ولئن كنّى ابن عباس من أدبه عن الذين وجدوا في أنفسهم من حضوره بكلمة (بعضهم)، فإن ابن حجر حكى عن عبد الرزاق في حديثه: أن الساخطين هم جماعة المهاجرين ولفظه: قال المهاجرون لعمر ألا تدعو أبناءنا كما تدعو ابن عباس؟ فقال: ذاكم فتى الكهول له لسان سؤول وقلب عقول(2).
أمّا البخاري فقد روى في صحيحه بسنده قال: «كان عمر (رضي الله عنه) يدني ابن عباس فقال عبد الرحمن بن عوف: إن لنا أبناء مثله؟ فقال: انه من حيث تعلم...»(3).
ومهما يكن الساخط واحداً أو أكثر فليس بعجيب لو تسخط، إنّما العجب أن يكون عبد الرحمن بن عوف ساخطاً ويبدي سخطه، وهو الّذي بعدُ لم يزل يقرأ القرآن عند ابن عباس.
ألم يروِ لنا البخاري في صحيحه حديث الفلتة في باب رجم الحبلى. وفيه: «أنّ ابن عباس كان يُقريء جماعة من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف»(4) وذلك في آخر حجة حجّها عمر من سنّي ولايته.
2- أخرج ابن سعد(5) والفسوي واللفظ له عن ابن عباس قال: «كان عمر يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال بعضهم: أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا مَن هو
____________
(1) قارن الفقيه والمتفقه للخطيب 2/132، ومستدرك الحاكم 3/539، وسنن البيهقي 4/313، وتفسير ابن كثير 4/533، وتفسير الدر المنثور للسيوطي 6/374، وفتح الباري لابن حجر 4/211.
(2) الإصابة 2/325 ط مصطفى محمّد.
(3) صحيح البخاري 4/204 ط بولاق باب علامات النبوة في الإسلام.
(4) نفس المصدر 8/168 ط بولاق.
(5) طبقات ابن سعد 2ق2/120.
فقال لي: ما تقول يا بن عباس؟ فقلت ليس كذلك، ولكنه أخبر نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بحضور أجله فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْح - فتح مكة - وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا - أي فعند ذلك علامة موتك- فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}(2).
فقال لهم: كيف تلومونني عليه بعد ما ترون»(3).
3- أخرج الحاكم والطبري عن ابن أبي مليكة وعطاء: «انّ عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) تلا هذه الآية: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} إلى ها هنا {فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}(4)، فسأل عنها القوم وقال: فيما ترون أنزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، فغضب عمر وقال: قولوا نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي شيء منها يا أمير المؤمنين. قال: يا بن أخي قل ولا تحقـّر نفسك، قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل»(5)، وفي رواية الطبري عن عطاء: «هذا مثل ضربه الله (عزّ وجلّ) فقال: أيود أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير
____________
(1) النصر /1- 3.
(2) النصر /1- 5.
(3) المعرفة والتاريخ 1/515.
(4) البقرة /266.
(5) مستدرك الحاكم 3/542.
وهذا الحضور البارز هو الدافع لحسد المهاجرين، أو بعض أشياخ أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو خصوص عبد الرحمن بن عوف، وهو اللافت لنظر الحطيئة الشاعر وقد مرّ على مجلس عمر فنظر إلى ابن عباس وقد قرع القوم بكلامه غالباً عليهم، فسأل عنه وقال: من هذا الّذي برع الناس بعلمه، وعلاهم في قوله ونزل عن القوم بسنّه؟ قالوا: هذا ابن عباس فقال أبياتاً منها:
إنّي وجدت بيان المرء نافلة | تُهدى له ووجدت العيّ كالصمم |
والمرء يبلى ويبقى الكلم سائرة | وقد يلام الفتى يوماً ولم يلم(2) |
وبقي حضور ابن عباس بين شيوخ المهاجرين والأنصار ماثلاً ومؤثراً عند عمر فقد كان عند الخلاف يرجع إلى قوله ويعتدّ به على حداثة سنّه على حد قول يحيى بن أبي بكر العامري(3) ولم يمنع ذلك التقريب والتقريض، وذلك الإختصاص من ظهور مواقف متضادة بين الرجلين، إذ لم يكن ابن عباس موائماً لعمر في مزاجه، ولا موافقاً له على جميع تصرفاته، بل كانت تحدث بينهما محاورات إحتجاجية ربما وصلت إلى حدّ المشادّة العنيفة، لكنها لم تصل إلى حدّ القطيعة التامة، والآن إلى شواهد تلك.
____________
(1) تفسير الطبري 3/47 ط الميمنية.
(2) عيون الأخبار لابن قتيبة 1/229 ط دار الكتب، والأصابة 2/325 ط مصطفى محمّد، والأستيعاب بهامش الإصابة 2/346، وأنباء نجباء الأبناء لابن ظفر المكي ط مصر. ومن الغريب أن هذين البيتين لم يذكرا في ديوان الحطيئة بتحقيق نعمان أمين طه (ماجستير في الأدب العربي ـ جامعة القاهرة) ط مصطفى البابي الحلبي سنة 1378هـ.
(3) الرياض المستطابة /52 ط الشاهجاني بهوبال الهند سنة 1303 هـ.
شواهد الصرامة من الطرفين:
بالرغم من ذلك التقارب الحضوري فلم يمنع من ظهور خلافات ذات دلالة عميقة تعتمل في صدر كلّ منهما، تكاد تطغى على ما يقال في سبب ذلك إلى التفاوت بينهما سنّاً ومكانة، والإختلاف بين المزاجين شدّة ووداعة، ولنقرأ بعض الشواهد:
1- أخرج الفسوي بسنده عن ابن عباس قال: [قدم على عمر بن الخطاب رجل فجعل عمر يسأله عن الناس، فقال: يا أمير المؤمنين قرأ منهم القرآن كذا كذا. فقال ابن عباس: والله ما أحبّ أن يسارعوا يومهم هذا في القرآن هذه المسارعة قال: فزبرني عمر ثم قال: - وفي لفظ الحاكم: «قال: كنت قاعداً عند عمر بن الخطاب إذ جاءه كتاب أن أهل الكوفة قد قرأ منهم القرآن كذا وكذا فكبّر (ره) فقلت أختلفوا. فقال: أف وما يدريك قال: فغضب فأتيت منزلي قال فأرسل إليَّ بعد ذلك فاعتللت» - فينا أنا كذلك إذ أتاني رجل فقال: أجب أمير المؤمنين - وفي لفظ الحاكم: «عزمت عليك إلاّ جئت»-.
قال: فخرجت فإذا هو قائم قريباً ينتظرني، فأخذ بيدي ثم خلا بي فقال: ما كرهتَ ممّا قال الرجل؟ قال: قلت: يا أمير المؤمنين إن كنت أسأت فأستغفر الله (عزّ وجلّ) وأتوب إليه «لا أعود إلى شيء بعدها»،فقال: عزمت عليك إلاّ أعدت عليَّ الّذي قلتَ. قلتُ قلتَ كتب إليَّ انّه قد قرأ القرآن كذا وكذا فقلت اختلفوا. قال: ومن أي شيء عرفت؟
فقلت: يا أمير المؤمنين إنّهم متى ما يسارعوا هذه المسارعة تحنّقوا، ومتى تحنقوا اختلفوا، ومتى اختلفوا يفشلوا. قال: لله أبوك والله لقد كنت أكاتمها الناس حتى جئت بها](3).
2- أخرج الحاكم بسنده عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: «بينما ابن عباس مع عمر (رضي الله عنه) وهو آخذ بيده، فقال عمر: أرى القرآن قد ظهر في الناس، فقلت ما أحب ذاك يا أمير المؤمنين.
قال: فاجتذب يده من يدي وقال: لم؟ قلت: لأنهم متى يقرؤا يتقرّوا، ومتى ما يتقرّوا اختلفوا ومتى ما يختلفوا يضرب بعضهم رقاب بعض. قال: فجلس عني وتركني، فظللت عنه بيوم لا يعلمه إلاّ الله ثم أتاني رسوله الظهر فقال: أجب أمير المؤمنين فأتيته فقال: كيف قلت؟ فأعدت مقالتي قال عمر (رضي الله عنه) إن كنت لأكتمها الناس»(4).
____________
(1) البقرة /204.
(2) البقرة /206- 207.
(3) المعرفة والتاريخ 1/516 - 517 ط الارشاد بغداد سنة 1394هـ، وما بين القوسين من المستدرك على الصحيحين للحاكم 3/540، وقارن الإصابة في ترجمة ابن عباس وتلخيص الذهبي بهامش المستدرك.
(4) مستدرك الحاكم 3/541 وتلخيص الذهبي بهامش المستدرك.
قال: فزجره عمر وانتهى، فانصرف ابن عباس، ونظر عمر فيما قال فعرفه، فأرسل إليه فقال: أعد عليّ ما قلتَ، فأعاده عليه، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار»(1).
هذه ثلاثة شواهد دلّت على شدة في خُلق عمر وتسرّع في الغضب دون التروّي فيما قاله ابن عباس بدلالة إسراعه في استدعائه بعد مغاضبة وطلب إعادة ما قاله ثم سرعان ما صدّقه.
وفي مقابل ذلك نسوق مثلها شواهد على مواقف لابن عباس متصلباً فيها حتى ليمكن أن تعدّ تلك مشادّة نعجب كيف قبلها عمر وأغضى عنها، ولم تصل إلى حد القطيعة بينهما.
1- روى عبد الرزاق في المصنف أن ابن عباس قال: «إنّي لصاحب المرأة الّتي أتي بها عمر وضعت لستة أشهر فأنكر الناس ذلك، فقلت لعمر: لم تظلم(2)؟ فقال: كيف؟ قال: قلت له اقرأ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا}(3) وقال: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}(4) كم الحول؟ قال: سنة،
____________
(1) الموافقات 3/348 ط الرحمانية بمصر.
(2) في الدر المنثور 6/40 (لا تظلم).
(3) الأحقاف /15.
(4) البقرة /233.
2- أرسل عمر إلى ابن عباس فقال: «يا بن عباس إن عامل حمص هلك وكان من أهل الخير، وأهل الخير قليل، وقد رجوتُ أن تكونَ منهم (فدعوتك لأستعملك عليها) وفي نفسي منك شيء (أخافه) لم أره منك وأعياني ذلك (أنا أخشاه عليك) فما رأيك في العمل؟
قال: لن أعمل حتى تخبرني بالذي في نفسك؟ قال: وما تريد إلى ذلك؟
قال: أريده فإن كان شيء أخاف منه على نفسي خشيتُ منه عليها الّذي خشيتَ، وإن كنت بريئاً من مثله علمت أنّي لست من أهله فقبلت عملك هنالك، فإنّي قلّ ما رأيت أو ظننت شيئاً إلاّ عاينته.
فقال: يا بن عباس (إنّي أطمح حالك أنّك لا تجدني قريب الجد) وإنّي أخشى أن يأتي عليَّ الّذي هو آت وأنت في عملك فتقول: هلمّ إلينا ولا هلمّ إليكم دون غيركم، إنّي رأيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) استعمل الناس وترككم.
قال: والله قد رأيت من ذلك فلم تراه فعل ذلك؟
قال: والله ما أدري أضنّ بكم عن العمل فأهل ذلك أنتم؟ أم خشي أن تبايعوا بمنزلتكم منه فيقع العقاب (عليكم) ولابدّ من عتاب، فقد قرعت لك (وفرغت لي وفرغت لك) فما رأيك؟
قال ابن عباس: قلت أراني أن لا أعمل لك؟ قال: ولم؟ قال: قلت إن عملت لك وفي نفسك ما فيها لم أبرح قذى في عينك.
____________
(1) المصنف 7/352 برقم 13449.
(قال: فكن أنت ذلك الرجل، قال: لا تنتفع بي مع سوء ظني بك وسوء ظنك بي)»(1).
وليتدبر القارئ هذا التصريح الّذي ختم به ابن عباس تلك المحاورة من تبادل سوء الظن بينه وبين عمر، وسكوت عمر على ذلك اقرار لما قاله ابن عباس.
3- أخرج الفسوي(2) بسنده عن ابن عباس قال: «كان عمر بن الخطاب إذا صلى صلاة جلس للناس، فمن كان له حاجة كلّمه، وإن لم تكن لأحد حاجة قام ودخل، فصلى صلوات لا يجلس للناس فيهنّ.
قال ابن عباس: فحضرت الباب فقلت: يا يرفأ - غلام عمر وحاجبه - أتى أمير المؤمنين شكاة؟ فقال: ما بأمير المؤمنين من شكاة. قال: فجلست فجاء عثمان ابن عفان فجلس، فخرج يرفأ فقال: قم يا بن عفان قم يا بن عباس، قال: فدخلنا على عمر فاذا بين يديه صُبَرٌ من مال على كلّ صُبرة منها كرفة(3) فقال عمر: إنّي نظرت في أهل المدينة فوجدتكما من أكثر أهلها عشيرة فخذا هذا المال فاقسماه فما كان من فضل فرُدّا. قال: فأمّا عثمان فحثا، وأمّا أنا فجثوت على ركبتي وقلت: وإن كان نقصاناً رددتَ علينا؟
____________
(1) راجع عن هذه المحاورة مروج الذهب للمسعودي 1/427 ط البهية سنة 1346، وكتاب الخراج لأبي يوسف ط السلفية، وكتاب البديع لابن المعتز /54 ط أوربا، وأدب الدنيا والدين للماوردي /187 وغيرها.
(2) المعرفة والتاريخ 1/521 - 522.
(3) الكرفة: لم أقف على معناها ولعل الكلمة مصحفة خطأ عن(الكرنفة) وهي أصول الكرب، وكانوا يكتبون عليها وجاء في مناقب عمر /166(على كلّ صبرة منها كنيف) وفي الهامش عن اللسان: الكنيف الساتر. ولكن ابن سعد روى القصة في الطبقات 3 ق1/207 (على كلّ صبرة كتف) وهو الأصح.
هذه ثلاثة شواهد فيها دلالة على جرأة ابن عباس في قولة الحق وإن أغضبت عمر، فلم يمتنع في الأوّل من أن يقول له: (لم تظلم أو لا تظلم)، وهي كلمة لا شك بأنّها كانت كبيرة على عمر، ولولا استدلال ابن عباس على صحة رأيه لما غفر له عمر تلك الجرأة.
كما أنّه في الشاهد الثاني طالت المحاورة، وتبدّى بعض ما يجد كلّ منهما على صاحبه، وحسبنا ما جاء في ختامها من تبادل سوء الظن بينهما كلٌ بصاحبه.
أمّا الشاهد الثالث فقد أدرك فيه عمر ما يعني ابن عباس. فآلمه حتى نشج باكياً وودّ لو أنه خرج من الخلافة كفافاً لا عليه ولا له، وأنى له بذلك، وهنا لابدّ لنا من تعقيب على المثل الّذي أستشهد به عمر، فإن ذكره له يدّل على ما في نفسه من كوامن غيظ على العباس تنازعه نفسه لإظهار تلك الكوامن، متى حدثت؟
تعقيب بلا تثريب:
قال أبو عبيد البكري في فصل المقال عند شرحه المثل (شنشنة أعرفها من أخزم): «وهذا المثل يروى أن عمر بن الخطاب قاله في ابن عباس (رضي الله عنهما) يشبّهه في رأيه بأبيه... أهـ»(2).
____________
(1) قارن مناقب عمر لابن الجوزي /166ط بيروت تجد حذف ما بعد كلمة عمر (فردّا) إلى قوله شنشنة أعرفها من أخزم.
(2) فصل المقال في شرح كتاب الأمثال /219 ط دار الأمانة بيروت.
وقال الميداني: «وفي الحديث أنّ عمر قال لابن عباس (رضي الله عنه) حين شاوره فأعجبه إشارته شنشنة أعرفها من أخزم، وذلك أنّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس (رضي الله عنه) فشبهه بأبيه في جودة الرأي»(1).
وإذا لاحظنا أصل المثل نجد أن قائله كان له ابن عاق اسمه أخزم فمات وخلف أبناءه فعقـّوا جدهم وزملوه بدمه فقال:
إنّ بَني زمّلوني بالدم | شنشنة أعرفها من أخزم(2) |
وذكر الجاحظ في البيان والتبيين فقال: «ومن الخطباء الذين لا يضاهون ولا يجارون عبد الله بن عباس... ونظر إليه - عمر - يتكلم فقال: شنشنة أعرفها من أخزم.
والشعر لأبي أخزم الطائي وهو جد أبي حاتم طيء أو جدّ جدّه، وكان له ابن يقال له أخزم، فمات وترك بنين فتوثبوا يوماً على جدّهم أبي أخزم فأدموه فقال:
إنّ بَني زمّلوني بالدم | شنشنة أعرفها من أخزم |
أي أنّهم أشبهوا أباهم في طبيعته وخلقه، وأحسبه كان به عاقاً، هكذا ذكر ابن الكلبي، والشنشنة مثل الطبيعة والسجّية فأراد (رحمه الله) إنّي أعرف فيك مَشابـِهَ من أبيك في رأيه وعقله، ويقال: انّه لم يكن لقرشي مثل رأي العباس»(3).
إذا لاحظنا ذلك عرفنا إنّه يقال في قرب الشبه في الفعل ذماً وتبرماً، وفي المقام كذلك فقد قال ابن عباس لعمر قولاً يعني به ما هو من رأي أبيه وأهل بيته
____________
(1) مجمع الأمثال 1/330 ط مصر.
(2) نفس المصدر.
(3) البيان والتبيين 1/330 ـ 331 تح ـ هارون.
وقد روى الزمخشري هذا الخبر وفيه: «فقال عمر: نشنشة من أخشن يعني حجر من جبل... ثم قال الزمخشري: هكذا جاء في الحديث مع التفسير، وكأن الحجر سُمّي نشنشة من نشنشه ونصنصه إذا حركه.
والأخشن الجبل الغليظ كالأخشب...
وفيه معنيان: أحدهما أن يشبّهه بأبيه العباس في شهامته ورميه بالجوابات المصيبة، ولم يكن لقريش مثل رأي العباس.
والثاني أن يريد أن كلمته هذه منه حجر من جبل، يعني أن مثلها يجيء من مثله، وأنه كالجبل في الرأي والعلم وهذه قطعة منه»(1).
والآن إلى معرفة المواقف الّتي أغاظ فيها العباس عمر فاضطغنها عليه:
1- موقف في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث جاء عمر ساعياً يطلب صدقة العباس فطرده وأغلظ له لأنّه كان قد دفعها، فأتى عمر عليّاً وذكر ذلك له ليذكره للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فأتاه عليّ فأخبره فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعمر: تربت يداك، أما علمت أن عم الرجل صنو أبيه، إن العباس أسلفنا زكاة العام عام الأوّل(2).
2- موقف بعد موت الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين أراد عمر توسعة المسجد النبوي الشريف، واشترى ما حوله من الدور إلاّ دار العباس فكلمه عمر أن يبيعها له بما
____________
(1) الفائق في غريب الحديث 2/279 ط حيدر آباد، و 3/429 ط دار الفكر.
(2) المعرفة والتاريخ للفسوي 1/500، وطبقات ابن سعد 4 ق1/17.
فقال العباس: لا ولا واحدة منها، فقال عمر: اجعل بيني وبينك من شئت. فقال أبيّ بن كعب فانطلقا إلى أبي وحدّثهما بحديث داود وبناء بيت المقدس وفي خطته دار إسرائيلي أبى أن يبيعها فأراد داود أن يأخذها بالقوة فأوحى الله إليه... وليس من شأني الغصب...
فأخذ عمر بمجامع ثياب أبيّ وقال جئتك بشيء فجئت بما هو أشدّ لتحرجنّ ممّا قلت، فجاء يقوده حتى أدخله المسجد فأوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيهم أبو ذر فأستنشدهم أبي بالله من سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يذكر حديث بناء بيت المقدس، فقال أبو ذر: أنا سمعته من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال آخر: أنا سمعته، فأرسل عمر أبيّا، فقال له أبيّ أتتهمني على حديث رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟! فقال عمر: يا أبا المنذر لا والله ما أتهمتك عليه، ولكن كرهت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهراً (؟) وقال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك.
فقال العباس: أمّا إذا فعلت هذا فإني تصدّقتُ بها على المسلمين أوسّع بها عليهم في مسجدهم فأمّا وأنت تخاصمني فلا(1).
3- وموقف ثالث: ليس دون ما سبق في غلظة العباس مع عمر وإغاظته حتى ضاق به ذرعاً فقال لعبد الله: خذ بيد أبيك. وهذا ما رواه ابن سعد في طبقاته عن أبي جعفر محمّد بن عليّ - يعني الإمام الباقر (عليه السلام) - قال: «أنّ العباس جاء
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/13باقتضاب، وجاء في تاريخ اليعقوبي 2/126 ط الغري بالنجف: ان ذلك كان في توسعة المسجد الحرام بمكة ولا مانع من التعدد، فراجع.
4- وموقف رابع: يزيد على ما سبق وذلك حين أقبل العباس وعليّ يختصمان فيما أفاء الله على رسوله من أموال بني النضير فقال عمر يذكر ما صنعه أبو بكر في ذلك إلى أن أقبل على عليّ والعباس فقال: «وأنتما تزعمان إنّه فيها ظالم جائر... ثم قال: وأنتما تزعمان أنّي فيها ظالم جائر... إلى آخر ما قاله».
ففي هذا الموقف يقول عمر لعليّ والعباس أنّهما يقولان فيه وفي أبي بكر ظالم جائر، ولم ينكرا ذلك من قوليهما وهذا الحديث أخرجه البخاري(2) ومسلم(3) وعبد الرزاق(4) وغيرهم. وقد تلاعب الرواة فيه كما ذكر ابن حجر في فتح الباري(5) فراجع تجد «تزعمان أنّ أبا بكر كذا وكذا»... وفي رواية مسلم من الزيادة... «فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً» وقال: وكان الزهري كان يحدّث به تارة فيصرح وتارة فيكني، وكذلك مالك إلى آخر ما نقل وحكاه، فراجع.
وقد مرت بنا قصة الميزاب وقلع عمر له وما جرى له حتى أعاده (راجع ترجمة العباس في أول الكتاب) فليس غريباً من عمر أن يستشهد بالمثل المذكور مشيراً إلى ما تكنّه الصدور، ممّا لا تزيله الأعوام والشهور.
____________
(1) طبقات ابن سعد 4 ق1/14، وقارن تاريخ ابن خلكان 2/456 في ترجمة يزيد بن ربيعة.
(2) صحيح البخاري 6/124.
(3) صحيح مسلم 2/90.
(4) المصنف 5/470.
(5) فتح الباري 7/13 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378هـ.