضهم ذلك عن البلاذري وغيره.

وقد علّق الدكتور صبحي الصالح على اللعن في كتابه النظم الإسلامية نشأتها وتطوّرها /79 ط دار العلم للملايين، فقال: وكان الرسول (عليه السلام) كان يستشف حجب الغيب ويدرك ما يكون من أمر المسلمين لو تهاونوا في مثل هذا الأمر الخطير، فهو أمر ترتب عليه نتائج حاسمة في علاقات المسلمين بالدول الأجنبية، لذلك لم يستنكف أن يستخدم عبارة (اللعن) ولكن هل أستجاب القوم أستجابة متماثلة؟

لقد تخلف عن الغزوة قوم ورغب فيها آخرون ـ ثم حكى مقالة الفريقين نقلاً عن الشهرستاني ـ وقال: ولقد يخيّل إلى كثير من مؤرخي الفكر الإسلامي أن لا ضير فيما قالته الفئة المتخلفة...ولكن مجرد إقدامهم على التخلف قد يعدّ دون شك ثغرة من الثغرات لا ندري من أي مكان أتوها. ونحن أيضاً نقول له:


فإن كنت لا تدري فتلك مصيبةوإن كنت تدري فالمصيبة أعظم

(3) المصدر السابق.


الصفحة 22
النزوات بأن يكتب لهم كتاباً لئلا يضلوا من بعده، فبدت البغضاء من أفواههم، فكانت الرزية كلّ الرزية - كما يقول ابن عباس - وتتابعت الأحداث سراعاً بالمواقف النابية من المعارضة، وكلها توحي بتأكيد التآمر. وإلاّ بماذا يفسّر موقف عمر وعثمان - الشديد - من إنكارهما موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى مُنع أهله من تجهيزه ودفنه، وتذرّعا بما لا يقوله أي انسان حتى المخبول.

قال الجاحظ في رسالته العثمانية: «وكان عثمان بن عفان وعمر بن الخطاب يرددا هذه الآيات يعني: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}(1) وتوعدّا أصحاب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من قال إنه مات. وثاروا في حجرة عائشة وعلى الباب لم يمت وكان أول من رآه مسجّى فأنكر موته عثمان وقال: انّه والله ما مات ولكنّ الله رفعه إليه كما رفع عيسى بن مريم، والله لا نسمع أحداً يقول مات إلاّ قطعنا لسانه.

واضطرب الناس وماجوا وقام عمر في الناس خطيباً فقال: لا أسمعنّ أحداً يقول إن محمّداً مات...»(2).

وتدافع عمر هو والعباس بالقول، هو يقول: ما مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بل غاب كما غاب موسى عن قومه وليرجعن فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون انّه مات، فجعل لا يمر بأحد يقول انّه مات إلاّ ويخبطه ويتوعده(3).

وذكر الزمخشري في الفائق: «انّ عمر مانعهم في دفن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: انّه لم يمت ولكنه صعق كما صعق موسى، فقال العباس: انّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يمت حتى ترككم على طريق ناجحة وان يك ما تقول يابن الخطاب حقاً فإنّه لن يعجز أن يحثو عنه، فخلّ بيننا وبين صاحبنا فإنه يأسن كما يأسن الناس»(4).

____________

(1) التوبة /33.

(2) الرسالة العثمانية /79 - 80 تح ـ عبد السلام محمّد هارون.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/60.

(4) الفائق 4/34.


الصفحة 23
وفي السيرة النبوية لابن كثير: «أنّ العباس خرج على الناس فقال: يا أيها الناس هل عند أحد منكم عهد من رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في وفاته فليحدثنا؟ قالوا: لا قال: هل عندك يا عمر من علم؟ قال: لا. فقال العباس: اشهدوا أيّها الناس أن أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته والله الّذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الموت»(1).

وتبقى لهجة عمر المحمومة ويبقى العباس يقول: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد مات وإنّه لبشر وإنه يأسن كما يأسن البشر، أي قوم فأدفنوا صاحبكم فإنه أكرم على الله من أن يميته الميتتين أيميت أحدكم إماتة ويميته إماتتين وهو أكرم على الله من ذلك، أي قوم فأدفنوا صاحبكم... إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والله ما مات حتى ترك السبيل نهجاً واضحاً، فأحلّ الحلال، وحرّم الحرام، ونكح وطلق وحارب وسالم، ما كان راعي غنم يتبع بها صاحبها رؤوس الجبال يخبط عليها العصاة بمخبطه ويمور حوضها بيده بأنصب ولا أدأب من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان فيكم أي قوم فأدفنوا صاحبكم(2).

ولم يزل العباس يقول: «ترككم على المحجة البيضاء».

واشتدت الخصومة، وحدثت البلبلة ولم تهدأ حتى جاء أبو بكر من السنح - وكان في منزله لم يحضر موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - فلمّا جاء دخل على الجثمان الطاهر، وكشف عنه ثم قال: «طبت حياً وميتاً» - ولسنا في مقام تفسير ذلك وانه جزء من مؤامرة أحكمت حبكاً - فخطب الناس، وخطب عمر معتذراً بأن مقالته

____________

(1) السيرة النبوية 4/481.

(2) أنظر سنن الدارمي /42، طبقات ابن سعد 2/266، أنساب الأشراف 2/243 عن ابن عباس، كنز العمال 7/244.