الصفحة 67

الفصل الثالث:



حبر الأمة في عهد عمر





الصفحة 68

الصفحة 69

ثلاث مسائل بين يدي البحث:

قبل الدخول في الحديث عن حياة حبر الأمة عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) في عهد عمر بن الخطاب، لا بد لنا من مقدمة نستوحي منها بعض المؤشرات على قوة نشاط الحبر في ذلك العهد. ونتعرف من خلالها أسباب ذلك التمازج العملي - إن صح التعبير - مع شدة التنافر الفكري بين الشخصين، خصوصاً في أمر الخلافة الّتي هي بداية الخلاف في الأمة، والتي كان ابن عباس يقول فيها بالنص، وكان عمر يقول فيها بالاختيار. فهما على طرفي نقيض في تلك النقطة المهمة، ومن ذلك نعرف مدى التباعد بين الرؤى في العقيدة عند الرجلين مع شدة التقارب بين الشخصين في الحضر والسفر بينما يرى عمر ما رآه أبو بكر، ورأيهما رأي المخالفين التابعين لهما والقائلين بالإختيار.

يرى ابن عباس ما يراه أهل البيت جميعاً من قبل ومن بعد وهم القائلون بالنص.

وما دام الحال كذلك فلماذا فضّل ابن عباس إمرة المطيّبي - وهو أبو بكر - على إمرة الأحلافي - وهو عمر - كما مرّ آنفاً ففرّق بينهما مع أنهما في الهوى والرؤى سواء؟

ثم ما هي العوامل الّتي أدت إلى التناغم وتبادل الثقة بين ابن عباس وبين عمر حتى صارت صداقة، وكل منهما لا يزال على رأيه وعند موقفه في مسألة الخلافة؟ إلا أن اختلاف الرأي لا يفسد في الود قضية؟ كما يقول أحمد شوقي.


الصفحة 70
وأخيراً كيف رضي بنو هاشم وعلى رأسهم سيدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يكون ابن عباس لصيقاً بعمر في ورده وصدره، ورفيقاً له في حاضره وسفره؟

هذه ثلاث مسائل يجب أن نبحثها، ونتعرف الجواب عليها، قبل الحديث عن حياة ابن عباس في عهد عمر.

المسألة الأولى:

في تفضيل ابن عباس ولاية أبي بكر على ولاية عمر، وهما معاً متفقان رأياً في الخلافة، وخلافة الثاني إنّما هي فرع خلافة الأوّل. ورأي ابن عباس على خلافهما في مسألة الخلافة، لماذا اذن ذلك التفضيل لولاية الأوّل على ولاية الثاني، مع أنّه حصلت له الحضوة عند الثاني أكثر ممّا كانت له عند الأوّل؟

ولمعرفة الجواب لابدّ لنا من المام بمقارنة عابرة بين فترتي العهدين، ومعايشة ابن عباس فيهما لكلّ واحد من الشيخين. فنقول: لقد مرّت بنا معرفة حياته في عهد أبي بكر، فهو لم يكن فيها إلاّ واحداً من سائر بني هاشم - وهم وشيعتهم كانوا جبهة المعارضة - وكان يومئذ منضوياً تحت لواء أبيه العباس كسائر أخوته وأهل بيته، وهم جميعاً انّما يضمهم كَنفَ الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) الرحب، فهم جميعاً له تبع فعن رأيه يصدرون، وبأمره يعملون.

أمّا في عهد عمر فقد كانت حياته أكثر انفتاحاً وأوسع انفساحاً، وكان أكثر التصاقاً بعمر منه بأبي بكر وله عند عمر حضور ووجود، مشهود ومعدود، بل وعليه محسود، من قبل بعض شيوخ المهاجرين، كما ستأتي الإشارة إلى ذلك في محلها.


الصفحة 71
فقد احتل مكانة في نفس عمر لم يحصل عليها ولا ابنه عبد الله بن عمر، فقد كان هو الوحيد من بين أقرانه سناً الّذي يحضر مجلس شورى عمر (الخاص)، وهو المفضّل رأياً في مجلس شوراه (العام)، وهو صاحبه في الحضر، وهو رفيقه في السفر، وكان عمر يعتدّ برأيه ويأخذ بقوله.

وكذلك كان ابن عباس مطمئناً - باعتداد - إلى رسوخ مكانته عند عمر، فكان يجرأ على مخاصمته، ويقوى على مجادلته، ويوسعه من الحجة ما يضيق معها صدره، ومع ذلك يحتمل منه عمر ما لم يحتمل من غيره؟!

فمن كان بهذه المثابة والمنزلة لماذا يفضل ولاية أبي بكر على ولاية عمر، وهو لم يحصل في ولاية أبي بكر على مثل ذلك؟ ويكون جوابه لابن صفوان: لإمرة المطيبين كانت أفضل من إمرة الأحلاف(1) لماذا ذلك؟

قد يقول قائل: إنّ ابن عباس إنّما فضّل ولاية أبي بكر، لأنّهما كانا معاً من المطيّبين، وذلك حسب الأعراف القبلية السائدة يومئذ، وهي نزعة كانت قبل الإسلام على أساس التحالف، ثم بقيت آثارها تظهر بين حينٍ وآخر حين تشتد الخصومات، وتتعالى الأصوات في المنازعات. وقد بقيت آثارها حتى بعد ذلك العهد، ويجد الباحث أثراً لها في خصومة وقعت وللهاشميين حضور في مجلس معاوية وذلك ما جرى بين أُسامة بن زيد وعمرو بن عثمان في حائط من حيطان المدينة وادعاه كلّ منهما، فتلاحيا وتفاخرا، حتى أنشطر الحاضرون فقام مروان وسعيد بن العاص وجلسا إلى جنب عمرو بن عثمان وقام الحسن بن عليّ وعبد الله بن جعفر وجلسا إلى جنب أُسامة، وحسم النزاع معاوية وحكم بالحائط لأسامة خشية من بني هاشم أن يتفاقم الخطب(2).

____________

(1) جمل أنساب الأشراف للبلاذري 1/163 تح ـ. د سهيل زكارود. رياض زركلي ط بيروت.

(2) أمالي المفيد كما في بحار الأنوار 44/107 ط الحديثة.


الصفحة 72
وفي نظري أنّ هذا التصور ليس كافياً وحده أن يكون سبب التفضيل بشيء ولا لأنّ ابن عباس كان أسمى من أن ينصاع لمثل تلك الأعراف، بل لأجل ما رأى من قلة المفارقات والتناقضات في الأحكام في إمرة المطيبي، لقصر مدتها وتفاقمها أضعاف مضاعفة في إمرة الأحلافي لطول المدة، مضافاً إلى ما بين طبيعة كلّ من الرجلين من تفاوت في اللين عند الأوّل والشدة عند الثاني. وما أكثر شواهد ذلك، وبحسب القارئ أن يعرف أنّ لعمر كانت درّة يخفق بها الرؤوس حتى صارت مضرب المثل بأنها أهيب في صدور الناس من سيف الحجاج(1) بينما لم يكن لأبي بكر درّة ولا ذرّة، فسالمته نفوس كثيرة، بينما كان عمر يأخذ الناس بالشدة والعنف، وقليل ما هم الذين كانوا يجرأون فيقولون له ابتداءً ما ينبغي وما لا ينبغي.

فهذا الجانب فيما أحسبه هو الّذي جعل ابن عباس يفضّل إمرة أبي بكر على إمرة عمر، لأنّه كان يعاني من عمر شدته مع افتقاره العلمي خصوصاً في الأحكام، فكان يغيّر ويبدّل بما جرى على لسانه، حتى حفظ عنه راوٍ واحد وهو عبيدة السلماني مائة قضية في الجد كلّها ينقض بعضها بعضاً(2) وهذا ليس افتئات أو افتراء منه على عمر. فان عمر نفسه كان يقول: «إنّي قضيت في الجد قضايا مختلفة كلها لا آلو فيه عن الحق، ولئن عشت إن شاء الله إلى الصيف لأقضين فيها قضية تقضي به المرأة وهي على ذيلها»! وسيأتي مزيد بيان عن تناقضات عمر في الأحكام وموقف ابن عباس منها.

____________

(1) كلمة قالها الشعبي كما في ثمار القلوب للثعالبي /85، ونقلها الدميري في حياة الحيوان في ترجمة عمر.

(2) السنن الكبرى للبيهقي 6/245 ط حيدر اباد، ومصنف عبد الرزاق 10/262.


الصفحة 73
وهذا الجانب هو الّذي أشار إليه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله في الشقشقية: «فمُني الناس لعمر الله بخبط وشماس وتلوّن واعتراض، فصبرت على طول المدة وشدة المحنة»(1).

وقد ذكر ابن عبد البر، وابن حجر، وابن عبد ربه، وغيرهم: «أنّ عمر خرج من المسجد ومعه الجارود العبدي، فإذا بامرأة برزة. ضخمة الجثة. على الطريق، فسلّم عليها عمر، فردت عليه السلام. وقالت: هيهاً يا عمر، عهدتك تسمى عُميراً في سوق عكاظ تـُرع الصبيان بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سميت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سميت أمير المؤمنين، فأتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي الفوت...»(2).

فهذا شاهد آخر على شدّة المحنة في أيام عمر وهذا الجانب الّذي يسترعي انتباه امرأة من المسلمين كيف لا يسترعي انتباه حبر الأمة وهو يقاسي معاناة صحبة الرجل مع شعوره بالمسؤولية.

لذلك كانت امرة المطيبي- وهو أبو بكر - أفضل من امرة الأحلافي - وهو عمر- لقلة المفارقات في الأولى وكثرتها في الثانية.

المسألة الثانية:

في معرفة الدواعي الّتي توفرت لدى ابن عباس ولدى عمر حتى بدا بينهما التآلف ظاهراً في بعض المجالات، مع بينهما من تفاوت في السن فان سنّ عمر يوم تولى الحكم يزيد على الأربعين بسنين، وسنّ ابن عباس لم يبلغ العشرين

____________

(1) نهج البلاغة (الخطبة الشقشقية).

(2) أُنظر الاستيعاب 1/291، والإصابة 4/290، والعقد الفريد 1/322.


الصفحة 74
بسنين ومن البدهي اختلاف الإدراك لدى الشاب والكهل، مضافاً إلى اختلاف النشأة والتربية، ولا ننسى الشعور بالتفاضل بين البيتين، فهذا من بني هاشم صفوة الخلائق وذاك من بني عدي، والأهم من هذا كله هو الخلاف في مسألة الخلافة، وما هي الأسباب الّتي جعلت عمر يثق بابن عباس فيختصه دون غيره، فيتخذ منه المستشار المؤتمن ومفزعه عند المحن، فيقول له إذا أعضله أمر: غص يا غواص. مع علمه بان ابن عباس هو من الهاشميين وابن شيخهم، ولا يزال يراهم العنصر المعارض لإمرته وإمرة صاحبه من قبل، وهو الّذي كان قد أستبعدهم عن الساحة فأبعد الخلافة عنهم بكلّ جهد مستطاع، وبتعبير أصح حتى أبعدهم عن الخلافة، فكيف والحال هذه يطمئن إلى واحد منهم مثل ابن عباس وهو في فقهه وعلمه وحصافة رأيه، فيقرّبه ويثق به؟

ثم ما هي العوامل الّتي فرضت نفسها على ابن عباس أن يكون مع عمر بالمنزلة الّتي بلغها، وهو من بني هاشم الذين كانوا جميعاً وبلا استثناء يرون في عمر وصاحبه من قبل ظالمَينَ لهم وغاصبَين لحقهم، وقد كشف لعمر مراراً عن دخيلة نفسه وحقيقة رأيه، وقد مرت الإشارة إلى ذلك، وسيأتي مزيد من احتجاجاته عليه الّتي بقي فيها عمر مخصوماً لا يدري ما يأخذ وما يذر؟

والجواب على كلّ تلك التساؤلات يبدو واضحاً لمن عرف الرجلين أيام تعايشهما: فقد كانت هناك مصالح متبادلة بينهما - وتبادل المصلحة يجمع بين المتضادين رأياً وعقيدة في سبيل تحقيق مصلحة ما تعود على كلّ منهما بالنفع، فيتفقان على العمل لبلوغ الهدف المنشود، مع أن لكل وجهة هو مولّيها - وهكذا كان ابن عباس وعمر. فابن عباس رأى في عمر الخليفة الّذي بيده مقاليد الأمور، فمن الخير له ولمصلحة الأمة أن يكون معه بالموضع الّذي يمكنّه من قولة الحق

الصفحة 75
وأداء ما يجب عليه ممّا أخذ الله على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم وإن عانى ما عانى.

كما أنّ عمر رأى في ابن عباس من القابليات والمؤهلات ما تحمله على أن يقرّبه ويصطفيه صاحباً ناصحاً يسدّده عند الحاجة، وما أكثر الحاجات يومئذ فقد اتسعت رقعة البلاد الإسلامية، وكثرت الوفادة على مركز الخلافة، ثم بحبحة المسلمين في معايشهم، كلّ ذلك فيه دواع ليكون مع عمر من يستعين به في سد العوَز الّذي كان عنده من الجانب العلمي، فان قدرته العلمية كانت محدودة. فهو بقدر ما أوتي من حول وطول، وقوة في السياسة، وحنكة وحزم في الإدارة، إلاّ أنّه كان ضعيفاً أمام المعضلات الفقهية فلا يجد لها حلاً دون الاستعانة بالصحابة، وليس في ذلك تجنّ عليه، وقد مرّ بنا قوله: «كلّ الناس أعلم من عمر»(1)، وقوله: «كلّ الناس أفقه من عمر»(2)، وقوله: «كلّ أحد أفقه منّي» قال ذلك ثلاثاً(3)، ومر قريباً بعض آرائه في مسألة ميراث الجد الّتي قضى فيها - مراراً - أقضية ينقض بعضها بعضاً(4) حتى قال السيوطي في الأشباه والنظائر: «وعلته أنّه ليس الاجتهاد الثاني بأقوى من الأوّل، فإنّه يؤدي إلى أنّه لا يستقر حكم، وفي ذلك مشقـّة شديدة، فإنه إذا نقض هذا الحكم نقض ذلك النقض وهلمّ جراً»(5).

____________

(1) تفسير الكشاف 2/445.

(2) شرح النهج 1/61.

(3) الرياض النضرة 2/57.

(4) قال عبيدة السلماني: لقد حفظت من عمر بن الخطاب فيها ـ مسألة الجدّ ـ مائة قضية مختلفة. راجع المصنف لعبد الرزاق 10/262 فقال ابن سيرين متعجباً: عن عمر؟ قال عن عمر أخرجه الدارمي في سننه /389، والبيهقي في سننه 6/242.

(5) الأشباه والنظائر /101.


الصفحة 76
وتبقى حاجة عمر إلى ابن عباس لكفاءته العلمية وقابليته على تسديده حتى اعترف هو له بذلك، وأخذ ذلك الجاحظ فقال في رسالة نفي التشبيه: «ولو لم يعرف - عمر - ذلك - نفي التشبيه - إلاّ بعبد الله بن العباس وحده كان ذلك كافياً، وبرهاناً شافياً، فإن الأعجوبة فيه أربت على كلّ عجب، وقطعت كلّ سبب، وقد رأيتم حاجة عمر إليه، واستشارته إياه، وتقويمه لعثمان وتغييره عليه. ولو لم يكن للفضيلة من بين أقرانه مستحقاً، وبها مخصوصاً ما خصّه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالدعوة المستجابة، ولما خصّه بعلم الكتاب والسنّة، وهما أرفع العلم وأشرف الفكر. ويدلك على تقديمه للغاية، وايثاره للتعلم والإستبانة قوله حين قيل له في حداثته وقبل البلوغ في سنّه: ما الّذي آتاك هذا العلم وهذا البيان والفهم؟ قال: قلب عقول ولسان سؤول»(1).

لذلك لا عجب أن اتخذ له مجالس شورى من الصحابة من أهل بدر يسألهم عندما تضيق به السُبل، وتتوالى عليه العُضل. ولما كان أولئك الصحابة لم يكونوا كلهم كما ينبغي، كان عليه أن يختار منهم من يثق بعلمه وفهمه فيختصه ليكون عنده ومعه في غالب أوقاته حضراً وسفراً. فكان ذلك هو ابن عباس فلم يرَ مانعاً من تقريبه، على ما بينهما من إختلاف في الرأي في مسألة الخلافة. وتفاوت في الأخلاق من الفظاظة إلى الوداعة.

ولعل هناك جانباً آخر كان له حسابه في نفس عمر فهو يرى في تقريبه لابن عباس إجراء فيه تطييب لقلوب الهاشميين ونحو تخفيف لما في نفوسهم من معاناة فوت الخلافة، وعلى كلّ تقدير فهو إجراء فيه حنكة سياسية لا تخلو من أثر فاعل.

____________

(1) رسائل الجاحظ 1/300 تح ـ عبد السلام محمّد هارون.


الصفحة 77
ولعل ابن عباس نفسه أيضاً كان كذلك إذ لم يكن عازفاً كلّ العزوف عن ذلك التقريب، بل لعله كان راغباً في تقوية أواصر تلك العلاقة مع عمر، يستحوذ على شعوره بتبادل المودة ليتسنى له أن يقول لذلك الخليفة القوي المهاب والفظ الغليظ ما يسعه أن يقوله أحياناً في أمر الخلافة وغيرها، فهو ينفـّس عن نفسه وبنفس الوقت يُشعر عمر بأنه لا يزال عند رأيه فيه وانه غاصب لحق بني هاشم، ولا ننسى جوابه لعمر حين قال له: ما أرى صاحبك إلا مظلوماً: قال ابن عباس: فاردد إليه ظلامته. إلى غير ذلك من احتجاجات سوف يأتي ذكرها إن شاء الله.

إذن فثمة تبادل مصالح عامة ومصالح خاصة هي الّتي قربت بين الرجلين، فحصل تناغم وليس بتفاهم، وكان كلّ منهما مغبوطاً على صحبة الآخر، وان لم يكن ابن عباس مغتبطاً بعمر كما كان عمر مغتبطاً به. لكنها المصالح المتبادلة تجمع بين المتضادين، كما يقولون.

المسألة الثالثة:

في معرفة موقف بني هاشم وعلى رأسهم أمير المؤمنين (عليه السلام) من تقريب عمر لابن عباس، وقبول الثاني بذلك التقريب. وحضوره عنده ربما يعني حضوراً لهم - ولو على أضعف الوجوه - وبالتالي سيكون رصيداً لعمر يستفيد منه في ولايته، وإن لم يضفِ عليه الشرعية الكاملة، فهل رضي بنو هاشم بذلك؟

والجواب لا يخفى على من له إلمام بتاريخ الهاشميين في عهد أبي بكر، فهم جميعاً لم يبايعوه إلاّ بعد أن ضرع الإمام لمبايعته وذلك بعد موت فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وحدد ذلك غير واحد انّه بعد ستة أشهر.


الصفحة 78
ومن عرف سيرتهم في فترة حكم أبي بكر عرف أنّهم لم يكونوا في آرائهم يعدون رأي الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

فهم على شاكلته وطوع أمره ونهيه في تعاملهم مع أبي بكر، فإذا نطقوا فبأمره ينطقون، وإذا سكتوا فبنهيه يسكتون، ولم يكن لأيّ منهم نحو إستقلال تام يخالف به الإمام (عليه السلام). وقد مرت بنا شواهد على ذلك، فليستذكرها القارئ ويقرأ ما قاله الإمام للفضل بن العباس ولبعض ولد عتبة بن أبي لهب، من أمر ونهي.

إذن هل من المعقول أو المقبول أن يكون ابن عباس بدعاً من أهله في تعامله مع الخالفين!

أليس هو واحداً من تلك الدوحة الهاشمية، إن لم يكن مميزاً على كثير من أهل بيته سيرة ومنهاجاً، وقوة وحجاجاً. فلماذا لا يكون تعامله مع عمر عن رضا الإمام (عليه السلام)؟ خصوصاً وإنّه لم يرد في شيء من التاريخ ما ينبيء عن سخط أو عدم رضا عن ذلك التصرف والتعامل.

ولماذا لا يكون ذلك فوق الرضا بل عن إذن الإمام (عليه السلام) وبأمره؟ فابن عباس لديه قابليات ومواهب حصلت ببركة دعاء النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له بالحكمة والتأويل والفقه والفهم، وقد مرّ ذلك فيما سبق.

وأيضاً فهو ممّن أولاه الإمام (عليه السلام) عناية خاصة حيث كان يخصه في مسجد الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بمحاضراته في التفسير والفقه(1) وهو ممن يعتمد عليه، وفيه صلاحية لأن يكون مع عمر ليسدّده فيما يحتاج إلى التسديد، ولا يعني في حضوره عنده التأييد.

____________

(1) مختصر تاريخ العرب ط التمدن الإسلامي للسيد أمير عليّ.


الصفحة 79
وكم قرأنا من شواهد في تسديد الإمام (عليه السلام) لعمر حين يكون في المسجد وتحدث حادثة لم يعرف عمر حكمها فيرجع إلى الإمام إذ يحضره فيستفتيه، ويكفينا شهرة ما قاله عمر: «لا أبقاني الله بعد ابن أبي طالب»(1) و«لولا عليّ لهلك عمر»(2) وغير ذلك، أمّا حين لا يكون عليّ حاضراً، فلابدّ له من بديل عنه ليعتمد عليه لسد ذلك الفراغ عند الخليفة، فمن هو إن لم يكن عبد الله بن عباس في علمه وألمعيته، وفهمه ولوذعيته، ليسد تلك الفجوة، على ما بين بني هاشم وبينه من الجفوة.

ولأنّ مصلحة الإسلام فوق كلّ شيء في معايير أهل البيت وحسبنا ما مرّ من قول الإمام (عليه السلام): سلامة الدين أحب إلينا.

وستأتي شواهد تدل على أنّ الإمام (عليه السلام) أمر ابن عباس مرة بالقيام مع عمر ومصاحبته حين مرّ بهما بمفرده وأنّه بلغه محاججة له معه فسرّه ذلك. ويؤكد ما أراه من أنّ ابن عباس كان عند رضا أهل البيت في مصاحبته لعمر. وصية أبيه العباس له فقد قال له: أنت أعلم مني ولكني أشدّ تجربة للأمور منك وأنّ هذا الرجل - يعني عمر - قد قرّبك وقدّمك، فلا تفش له سراً. ولا تغتب عنده مسلماً، ولا تحدثه بشيء حتى يسألك عنه.

لقد مرّت هذه الوصية في أواخر ترجمة العباس مع ذكر مصادرها، فراجع.

____________

(1) ذخائر العقبى /80، والرياض النضرة 2/197، والأذكياء لابن الجوزي /18، ومناقب الخوارزمي /60 ط حجرية، وتذكرة سبط ابن الجوزي /87.

(2) الأربعين للفخر الرازي /466، ومناقب الخوارزمي /48 ط حجرية، والرياض النضرة 2/192، وذخائر العقبى /80 كلاهما للمحب الطبري.


الصفحة 80

الحبر مع عمر:

بعد ما قدّمناه من المسائل الثلاث بين يدي البحث عن تاريخ حبر الأمة في عهد عمر. فعلينا أن نستعرض الجوانب ذات الدلالة على مكانته عند عمر، في الحضر وفي السفر.

أمّا في معايشته له في الحضر - وهي أكثر مدة خلافة عمر - فقد كان ملازماً له كثيراً حتى أتخذه أحد مستشاريه في مجلس الشورى - كما سيأتي - وحتى قال بعضهم عنه: «وكان الغالب على عمر»(1)، وقال بعضهم: «وكان على شرطته»(2) وهو قول ليس له نصيب من الصحة، ويكذبه ما رواه محمّد بن حبيب الهاشمي: «إنّ أول من اتخذ صاحب شرطة هو عثمان بن عفان»(3).

ولعل السبب في ذلك الوهم هو ما يجده الباحث في تاريخهما متصاحبين من اتصال وثيق وحضور فاعل لابن عباس على الصعيدين العلمي والعملي، بحيث كان غيابه يؤثر على المؤسسة الحاكمة.

والآن إلى قراءة بعض النصوص الدالة على ذلك:

نصوص ذات دلالة:

1- عن ابن عمر قال: إنّ عمر دعا ابن عباس فقرّبه، وكان يقول: إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) دعاك يوماً فمسح على رأسك وتفل في فيك وقال: (اللّهمّ فقهه في الدين وعلّمه التأويل)(4).

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2/137 ط الحيدرية.

(2) نفس المصدر 2/137.

(3) المحبر /373 ط حيدر آباد.

(4) الإصابة 2/322 ط مصطفى محمّد بمصر.


الصفحة 81
2- عن عمر إنّه قال له: «والله إنك لأصبح فتياننا وجهاً، وأحسنهم عقلاً، وأفقههم في كتاب الله (عزّ وجلّ)»(1).

3- عن سعد بن أبي وقاص: «ولقد رأيت عمر بن الخطاب يدعوه - لابن عباس - للمعضلات ثم يقول: عندك قد جاءتك معضلة، ثم لا يجاوز قوله، وانّ حوله لأهل بدر من المهاجرين والأنصار»(2).

4- عن أبي الزناد: «أنّ عمر بن الخطاب دخل على ابن عباس يعوده وقد حُمّ فقال له عمر: أخلّ بنا مرضك فالله المستعان»(3).

5- إنّ عمر قال له: «قد طرأت علينا عُضلُ أقضية أنت لها ولأمثالها، فإذا قال فيها رضي قوله»(4).

6- عن ابن عباس قال: «دعاني عمر فإذا حصير بين يديه عليه الذهب منثوراً كثير الحثا فأمرني بقسمه»(5). وقال: «هلمّ فاقسم هذا بين قومك...»(6).

7- عن ابن عباس قال: «دخلت على عمر بن الخطاب يوماً فسألني عن مسألة كتب إليه بها يعلى بن أمية من اليمن، وأجبته فيها، فقال عمر: أشهد أنك تنطق عن بيت نبوّة»(7).

____________

(1) المعرفة والتاريخ للفسوي 1/535.

(2) طبقات ابن سعد 2 ق2/122 ط ليدن.

(3) طبقات ابن سعد 2 ق2/123، وكنز العمال /7/53 ط الأولى حيدر آباد.

(4) أنساب الأشراف (ترجمة ابن عباس)، اعلام الموقعين 1/14ط المنيرية، وزاد أحمد في فضائل الصحابة /1913: (وما كان يدعو لذلك أحداً سواه إذا كانت تلك العَضل).

(5) الفائق للزمخشري 1/121 ط حيدر آباد. والحثا هو دقائق التبن لأن الريح تحثوه حثواً.

(6) طبقات ابن سعد 2 ق1/218.

(7) طبقات ابن سعد 2 ق2/122 ط ليدن.


الصفحة 82
8- عن يعقوب بن يزيد قال: «كان عمر بن الخطاب يستشير عبد الله بن عباس في الأمر إذا أهمّه ويقول: غص غوّاص»(1).

9- أخرج أحمد بن حنبل في فضائله بسنده: «كان عمر يوماً جالساً وعنده العباس فسئل عمر عن مسألة فقال فيها، فقام إليه ابن عباس فسارّه فقال: يا أمير المؤمنين ليس الأمر هكذا، فأقبل عمر على العباس فقال: يا أبا الفضل بارك الله لك في عبد الله، إنّي قد أمّرته على نفسي، فإذا أخطأت فليأخذ عليَّ»(2).

10- وعزّى عبد الله بن عباس عمر بن الخطاب في بُنيّ له صغير فقال: «عوّضك منه ما عوّضه الله منك»(3). وقد أخذ ابن عباس التعزية من كلمة الإمام عليّ له بمولود له صغير قد مات فقال (عليه السلام): (لمصيبة في غيرك لك أجرها أحبّ إليّ من مصيبة فيك لغيرك ثوابها، فكان لك الأجر لا بك، وحسن لك العزاء لا عنك، وعوّضك الله عنه مثل الّذي عوّضه منك)(4).

الحبر في مجلس شورى عمر:

1- أخرج الفسوي بسنده عن ابن عباس قال: «دعاني عمر وكان يدعوني مع أشياخ أصحاب محمّد حتى كان بعضهم يجد من ذلك في نفسه، وقد كان أمرني أن لا أتكلم حتى يتكلموا.

قال: فدعاني وهم عنده فقال: إنكم قد علمتم ما قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ليلة القدر اطلبوها في العشر الأواخر وتراً. ففي أيّ العشر ترونها؟

____________

(1) نفس المصدر (الطبقة الخامسة /ترجمة ابن عباس) 1/141 تح ـ السُلمي.

(2) فضائل الصحابة 2/982 برقم 1942ط مؤسسة الرسالة 1403 بيروت تح ـ وصي الله محمّد عباس.

(3) العقد الفريد 3/304 تح ـ أحمد أمين ورفاقه.

(4) تحف العقول /209 ط الإسلامية.


الصفحة 83
قال: فلم يتركوا شيئاً في وتر العشرة إلا ذكروه. فقال لي: ما لك لا تتكلم يابن عباس؟ قال: قلت إن شئت تكلّمت. قال: ما دعوتك إلا لتتكلم»(1).

وفي لفظ عند ابن سعد: «فقال عمر لابن عباس ألا تتكلم؟ قال الله أعلم قال قد نعلم إن الله أعلم، إنّما نسألك عن علمك فقال ابن عباس: الله وتر يحب الوتر، خلق من خلقه سبع سموات فاستوى عليهن، وخلق الأرض سبعاً وخلق عدة الأيام سبعاً، وجعل طوافاً بالبيت سبعاً ورمي الجمار سبعاً، وبين الصفا والمروة سبعاً، وخلق الإنسان من سبع، وجعل رزقه من سبع.

قال فقال عمر: فكيف خلق الإنسان من سبع؟ وجعل رزقه من سبع فقد فهمت من هذا أمراً ما فهمتـُه.

قال ابن عباس: إنّ الله يقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ...} حتى بلغ إلى قوله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}(2) ثـم قـرأ: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}(3).

فأمّا السبعة فلبني آدم، وأمّا الأبّ فما أنبتت الأرض للأنعام، وأمّا ليلة القدر فأراها - إن شاء الله - إلاّ ليلة ثلاث وعشرين يمضين وسبع يبقين»(4).

____________

(1) المعرفة والتاريخ 1/519 - 520.

(2) المؤمنون /12 ـ 14.

(3) عبس /26 ـ 31.

(4) طبقات ابن سعد 1/140 ط 5 تح ـ السُلمي وإسناده حسن، وأورده السيوطي في الدر المنثور نقلا عن ابن سعد وعبد بن حميد، وأورد الحاكم في المستدرك جزءا منه في 3/39 وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وصححه الذهبي في التلخيص أيضا.