الصفحة 141
ولا تعزّ الشواهد على ذلك، بخلاف الهاشميين الذين لم يستغلـّوا المنافية لمصلحتهم يوماً لا في جاهلية ولا في إسلام ففي الجاهلية مثلاً ذكروا أنّ حمزة بن عبد المطلب مرّ بنفر من بني مخزوم فلاحاه رجل منهم فذكر المخزومي نساء من نساء بني عبد مناف فضربه الحمزة فقتله، وأتى أبا سفيان فأخبره، وحيث انّ الرواة لم يذكروا عن النساء شيئاً، إلاّ أنّ ذكر البلاذري(1) لهذا الخبر في أخبار هند بن عتبة زوجة أبي سفيان وإتيان الحمزة أبا سفيان بالخبر، ينمّ على أنّ الأمر يتعلـّق بها وأضرابها.

فهذا الفعل من الحمزة كان بدافع الغَيرة على المنافية وليس استغلالها.

وفي الإسلام ذكر المؤرخون عن موقف العباس مع عمر حين أتى بأبي سفيان مستأمناً له النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعمر يريد قتله فقال له العباس: «مهلاً يا عمر فوالله ما تصنع هذا إلاّ لأنّه رجل من بني عبد مناف ولو كان من بني عدي بن كعب ما قلت هذا...»(2).

فهذا الموقف مثل سابقه كان بدافع الغيرة على المنافية.

أمّا استغلال المنافية من قبل الأمويين لمصالحهم خصوصاً في الإسلام فأكثر الشواهد على ذلك وحسبنا الآن منها ما يأتي:

1- روى المؤرخون ومنهم الطبري واللفظ بسنده عن عوانة قال: «لمّا أجتمع الناس على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان وهو يقول: والله إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ دم. يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم؟ أين

____________

(1) أنساب الأشراف 1ق4/7 تح ـ احسان عباس بيروت.

(2) تاريخ الطبري 3/53 ط دار المعارف بمصر.


الصفحة 142
المستضعفان؟ أين الأذلان؟ عليّ والعباس... فزجره عليّ وقال والله ما أردت بهذا إلاّ الفتنة، وإنك طالما بغيت الإسلام شراً. لا حاجة لنا في نصيحتك»(1).

وفي حديث ثابت قال أبو سفيان: «ما لنا ولأبي فصيل انما هي بنو عبد مناف، فقيل له انّه قد ولى إبنك قال: وصلته رحم»(2).

2- روى الطبري وابن الأثير وغيرهما واللفظ للأوّل ان خالد بن سعيد - ابن العاصي - لمّا قدم من اليمن بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تربّص ببيعته شهرين... وقد لقي عليّ بن أبي طالب وعثمان بن عفان فقال: «يا بني عبد مناف لقد طبتم نفساً عن أمركم يليه غيركم».

قال الراوي: «فأما أبو بكر فلم يحفلها - يحقدها - عليه، وأمّا عمر فاضطغنها عليه...»(3).

3- روى الطبري بسنده انّه لما حصر عثمان كان عليّ بخيبر فلمّا قدم أرسل إليه عثمان يدعوه فانطلق إليه فكلّمه وذكر له ما له من حقوق عليه أن يرعاها منها حقّ الإسلام وحقّ الإخاء وحقّ القرابة وحقّ الصهر ثمّ قال له: «فلو لم يكن من هذا شيء ثمّ كنّا إنما نحن في جاهلية لكان مبطئاً على بني عبد مناف أن يبتزّهم أخو بني تيم ملكهم - ويعني به طلحة -»(4).

4- روى الطبري في تاريخه والثقفي في تاريخه أن عائشة جاءت إلى عثمان فقالت: أعطني ما كان يعطيني أبي وعمر قال: لا أجد له موضعاً في كتاب الله ولا في السنة، ولكن كان أبوك وعمر يعطيانك عن طيبة أنفسهما وأنا لا أفعل.

____________

(1) نفس المصدر 3/209.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر 3/387.

(4) نفس المصدر 4/430.


الصفحة 143
قالت: فأعطني ميراثي من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم). قال: أو لم تجيء فاطمة تطلب ميراثها من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فشهدتِ أنتِ ومالك بن أوس النضري أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا يورث، وأبطلت حقّ فاطمة وجئتِ تطلبينه. لا أفعل.

وزاد الطبري: وكان عثمان متكئاً فأستوى جالساً وقال: ستعلم فاطمة أيّ ابن عم لها مني اليوم.

ألستِ وأعرابي يتوضأ ببوله شهدتِ عند أبيك.

قالا جميعاً - الطبري والثقفي - في تاريخيهما: فكان إذا خرج عثمان إلى الصلاة أخرجت قميص رسول الله وتنادي أنّه قد خالف صاحب هذا القميص.

وزاد الطبري يقول: هذا قميص رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يبلَ وقد غيّر عثمان سنتّه، اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا(1).

5- وروى الطبري حديث سعيد بن العاص مع طلحة والزبير بذات عرق وقد لقيهما مع جماعة الأمويين وغيرهم ممن لم يبايعوا الإمام فقال لهما: «إن

____________

(1) بحار الأنوار 8/320 ط الكمپاني الحجري. وجاء في الإيضاح للفضل بن شاذان /258-262 تفاوت في هذا الخبر فقد روى شريك عن عبد الله إن عائشة وحفصة أتتا عثمان حين نقص اُمهات المؤمنين ما كان يعطيهن عمر، فسألتاه أن يعطيهما ما فرض عمر فقال: لا والله ما ذاك لكما عندي. فقالتا له: فآتنا ميراثنا من رسول الله من حبطانه وكان عثمان متكئاً فجلس، وكان عليّ بن أبي طالب عليه السلام جالساً عنده - فقال: ستعلم فاطمة أي ابن عم لها اليوم، ألستما اللتين شهدتما عند أبي بكر ولفقتما ومعكما أعرابي يتطهر ببوله مالك بن الحويرث بن الحدثان فشهدتم أن النبيّ قال: إنا معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة، فإن كنتما شهدتما بحقّ، فقد أجزت شهادتكما على أنفسكما، وإن كنتما شهدتما بباطل، فعلى من شهد بالباطل لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

فقالا له: يا نعثل والله لقد شبّهك رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بنعثل اليهودي.

فقال لهما: {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} فخرجتا من عنده.


الصفحة 144
ظفرتما لمن تجعلان الأمر؟ أصدقاني، قالا: لأحدنا أيّنا اختاره الناس. قال: بل أجعلوه لولد عثمان فإنّكم خرجتم تطلبون بدمه، قالا: ندع شيوخ المهاجرين ونجعلها لأبنائهم قال: فلا أراني أسعى لأخرجها من بني عبد مناف فرجع.

ورجع عبد الله بن خالد بن أسيد. فقال المغيرة بن شعبة: الرأي ما رأى سعيد مَن كان هاهنا من ثقيف فليرجع ورجع»(1).

هذه نماذج من استغلال نغمة المنافية عند الأمويين لمصالحهم الذاتية. فهي عندهم الورقة الرابحة يظهرونها عند الحاجة في تهديد خصومهم تحقيقاً لمآربهم المشبوهة. فهم يستنجدون بالهاشميين ويستفزونهم لنصرتهم كما رأينا في حديث أبي سفيان وحديث خالد بن سعيد (الشاهد 1 و 2).

وليس في حديث سعيد بن العاص (الشاهد 5) دلالة على رعاية المنافية للمنافية، بل إنّما هو لمصلحة بقاء الأمر في بني عبد مناف عسى أن ينعم بها سعيد وقومه كما كانوا أيام عثمان يخضمون مال الله.

ولكن هلمّ إلى النظر في حديثي عثمان (الشاهد 3 و 4) ففي الأوّل يستنجد بالإمام ويطلب منه نصرته لحقوق ذكرها ثمّ حاول أستفزازه بنخوة الجاهلية بان العيب على بني عبد مناف أن يبتزّهم ملكهم أخو بني تيم. ويعني به طلحة لأنه كان قد أستولى على بيوت المال ومعه الثوار...

فهل يحق لسائل أن يسأل أين كان عثمان من الحمية المنافية يوم تولّى أبو بكر الأمر وهو أيضاً أخو بني تيم، وهو أيضاً قد أبتزّ ملكهم كما قال أبو سفيان، فهلاّ كان مع عليّ يومئذ فيمن كان معه؟ فذلك أولى بالعيب عليه وعلى

____________

(1) تاريخ الطبري 4/453 ط دار المعارف بمصر.


الصفحة 145
بني عبد مناف وفي الشاهد الثاني أيضاً استوى جالساً وقال: ستعلم فاطمة أيّ ابن عم لها مني اليوم.

ولسائل يسأل أيّ نخوة ابن عم هذه بعد فوات الأوان هلاّ كانت يوم جاءت فاطمة تطلب أبا بكر بفدك وغيرها من النحلة فأبى عليها فطالبته بالميراث فزعم لها ما ذكره عثمان لعائشة؟ فهلاّ نصر فاطمة يومئذ؟


لا ألفينّك بعد الموت تندبنيوفي حياتي ما زودتني زادي

ثمّ هلاّ استفزته الحميّة المنافية حين تولى الحكم فأرجع فدكاً إلى ولد فاطمة بدلا من أن يعطيها لمروان صهره وابن عمه؟ إنّها المنافية الأموية المزوّرة تطفو عند الحاجة وتغيب عند المغانم حسب المنظور النفعي عند أصحابها.

أمّا منظور بني هاشم يأبى عليهم التعامل بكل تزوير. فلهم من عقيدتهم الإسلامية رصيد يأبى عليهم التعامل بالنخوة الجاهلية فإسلامهم - شرعة ومنهاجاً - يمنعهم من العصبية الجاهلية، وهم أشدّ تمسكاً بتعاليمه وقيمه.

كما أنّ طباعهم تأبى عليهم دنايا التحالفات المشبوهة خصوصاً مع الأحلاف ومنهم بنو أمية لأنّ بني هاشم من المطيّبين، وقد مرّ بنا تفضيل ابن عباس إمارة المطيبي وهو أبو بكر لأنّه من تيم، وتيم من جملة القبائل المطيّبين - على إمارة الأحلافي - وهو عمر لأنّه من بني عدي بن كعب، وهؤلاء كانوا من جملة قبائل الأحلاف.

والآن وبعد هذه المقدمة تبيّن لنا من معرفة الوشائج بين بني هاشم - ومنهم ابن عباس - وبين بني أمية - ومنهم عثمان - أن لا سبيل إلى توقع التأثير الحسن على العلاقات في مستقبل الأيام بين ابن عباس وبين عثمان.


الصفحة 146
بل المتوقع هو العكس من ذلك، لأنّ أسباب التفاضل الموروثة كافية، مضافاً إلى أثر التنافس الحادّ الّذي أوقدت جذوته خدعة الشورى - كما يراها ابن عباس وسماها الإمام - كفيلة بإلغاء الدور الفاعل والمؤثر لتلك الوشائج، فضلاً عمّا ستأتي به الأيام من مفاجئات.

فلنقرأ الآن النصوص التاريخية الّتي قلنا لا بدّ لنا من قراءتها لمعرفة دور ابن عباس في أيام عثمان، وها نحن ننقلها كما رواها المؤرخون فهي على عهدتهم - عن رواتهم - وهي على ذمتهم، فيما كان فيها من إدانة أو تبرير، وليس لأحد علينا فيها من سبيل مهما طالت رموز الصحابة، فمنهم النقد وعليهم الإجابة. فمن البداية:

فيا لله وللشورى:

هكذا قال الإمام أبو الحسن (عليه السلام)، وهو يتميز غيظاً، ويتفجر غضباً في خطبته الشقشقية الّتي قالها في الكوفة بعد سبعة عشر عاماً من حبكة الشورى، ولم لا يتميّز غيظاً ويتفجر غضباً؟ وهو الّذي يرى انّه صاحب الحقّ، وحقّ له أن يرى ذلك، فقد أقامه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته مقامه في أكثر من موطن، بدءاً من المبيت على فراشه ليلة الهجرة ومروراً بتبليغ براءة وحديث المنزلة الّذي قاله في أكثر من موطن: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هرون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي)، وبحكم عموم المنزلة فهو خليفته حقاً، ولا نطيل الوقوف عند هذا الحديث فهو ثابت عند عموم المسلمين وانّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لعليّ ذلك، إنما أفترقوا في مدى صلاحية الدلالة وشمول المنزلة لرتبة الخلافة. ومن نظر إلى حديث الثقلين وحديث الغدير وحديث الكتف والدواة وسواها من أحاديث وجد فيها من

الصفحة 147
الدلالة عليه ما لم يجد بعض ذلك عند غيره. وقد مرت بنا في بيعة أبي بكر الإشارة إلى ثبوت الولاية لصاحب الولاية سلام الله عليه.

والآن هلمّ إلى قوله (عليه السلام) في بيعة الشورى، ولنقرأ ما قاله متميزاً غضباً:

(حتى إذا مضى - يعني عمر - إلى سبيله جعلها في جماعة زعم أنّي أحدهم فيا لله وللشورى، متى اعترض الريب فيَّ مع الأوّل منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، لكنني أسففت إذ أسفـّوا، وطرت إذ طاروا، فصغى رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هن وهن)(1).

ولم تخف عليه أنّ الشورى كانت حبكة مدبّرة فسماها خدعة كما رآها ابن عمه عبد الله بن عباس كذلك.

خدعة الشورى:

لقد مرّ بنا ما رواه البلاذري والطبري وغيرهما من قول الإمام عند بيعة عثمان وبعد تهديد ابن عوف له بالقتل إن لم يبايع، قال: (خدعة وأيّما خدعة).

وهذا القول من الإمام يشاركه فيه بقية بني هاشم وربما آخرون غيرهم. ومن بني هاشم الّذي يعنينا معرفة رأيه في المقام هو عبد الله بن عباس، فقد روى لنا عبد الرزاق في المصنف(2)، والزمخشري حديث مبايعة عبد الرحمن بن عوف لعثمان، قال الزمخشري: «وثبت عليّ وعبد الله بن عباس، فقال له عبد الله ابن

____________

(1) يقول شارحو كلامه (عليه السلام) أراد بالذي صغى لضغنه سعد بن أبي وقاص لأن عليّاً قتل أخواله من بني أمية. وبالذي مال لصهره، عبد الرحمن بن عوف لأنه زوج أم كلثوم بنت أبي معيطة أخت عثمان لأمه.

وأمّا قوله: مع هن وهن: فهو كناية عن أمور لا يريد التصريح بها لأنه يكره ذكرها.

(2) المصنف 5/478.


الصفحة 148
عباس: خُدعتَ يا عليّ؟ فقال: وأيّ خدعة!! فسمعتها فاطمة بنت قيس فقالت: أنّ عبد الرحمن طلب الوثيقة لنفسه فأعطاه عثمان الثقة وأخذ عبد الرحمن لنفسه بالوثقى. فتكلمت بثلاث لغات في لغة واحدة... اهـ»(1).

والذي يعنينا من حديث الزمخشري هو تأكيد الرأي عند أهل البيت بخدعة الشورى، فابن عباس حين يخاطب الإمام بأنك خُدعتَ، لا يريد دخوله الشورى أوّل مرة، فليست ثمة خدعة، إنّما دخل وهو يعلم - كما يعلم ذلك أيضاً ابن عباس - أن شورى عمر حبكة الأمر لعثمان، وقد قال للإمام منذ اللحظة الأولى: ذهب الأمر منّا فالرجل - يعني عمر - يريد أن يكون الأمر في عثمان، وقد مرّ ذلك فراجع.

إذن ليست الخدعة الّتي عناها ابن عباس سوى محاورة عبد الرحمن للإمام ولعثمان في البيعة على كتاب الله وسنة نبيه وسيرة الشيخين فتلك المناورة هي أولى من تسميتها بالمحاورة. هي الخدعة الّتي أرادها ابن عباس بقوله، ولا تخفى لهجة الدفاع الحادّ في كلام المرأة - فاطمة بنت قيس - الّتي كان إجتماع أصحاب الشورى في بيتها(2)، وقد مرّ بنا كلام لابن عباس في يوم الشورى بدأه بمرارة وحرارة: «كم تمنعون حقنا؟ وربّ البيت إنّ عليّاً هو الإمام والخليفة...»، فلعل ذلك كان منه بعد سماعه قول فاطمة بنت قيس.

ومهما يكن فقد كان ابن عباس يعلم أن قريشاً - ومنهم عثمان - لا تحبّ عليّاً ولا بني هاشم لأنّهم كانوا ينظرون إلى عليّ وإليهم نظر الثور إلى جازره

____________

(1) مختصر كتاب الموافقة بين أهل البيت والصحابة للحافظ إسماعيل بن عليّ بن الحسن ابن زنجويه الرازي السمّان المتوفى سنة 445 هـ وأختصره جار الله أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة 538 هـ تحقيق السيد يوسف أحمد، منشورات محمّد عليّ بيضون دار الكتب العلمية بيروت لبنان.

(2) أسد الغابة 5/527 ط أفست الإسلامية، تهذيب الأسماء للنووي ط المنيرية بمصر.


الصفحة 149
كما قال له عمر(1). ولكنه سلّم إلى الأمر الواقع تبعاً للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، وكيف لا يسلّم وهو يسمعه يقول لأهل الشورى: (ولقد علمتم أنّي أحق بها من غيري، والله لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلاّ عليّ خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله وزهداً فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه)(2).

ورحم الله الإمام كاشف الغطاء حيث يقول: «الشورى بجوهرها وحقيقتها مؤامرة واقعية، وشورى صورية وهي مهارة بارعة لفرض عثمان على المسلمين رغماً عليهم، ولكن بتدبير بارع، عاد على الإسلام والمسلمين بشرِ ما له دافع...»، فهو لم يعدو الحقيقة الّتي كشف عنها الإمام (عليه السلام) منذ اللحظة الأولى بقوله لمن معه من الهاشميين: (ذهب الأمر منا، فالرجل - يعني عمر - يريد أن يكون الأمر في عثمان).

بدايات غير متفائلة:

أ- قال الشعبي في كتاب الشورى ومقتل عثمان: «واجتمع أهل الشورى على أن تكون كلمتهم واحدة على من لم يبايع، فقاموا إلى عليّ فقالوا قم فبايع عثمان. قال: فان لم أفعل؟ قالوا: جاهدناك. قال: فمشى إلى عثمان حتى بايعه وهو يقول: صدق الله ورسوله»(3).

ب- قال الشعبي: «فخرج عثمان على الناس ووجهه متهلل، وخرج عليّ وهو كاسف البال مظلم وهو يقول: يا بن عوف ليس هذا بأول يوم تظاهرتم علينا من دفعنا عن حقنا والأستئثار علينا، وإنها لسنّة علينا وطريقة تركتموها»(4).

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/63 ط مصر الأولى.

(2) نفس المصدر 2/60، و 1/120 شرح محمّد عبده ط الأستقامة.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/410 ـ 411 ط مصر الأولى.

(4) نفس المصدر.


الصفحة 150
ج- قال: «فلمّا بايع أتاه عبد الرحمن بن عوف فأعتذر إليه وقال: إنّ عثمان أعطانا يده ويمينه ولم تفعل أنت، فأحببت أن أتوثق للمسلمين فجعلتها له. فقال: إيهاً عنك إنما آثرته بها لتنالها بعده. دقّ الله بينكما عطر منشم»(1).

جاء في جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري: «دقوا بينهم عطر منشم...»(2)، قال الأصمعي: «هي أمرأة كانت تبيع العطر وكانوا إذا قصدوا الحرب غمسوا أيديهم في طيبها وتحالفوا عليه». وقال ابن السكيت: «العرب تكنى عن الحرب بثلاثة أشياء: عطر منشم، وثوب محارب وبُرد فاخر»، وقال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل: «استجيبت دعوة عليّ (عليه السلام) في عثمان وعبد الرحمن فما ماتا إلاّ متهاجرَين متعاديَين».

د- فقال المغيرة بن شعبة لعثمان: «أما والله لو بويع غيرك لما بايعناه. فقال عبد الرحمن بن عوف: كذبت والله لو بويع غيره لبايعته، وما أنت وذاك يا بن الدّباغة، والله لو وليها غيره لقلت له مثل ما قلت الآن تقرّباً إليه وطمعاً في الدنيا فاذهب إليك.

فقال المغيرة: لولا مكان أمير المؤمنين لأسمعتك ما تكره. ومضيا»(3).

هـ - قال الشعبي: «فلمّا دخل عثمان رحله دخل إليه بنو أمية حتى أمتلأت بهم الدار ثمّ أغلقوها عليهم فقال أبو سفيان بن حرب: أعندكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا. قال: يا بني أمية تلقفوها تلقـّف الكرة، فوالّذي يحلف به أبو سفيان ما من عذاب ولا حساب، ولا جنة ولا نار ولا بعث ولا قيامة.

____________

(1) نفس المصدر.

(2) جمهرة الأمثال 1/445 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم وعبد المجيد قطامش ط الاُولى بمصر سنة 1384هـ.

(3) نفس المصدر.


الصفحة 151
قال: فأنتهره عثمان وساءه بما قال وأمر بإخراجه»(1).

و- قال الشعبي: «فدخل عبد الرحمن بن عوف على عثمان فقال له ما صنعت؟! فوالله ما وفـّقت حيث تدخل رحلك قبل أن تصعد المنبر، فتحمد الله وتثني عليه وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتعد الناس خيراً»(2).

ز- قال: «فخرج عثمان فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: هذا مقام لم نكن نقومه ولم نعدّ له من الكلام الّذي يقال به في مثله، وسأهيء ذلك إن شاء الله، ولن آلو أمة محمّد خيراً والله المستعان، ثمّ نزل»(3).

وفي حديث عند البلاذري في الأنساب رواه عن الواقدي قال: «انّ عثمان لمّا بويع خرج إلى الناس فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيها الناس: ان أوّل مركب صعب، وإن بعد اليوم أياماً، وإن أعش تأتكم الخطبة على وجهها فما كنا خطباء وسيعلمنا الله»(4).

وفي حديث آخر له عن أبي مخنف قال: «ان عثمان لما صعد المنبر قال: أيّها الناس هذا مقام لم أزوّر له خطبة، ولا أعددت له كلاماً وسنعود فنقول إن شاء الله»(5).

وفي ثالث برواية المدائني أنّه قال: «أيها الناس، إنا لم نكن خطباء وإن نعش تأتكم الخطبة على وجهها إن شاء الله»(6)، ثمّ قال البلاذري: «وروي

____________

(1) نفس المصدر 410/411.

(2) نفس المصدر.

(3) نفس المصدر.

(4) أنساب الأشراف 1ق4/510.

(5) نفس المصدر.

(6) نفس المصدر.


الصفحة 152
أنّ عثمان خطب فقال انّ أبا بكر وعمر كانا يعدان لهذا المقام مقالاً وسيأتي الله به»(1).

فكل هذه الروايات دلت على أن المسلمين قد خابت آمالهم في بيان خليفتهم الجديد، فهو حين أشرأبت إليه الأعناق تتطلع إلى بيانه الخليفي الّذي سيعد فيه المسلمين خيراً، لكنه أحصر وأرتج عليه ولم يزد على ما قاله من بضع كلمات.

ومهما تفنّن رواة التفخيم بعد ذلك في تزويق المقال فزادوا وبدلوا، ولكن ذلك لم يغيّر من الواقع شيئاً فقد أرتج عليه باتفاق، والناس بما فيهم بنو هاشم تضاءل تفاؤلهم بالحسنى الّتي كانوا يأملون سماعها في الخطاب الخليفي. فهم حديثو عهد بصرامة عمر وشدته عليهم وحتى على ذويه، وهم بانتظار الجديد من خليفتهم ما يفي بتطلعاتهم المستقبلية في ظل الحكومة الجديدة. ولكن ذلك الّذي لم يحصل، فعليهم إذن الانتظار لما تتمخض عنه الأيام. ونحن كذلك علينا قراءة ما حمله الرواة من أحداث المستجدات.

ح- فقد صعد عثمان المنبر وجلس في الموضع الّذي كان يجلس فيه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجلس أبو بكر ولا عمر فيه. جلس أبو بكر دونه بمرقاة، وجلس عمر دون أبي بكر بمرقاة، فتكلم الناس في ذلك فقال بعضهم: «اليوم ولد الشرّ»(2)، ولمّا خطب الخطبة الّتي قال فيها: «انّكم في دار قلعة وفي بقية أعمار...» إلى آخر خطبته، لم تسفر عن نتائج متوقعة ولربما ولّدت اليأس في نفوس مستمعيه لأنها جاءت خلاف ما يأملون.

____________

(1) نفس المصدر /511.

(2) تاريخ اليعقوبي 2/140 مط الغري.


الصفحة 153
ط- خرج عثمان من الليلة الّتي بويع له في يومها لصلاة العشاء الآخرة وبين يديه شمعة فلقيه المقداد بن عمرو فقال: «ما هذه البدعة»(1).

ي- قال الدكتور حسن إبراهيم حسن: «وهذه الخطبة لا تبين لنا السياسة الّتي عوّل عثمان على انتهاجها في إدارة شؤون دولته، وإنما هي عبارة عن نصائح تتعلق بالدين لا بالسياسة وكأن عثمان لا يريد أن يلزم نفسه بسياسة خاصة يطمئن إليها المسلمون وغيرهم من أهالي الدولة الإسلامية في عهده»(2).

عثمان أحبّ إلى قريش من عمر:

من هم أولئك؟ ولماذا؟

روى البلاذري في الأنساب، وابن سعد في الطبقات عن الزهري قال: «وإنّه لأحبّ إلى قريش من عمر، لشدة عمر ولين عثمان لهم، ورفقه بهم، ثمّ توانى في أمرهم، واستعمل أقاربه وأهل بيته في الست الأواخر وأهملهم...»(3).

هذا قول الزهري وهو ممن لا يتهم في حديثه عند العثمانيين وعليهم، لأنّه كان من الضالعين معهم، وتولى لهم بعض المناصب، فروايته مقبولة فيهم وعليهم.

ومقولته على إيجازها تستبطن معاني أكثر من كلماتها، فقد بيّنت علة حبّ القرشيين لعثمان أكثر من حبهم لعمر، لشدة عمر ولين عثمان، وإن هي أشارت على استحياء إلى النفعية الّتي كانت تلازم اللين باسم الرفق بهم. بيد أنّها

____________

(1) نفس المصدر 2/140.

(2) تاريخ الإسلام 1/276 ط الثالثة سنة 1935.

(3) أنساب الأشراف 1ق4/512 تح ـ احسان عباس، طبقات ابن سعد 3 ق 1/44.


الصفحة 154
أصحرت بتواني عثمان في أمرهم حين أستعمل أقاربه وأهل بيته، ثمّ كشفت دخائل الرجال بتحديد السنين والحساب فقالت في الست الأواخر حين أهملهم.

ومن الطبيعي أن تكون نتيجة الأهمال تجنيد القوى النفعية ضده، ما دامت المنفعة مفقودة فالسيرة غير محمودة، وهي مقولة مَن يتصاحبون على غير تقى. وهذا لا ريب فيه. لكن يبقى الأمر المعمّى في مقولة الزهري، فلم يكشف عنه هو تعيين مَن هم أولئك من قريش الذين لان لهم عثمان فأحبّوه، ورفق بهم فأعزّوه، وتوانى في أمرهم وأهملهم فناصبوه. وكانت النتيجة ثاروا عليه فقتلوه؟

هذا هو السؤال الّذي يجب أن لا يبقى بلا جواب، فلنبحث عنه ولا بد من خلال عرض شامل لرموز قريش الذين تعاونوا مع عثمان حتى كسب الفوز بنتيجة الشورى، فلان لهم وأغدق عليهم العطاء، وحباهم بالإقطاع جزيل الحباء، نجدهم لا يمثـّلون جميع البطون القرشية بل نجد بعض البطون مستبعَدة تماماً عن نيل تلك المغانم، وإن أصابهم رذاذ المغارم.

مثل بني هاشم، وهم سادات قريش لم ينل أحد منهم من لين عثمان ورفقه، إلاّ ما هو مقرّر له من عطائه ورزقه، ويلحق بهم بنو المطلب بن عبد مناف وهم إخوة بني هاشم في الجاهلية والإسلام.

وعثمان يعرف تلك الصلة جيّداً وربما كان يحقدها عليهم - على أكثر تقدير - أو يحسدها - على أقل تقدير - فقد روى أبو داود في سننه بسنده عن سعيد بن المسيب قال: «أخبرني جبير بن مطعم قال: لما كان يوم خيبر وضع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) سهم ذي القربى في بني هاشم وبني المطلب، وترك بني نوفل وبني عبد شمس. قال: فانطلقت أنا وعثمان بن عفان إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقلنا:

الصفحة 155
يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم للموضع الّذي وضعك الله به منهم، فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم وتركتنا، وقرابتنا واحدة، فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهلية ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحد) وشبك بين أصابعه»(1).

وفي لفظ آخر: «قال جبير: ولم يقسم لبني عبد شمس ولا لبني نوفل من ذلك الخمس»(2).

وهذا الحديث يرفع شأن بني المطلب فيساويهم ببني هاشم، ويترفع بهم عن غسالة الأيدي - الصدقات - فأشركهم في الخمس، وهذا الرفع مدعاة لتوريث الحسد في نفس المفضول. فإن متسافل الدرجات يحسد من علا.

إذن فهذان بطنان من قريش لم يكن لهما في لين عثمان ورفقه من نصيب، إذ لم أقف على اسم واحد من رجال الحيّين مَن كانت لعثمان عنده يد تذكر، أو له عليه دالة تشكر. اللّهمّ إلاّ ما قد يتخيل ذلك مع العباس بن ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب، وسيأتي بيان ذلك في موقف عثمان مع بني هاشم فانتظر. فقريش الذين أرادهم الزهري ليس فيهم من بني هاشم ولا من بني المطلب أحد. فكان عليه أن يقول بعض قريش.

والآن فمن هم أولئك؟ والجواب نقرأ عنه في قائمة أسماء المحظيين بعطايا عثمان وهباته، ومن خلال إنتمائهم القبلي. وهم كما يلي:

من بني تيم - رهط أبي بكر - طلحة وعائشة بنت أبي بكر.

____________

(1) سنن أبي داود 3/149 تح ـ محمد محي الدين عبد الحميد ط دار الفكر.

(2) سنن أبي داود 3/106 - 107، المحلى لابن حزم 7/327 - 328، الدر المنثور للسيوطي 3/186.