الصفحة 111
أنصار ومهاجرين أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال في عليّ (عليه السلام): (أنا مدينة العلم وعليّ بابها)، وقال: (عليّ عيبة علمي)، ولم يرد مثل ذلك في حقّ أي إنسان آخر من الصحابة، فلماذا لم ينوّه عمر بالرجوع إليه كما نوّه باُولئك النفر. مع انّه هو الّذي كان يفزع إليه عند عضل المسائل ويقول: «لا أبقاني الله لمعضلة ليس لها أبو الحسن»، وكثيراً ما قال: «لولا عليّ لهلك عمر»، فهو لا يجهل مقام الإمام العلمي ولكن لم ينوّه به. ويأمر بالرجوع إليه، لأن التنويه بالرجوع إليه يستتبع الإقرار بحقه فيما يقول ويطلب من أمر الخلافة. وهذا ما لا تريده قريش - ومنهم عمر - ولتبقى معرفة الفضل له شيء، والتنويه بذلك الفضل في الإرجاع إليه شيء آخر.

ولقد أخرج أحمد في فضائل الصحابة بسنده عن أبي هبيرة أنّ عمر بن الخطاب كان ?يقول: «من كان سائلاًَ عن شيء من القرآن فليسأل عبد الله بن عباس»(1).

هذا إن صح سنده فربما كان ذلك يوماً ما في حديث خاص وليس في خطبة على الناس كما مر في شأن النفر الأنصار.

وهلمّ إلى مواقف أخر له مع ابن عباس، وهي متأخرة زماناً عما سبق منها:

ما أخرج ابن سعد في الطبقات في ترجمة ابن عباس بسنده عن مجاهد قال: «سمعت ابن عباس يقول: خدمت عمر خدمة لم يخدمه إياه أحد من أهله، ولطفت به لطفاً لم يلطف به أحد من أهله، فخلوت معه ذات يوم في بيته - وكان يجلّني ويكرمني - فشهق شهقة ظننت أن نفسه سوف تخرج منها، فقلت: أمن جزع يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا أجد لهذا الأمر أحداً. قلت: فأين أنت عن فلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان، وفلان - فسمّى له الستة أهل الشورى - فأجابه في

____________

(1) فضائل الصحابة /1893.


الصفحة 112
كلّ واحد منهم بقول. ثم قال: انه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ قويّ في غير عُنف، ليّن في غير ضعف، جواد في غير سرف، ممسك في غير بُخل... أهـ»(1).

وهذا الخبر لا شك قد اعتراه تعتيم متعمد بكتمان أقوال عمر في كلّ من فلان وفلان الستة أصحاب الشورى كما لم يذكر لنا مجاهد ماذا كان رأي ابن عباس في تلك الأقوال. ولا نبرئ مجاهد من تبعة ذلك التكتم. ومهما يكن فثمة ما هو صريح الدلالة على استبعاد عمر لبني هاشم - ومنهم ابن عباس - عن كلّ ما يمكنّهم من ممارسة أي دور قيادي. فهلمّ الآن إلى حديث:

حضور الحبر مقتل عمر وآخر أيامه:

1- روى ابن سعد في الطبقات والبخاري في صحيحه عن عمرو بن ميمون قال: «وما كان بيني وبينه - يعني عمر - حين طعن إلاّ ابن عباس فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه فصلّوا الفجر يومئذ صلاة خفيفة»(2).

2- وفي حديث الطبري رواه عن المسور بن مخرمة قال: «فلمّا وجد عمر حر السلاح سقط وقال: أفي الناس عبد الرحمن بن عوف؟ قالوا: نعم يا أمير المؤمنين هو ذا، قال تقدم فصل بالناس. قال: فصلّى عبد الرحمن بن عوف وعمر طريح...»(3).

3- وفي رواية البخاري في صحيحه: «فتناول يد عبد الرحمن بن عوف فقدّمه»(4).

____________

(1) طبقات ابن سعد 1/142 الطبقة الخامسة.

(2) نفس المصدر 3 ق 1/244.

(3) تاريخ الطبري 4/191 ط محققة.

(4) فتح الباري 8/63.


الصفحة 113
4- ثم حُمل عمر إلى منزله وكان ممن حمله عبد الله بن عباس(1) ولم يزل عنده حتى أسفر الصبح وأفاق عمر من غشيته فقال: اخرج يا عبد الله بن عباس فسل من قتلني؟ فخرج وسأل ثم عاد إليه فإذا هو يبدّ النظر فيه - أي يحدّق - يستأني خبر ما عنده فأخبره أنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة(2).

5- ويبدو من بعض مرويّات ابن سعد في ذلك أنّ عمر كان يتهم في نفسه أناساً لم يكشف عن هويّاتهم فقال لابن عباس: اخرج إليهم - يعني المهاجرين والأنصار الذين اجتمعوا ببابه - فسلهم عن ملأ منكم ومشورة كان هذا الّذي أصابني؟ فخرج ابن عباس فسألهم فقال القوم: لا والله ما علّمنا ولا أطلّعنا(3)، فقال عمر لابن عباس: قد كنت أنت وأبوك تحبّان أن تكثر العلوج بالمدينة - وكان العباس أكثرهم رقيقاً - فقال: إن شئت فعلتُ - أي إن شئت قتلنا - فقال: كذبت، بعد ما تكلموا بلسانكم وصلّوا قبلتكم وحجوا حجكم(4).

____________

(1) طبقات ابن سعد 3 ق1/244.

(2) نفس المصدر 3 ق1/251.

(3) نفس المصدر 3 ق1/252.

(4) فتح الباري 8/64، ولابن حجر توجيه غير وجيه لقول عمر لابن عباس (كذبت) فقال: هو على ما ألف من شدة عمر في الدين، لأنه فهم من ابن عباس من قوله: إن شئت فعلنا أي قتلناهم فأجابه بذلك، وأهل الحجاز يقولون: كذبت في موضع أخطأت (؟) وإنما قال له بعد أن صلوا لعلمه أن المسلم لا يحل قتله، ولعل ابن عباس أراد قتل مـن لم يسلم منهم.

أقول: وليس لي إلاّ أن أقول لابن حجرـ على حد ممّا زعم من لغة أهل الحجاز ـ كذبت أي أخطأتَ فأيّ معنى لتحامل عمر على ابن عباس وأبيه وأنهما أحبّا أن تكثر العلوج في المدينة بينما كان العلج الّذي طعنه غلاماً للمغيرة بن شعبة، فلماذا الحملة على ابن عباس لـو لم يكن في نفس عمـر ما يستفزه فيستوفزه، وكل الحديث يبقى على ذمة الرواة.


الصفحة 114
6- وكان مستنداً في يوم من أيام طعنته إلى ابن عباس مع وجود ابنه عبد الله وقريبه سعيد بن زيد - وكانا عنده - فقال: «اعلموا أنّي لم أقل في الكلالة شيئاً، ولم أستخلف بعدي أحداً، وأن من أدرك وفاتي من سبي العرب فهو حرّ من مال الله»(1).

7- وأثنى عليه في يوم من أيامه الثلاثة قبل موته فقال له: «بأي شيء تثني عليَّ بالإمـرة أو بغيرها؟ قال له: بكلّ. قال: ليتني أخـرج منها كفافاً لا أجـر ولا وزر... والله لو أن لي ما في الأرض من شيء لافتديت به من هول المطـّلع»(2).

8- وقال له: «أعقل عني ثلاثاً: الإمارة شورى، وفي فداء العرب مكان كلّ عبدٍ عبد وفي ابن الأمة عبدان» وكتم ابن طاووس الثالثة(3).

أقول: يبدو كتمان آخر الوصايا سنة متبعة لرواة السوء. لقد مرّ في حديث البخاري عن اخبار ابن طاووس كتمانهم لوصية النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الثالثة في حديث الكتف والدواة، فراجع.

9- قال ابن عباس: «قلت لعمر: لقد أكثرت التمني للموت حتى خشيتُ أن يكون عليك غير سهل عند أوانه فماذا سئمت من رعيتك إمّا أن تعيّن صالحاً أو تقوّم فاسداً؟ قال يا بن عباس إنّي قائل قولاً فخذه إليك، كيف لا أحب فراقهم وفيهم مَن هو فاتح فاه للشهوة من الدنيا إمّا لحقٍ لا ينويه وإمّا لباطل لا يناله، والله لولا أن أسأل عنكم لبرئت منكم، فأصبحت الأرض مني بلاقع ولم أقل ما فعل فلان وفلان»(4).

____________

(1) طبقات ابن سعد 3 ق1/248.

(2) نفس المصدر 3 ق1/255.

(3) المصنف لعبد الرزاق 5/446، وقارن طبقات ابن سعد 3 ق1/256.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/105 ط مصر الأولى.


الصفحة 115
10- قال ابن عباس: «كنت عند عمر فتنفس نفساً ظننت أن أضلاعه قد انفرجت. فقلت له ما أخرج هذا النفس منك يا أمير المؤمنين إلا همّ شديد؟ قال: أي والله يا بن عباس إني فكرت فلم أدر فيمن أجعل هذا الأمر بعدي. ثم قال: لعلك ترى صاحبك لها أهلاً؟ قلت وما يمنعه من ذلك مع جهاده وسابقته وقرابته وعلمه. قال: صدقت، ولكنه امرؤ فيه دعابة، قلت: فاين أنت من طلحة؟ قال ذو البأو باصبعه المقطوعة قلت: فعبد الرحمن؟ قال: رجل ضعيف لو صار الأمر إليه لوضع خاتمه في يد امرأته. قلت: فالزبير؟ قال: شكس لقس يلاطم في البقيع في صاع من بُرّ، قلت: فسعد بن أبي وقاص؟ قال: صاحب سلاح ومقنب، قلت: فعثمان؟ قال: أوه - ثلاثاً - والله لئن وليها ليحملنّ بني أبي معيط على رقاب الناس، ثم لتنهض إليه العرب فتقتله.

ثم قال: يا بن عباس انّه لا يصلح لهذا الأمر إلاّ خصيف العُقدة، قليل العزّة، لا تأخذه في الله لومة لائم، يكون شديداً من غير عنف، ليناً من غير ضعف، سخياً من غير سرف، ممسكاً من غير وكف...

قال - ابن عباس -: ثم أقبل عليّ بعد أن سكت هنيهة وقال: أجرؤهم والله إن وليها أن يحملهم على كتاب ربّهم وسنّة نبيّه لصاحبك، أما إن ولي أمرهم حملهم على المحجة البيضاء والصراط المستقيم»(1)... إلى غير ذلك من الشواهد الّتي تدل على إصرار عمر على استبعاد بني هاشم.

وفي مسألة تقديم عبد الرحمن بن عوف للصلاة أوضح دلالة على ذلك. فإنّ عبد الرحمن بن عوف لم يكن أقرب مكاناً من ابن عباس حينئذ. فان رواية عمرو بن ميمون - وقد تقدمت أولاً - دلت على قرب ابن عباس المكاني،

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/106 ط مصر الاولى.


الصفحة 116
ورواية المسور بن مخرمة - وقد تقدمت ثانياً - دلت على بُعد عبد الرحمن مكاناً حتى جعل يسأل عنه. وقد كان ابن عباس أولى أن يقدّمه للصلاة لأنه أقرأ من عبد الرحمن وهو أستاذه في القراءة - كما في حديث الفلتة - الّذي رواه البخاري في باب رجم الحبلى فقد جاء فيه: «إنّ ابن عباس كان يقرئ عبد الرحمن بن عوف وجماعة من المهاجرين»(1)، فما دام ابن عباس هو الأقرأ لكتاب الله تعالى والرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقول: (وليؤمكم أقرؤكم)(2)، وكان يقول - كما في حديث أبي مسعود -: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)(3).

وهذا حكم لا يجهله عمر مهما جهل من الأحكام غيره، فقد كان في جملة المهاجرين الذين كان سالم مولى أبي حذيفة يؤمهم من مكة حتى قدم المدينة لأنه كان أقرأهم، وبقي يؤمهم بقباء وفيهم عمر بن الخطاب قبل أن يقدم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(4)، ثم هل غاب عن علم عمر قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) - كما رواه عثمان بن عفان -: (أفضلكم من تعلّم القرآن وعلّمه)(5)، ومن المتيقن كان ابن عباس هو الأفضل من عبد الرحمن بن عوف لأنّه كان معلّمه في القرآن والفرائض.

إذن فقد كان ابن عباس هو الأولى بأن يقدمه عمر للصلاة بالناس، هذا إذا كنّا لم نتيقن حضـور الإمام عليّ (عليه السلام) ساعتئذ، وإلاّ فهو الأولـى من الجميع بالإمامة.

____________

(1) وبقي هو استاذه حتى آخر ايام حياته حين منع عثمان الناس من الدخول عليه فلم يكن يدخل عليه إلاّ ابن عباس فيتعلم منه القرآن والفرائض كما في شرح النهج 1/66.

(2) أنظر سنن أبي داود 1/174.

(3) نفس المصدر 1/173.

(4) طبقات ابن سعد 3 ق1/61 ط ليدن أفست، وصحيح سنن أبي داود 1/175.

(5) وهذا أخرجه البخاري في كتاب فضائل القرآن باب خيركم من تعلم القرآن وعلّمه 752 ط الهند، والترمذي 4/53، وعبد الرزاق في المصنف 3/367 - 368.


الصفحة 117
أفلا يدّل ذلك العدول عن ابن عباس إلى عبد الرحمن على اصرار عمر أن لايولي هاشمياً مقاماً دينياً أو دنيوياً؟! وستأتي شواهد تؤكد على ذلك في عملية الشورى.

ثوابت أهل البيت ومنهم ابن عباس:

ليس بخاف على الباحث موقف أهل البيت - ومنهم ابن عباس - في منظورهم إلى الخلافة وأنها من حق عليّ خاصة، وأن أبا بكر وعمر استحوذا عليها، كما في حديث لابن عباس مع عمر قال له ذلك صراحةً.

روى الحافظ ابن مردويه والراغب الأصفهاني عن ابن عباس قال: «كنت أسير مع عمر بن الخطاب في ليلة وعمر على بغل وأنا على فرس، فقرأ آية فيها ذكر عليّ بن أبي طالب، فقال: أما والله يا بني عبد المطلب لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر مني ومن أبي بكر.

فقلت في نفسي: لا أقالني الله إن أقلته، فقلت: أنت تقول ذلك يا أمير المؤمنين وأنت وصاحبك اللذان وثبتما وانتزعتما وأفرغتما الأمر منا دون الناس.

فقال: إليكم يا بني عبد المطلب، أمّا إنكم أصحاب عمر بن الخطاب، فتأخرت وتقدم هنيهة فقال: سر لا سرت وقال: أعد عليَّ كلامك.

فقلت: إنّما ذكرت شيئاً فرددتُ عليه جوابه ولو سكت سكتنا...»(1)

ذكر اليعقوبي في تاريخه أمر توسعة عمر للمسجد الحرام وهدم بيت العباس لذلك وما جرى بينهما من كلام ثم قال: «وانصرف عمر بعد عشرين يوماً، وكان العباس يسايره وتحت العباس دابة مُصعَب، فتقدّمه عمر ثم وقف له

____________

(1) أنظر اليقين لابن طاووس /205، محاضرات الراغب 2/213.


الصفحة 118
حتى لحقه فقال: قدمتك وما لأحد أن يتقدمكم معشر بني هاشم. ولكنكم قوم فيكم ضعف. قال: رآنا الله نقوى على النبوة ونضعف عن الخلافة»(1)؟!

فبنو هاشم يرون أنّ حقهم مضاع وفيأهم مشاع. ومسألة الفيء والخمس كانت ذات أهمية خاصة لدى الشيخين ولدى أهل البيت على السواء، فإن حرمان أهل البيت منهما يعني تجريدهم ممّا هو حق لهم وقد فرضه الله سبحانه لهم في كتابه لسد حاجاتهم المادية، لذلك لم يبرح الطاعن منهم في ولاية الشيخين يذكر ذلك بألم ولو بعد حين.

لقد روى السيوطي في الدر المنثور عن ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «سألت عليّاً (رضي الله عنه) فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنع أبي بكر وعمر (رضي الله عنهما) في الخمس نصيبكم؟

فقال: أمّا أبو بكر (رضي الله عنه) فلم تكن في ولايته أخماس، وأمّا عمر (رضي الله عنه) فلم يزل يدفعه إليّ في كلّ خمس حتى كان خمس السوس وجند يسابور فقال: وأنا عنده هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس وقد أحلّ ببعض المسلمين واشتدت حاجاتهم. فقلت: نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال:لا تعرّض في الّذي لنا.

فقلت: ألسنا أحق من أرفق المسلمين وشفـّع أمير المؤمنين؟

فقبضه، فوالله ما قبضناه ولا قدرت عليه في ولاية عثمان...»(2).

وروى ذلك البيهقي في السنن وابن أبي شيبة في المصنف وفي آخر الحديث قول عليّ عن العباس: (وكان رجلاً داهياً)(3).

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2/127.

(2) الدر المنثور 3/186 ط أفست الإسلاميةً.

(3) السنن الكبرى 9/343، المصنف 12/470 ط باكستانً.


الصفحة 119
روى البيهقي عن عبد الرحمن بن أبي يعلى قال: «لقيت عليّاً عند أحجار الزيت فقلت له بأبي أنت وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟... قال عليّ: إنّ عمر قال: لكم حق ولا يبلغ علمي إذا كثر يكون لكم كله، فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم. فأبينا عليه إلاّ كله، فأبى أن يعطينا كله»(1).

وهلم لنقرأ ماذا عن ابن عباس في ذلك:

روى الذهبي عن ابن عباس يقول: «كان عمر عرض علينا أن يعطينا من الفيء(2) بحق مايرى أنّه لنا من الحق، فرغبنا عن ذلك وقلنا: لنا ما سمّى الله من حق ذي القربى وهو خمس الخمس فقال عمر: ليس لكم ما تدّعون أنّه لكم حق، إنّما جعل الله الخمس لأصناف سماهم، فأسعدهم فيه حظاً أشدهم فاقة وأكثر عيالاً، قال فكان عمر يعطي من قبل منا من الخمس والفيء نحو ما يرى أنّه لنا، فأخذ ذلك منا ناس وتركه ناس»(3).

وروى الفسوي عن سماك الحنفي قال سمعت ابن عباس يقول: «الخمس لنا ولكن ظُلمنا فقال أبو مريم - وهو معي - صدق»(4).

وأخرج أحمد في مسنده عن يزيد بن هرمز: «أن نجدة الحروري حين خرج من فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذوي القربى لمن تراه؟ قال: هو لنا لقربى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قسمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لهم، قد كان عمر عرض علينا منه شيئا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه وأبينا أن نقبله، وكان الّذي

____________

(1) السنن الكبرى 6/344 (مسند الشافعي باب الفيء).

(2) الفيء: ما أخذ من أموال الكفار بغير حرب ولم يوجف عليه بخيل ولا ركاب.

(3) سير أعلام النبلاء 1- 2/491 ط دار الفكر بيروت.

(4) المعرفة والتاريخ للفسوي 3/68.


الصفحة 120
عرض عليهم أن يعين ناكحهم وأن يقضي عن غارمهم وأن يعطي فقيرهم، وأبى أن يزيدهم على ذلك»(1).

وثمة مكاتبات من نجدة بن عويمر الخارجي إلى ابن عباس يسأله فيها عن عدة مسائل، ومنها مسألة الخمس وجواب ابن عباس فيها يطفح بالألم، ويعبّر عن الشعور بالاحباط لما لحقهم من حيف.

ولم تكن مسألة الخمس هي الأولى والأخيرة في مسائل عن ابن عباس الّتي كان ينعاها على الحاكمين، فثمة مسائل فقهية كانت له آراء تختلف مع آرائهم كمسألة المتعة والعول في الفرائض ودية الأصابع وميراث البنت وغيرها ممّا يأتي الحديث عنها في الحلقة الثالثة (فقهه).

وحتى حديث الشورى وما جرى لها وفيها من تحضير، نجد الهاشميين - ومنهم ابن عباس طبعاً - مستبعدين عنها تماماً، وأنهم يرون في تسمية الإمام ضمن النفر الذين عيّنهم عمر هي حبكة بحنكة، وهذا هو منظور أهل البيت، وليس بخافٍ على الباحث أن عمر كان يريد الأمر لعثمان إمّا رداً لجميله السابق حين كتب اسمه في عهد أبي بكر وأبو بكر مغشي عليه هذا على أحسن تقدير، وإلاّ فمن أين لحاديه يحدو به ويسمى الأمير بعده عثمان.

أخرج المحب الطبري في الرياض النضرة عن حارثة بن مضرب قال: «حججت مع عمر فكان الحادي يحدو: إن الأمير بعده عثمان»(2). وهذا عين ما رواه البلاذري أيضاً في أنساب الأشراف(3).

____________

(1) مسند أحمد 1/320.

(2) الرياض النضرة 2/116.

(3) أنساب الأشراف 1/494 من القسم الرابع تح ـ احسان عباس بلفظ (إنّ الأمير بعده ابن عفان).


الصفحة 121
ولم يكن الحادي ليقول ذلك من نفسه لو لم يكن سمع ذلك من عمر كما سمع حذيفة ذلك منه فقد روى حذيفة قال: «قيل لعمر وهو بالموقف: مَن الخليفة بعدك؟ قال: عثمان بن عفان». قال المحب الطبري: خرّجه خيثمة بن سليمان وهذا خبر عن كشف واطلاع لا عن عهد(1) (!؟).

فيا لله وللشورى:

يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخطبة الشقشقية الّتي تفجّر فيها غضباً وتميّز غيضاً: «حتى إذا مضى - يعني عمر - لسبيله جعلها في جماعة زعم أني أحدهم فيا لله وللشورى؟ متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم، حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر؟ لكنّي أسففتُ إذ أسفـّوا وطرت إذ طاروا فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره، مع هن وهن».

بهذه الكلمات الحارة اختصر الحدَثَ في الحديث عن الشورى، ولسنا بصدد الحديث عنها ولكننا بصدد ذكر ما له دور في استبعاد الهاشميين - ومنهم ابن عباس طبعاً - عن القيادة.

فلننظر أوّلاً إلى الأدوار الّتي وزّعها عمر بعدما طعن، فهو قد سمّى النفر الستة عليّاً وعثمان وطلحة والزبير وسعداً وعبد الرحمن بن عوف. على أن يختاروا أحدهم فيكون هو الخليفة. ثم ضيّق دائرة الاختيار وجعله لخمسة إن اتفقوا وقتل السادس، ثم جعله لأربعة إن اتفقوا وقتل الاثنين وأخيراً جعله لثلاثة فيهم ابن عوف إن اتفقوا وقتل الثلاثة الآخرين.

____________

(1) الرياض النضرة 2/116 ط النعساني بمصر سنة 1327 هـ.


الصفحة 122
وحدّد الفترة الانتخابية بثلاثة أيام، وجعل لابنه عبد الله حق الحضور ليكون حَكَماً فإن لم يرضوا بحكمه فالفوز لمن كان عبد الرحمن بن عوف معه. ومن أبى تضرب عنقه كائناً من كان يتولى ذلك أبو طلحة الأنصاري.

فهو بهذا الإجراء التعسفي فيما يراه الهاشميون قد استبعدهم عن أيّ دور فاعل في عملية الشورى حتى عليّ - كما سيأتي تصريحه بذلك -.

وما رواه ابن قتيبة في الإمامة والسياسة من أنّ عمر قال: «واحضروا معكم الحسن بن عليّ وعبد الله بن عباس فإن لهما قرابة وأرجو لكم البركة في حضورهما وليس لهما من أمركم شيئاً»(1)، فهذا شيء انفرد بروايته ولم أقف عليه عند غيره، وربما كان من تزيّد الرواة بعد ذلك. وإلاّ فلا معنى لأن يذكر الحسن ولا يذكر أخاه الحسين وهما معاً سيدا شباب أهل الجنة، وهما معاً ريحانتا رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهما معاً سبطاه وهما معاً... فالبركة بحضورهما معاً أتم وأكمل إن كانت البركة هي الداعي للحضور، كما إن حضور العباس بن عبد المطلب كان أولى من حضور ابنه عبد الله فإنه الّذي استسقى به عام الرمادة، فبركته أكثر من بركة ابنه عبد الله وان كانت صلته بهذا أوثق.

ومهما يكن نصيب رواية ابن قتيبة من الصحة - نظراً لإرسالها سنداً ثم إعلالها متناً - فهي على فرض صحتها فلا يغير حضور الحسن وابن عباس شيئاً في ميزان القوى المتصارعة عند التعادل في الاختلاف. ما دام حضورهما لمجرد البركة الّتي يرجوها عمر للمتشاورين.

أمّا الاحتكام والاستشارة فهي لابنه عبد الله أوّلاً، وما أدري كيف رشّحه لذلك وهو الّذي ردّ على المغيرة بن شعبة بعُنف حين قال له لو استخلفته. فقال:

____________

(1) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/23.


الصفحة 123
«قاتلك الله والله ما الله أردت بها»(1)، «ويحك كيف استخلف رجلاً عجز عن طلاق امرأته»(2).

وأمّا الدور الفاعل والقاتل فهو لعبد الرحمن بن عوف فقط وفقط حيث جعل الرجحان في كفـّته كما جعل أمر الصلاة بالناس إلى صهيب الرومي طيلة أيام المشاورة فقال: «وليصل بكم صهيب هذه الثلاثة أيام الّتي تتشاورون فيها فإنه رجل من الموالي لا ينازعكم أمركم»(3).

وأعطى للمقداد بن الأسود دوراً بجمع النفر في بيت حتى يختاروا رجلا منهم(4).

كما أبقى زمام القوة التنفيذية بيد أبي طلحة الأنصاري حين أمره بأن يجمع خمسين رجلاً من الأنصار ليقف على باب البيت الّذي فيه النفر، فإذا مضت الثلاثة أيام ولم يختاروا ضرب أعناقهم جميعاً.

فأنظر إلى الأدوار الّتي وزّعها في عملية الشورى فلم يجعل لابن عباس ولا لغيره من الهاشميين أي دور يذكر.

كما صنع مع عبد الرحمن بن عوف حين جعل الرجحان في كفته.

أو مع ابنه عبد الله حين جعله مستشاراً ومشيراً.

أو مع صهيب الرومي حين ولاه أمر الصلاة.

أو مع المقداد حين أمره أن يجمع النفر في بيت حتى يختاروا أحدهم.

____________

(1) أنساب الأشراف للبلاذري 1ق4/502 تح ـ احسان عباس ط بيروت.

(2) تاريخ الطبري 4/227 ط محققة دار المعارف.

(3) الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/23.

(4) تاريخ الطبري 4/229 ط محققة.


الصفحة 124
أو مع أبي طلحة الأنصاري حين أوكل إليه رقابة الموقف لمدة ثلاثة أيام فإن اتفق النفر على أحدهم وإلاّ ضرب أعناق الجميع.

كلّ هذا يوحي بأن عمر لازال - وهو في آخر حياته كما كان أيامها - ثابتاً على موقفه في استبعاد بني هاشم عن أي دور قيادي فيه نحو ترشيح لهم. وأمّا ذكره لعليّ ضمن أصحاب الشورى، فهو لا يعني شيئاً ايجابياً بقدر ما هو استبعاد له بكلّ المعايير الّتي وضعها من رجحان كفة ابن عوف، والإمام كان يعلم ذلك مسبقاً، وإنّما رضي بالدخول في الشورى ليبرهن للناس تناقض عمر في أقواله فبالأمس كان يقول: «لا تجتمع الخلافة والنبوة في بيت واحد»، واليوم رشحه للخلافة، ولم يكن يخفي ذلك على بني هاشم. ومن هنا عرف الهاشميون أنهم قد استبعدوا عن القيادة، بل وحتى عن الحضور الفاعل وان لم يغيبّوا عن الساحة كما يتضح ذلك ممّا رواه المفيد في الارشاد بسنده عن أبي صادق قال: «لمّا جعلها عمر شورى في ستة فقال: إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد فكونوا مع الثلاثة الذين فيهم عبد الرحمن واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن، خرج أمير المؤمنين (عليه السلام) من الدار وهو معتمد على يد عبد الله بن العباس فقال: يابن العباس إن القوم قد عادوكم بعد نبيكم كمعاداتهم لنبيكم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته. أم والله لا ينيب بهم إلى الحق إلاّ السيف. فقال له ابن عباس: وكيف ذاك؟ قال: أما سمعت قول عمر: إن بايع اثنان لواحد واثنان لواحد فكونوا مع الثلاثة الذين عبد الرحمن فيهم واقتلوا الثلاثة الذين ليس فيهم عبد الرحمن؟ قال ابن عباس: بلى، قال: أو لا تعلم أنّ عبد الرحمن ابن عم سعد وأنّ عثمان صهر عبد الرحمن؟ قال: بلى، قال: فإنّ عمر قد علم أنّ سعداً وعبد الرحمن وعثمان لا يختلفون في الرأي، وانه من بويع منهم كان اثنان معه،

الصفحة 125
وأمر بقتل من خالفهم، ولم يبال أن يقتل طلحة إذا قتلني وقتل الزبير، أم والله لئن عاش عمر لأعرفنّه سوء رأيه فينا قديماً وحديثاً، ولئن مات ليجمعني وإياه يوم يكون فيه فصل الخطاب...اهـ»(1).

«وتلقاه العباس وصار يمشي إلى جانبه فقال: عُدلت عنا. فقال: وما علمك؟ قال: قِـُرن بي عثمان. وقال: كونوا مع الأكثر، فإن رضي رجلان رجلاً، ورجلان رجلاً فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفون فيولـّيها عبد الرحمن عثمان، أو يوليها عثمان عبد الرحمن، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله إنّي لا أرجو إلاّ أحدهما. ومع ذلك فقد أحب عمر أن يعلمنا أن لعبد الرحمن عنده فضلاً علينا لعمر والله ما جعل الله ذلك لهم علينا كما لم يجعله لأولادهم على أولادنا. فقال له العباس: الزم بيتك ولا تدخل في الشورى فلا يختلف عليك اثنان»(2).

وفي لفظ آخر قال: «قد أطلق الله يديك فليس لأحدً عليك تبعة. بيعة ظ. فلا تدخل في الشورى عسى ذلك أن يكون خيراً»(3).

ولست بحاجة إلى التعليق على كلمة العباس، فقد كان رجلاً داهياً كما يقول الإمام فيه وهو يعرف نفسيات النفر المرشحين، فقد أحسّ بأن القوم سيعدلون عن ابن أخيه إلى غيره، وإذا حدث ذلك مع حضوره معهم، كان عليه غضاضة وأشد مضاضة بخلاف لو لم يحضر وحدث ذلك، فلذلك حاول محتاطاً بهذا التدبير أن يخفف من ألم المعاناة الّتي ستلحق الإمام بحضوره معهم.

____________

(1) الإرشاد /151.

(2) أنساب الاشراف 5/23 ط أفست المثنى.

(3) نفس المصدر 1ق 4/509 تح ـ د: إحسان عباس ط بيروت.