في المحاورة الأولى، دخل عليه ابن عباس في أول خلافته وقد ألقي له صاع من تمر على خصفة فدعاه إلى الأكل فأكل تمرة واحدة وأكل عمر الباقي حتى أتى عليه، ثم شرب من جرّ كان عنده، وأستلقى على مرفقة يحمد الله، ثم سأله عن ابن عمه أين خلّفه فتجاهل - ربما متعمداً - فأجابه عن ابن جعفر، فأفصح له عمر في سؤاله وانه يريد عظيم أهل البيت - يعني عليّاً - فأجابه ابن عباس بانّه يمتح بالغرب - أي بالدلو- على نخيلات من فلان وهو يقرأ القرآن.
ومن هنا بدأ الإستدراج فيقول له: يا عبد الله عليك دماء البُدن إن كتمتنيها، هل بقي في نفسه شيء من أمر الخلافة؟ فأجابه نعم. فيقول له عمر: أيزعم أنّ
وهنا تكمن الإثارة فقال عمر: لقد كان من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أمره ذرواً من قول، لا يثبت حجة ولا يقطع عذراً، ولقد كان يربع في أمره وقتاً ما. ولقد أراد في مرضه أن يصرّح بأسمه فمنعت من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام (؟!).
وهنا طغت الضغائن فصارت تبدو فيقول عمر: لا وربّ هذه البنّية لا تجتمع عليه قريش أبداً، ولو وليها لانتقضت عليه العرب من أقطارها. فعلم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّي علمتُ ما في نفسه فأمسك وأبى الله إلاّ إمضاءَ ما حتم.
وقس على هذه المحاورة ما سواها، فستجد فيها مرة ثانية يطرقه عمر بعد هدأة من الليل ليخرجه معه إلى بعض نواحي المدينة، فيخرج معه ويأتي البقيع وهناك يتأوّه عمر الصعداء، ويستفهمه ابن عباس سبب ذلك فيقول له عمر: أمر الله يا بن عباس. فيقول له ابن عباس إن شئت أخبرتك بما في نفسك؟ فقال: غص يا غواص، إن كنت تقول فتحسن.
ويبدأ ابن عباس بغوصه في نفس عمر، وأنّه يفكر فيمن يجعل له الأمر من بعده ثم يسمّي له ابن عوف وسعداً وطلحة والزبير وعثمان فيطعنهم عمر بما يبعدهم عن أهلية الولاية ثم يسكت فيقول لابن عباس: أمضها يا بن عباس أترى صاحبكم لها موضعاً؟ فيجيبه ابن عباس بفضله وسابقته وقرابته وعلمه، ويصدّقه عمر وأنّه لو وليهم لحملهم على منهج الطريق إلا أنّ فيه خصالاً: الدعابة، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس مع حداثة السنّ.
وتنتهي المحاورة بقول عمر: والله يا بن عباس إنّ عليّاً ابن عمك لأحقّ الناس بها ولكنّ قريشاً لا تحتمله...
كما تجده تارة أخرى يماشيه في سكة من سكك المدينة، فيبدأ عمر بالقول: ما أرى صاحبك إلا مظلوماً. يقول ابن عباس: فقلت في نفسي والله لا يسبقني بها. فقلت: يا أمير المؤمنين فأردد إليه ظلامته.
فانتزع يده من يدي ومضى وهو يهمهم ساعة ثم وقف فلحقته، فقال: ما أظن القوم منعهم عنه إلاّ أنّهم أستصغره قومه. فقلت في نفسي: هذه والله شرٌ من الأولى، فقلت: والله ما أستصغره الله ورسوله حين أمره أن يأخذ سورة براءة من صاحبك أبي بكر.
قال: فأعرض عني وأسرع فرجعت عنه.
وروي عن ابن عباس قال: «حضرت مسألة فعجز عمر عن ردّها فقال: ما تقولون يا صحابة رسول الله؟ من ترون يقوم بجواب هذه المسألة؟ قالوا: أنت أعرف منا.
قال: كلنا والله يعلم ابن بجدتها والخبير بها، فقالوا: لعلك أردت عليّ بن أبي طالب؟ قال: وأنى يعدل بي عنه. قالوا: لو بعثت إليه لأتاك، قال: هيهات هناك شمخ من هاشم وإثرة من علم يؤتى ولا يأتي، قوموا بنا إليه، فقام القوم بأجمعهم فإذا هو (عليه السلام) في حايط له متكٍ على مسحاة في يده يتلو قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ
____________
(1) قريباًًً ترى الموقف الرابع ما أشار إليه عمر هنا فراجع.
قال ابن عباس: فأخذ بيدي وقال: يا ابن عباس لقد كان ابن عمك أحق بهذا الأمر لولا ثلاث.
قلت: وما هي؟ قال: حداثة سنه، ومحبته لأهل بيته، وبغض قريش له.
قال: فقلت يا أميرالمؤمنين أتأذن في الجواب؟ فقال:قل، قلت: أمّا حداثة سنه فوالله ما استحدثه الله حين جعله أخاً لنبيه وجعل نفسه كنفسه، وأمّا محبته لأهل بيته فقد عمل بقول الله تعالى فيهم: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(2)، وأمّا بغض قريش له، فعلى من نقمت قريش؟! أعلى الله حيث أمر رسوله بحربها؟ أم على رسوله حيث أمر عليّاً بقتالها؟ أم على عليّ حيث أطاع الله ورسوله فيها؟ قال: فجذب يده من يدي وقال: يابن عباس إنك لتغرف مـن بحر»(3).
وعلى هذا النمط تأتي بقية المحاورات حيث تبدأ باستدراج من عمر، ثم إثارة، ثم استفزاز، ثم إظهار الكوامن، وبالتالي اعتراف بالحقيقة. ومع ذلك كله فلا تصل النتائج إلى القطيعة التامة بين الصاحبَين غير المتصافيَين. بل كان عمر
____________
(1) القيامة /36 - 37.
(2) الشورى /23.
(3) أنظر المنتخب للطريحي /33 - 34 ط الثالثة بالحيدرية سنة 1369هـ - 1949م.
الحبر مع عمر في أسفاره:
والآن إلى معرفة شيء عن صحبتهما في السفر، لأن السفر محكّ أخلاق الرجال، فربّ أخوين متقاربَين حَضَرا يصطحبان في السفر يختلفان فيعودان متباعدَين. ورب بعيدَين حَضَرا جمع بينهما السفر فاصطحبا وأئتلفا فعادا متآخيَين، وكلما طال السفر ظهرت دخائل النفوس أكثر، ومهما تكرّر السفر تبيّن حال المتصاحبيَن أظهر.
وإنّ صحبة ابن عباس لعمر في السفر طالت وتكررت، لكثرة أسفار عمر للحج وللشام، وخلال قراءة ما جرى بينهما في تلك الأسفار، لم نجد تغييراً في الطباع فهما في السفر كما هما في الحضر. فربما أشتدّ أحدهما على الآخر حتى يُظنّ أن لا تلاقي بعده. وربّما لان وأطمأن أحدهما للآخر فباح له بسرّه وبثـّه ما يجده في نفسه.
أمّا أسفار عمر إلى الحجّ فانه حجّ بالناس جميع سنيّ خلافته إلا السنة الأولى فقد حجّ بالناس عبد الرحمن بن عوف بأمره. ولا يصح ما في الرياض النضرة من انه حج جميع سنيّه إلاّ سنتين متواليتين(1). كما لا يصح ما في نور الأبصار عن ابن عباس قال: «حججت مع عمر احدى عشرة حجة، إلاّ أن يكون قد حج واحدة معه قبل ولايته»(2).
____________
(1) الرياض النضرة 2/77.
(2) نور الأبصار للشبلنجي /60 ط الميمنية سنة 1312 هـ.
وفي إحدى سفرات الحج الأوائل كان سؤال ابن عباس عن المرأتين اللتين تظاهرا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخرج البخاري في صحيحه في كتاب التفسير (سورة المتحرم) بسنده عن ابن عباس (رضي الله عنه) يحدث أنه قال: «مكثت سنة أريد أن أسأل عمر بن الخطاب عن آية فما أستطيع أن أسأله هيبة له حتى خرج حاجاً فخرجت معه فلمّا رجعت وكنا ببعض الطريق عدل إلى الأراك لحاجة له فوقفت له حتى فرغ ثم سرت معه فقلت يا أمير المؤمنين من اللتان تظاهرتا على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أزواجه؟ فقال: تلك حفصة وعائشة، فقلت والله إن كنت لأريد أن أسألك عن هذا منذ سنة فما أستطيع هيبة لك، قال: فلا تفعل ما ظننت أن عندي من علم فاسألني فان كان لي علم خبرتُك به»(3). ثم استمر عمر يحدّثه عن حالة المرأة في الجاهلية وما أنعم الله به عليها في الإسلام والحديث طويل فيه قصة حفصة وعائشة بالتفصيل(4).
____________
(1) تاريخ الطبري 3/479 ط دار المعارف، وقارن طبقات ابن سعد 3 ق1/503 ط ليدن.
(2) أنظر الطبقات لابن سعد 3 ق 1/203 ـ 204.
(3) صحيح البخاري 6/156 ط بولاق وقد سمى البخاري (سورة التحريم) سورة المتحرم كما ذكرنا أعلاه.
(4) سيأتي مزيد تحقيق حول هذا الحديث في الحلقة الثانية (تاريخه العلمي) هل أخذ ابن عباس في التفسير من عمر؟ قال الفخر الرازي في تفسير هذه الآية: (وفي ضمن هذين التمثيلين تعريض باُمي المؤمنين وهما حفصة وعائشة لما فرط منهما واتخذا بدلهما على أغلظ وجه وأشده لما في التمثيل من ذكر الكفر) تفسير الرازي 30/49 ونحوه في روح المعاني للألوسي 28/163.
قال الطبري: «وجميع ما خرج عمر إلى الشام أربع مرات، فأمّا الأولى فعلى فرس، وأمّا الثانية فعلى بعير، وأمّا الثالثة فقصّر عنها لأن الطاعون مستعر، وأمّا الرابعة فدخلها على حمار، فاستخلف عليها وخرج»(1).
أمّا الأولى: فكانت سنة 15هـ وذلك لفتح بيت المقدس، فخرج معه كثير من المهاجرين والأنصار حتى انتهى إلى الجابية، وكان قد كتب إلى أمراء الأجناد أن يوافوه بها ليوم سمّاه لهم، فتلقـّوه وقد ظهرت عليهم الإثرة فلبسوا الديباج والحرير، فلمّا رآهم عمر نزل عن فرسه ورماهم بالحجارة وقال: سرَع ما لـُفتـّم عن رأيكم، إياي تستقبلون في هذا الزيّ، وإنما شبعتم منذ سنتين، سرَع ما ندّت بكم البطنة...
وفي هذه المرّة طلب ابن عباس ليلة فأتي به فشكا إليه تخلّف عليّ بن أبي طالب عنه. قال ابن عباس: فقلت له: أو لم يعتذر إليك؟ قال: بلى، قلت: هو ما أعتذر به.
قال - ابن عباس - ثم أنشأ يحدثني فقال: إنّ أول من راثكم(2) عن هذا أبو بكر، إنّ قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة والنبوة.
قال أبو الفرج الأصبهاني: «ثم ذكر قصة طويلة ليس من هذا الباب فكرهت ذكرها»(؟)(3). ولا غرابة من أبي فرج الأموي الهوى والولاء الخائن المائن أن يحذف ما له مساسٌ بالخلافة تتمة لما جرى من كلام بين عمر وابن عباس، ظناً منه أنه بتركه ذكر تمام القصة الطويلة - على حد تعبيره - ستر ما
____________
(1) تاريخ الطبري 4/158 ط الحسينية، 3/607 ط دار المعارف محققة.
(2) راث بالأمر أبطأ به من التريث.
(3) الأغاني 9/39 ط الساسي، وشرح النهج لابن أبي الحديد 4/497 ط مصر الأولى.
وأمّا الثانية: فكانت سنة 17هـ خرج عمر مغيثاً لأبي عبيدة بن الجراح حيث قصده الروم ومعه المسلمون بحمص فكتب إلى عمر يستنجده، فخرج ومعه جمع من المسلمين وكان راكباً على بعير - كما قاله الطبري في تاريخه وزيني دحلان في سيرته - ولمّا وصل الجابية أتاه الخبر بالفتح وقدوم المدد عليهم(1).
وفي هذه المرّة كان حديث ابن عباس قال: خرجت مع عمر إلى الشام في إحدى خرجاته، فانفرد يوماً يسير على بعيره فاتبعته، فقال لي يا بن عباس أشكو إليك ابن عمك سألته أن يخرج معي فلم يفعل، ولم أزل أراه واجداً فيم تظن موجدته؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنك لتعلم. قال: أظنه لا يزال كئيباً لفوت الخلافة، قلت: هو ذاك إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أراد الأمر له. فقال: يا بن عباس وأراد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الأمر له فكان ماذا إذا لم يرد الله تعالى؟
إنّ رسول الله أراد ذلك وأراد الله غيره، فنفذ مراد الله ولم ينفذ مراد رسوله، أو كلّ ما أراد رسول الله كان؟
وهذه المحاورة مرّ شرح هذا القسم منها في حديث الكتف والدواة، كما ستأتي بتمامها في صفحة احتجاجاته في الحلقة الثانية مع ذكر مصادرها.
وأمّا الثالثة: فكانت سنة 18هـ خرج إلى الشام غازياً وكان راكباً على بغل وكان معه ابن عباس أيضاً حتى إذا وصل إلى سرغ - موضع في طريق الشام بين
____________
(1) تاريخ الطبري 4/199ط الحسينية حوادث سنة 17. وفي الفتوحات الاسلامية لزيني دحلان 1/45 في حوادث سنة 18.
فدعا عمر بابن عباس وقال: اجمع لي المهاجرين الأولين. قال ابن عباس: فجمعتهم له فاستشارهم فاختلفوا عليه - وذكر شيئاً من أقوالهم - فلمّا رأى عمر اختلافهم قال: قوموا عني. ثم قال: اجمع لي الأنصار فجمعتهم له فاستشارهم فسلكوا طريق المهاجرين، فكأنما سمعوا ما قالوا فقالوا مثله. فلمّا أختلفوا عليه، قال: قوموا عني، ثم قال: اجمع لي مهاجرة الفتح من قريش فجمعتهم له فاستشارهم فلم يختلف عليه منهم اثنان وقالوا: ارجع بالناس فإنّه بلاء وفناء.
فقال عمر: يا بن عباس اخرج في الناس فقل: إنّ أمير المؤمنين يقول لكم إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه. فأصبح عمر على ظهر وأصبح الناس عليه، فلمّا اجتمعوا عليه قال: أيها الناس إنّي راجع فارجعوا، ثم رجع إلى المدينة(1).
وفي هذه المرّة - فيما أظن قوياً - كان حديث ابن عباس مع عمر حيث يقول: كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس. فقرأ عمر آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب، فقال: أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر.
فقال ابن عباس: فقلت في نفسي لا أقالني الله إن أقلته، فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما وأفرغتما الأمر منا دون الناس؟!
فقال: إليكم يا بني عبد المطلب، أمّا إنكم أصحاب عمر بن الخطاب، فتأخرت وتقدم هنيهة فقال: سر لا سرتَ، وقال: أعد عليّ كلامكَ. فقلت: إنّما
____________
(1) نفس المصدر.
وأمّا الرابعة: فقد كانت بعد شهور من الطاعون الّذي أهلك خلقاً كثيراً، ولمّا أرتفع الوباء والبلاء كتب أمراء الأجناد إلى عمر فيما بأيدهم من الأسلاب والمواريث فخرج ومعه ابن عباس أيضاً، فدخل الشام على حمار له فقسّم المواريث والأرزاق وسدّ فروج الشام ورجع إلى المدينة في ذي القعدة(1) وقيل في ذي الحجة. وفي هذه السفرة كان العباس أيضاً قد خرج معه وله وصية يوصي بها عمر تنبئ عن غمز في سلوكية الحاكم قال له: أربعٌ من عمل بهنّ استوجب العدل: الأمانة في المال، والتسوية في القِسمَ، والوفاء بالعدة، والخروج من العيوب، نظـّف نفسك وأهلك(2) فهذه الوصية لا تخلو من أيماءة غمز ونقد لتصرفات عمر.
ولابن عباس محاورة مع عمر في بعض أسفاره - ولعلها في أحدى سفرات الشام أيضاً - أخرجها الطبري عن ابن عباس قال: «خرجتُ مع عمر في بعض أسفاره فإنا لنسير ليلة وقد دنوت منه إذ ضرب مقدّم رحله بسوطه وقال:
كذبتم وبيت الله يُقتَل أحمدٌ | ولما نطاعِن دونه ونناضل |
ونُسلمهُ حتى نصرَعَ حولَه | ونَذهَل عن ابنائنا الحلائل(3) |
ثم قال: استغفر الله، ثم سار فلم يتكلم قليلاً، ثم قال:
وما حملت من ناقة فوق رحلها | أبرّ وأوفى ذمةً من محمّد |
____________
(1) نفس المصدر.
(2) تاريخ الطبري 4/203 ط الحسينية، و 4/64 ط محققة.
(3) ديوان أبي طالب /110 بتفاوت.
وأكسى لبُرد الخال قبل ابتذاله | وأعطى لرأس السابق المتجرّد(1) |
ثم قال: استغفر الله يا بن عباس ما منع عليّاً من الخروج معنا؟
قلت لا أدري، قال: يا بن عباس أبوك عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنت ابن عمه فما منع قومكم منكم؟ قلت لا أدري، قال: لكني أدري، يكرهون ولايتكم (!) قلت: لِم؟ ونحن لهم كالخير، قال: اللّهمّ غفراً يكرهون أن تجتمع فيكم النبوة والخلافة، فيكون بجحا بجحا(2) لعلكم تقولون: أنّ أبا بكر فعل ذلك، لا والله ولكن أبا بكر أتى أحزم ما حضره، ولو جعلها لكم ما نفعكم مع قربكم، انشدني لشاعر الشعراء زهير قوله:
إذا ابتدرت قيس بن عيلان غايةً | من المجد من يسبق إليها يسوّد(3) |
فأنشدته وطلع الفجر فقال: اقرأ (الواقعة) فقرأتها، ثم نزل فصلى وقرأ بالواقعة»(4).
والآن وقد تبيّن بعد هذه القراءة فيما مرّ من النصوص أن العلاقة بين الرجلين كانت علاقة قوية، دلت على قوة الحضور الفاعل والمؤثـّر لشخصية حبر الأمة لدى عمر بن الخطاب، فهو عنده ومعه في الحضر والسفر، بدءاً من مجلس الشورى الّذي يضم أشياخ الصحابة ومعهم ابن عباس وهو في سنّ أبنائهم، ومروراً بحضوره المتكرّر في بيته، فتارة يدخل عليه وقد ألقي له صاع
____________
(1) نسب الشعر إلى عدة شعراء قاربوا العشرة سيأتي ذكرهم مع المصادر في الحلقة الثالثة في احتجاجات ابن عباس مع عمر، وقد قيل في البيت الأول هـو أصدق بيت قالته العرب.
(2) البجح التعاظم والفخر.
(3) ديوان زهير بشرح ثعلب /234 ط مصر.
(4) تاريخ الطبري 4/222 ط محققة.
لم تغيّر العلاقة الوطيدة في ثوابت الطرفين شيئا:
فلقد قرأنا كثيراً من الشواهد على عمق الصلة بين عمر وابن عباس، ولكن لم يغير ذلك الاتصال الوثيق شيئاً من الثوابت عند الطرفين، فكان في نفس كلّ منهما مرتكزات ثابتة لم تتغير بشيء من المواقف الظاهرة، بل وربّما طفحت بعض آثارها عند ساعة غضبٍ أو إثارة استفزاز.
فموقف عمر أزاء بني هاشم - ومنهم ابن عباس - لم يزل هو موقفه الأوّل وهو موقفه الأخير، وهو استبعاد بني هاشم عن مراكز القوة في الدولة الإسلامية. بل وحتى مجرد الترشيح كما سنرى ذلك. كما أن موقف ابن عباس - وبني هاشم مثله - لم يزل هو موقفهم الأوّل والأخير يرون أنّهم أصحاب الحق في الخلافة، وأن قريشاً - ومنهم عمر- اغتصبت حقهم.
وإذا تأملنا في تاريخ عمر أيام ولايته الّتي جاوزت عقداً من الزمن لا نجده فضّل أحداً على بني هاشم في العطاء، كما نجد منه أحياناً وابلاً من الإطراء لهم والثناء عليهم، ولكن كلّ ذلك لا يعني تغيير شيء من الثوابت عنده وما ذلك - إن صح التعبير - إلاّ بعواطف نواشف أزاء ما هو الخلاف عليه وفيه، إذ ليس لها أي تأثير على الصعيد العملي. فهو لم يرشّح أيّ إنسان منهم لأمر ولاية أو قيادة جيش أو سرية، وحسبنا من حديثه ما ذكره محمّد بن سليمان: أن عمر سئل عن استعماله المؤلفة قلوبهم من الطلقاء وأبناء الطلقاء، وإعراضه عن تولية عليّ
وأمّا أنت يا زبير فوالله ما لان قلبك يوماً ولا ليلة، ومازلت جلفاً جافياً.
وأمّا أنت يا عثمان فوالله لروثة خير منك.
وأمّا أنت يا عبد الرحمن فأنت رجل عاجز تحب قومك جميعاً.
وأمّا أنت يا سعد فصاحب عصبية وفتنة.
وأمّا أنت يا عليّ فوالله لو وزن إيمانك بإيمان أهل الأرض لرجحهم. فقام عليّ مولياً يخرج فقال عمر: والله إني لأعلم مكان رجل لو وليتموه أمركم لحملكم على المحجة البيضاء.
قالوا: من هو؟ قال: هذا المولي بينكم، قالوا: فما يمنعك من ذلك؟ قال: ليس إلى ذلك سبيل(4).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 9/29 ط محققة.
(2) كنز العمال 4/614، و 5/771 ط مؤسسة الرسالة.
(3) الأحزاب /53.
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/170 ط الأولى.
وما قوله لابنه عبد الله أقل دلالة ممّا سبق. فقد روى البلاذري في أنساب الأشراف: «إنّ عمر لمّا خرج أهل الشورى من عنده قال: إن ولـّوها الأجلح سلك بهم الطريق.
فقال عبد الله بن عمر: فما يمنعك منه يا أمير المؤمنين؟ قال أكره أن أتحملها حياً وميتاً»(2).
ولقد دعا الناس إلى الرجوع إلى أناس سماهم عند احتياجهم في أمور دينهم، فخطب قائلاً: «من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الحلال والحرام فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد المال فليأتني فأني له خازن»(3).
فأنظر إلى هذه الكلمات القصيرة الّتي جعلت هؤلاء النفر الّذي سماهم هم مراجع للناس في القرآن والحلال والحرام والفرائض، واحتجن لنفسه خزانة المال فهو بيده يعطي من يشاء مايشاء.
ومن اللافت للنظر أن النفر المسمّين كلهم من الأنصار فما بال المهاجرين؟
أليس فيهم من يضارع هؤلاء فيما عندهم من مؤهلات علمية ودينية؟
والجواب ليس فيهم من عيب، وإن بقي السرّ في ضمير الغيب، لكن مهما كان من السر المكتوم فقد كان من الواضح والمعلوم لدى جميع المسلمين من
____________
(1) العقد الفريد 4/282 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر.
(2) أنساب الأشراف 1 ق 4/501 ط بيروت، وأنظـر شرح النهج لابن أبي الحديد 3/170ط بيروت.
(3) أخرجه الحاكم في المستدرك 3/272، وقال صحيح عليّ شرط الشيخين ولم يخرّجاه.