وبعد هذا أليس من اللافت للنظر حقاً أن تلمع هذه الأسماء الثلاثة أبو بكر، عمر، أبو عبيدة من بين المهاجرين إلى جانب أسيد بن حضير وبشير بن سعد من دون بقية الأنصار، في قائمة المعارضة، وكأنهم هم رأس الأمر، وعقله المدبّر والمفكّر، وان كانت هناك أسماء نفر آخرين كانوا يعضدونهم، ولعل أبرزهم كانت أم المؤمنين عائشة الّتي ليس ينكر دورها في موضوع الصلاة، كما لا ينكر دورها بعد ذلك في دعم ذلك الثالوث المقدّس، وإلى القارئ شاهداً على ذلك.
فقد ذكر ابن تيمية في منهاج السنة نقلاً عن صحيح مسلم عن ابن أبي مليكة قال: «سمعت عائشة وسئلت من كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مستخلفاً لو أستخلف؟ قالت: أبو بكر، فقيل لها ثم من بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، قيل لها: ثم من بعد عمر؟ قالت أبو عبيدة بن الجراح. ثم أنتهت إلى هذا... أهـ»(1).
فممّا تقدم وغيره ممّا لم أذكره أتخذ الأب أو القس (لامانس) وتبعه بعض المستشرقين مثل (أرنولد) حجة إلى القول بان هناك تآمراً بين الثلاثة على
____________
(1) منهاج السنّة 3/135 ط الاُولى.
وقال: «فهما لم يريدا سوى أن يكونا خليفتين لرئيس الحكومة التيوقراطية الشرعي الحقيقي الوحيد، وهو النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد عبّرا عن ذلك باللقب الّذي اختاراه لأنفسهما وهو لقب الخليفة. وقد سمى أبو بكر نفسه خليفة رسول الله وسمّى عمر نفسه خليفة خليفة رسول الله، حتى بدا في ذلك شيء من التكلف والتطويل في التسمية، فصار لقب الخليفة مع إسقاط المضاف إليه لقباً قائماً بذاته... أهـ»(2).
أقول: لسنا في مقام تحقيق اللقب الّذي حصل عليه أبو بكر، وكيف ثَم له، وهل كان خليفة أم خالفة؟ كما رواه جمع من أن أعرابياً سأل أبا بكر فقال له: (أنت خليفة رسول الله (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم)؟
قال: لا، قال: فما أنت؟ قال: أنا الخالفة بعده(3).
____________
(1) النظريات السياسية الإسلامية /27.
(2) تاريخ الدولة العربية (ترجمة عبد الهادي أبو ريدة) /34، وورد نحو ذلك في ترجمة يوسف العش لنفس الكتاب أيضاً /34، ومن الغريب - والمؤسف - لم يعلّق أيّ من المترجمين على ذلك بشيء، وكأنهما يشاركان ولها وزن فيما ذهب إليه فيريان نفس الرأي.
(3) كنز العمال 14/173 نقلاً عن ابن عساكر، والنهاية في اللغة لابن الأثير 2/69 الطناحي والزاوي، والفائق للزمخشري 1/391 تح ـ إبراهيم والبجاوي، والجمهرة لابن دريد 2/37 مح ط حيدرآباد (أفست) والدر المنير للسيوطي. وغير ذلك.
أ _ العمود من أعمدة البيت في مؤخره.
ب _ القاعدة في الدار من النساء ج خوالف.
ج _ الفاسد من الناس.
د _ الّذي لا غناء عنده ولا خير فيه، والهاء للمبالغة(1).
ومن البديهي فانّ أبا بكر لم يكن بالمعنيين الأوليين قطعاً، فهو مردّد بين المعنيين الآخرين لا محال وهذا ما دفع باللغويين إلى الاعتذار عنه بأنّه قال ذلك تواضعاً. ونحن سواء قبلنا ذلك عن رضىً أو لم نقبله فهو بلا خلاف (أوّل ملك إسلامي بعد رسول الله (صلّى الله عليه (وآله) وسلّم). كما يقول محمّد فريد وجدي(2) في حديث عن حكومة أبي بكر الّتي قال فيها: (فجاءت حكومتهم فذّة في بابها، غريبة في تركيبها، وبيان غرابتها إنّها لا تسمى حكومة مطلقة، لأن الحكومة المطلقة هي الّتي يرأسها رجل مستبد لا دستور له إلاّ رأيه وهواه، والحكومة العربية كان لهادستور وهو القرآن، فلا تسمى مطلقة، ثمّ لا تسمى دستورية، لأنّ الحكومة الدستورية هي الّتي يكون لها مجلسان نيابيان أو مجلس نيابي واحد، ولم تكن الحكومة العربية الإسلامية كذلك ثمّ لم تكن حكومة جمهورية لأنّها وإن كانت منتخب رئيسها كما هو الحال في الاُمم الجمهورية، إلاّ أن ذلك الرئيس فيما ليس لرئاسته حد محدود تنتهي إليه كأربع أو ست سنين.
____________
(1) المعجم الوسيط 1/250 ط مجمع اللغة العربية.
(2) دائرة معارف القرن العشرين 2/322 ط دار الفكر بيروت.
وأعود الآن فأقول: لم يكن الكاتب الريّس وحده الّذي تنازعه العاملان، عامل احترام الصحابة، وعامل إظهار الحقيقة فربما غلب الثاني فأظهره، كما صنعه كثير من الكتّاب المحدَثين وانّهم على ما بينهم من تفاوت في مراتب الشجاعة والجرأة على الصراحة لا تخلو كلماتهم من إشارة أو تلميح، وربما جاء ذلك منهم بالقول الفصيح بأن ثمة تصميماً مسبقاً وعن سبق إصرار وعمد لإبعاد بني هاشم عن الأمر، فهذا الدكتور طه حسين - عميد الأدب العربي وصاحب الفتنة الكبرى - يقول: «فكان بنو هاشم قد أبعدوا عن هذا الأمر عمداً، أبعدتهم عنه قريش مخافة أن تظل لبني هاشم رعية، وألا تكون الخلافة في حي آخر من أحيائها»(2)، ولم يكن ذلك بدعاً من قول الدكتور طه حسين فقد كان ذلك من قبل هو رأي المغيرة بن شعبة القائل لأبي بكر وعمر: «ما لكم أتريدون أن تنتظروا وصل الحبلة من أهل هذا البيت، وسّعوها في قريش تتسع»(3)، ولسنا بصدد تفصيل جميع ما جرى في السقيفة وكيف جرى؟ ولماذا غلب المهاجرون على الأنصار؟ وما هي حجتهم؟ فكل ذلك يستدعي الخروج بنا إلى أبحاث طويلة تبعدنا عن صلب الموضوع ولكنا سوف لا نبعد عنها كثيراً ما دمنا بصدد معرفة رأي ابن عباس (رضي الله عنه) في أحداث تلك الفترة بين العهدين، والتي عايشها وعاش مرارتها أسوة بأهل بيته وموقفه يتبين بوضوح عندما نقرأ مواقف أبيه
____________
(1) نفس المصدر 2/323 _ 324.
(2) الفتنة الكبرى 1/152 ط دار المعارف بمصر.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/18 ط الأولى بمصر.
سبحان ربّي ينعم كيف شاء | ساس الورى من كان يرعى الشاء |
يـقـود بعد إبل ابن عامر | مـا دبّ فـي غامرها والعامر(1) |
مواقف العباس في تلك الفترة:
مهما كانت فداحة الخطب الموجع الّذي نزل بالمسلمين عامة وبأهل البيت خاصة، فلم يكن العباس بن عبد المطلب (رضي الله عنه)، ليذهل غماً وحزناً عما كان يتوجسه خيفة من وقوع أمر كان يحسب له حسابه منذ أمد غير قريب، لأنه كان يقرأ في قسمات الوجوه ما تكنّ القلوب ويسمع من فلتات الألسن ما تضمره النفوس الحاقدة الحاسدة. وقد مرت بنا شواهد على ذلك في ترجمته لذلك نرى كلّ مواقفه في فترة مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وبعد موته، متشابهة يشد بعضها بعضاً، وتلتقي عند تهيأة الجو المناسب لتوطيد بيعة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام).
أولاً: ففي مرض النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقد كان مع الحاضرين حين دعا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدواة والكتف ومنع منه عمر وقال: «انّه ليهجر»، فوقع الخصام وتراشق الكلام بأحد من حد الحسام، وطرد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الذين شاقّوه، فلمّا خرجوا قال العباس
____________
(1) دول العرب وعظماء الإسلام /35.
وفي مرض النبيّ أيضاً وقد عرف ما يحاك ضد الخلافة الشرعية من تخلّف المتخلفين عن جيش اُسامة، ومن اعتراض المعترضين على كتابة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكثرة الهمز واللمز حول وصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لغير عليّ، فقد بادر بإحباط ذلك التآمر، فقال لعليّ: هل تعلم أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصى لغيرك بشيء؟ فقال عليّ (عليه السلام): (اللّهم لا)... فخرج على بغلة حتى أتى معسكر أسامة، فلقى أبا بكر وعمر وغيرهما، فقال: هل أوصاكم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بشيء؟ قالوا: لا، فرجع إلى عليّ فقال: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مقبوض فأمدد يدك أبايعك فيقال عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويبايعك أهل بيتك وإنّ مثل هذا الأمر لا يؤخّر(1)، ولكن الإمام يأبى عليه، ويكرر حواره مع الإمام وقد رأى نُذُر الشر تترى، حرصاً منه على أغتنام الفرصة قبل أن تقع الواقعة، ويلتحق النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالرفيق الأعلى فيقول للإمام: يا عليّ أحلف بالله لقد عرفت الموت في وجه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كما كنت أعرفه في وجوه بني عبد المطلب، فانطلق بنا إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واسأله عن الأمر هل هو فينا فتطمئن قلوبنا؟ أم هو في غيرنا فيوصى بنا، ويأبى الإمام، ويصر العباس ويدخل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويقول له ذلك فيجيبه: (إنكم المقهورون وأنتم المضطهدون) وفي رواية: (أنتم المستضعفون بعدي).
ثانياً: وفي يوم موت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال للإمام: «أمدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بايع ابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - ابن أخيه - فلا يختلف عليك
____________
(1) أنطر النزاع والتخاصم للمقريزي /49 ط مصر سنة 1937 م، وقارن الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/56 سنة 1328 بمصر.
فقال عليّ (عليه السلام): (يا عم إنّ لي برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعظم شغل عن ذلك؟) ثم تريّث وقال: (وأحد يطمع فيه غيرنا؟)
فقال العباس: أظن والله سيكون. ثم سكت»(1).
ثالثاً: وعاد العباس غارقاً في بحر همومه، وقد أضطرب عليه وجه الحيلة في الخلاص من ذلك الخطر المحدق بالأمة. وبينا تتنازعه الهواجس والوساوس، وتتقاذفه الأحزان والأحلام، من فقد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمر الخلافة وأمتناع عليّ (عليه السلام) عن المبادرة، وتوجسه فتنة القوم الذين عرفهم بالتمالؤ على أقتناص الخلافة دون أهلها. بينا هو في تلك الدوامة المقلقة المحزنة يصك سمعه صوت يتهدّد ويتوعد.
يقول ابن كثير في سيرته وروى الحافظ البيهقي من طريق ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود عن عروة بن الزبير في ذكر وفاة رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم قال: وقام عمر بن الخطاب يخطب الناس ويتوعد من قال مات بالقتل والقطع ويقول: إن رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم في غشية لو قد قام قتل وقطع. وعمرو بن قيس بن زائدة بن الأصم ابن أم مكتوم في مؤخّر المسجد يقرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ}(2) الآية والناس في المسجد يبكون ويموجون لا يسمعون.
____________
(1) طبقات ابن سعد 2 ق 2/49 ط أفست ليدن.
(2) آل عمران /144.
فقال العباس: أشهدوا أيها الناس انّ أحداً لا يشهد على رسول الله بعهد عهده إليه في وفاته. والله الّذي لا إله إلا هو لقد ذاق رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم الموتَ(1).
وروى ذلك غير ابن كثير من المؤرخين. ومنهم من ذكر أنّ العباس كان يقول يومئذ: «ترككم على المحجة البيضاء» وقد مرّ ذلك.
ولم تهدأ ثائرة عمر إلا بعد أن أقبل أبو بكر من السُنح حيث منزله هناك ودخل على النبيّ? (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكشف عن وجهه وقال: «طبت حياً وميتاً»، ثم خرج إلى المسجد وعرّف الناس بموت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتلا الآية الّتي كان ابن أم مكتوم يتلوها في مؤخرة المسجد والناس يموجون فقرأ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ}(2).
فقال عمر: «أو أنها في كتاب الله؟ ما شعرت انها في كتاب الله». ثم قال عمر: «يا أيها الناس هذا أبو بكر وهو ذو شيبة المسلمين، فبايعوه. فبايعوه»(3).
هكذا روى ابن كثير في سيرته نقلاً عن الإمام أحمد، وعقب على ذلك بقوله: وقد روى أبو داود والترمذي في الشمائل من حديث مرحوم بن عبد العزيز العطار عن أبي عمران الجوفي به ببعضه.
____________
(1) السيرة النبوية 4/481.
(2) ال عمران /144.
(3) السيرة النبوية لأبن كثير 4/480.
ولماذا لم تهدأ ثائرته حين كان ابن ام مكتوم يقرأ تلك الآية بعينها في المسجد؟
وكيف لم يعلم أنها آية من كتاب الله وهو الّذي قال حسبنا كتاب الله؟ فان كان لا يعلم ما فيه كيف يدعو إلى الأكتفاء به وهو يجهل منه أكثر ممّا يعلم؟
ويبقى العباس يتوجس أمراً يحدث بعد ما ذهب الشيخان إلى السقيفة، وقد حدث الّذي حدث بما كان يتوجّس منه خيفة، ويشاركه في ذلك الهاجس عامة المهاجرين وجل الأنصار الذين كانوا لا يشكّون أن عليّاً هو صاحب الأمر بعد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أنّ المنذر بن الأرقم قال في السقيفة رداً على كلام أبي عبيدة وعبد الرحمن بن عوف: فقال ما ندفع فضل من ذكرت وان فيهم رجلاً لو طلب هذا الأمر لم ينازعه فيه أحد يعني عليّ بن أبي طالب(1).
رابعاً: قال البراء بن عازب: «لم أزل لبني هاشم محباً فلمّا قبض رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خفت أن تتمالأ قريش على أخراج هذا الأمر عنهم، فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكنت أتردد إلى بني هاشم وهم عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في الحجرة وأتفقد وجوه قريش فإني كذلك فقدت أبا بكر وعمر واذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة، واذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر فلم ألبث واذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه عمر وأبو عبيدة
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2/102- 103 ط الحيدرية، وانظر الموفقيات /380، وتاريخ الطبري 3/198، وابن أبي الحديد 2/8 وسمى القائل زيد بن أرقم.
فقال العباس تربت أيدكم إلى آخر الدهر، أمّا اني قد أمرتكم فعصيتموني»(1).
خامساً: قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: «لمّا اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: أما والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم، يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم، أين المستضعفان؟ أين الأذلان - يعني عليّاً والعباس - ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش؟
ثم قال لعليّ: ابسط يدك أبايعك فوالله ان شئت لأملأنها على أبي فضيل - يعني أبا بكر - خيلاً ورجلاً»(2). وقد روى مثل هذا غير واحد من المؤرخين. ورووا أنّ العباس لمّا سمع ذلك من أبي سفيان قال لعليّ: يابن أخي هذا شيخ قريش قد أقبل فأمدد يدك أبايعك ويبايعك معي، فانا ان بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف، واذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك قرشي، واذا بايعتك قريش لم يختلف عليك بعدها أحد من العرب.
فقال الإمام لعمه: (لا والله يا عم إني أحب أن أصحر بها، فأكره ان أبايع من وراء رتاج. وان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوصاني أن لا أجرّد سيفاً بعده حتى يأتيني الناس طوعاً. وأمرني بجمع القرآن، والصمت حتى يجعل الله (عزّ وجلّ) لي مخرجاً).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/73- 74 .
(2) نفس المصدر.
سابعاً: روى أبو بكر الجوهري في كتابه السقيفة عن المغيرة بن محمّد المهلبي من حفظه، وعمر بن شبة من كتابه باسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال: «سمعت البراء بن عازب - وذكر ماتقدم من حديثه إلى أن قال -: فمكثت أكابد ما في نفسي، فلمّا كان بليل خرجت إلى المسجد، فلمّا صرت فيه تذكرت إني كنت اسمع همهمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالقرآن، فامتنعت من مكاني، فخرجت إلى الفضاء - فضاء بني بياضة - وأجد نفراً يتناجون فلمّا دنوت منهم سكتوا فأنصرفت عنهم، فعرفوني وما أعرفهم فدعوني اليهم فأتيتهم، فأجد المقداد بن الأسود، وعبادة بن الصامت، وسلمان الفارسي، وأبا ذر، وحذيفة، وعمار وأبا الهيثم بن التيهان. واذا حذيفة يقول لهم والله ليكونن مااخبرتكم به والله ما كَذبتُ ولا كُذّبت، واذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين، ثم قال: إئتوا أبيّ بن كعب فقد علم كما علمتُ.
قال - البراء - فانطلقنا إلى أبيّ فضربنا عليه بابه، حتى صار خلف الباب، فقال: من أنتم، فكلّمه المقداد، فقال: ما حاجتكم؟ فقال له: افتح عليك بابك فإنّ الأمر أعظم من أن يجري من وراء حجاب.
____________
(1) مثل يضرب لمن يستذّل فيكون تابعا ً(بتصرف عن المضاف والمنسوب للثعالبي /628 ط دار نهضة مصر سنة 384).
(2) تذكرة خواص الأمة /137.
فقال: افيكم حذيفة؟ فقلنا: نعم، قال: فالقول ما قال، وبالله مايفتح عني بابي حتى تجري على ما هي عليه جارية، ولما يكون بعدها شرّ منها، والى الله المشتكى»(1).
وروى ابن أبي الحديد قال: «لمّا توفي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) واشتغل عليّ (عليه السلام) بغسله ودفنه وبويع أبو بكر خلا الزبير وابو سفيان وجماعة من المهاجرين بعباس وعلي (عليه السلام) لإجالة الرأي، وتكلموا بكلام يقتضي الأستنهاض والتهييج فقال العباس (رضي الله عنه):
قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم، ولا لظنّة نترك آراءكم لكن لالتماس الحق فأمهلونا نراجع الفكر، فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصرّ بنا وبهم الحق صرير الجُدجُد(2) نبسط إلى المجد أكفاً لا نقبضها او نبلغ المدى، وان تكن الأخرى فلا لقلة في العدد، ولا لوهن في الأيد(3) والله لولا أنّ الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر(4) يسمع اصطكاكها من المحل العلّي.
قال: فحلّ عليّ حبوته وقال: الصبر حلم، والتقوى دين، والحجة محمّد، والطريق الصراط. أيها الناس شقوا أمواج الفتن بسُفن النجاة، وعرّجوا عن طريق المنافرة، وضَعَوا عن تيجان المفاخرة. أفلح من نهض بجناح أو استلم فأراح، هذا
____________
(1) أنظر شرح النهج لابن ابي الحديد 1/74 و 132.
(2) بضم الجيمين: دويبة على خلقة الدبا وتسمى: صرار الليل.
(3) الأيد: القوة.
(4) الجنادل جمع جندلة وهي الصخرة العظيمة.
ثامناً: وذكر الجوهري في كتابه السقيفة باسناده المتقدم إلى البراء بن عازب، وابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة(5) واللفظ للأوّل قال - بعد ذكره تشاور رجال من المهاجرين والأنصار في أن يعيدوا الأمر شورى بين المسلمين المهاجرين -: وبلغ ذلك أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيدة والى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي.
فقال المغيرة: الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له ولولده في هذا الأمر نصيباً لتقطعوا بذلك ناحية عليّ بن أبي طالب ويكون لكما الحجة عند الناس على عليّ وبني هاشم إذا مال العباس معكم.
فأنطلق أبو بكر وعمر وابو عبيدة والمغيرة حتى دخلوا على العباس - وذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - فحمد الله أبو بكر واثنى عليه وقال: إن الله ابتعث لكم محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نبياً وللمؤمنين ولياً، فمنّ الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم، حتى أختار له ما عنده، فخلّى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم
____________
(1) الآجن: الفاسد المتغير.
(2) الارشية جمع رشاء وهو الحبل.
(3) الطوى جمع طوية وهي البئر البعيدة القعر.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/73، وراجع نزهة الناظر للحلواني /18.
(5) الإمامة والسياسة 1/15 ط سنة 1328 بمصر.
وما انفكّ يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين، يتخذكم لجأ، فتكونوا حصنه المنيع، وخطبه البديع فأما دخلتم فيما دخل فيه الناس، أو صرفتموهم عما مالوا اليه.
وقد جئناك ونحن نريد ان نجعل لك في هذا الأمر نصيباً ولمن بعدك من عقبك، إذ كنت عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم. وعلى رسلكم بني هاشم فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منا ومنكم.
فاعترض كلامه عمر وخرج إلى مذهبه في الخشونة والوعيد واتيان الأمر من أصعب جهاته فقال أي والله وأخرى إنا لم نأتكم حاجة اليكم، ولكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم، فيتفاقم الخطب بكم وبهم فأنظروا لأنفسكم ولعامتهم. ثم سكت.
فتكلم العباس فحمد الله واثنى عليه ثم قال: انّ الله ابتعث محمداً نبياً كما وصفت وولياً للمؤمنين، فمنّ الله به على أمته حتى اختار له ما عنده، فخلى على الناس أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق لا مائلين عنه بزيغ الهوى، فان كنت برسول الله طلبت فحقّنا اخذت، وان كنت بالمؤمنين فنحن منهم، ما تقدمنا في أمركم فرطاً، ولا حللنا وسطاً، ولا نزحنا شحطاً، فإن يكن هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين، فما وجب إذ كنا كارهين، وما أبعد قولك: إنّهم طعنوا من قولك إنّهم مالوا إليك.
وأمّا قولك أنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) منا ومنكم، فإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من شجرة نحن أغصانها وأنتم جيرانها.
وأمّا قولك ياعمر انك تخاف الناس علينا، فهذا الّذي قدّمتموه أول ذلك وبالله المستعان... أهـ. فخرجوا يتعثرون بأذيال الخيبة والفشل، ورأوا أن يرسلوا إليه المغيرة بن شعبه ثانية يعتذر لهم، فأتاه فثار العباس متميزاً غيظاً وقال له: لا عذر الله من عذرك، أعزب عنا لعنة الله عليك وله أبيات من الشعر قالها حين بويع أبو بكر ويمدح ابن أخيه الإمام وقد أعرب فيها عن بليغ حجته ومدى تأثره وعميق حزنه، ولاشك أنّ ابن عباس سمعها من أبيه ووعاها، ولست استبعد انّه ممن رواها، وهي:
ما كنت أحسب أن الأمر منصرف | عن هاشم ثم منها عن أبي حسن |
ألـيـس أول مـن صـلّى لقبلتكم | وأعلـم النـاس بالآثار والسنن |
وأقـرب النـاس عهداً بالنبي ومَن | جبريل عونٌ له في الغسل والكفن |
مَن فـيه ما في جميع الناس كلّهم | وليس في الناس ما فيه من الحسن |
مـاذا الـذي ردّكـم عـنه فنعرفه | هـا إن بيعتكم من أول الفتن(1) |
ولمّا كانت هذه هي مواقف العباس من أحداث تلك الفترة، فكلها بمرأى وبمسمع من ابنه عبد الله الّذي حدّث هو عن بعضها، وعلى أساسها يمكننا تقييم
____________
(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1/74. ولقد تقدم ذكر الاختلاف في نسبت هذه الابيات في المصادر فراجع (أدب العباس).