فقال عليّ: أما لئن بقي عثمان لأذكرنه ما أتى، ولئن مات ليتداولنّها بينهم، ولئن فعلوا ليجدنّي حيث يكرهون» هكذا رواية الطبري(1).
ولعل ذكر عثمان من سهو الرواة والصحيح عمر صاحب الوصية كما أن في رواية ابن أبي الحديد في شرح النهج: (أما والله لئن عمر لم يمت لأذكرنه ما أتى إلينا قديماً، ولأعلمنّه سوء رأيه فينا وما أتى إلينا حديثاً، ولئن مات. وليموتنّ. ليجتمعنّ هؤلاء القوم على أن يصرفوا هذا الأمر عنا ولئن فعلوها وليفعلن ليروني حيث يكرهون والله ما بي رغبة في السلطان ولا حب الدنيا ولكن لإظهار العدل والقيام بالكتاب والسنة)(2).
وقال (عليه السلام): (أمّا إني أعلم أنهم سيولون عثمان وليحدثنّ البدع والأحداث، ولئن بقي لأذكرنّك، وإن قتل أو مات ليتداولونّها بنو أمية، وإن كنتَ حيّاً لتجدنّي حيث يكرهون، ثم تمثل:
____________
(1) تاريخ الطبري 4/230 ط محققة.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/409 - 410 و 1/64 ط مصر الأولى.
حلفتُ بربّ الراقصات عشيةً | غـدَونَ خِفافا فـابتدرنّ المحصّبا |
ليحتلبن رهطُ ابن يعمر مارِئا | نجيعاً بنو الشدّاخ وِرداً مصلّبا(1) |
فعرفنا ممّا مرّ موقف الإمام وموقف عمه العباس من تلك الشورى، أمّا عن مواقف بقية الهاشميين فحسبنا معرفة رأي ابن عباس، فقد روى ابن أبي الحديد انّه قال للإمام بعد ماسمع كلام عمر: «ذهب الأمر منا. الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان، فقال له الإمام: أنا أعلم ذلك ولكني أدخل معهم في الشورى لأنّ عمر قد أهّلني الآن للخلافة، وكان قبل يقول: إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: إن النبوة والإمامة لا يجتمعان في بيت، فانا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته»(2).
فعلى هذا النحو غير المؤثر كان دخول الإمام.
وعلى هذا النحو في الجو المحموم جرت عملية الاقتراع فكان الجدل وكانت الخصومة.
وفي ذلك الجو الصاخب كان احتجاج الإمام بحديث المناشدة بفضائله المؤهلة له دون بقية النفر.
وفي ذلك كان التحرك اليائس من بعض الصحابة حين رأى التدافع.
فقال عمار لعبد الرحمن بن عوف: إن أردت أن لا يختلف المسلمون فبايع عليّاً.
وصدّقه المقداد فقال: صدق عمار إن بايعتَ عليّاً قلنا سمعنا وأطعنا.
____________
(1) نفس المصدر 1/64.
(2) نفس المصدر 1/63
فتكلم بنو هاشم وتكلم بنو أمية.
فقال عمّار: أيها الناس إنّ الله أكرمنا بنبينا وأعزنا بدينه، فأنّى تصرفون هذا الأمر عن بيت نبيّكم.
فقال رجل من بني مخزوم(1): لقد عدوت طورك يا بن سميّة وما أنت وتأمير قريش لأنفسها.
فقال سعد لعبد الرحمن بن عوف: افرغ قبل أن يفتتن الناس.
فقال عبد الرحمن: إنّي نظرت وشاورت فلا تجعلنّ أيها الرهط على أنفسكم سبيلاً. ودعا عليّاً فقال: عليك عهد الله وميثاقه لتعملنّ بكتاب الله وسنّة نبيّه وسيرة الخليفتين من بعده؟ قال: أعمل بمبلغ علمي وطاقتي.
ثم دعا عثمان فقال له كما قال لعليّ فقال عثمان: نعم فبايعه.
فقال عليّ (عليه السلام): حبوته محاباة (حبو دهر) ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا من دفعنا عن حقنا والاستئثار علينا وانّها لسنّة علينا وطريقة تركتموها، أما والله ما وليت عثمان إلاّ ليردّ الأمر إليك والله كلّ يوم هو في شأن. دق الله بينكما عطر منشم. فخرج وهو يقول: سيبلغ الكتاب أجله.
____________
(1) لئن تكتم علماء التبرير على اسم الرجل المخزومي في بعض المصادر غير ان ابن أبي الحديد في شرح النهج 9/58 ط محققة أفصح في رواية له وأنه هاشم بن الوليد بن المغيرة والصواب هشام بن الوليد وهو أخ لخالد بن الوليد. وقد سبق لخالد ملاحاة مع عمار أيام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فنهاه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأثنى على عمار ثناءً بالغاً وقال: من سبّ عماراً سبّه الله ومن أبغض عمارا أبغضه الله، وهذا مارواه خالد نفسه (راجع مجمع الزوائد 9/294) تجد الحديث بأوسع من هذا كما رواه أحمد والطبراني.
فهشام بن الوليد هو الّذي تعدى طوره حين اعترض عماراً في مقالته.
فقال المقداد: يا عبد الرحمن أما والله لقد تركته من الذين يقضون بالحقّ وبه يعدلون.
ثم قال: ما رأيت مثل ما أوتي إلى أهل هذا البيت بعد نبيّهم، إنّي لأعجب من قريش انّهم تركوا رجلاً ما أقول إن أحدا اعلم ولا أقضى منه بالعدل، أما والله لو أجد عليه أعواناً.
فقال عبد الرحمن: يا مقداد اتق الله فإنّي خائف عليك الفتنة.
فقال رجل للمقداد: رحمك الله مَن اهل هذا البيت؟ ومَن هذا الرجل؟
قال: أهل البيت بنو عبد المطلب والرجل عليّ بن أبي طالب.
وقال عليّ: إنّ الناس ينظرون إلى قريش، وقريش تنظر إلى بيتها فتقول: إن وُلي عليكم بنو هاشم لم تخرج منهم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش تداولتموها بينكم(1).
وروى الطبري عن المسور بن مخرمة قال: «وتلكأ عليّ فقال عبد الرحمن {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}(2)»(3).
إلاّ أنّ البلاذري روى: «إنّ عبد الرحمن قال لعليّ: بايع وإلاّ ضربت عنقك»(4) - ولم يكن مع أحدٍ يومئذ سيف غيره - فيقال: أنّ عليّاً خرج مغضباً
____________
(1) أنظر تاريخ الطبري 4/232 - 233، شرح النهج لابن أبي الحديد 2/410.
(2) الفتح /10.
(3) أنظر تاريخ الطبري 4/238.
(4) انساب الاشراف 1ق 4/508.
وهكذا تمت البيعة لعثمان وسمّاها الإمام خدعة وأيّما خدعة، فإن الشورى بدءاً من وصية عمر ومروراً بما قام به عبد الرحمن وانتهاء بتهديد الإمام إن لم يبايع، كلها أدوار لمسألة محبوكة بحنكة لتولية عثمان دون غيره.
وحسبنا ما مرّ من قول عمر نفسه: «والذي نفسي بيده لأردنّها إلى الّذي دفعها إليّ أول مرّة»(2)، ومن هو ذاك إلاّ عثمان. هذا وغيره ما يؤكد استبعاد بني هاشم عمداً، فلا غرابة إذن فيما إذا روى البياضي في كتابه الصراط المستقيم كلاماً لابن عباس في ذلك اليوم فقال: «وأسند الحاجب إلى ابن عباس أنه قال يوم الشورى: كم تمنعون حقنا؟ وربّ البيت إن عليّاً هو الإمام والخليفة، وليملكنّ من ولده أئمّة أحد عشر يقضون بالحقّ: أولهم الحسن بوصية أبيه إليه، ثم الحسين بوصية أخيه إليه، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه، ثم ابنه محمّد بوصية أبيه إليه، ثم ابنه جعفر بوصية أبيه إليه، ثم ابنه موسى بوصية أبيه إليه، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه، ثم ابنه محمّد بوصية أبيه إليه، ثم ابنه عليّ بوصية أبيه إليه، ثم ابنه الحسن بوصية أبيه إليه، فإذا مضى فالمنتظر صاحب الغيبة، قال عليم - الراوي - لابن عباس من أين لك هذا؟ قال: إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) علم عليّاً ألف باب فتح له من كلّ باب ألف باب، وإنّ هذا من ثَمّ»(3).
وأخيراً فقد قرأنا فيما مرّ حقبة من تاريخ حبر الأمة عبد الله بن عباس في أيام عمر، وهي حقبة مليئة بالمفاجآة والمحاورات، كشفت لنا خبايا وزوايا في
____________
(1) تاريخ الطبري 4/238- 239 ط محققة، وسير اعلام النبلاء 2/579 ط دار الفكر.
(2) أنظر الرياض النضرة 2/74.
(3) الصراط المستقيم 2/151.
كما كان ابن عباس في نظر عمر وقد قال لمن تسخّط تقريبه من المهاجرين: «ذاكم فتى الكهول، له لسان سؤول، وقلب عقول»(2).
كما تبقى الشورى سلعة بائرة في سوق الاستخلاف، ومجرد اسم تلعب به الشفاه أفرغ منه مضمونه كما يقول عبد الفتاح عبد المقصود(3).
ولم يكتب لهذه الطريقة حظ في الحياة، فإنّ أحداً من الخلفاء لم يلجأ إليها بعد عمر كما يقول الدكتور منير العجلاني(4).
وما من شك في أن النظام الّذي وضعه للشورى قد كان نظاماً لا يخلو من نقص، ولعله لا يخلو من نقص شديد كما يقول الدكتور طه حسين(5).
فممّا لا ريب فيه إنّ عدم النص على الخليفة أو تعيين الانتخاب في عدد مخصوص أوجد حزبية وبيلة وهيأ لها أن تعمل أسوأ أعمالها ولم تقف عند
____________
(1) تاريخ الخلفاء للسيوطي /82 ط المنيرية سنة 1351هـ.
(2) الإصابة 2/325 ط مصطفى محمّد.
(3) السقيفة والخلافة /264.
(4) عبقرية الإسلام ونظام الحكم /150 ط دار الكتاب الجديد بيروت.
(5) الفتنة الكبرى 1/60 ط دار المعارف بمصر.
وقال معاوية: وانّه لم يشتت بين المسلمين ولا فرّق أهواءهم ولا خالف بينهم إلاّ الشورى الّتي جعلها عمر إلى ستة نفر، وذلك إنّ الله بعث محمّداً بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون فعمل بما أمره الله به، ثم قبضه الله إليه. وقدّم أبا بكر للصلاة فرضوه لأمر دنياهم إذ رضيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأمر دينهم، فعمل بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وسار بسيره حتى قبضه الله إليه. واستخلف عمر فعمل بمثل سيرته، ثم جعلها شورى بين ستة نفر، فلم يكن رجل منهم إلاّ رجاها لنفسه ورجاها له قومه، وتطلعت إلى ذلك نفسه، ولو أن عمر استخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف(2).
ولو اختير عليّ أو الزبير بن العوام لتغير وجه التاريخ ولكنهم اختاروا ألينهم ناظرين في اختياره إلى أن العرب كانوا قد سئموا حكم عمر في شدته وهراوته. هكذا يقول أحمد أمين(3).
إلى غير ذلك من آراء حول الشورى ورجالها، من بدايتها إلى مآلها، وقد يكون بعضها أصوب من بعض، إلاّ أن من الباحثين المحدثين يرون في فعلة عبد الرحمن بن عوف خدعة لإقصاء الإمام عن الخلافة.
فقد ذهب الدكتور جمال سرور إلى أن طلب عبد الرحمن من الإمام عليّ أن يتعهد بأن يسير بسيرة الخليفتين - أبي بكر وعمر - وهو يعلم أن عليّاً لا
____________
(1) سمو المعنى في سمو الذات /32 ط عيسى البابي الحلبي بمصر سنة 1358هـ.
(2) أنظر العقد الفريد 4/281 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1363هـ.
(3) كتابه يوم الإسلام /57.
وذهب الدكتور أحمد صبحي إلى أنّ عبد الرحمن قد بنى اختياره على قاعدة غير معروفة في الشرع، إذ قرن سيرة الشيخين - أبي بكر وعمر - بكتاب الله وسنّة رسوله، شرطاً على كلّ من عليّ وعثمان، ولم يقل أحد من قبلُ ولا من بعدُ، أنّ سيرة الشيخين تقترن بكتاب الله وسنّة رسوله في المسائل السياسية، وحين أراد الإمام عليّ أن ينبهه إلى ذلك - كتاب الله وسنّة رسوله فقط، وإن اجتهد كما اجتهدا - نحّاه عبد الرحمن ليختار عثمان، حتى إذا اعترض الإمام عليّ قال عبد الرحمن: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ}(2) فأضاف خطأ آخر باستشهاده بالآية الشريفة في غير موضعها، فضلاً عن أنّها لا تقال لمثل الإمام عليّ(3).
وأخيراً قال الدكتور محمّد بيومي مهران: «وهكذا كان انتخاب عثمان مصطبغاً بصبغة التحيّز للأمويين، وقد وجدت هذه النتيجة من أول الأمر - معارضة من الهاشميين فضلاً عن أهل الورع والسبق في الإسلام مثل سلمان وعمّار وأبي ذر والمقداد وغيرهم من رواد شيعة الإمام»(4).
____________
(1) بتوسط الإمامة وأهل البيت 1/368.
(2) الفتح /10.
(3) بتوسط الإمامة وأهل البيت 1/368.
(4) نفس المصدر.
الفصل الرابع:
حبر الأمة في عهد عثمان
حبر الأمة في أيام عثمان:
لمّا كانت أيام عثمان تعدّ نقطة تحوّل في تاريخ المسلمين الذين عاشوا أيام عمر ولم ينسوا درّته الّتي يخفق بها الرؤوس، ولا شدّته وصرامته الّتي حكمت الرأس والمرؤوس. فهم بعد على ذكر ذلك النمط الّذي ألفوه، ولا أقل من أنهم تهضّموه فتألـّفوه.
ولكنهم أضحوا في أيام عثمان على خلاف ذلك النمط، لاختلاف المزاجَين بين الرجلين الحاكمَين وتفاوت السيرتين في الحكومتين، كما سيتضح ذلك فيما يأتي من الفوارق بين النموذجَين.
إذن لابدّ لنا ونحن نتطلع إلى معرفة حياة حبر الأمة عبد الله بن عباس في أيام عثمان، ودوره الفاعل فيما له دورٌ فيه، من معالجته تلك الأزمات الّتي حاقت بالمسلمين، من مسيرة متأنية مع تاريخ تلك الأحداث عند عرضها دون تشنّج أو تبرير. ودون برم أو سأم لو طال المشوار، كما لابدّ لنا أيضاً من قراءة فاحصة للنصوص التاريخية الّتي تلقي أضواءً كاشفة على مواقف المسلمين - ومنهم ابن عباس - أزاء عثمان وممارساته أيام حكومته حين حاقت به فأردته في النهاية قتيلاً. وأورثت المسلمين حروباً طاحنة لم تخمد جذوتها أحياناً لا حيناً من الدهر، وأصبح المثل لكل بلاء مستطيل وشرّ مستطير فيقولوا: (قميص عثمان).
قال الطبري: «وأمّا الواقدي فأنه ذكر في سبب مسير المصريين إلى عثمان ونزولهم ذا خشب أموراً كثيرة، منها ما تقدم ذِكريه، ومنها ما أعرضتُ عن ذكره كراهة مني لبشاعته»(1).
وقال: «فقد ذكرنا كثيراً من الأسباب الّتي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعلل دعت إلى الإعراض عنها»(2).
وقال: «انّ محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما وُلّي فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهتُ ذكرها لما فيه ممّا لا يحتمل سماعها العامة»(3).
فإذا كان مثل الطبري وهو شيخ المؤرخين يكتم الكثير فما ظنك بمن أتى بعده وأخذ ما عنده. إنها بليّة التاريخ ومع صرامة الحقّ، فصار التزوير وكثر التحوير، وتناغم علماء التبرير، فغاب الكثير من النصوص، ومع ذلك فلا نيأس من معرفة تاريخ حبر الأمة عبد الله بن عباس في أيام عثمان وهي أيام طالت سنيّ 24هـ - 35هـ.
ولكن قبل هذا وذاك يجب علينا أن لا نغفل الإشارة إلى وشائج الأرحام الّتي تجمع بين الرجلين - ابن عباس وعثمان - فإنّ معرفة تلك الوشائج قد تفسّر لنا بعض المواقف من الطرفين أزاء كلّ منهما الآخر.
____________
(1) تاريخ الطبري 4/356.
(2) نفس المصدر 4/365.
(3) نفس المصدر 4/557.
معرفة الوشائج:
لقد كان كلاً من ابن عباس وعثمان تجمعهما وسائر أقربائهما القرشية أوّلاً، ثمّ المنافية ثانياً، فالقرشية هي النسبة إلى النضر بن كنانة وهو جدهم الأعلى، أمّا المنافية فهي النسبة إلى جدهم الأدنى وهو عبد مناف فهو الجد الرابع لعبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بينما هو الجد الخامس لعثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. فابن عباس هو الأقرب إلى المنافية من عثمان نسباً، لكنه الأبعد عنها عملاً كما سنرى، وما من شك أن النوازع القبلية الّتي كانت تتحكم في المجتمع العربي قبل الإسلام بقرب الأنساب وبُعدها، لم يقض عليها الإسلام تماماً. فبالرغم من ذمّه العصبية الجاهلية، إلاّ أنّه لم يمنع من حبّ المرء قومه ما لم يصادم حبّه العقيدة، فقد قال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن سأله: أمن العصبية أن يحبّ الرجل قومه؟ قال: (لا، ولكن من العصبية أن يعين الرجل قومه على الظلم)(1)، كما أنّه ما من شك أن التنافس بين المتفاضلين مدعاة لإثارة كوامن الشحناء وتوريث العداوة بين الأخوين فضلاً عن الحيَين.
وهذا ما كان بين أبناء عبد مناف - منذ منافرة عبد المطلب وحرب - ثمّ تراكمت دواعي الأنفصام والخصام، فكلما ازداد شرف الهاشميين ازداد حسد العبشميين - أبناء عبد شمس - لهم، حتى إذا جاء الإسلام كانوا الكثير منهم من ألدّ أعداء الإسلام عداوة منهم لنبيّه محمّد بن عبد الله الهاشمي المحتد. ولم يذعنوا إلاّ بعد أن رأوا لا مناص لهم من إظهار كلمة الإسلام ليحقنوا بها دماءَهم.
وقد منّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليهم كما منّ على بقية مسلمة الفتح وسمّاهم الطلقاء وجعل لهم سهماً من المؤلفة قلوبهم، وزاد في تفضّله عليهم أن صاهر إليهم
____________
(1) مصنف أبي شيبة 15/101 ط باكستان.
وكان عثمان بن عفان تشدّه إلى بني هاشم قربى هي أدنى من المنافية وأقوى عرىً وهي خؤولة كريمة لاُمه أروى بنت كريز فقد كانت أمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي توأمة عبد الله والد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)(2) وزاد أيضاً في توثيق عرى وشائجه مصاهرته للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حيث تزوج بأبنتيه رقية وأم كلثوم (عليهما السلام) فصار له شأن يذكر في قريش وبين قومه بعد أن لم يكن لأبيه عفـّان من قبل ما يرفع بضبعه حتى بين قومه الأمويين إذ كانت رئاستهم إلى أبي سفيان بن حرب. وقد روى المدائني: أن عفان لم يكن له نباهة في قريش حتى قال الشاعر:
عفان أوّل حائك لثيابكم | قدماً وقد يدعى أخا الأشرار(3) |
فكلّ هذه الوشائج سنجدها غير مؤثرة في سلوك عثمان أيام حكومته مع الهاشميين، ولم تمنعه من التنكر لهم والتنمّر عليهم حين يكون التنافس والتعالي. لكنه كان يلوذ بهم ويستفزّهم بالمنافية فعل قومه حين لا يجدون مناصاً لجلب مصلحة أو دفع مفسدة، فهم وبني هاشم على حدّ قول القائل:
فإذا تكون كريهة ادعى لها | وإذا يحاس الحيس يدعى جندب |
____________
(1) في كتاب له إلى معاوية وهو من محاسن الكتب راجع شرح النهج لابن أبي الحديد 3/445 ـ فما بعد.
(2) أنساب الأشراف للبلاذري 1ق4/481 تح ـ أحسان عباس، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم 1/15 ط دار المعارف بمصر، ومعرفة الصحابة لأبي نعيم 1/235.
(3) أنساب الأشراف 1ق4/480 وجاء في ص 518 منه نقلاً عن المدائني قال: قال المطرف ـ وهو عبد الله بن عمرو بن عثمان - أنا أبو العاص فقال له محمّد بن المنذر بن الزبير: دون ذلك ما يدقّ عنقك، يعني عفـّان كان موضَّعاً.