الصفحة 239
الباطل، وأن يكون الناس في الحقّ شرعاً سواء. وكانت عند عمرو أخت عثمان لأمه، أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، ففارقها حين عزله»(1).

ذكر اليعقوبي في تاريخه في أحداث عثمان: «وقدم عليه أهل البلدان فتكلموا. وبلغ عثمان إنّ أهل مصر قدموا عليهم بالسلاح، فوجّه إليهم عمرو بن العاص وكلـّمهم، فقال لهم: انّه يرجع إلى ماتحبون، ثمّ كتب لهم بذلك وانصرفوا فقال لعمرو بن العاص: أخرج فأعذرني عند الناس، فخرج عمرو وصعد المنبر ونادى الصلاة جامعة فلمّا اجتمع الناس حمد الله وأثنى عليه ثمّ ذكر محمداً بما هو أهله وقال: بعثه الله رأفةً ورحمة فبلـّغ الرسالة ونصح الأمة وجاهد في سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى فجزاه الله خير ما جزى نبيّاً عن أمته.

ثمّ قال: وولي من بعده رجل عدَلَ في الرعية وحكم بالحقّ، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى فجزاه الله خيراً قال: ثمّ ولي الأعسر الأحول ابن حنتمة فأبدت له الأرض أفلاذ كبدها، وأظهرت له مكنون كنوزها فخرج من الدنيا وما أنبل عصاه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا بلى فجزاه الله خيراً.

قال: ثمّ ولي عثمان فقلتم وقال، تلومونه ويعذر نفسه، أفليس ذلك كذلك؟ قالوا: بلى.

قال: فاصبروا لله فان الصغير يكبر، والهزيل يسمن، ولعل تأخير أمر خير من تقديمه. ثمّ نزل.

____________

(1) تاريخ الطبري 4/356 - 357 ط دار المعارف بمصر سنة 1970م.


الصفحة 240
فدخل أهل عثمان عليه، فقالوا له هل عابك أحد بمثل ما عابك به عمرو. فلمّا دخل عليه عمرو قال: يا بن النابغة والله ما زدتَ أن حرّضت الناس عليّ، قال: والله لقد قلت فيك أحسن ما علمت، ولقد ركبت من الناس وركبوها منك فأعتزل ان لم تعتدل، فقال: يا بن النابغة، قمل درعُك مذ عزلتك عن مصر»(1).

وفي تاريخ الطبري: «انّ عمرو بن العاص قال ذلك حين استشاره عثمان فيمن استشار من ولاته وقد جمعهم عنده فقال له ما رأيك؟ قال: أرى أنّك قد ركبت الناس بما يكرهون، فأعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتدل، فإن أبيت فاعتزم أن تعتزل فإن أبيت فاعتزم عزماً وأمضِ قدماً. فقال عثمان: مالك قمل فرُوك؟ أهذا الجدّ منك؟ فأسكت عنه دهراً. حتى إذا تفرّق القوم قال عمرو: لا والله يا أمير المؤمنين، لأنت أعزّ عليّ من ذلك ولكن قد علمت أن سيبلغ الناس قول كلّ رجل منا، فأردت أن يبلغهم قولي فيثقوا بي، فأقود إليك خيراً، أو ادفع عنك شراً... اهـ»(2).

ولقد كذب فإنه كان مراوغاً في أمر عثمان وحسبنا ما كان يُعيّر به في ذلك.

فقد قال له الإمام الحسن السبط (عليه السلام) في حديث طويل جاء فيه: «وأمّا ما ذكرت من أمر عثمان فأنتَ سعّرت عليه الدنيا ناراً ثمّ لحقت بفلسطين، فلمّا أتاك قتله قلتَ: أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثمّ... وبالله ما نصرتَ عثمان حياً، ولا غضبتَ له مقتولا»(3).

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2/151 ط الغري، وشرح النهج 2/103، وجمهرة خطب العرب 3/21.

(2) تاريخ الطبري 4/334 ط دار المعارف.

(3) رواه الزبير بن بكار في الموفقيات /496 - 497 ط الأوقاف بغداد بتفاوت يسير.


الصفحة 241

سابعاً ـ أبو موسى الأشعري:

روى البلاذري في فتوح البلدان: «انّ عمر أوصى القائم بالخلافة بتولية سعد الكوفة، وتولية أبي موسى البصرة، فولاهما ثمّ عزلهما»(1).

روى ابن سعد في الطبقات بسنده عن أبي بريدة قال: «لمّا قدم أبو موسى الأشعري لقي أبا ذر فجعل أبو موسى يلزمه. ويقول أبو ذر إليك عني، ويقول الأشعري مرحباً بأخي، ويدفعه أبو ذر ويقول: لست بأخيك، إنما كنت أخاك قبل أن تـُستعمل. ولأبي ذر قول مثل ذلك مع أبي هريرة حين ألتزمه، فقال له أبو ذر إليك عني هل كنتَ عملتَ لهؤلاء؟ قال نعم...»(2).

روى المحب الطبري في الرياض النضرة عن أبي موسى قال: «كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة لم يلبث أن يقسمه بين المسلمين حتى لا يبقى منه شيء، فلمّا ولي عثمان أتيت به فكان يبعث به إلى نسائه وبناته فلمّا رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت. فقال لي ما يبكيك؟ فذكرت له صنيعه وصنيع عمر فقال: رحم الله عمر كان حسنة وأنا حسنة، ولكل ما أكتسب. قال أبو موسى: ان عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي من أولاده فيرده في مال الله ويقسمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتك مجمراً من ذهب مكللاً باللؤلؤ والياقوت، وأعطيت الأخرى درّتين لا يُعرف كم قيمتهما. فقال: ان عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأنا أعمل برأي ولا آلو عن الخير، وقد أوصاني الله تعالى بذوي قراباتي، وأنا مستوص بهم أبرّهم»(3).

____________

(1) فتوح البلدان /334.

(2) طبقات ابن سعد 4ق1/169.

(3) الرياض النضرة 2/138 ط النعساني بمصر.


الصفحة 242
وروى البلاذري في حديث أبي مخنف قال: «أنكر الناس على عثمان مع ما أُنكر أن حمى الحمى وأن أعطى زيد بن ثابت مائة ألف درهم من ألف ألف درهم حملها أبو موسى الأشعري وقال له هذا حقّك»(1).

ولم يحمد له معاوية موقفه من عثمان، فقد قدم عليه ودخل عليه برنس أسود فلمّا خرج من عنده قال: «قدم الشيخ لأولّيه والله لا وليتـَه»(2).

ثامناً ـ أبو هريرة الدوسي:

روى ابن كثير في البداية والنهاية قال: «لمّا نسخ عثمان المصاحف دخل عليه أبو هريرة فقال: أصبت ووفقت. أشهد لسمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (إن أشد أمتي حباً لي قوم يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني، يعملون بما في الورق المعلق)، فقلت: أي ورق؟ حتى رأيت المصاحف. قال: فأعجب ذلك عثمان وأمر لأبي هريرة بعشرة آلاف وقال: والله ما علمت أنّك لتحبس علينا حديث نبيّنا (صلّى الله عليه وآله وسلّم)»(3).

وهنا استشعر أبو هريرة الضوء الأخضر بزخّ الأحاديث من جرابه المنفوخ بعشرات الالآف، فكان يزعم لنفسه مقاماً يوم الدار في نصرة عثمان، فقد روى ابن سعد عنه قال: «دخلت على عثمان يوم الدار فقلت يا أمير المؤمنين طابٌ أم ضربٌ؟ فقال: يا أبا هريرة أيسرّك أن تقتل الناس جميعاً وإياي؟ قال: قلت: لا، قال: فإنك والله ان قتلتَ رجلاً واحداً فكأنما قـُتل الناس جميعاً. قال: فرجعتُ ولم

____________

(1) أنساب الأشراف 1ق4/546.

(2) أنساب الأشراف 1ق4/43.

(3) البداية والنهاية 7/216 ط السعادة بمصر.


الصفحة 243
أقاتل»(1) هذا موقفه في نصرته بروايته وليتني أدري كيف فقد سيفه يومئذ؟ وكيف أنقطع مزوده المعلق بحقوه ما دام قد رجع ولم يقاتل(2).

____________

(1) طبقات ابن سعد 3ق 1/48، وتاريخ خليفة بن خياط /129، وسير أعلام النبلاء 3/608 ط دار الفكر.

(2) وحديث المزود لا يخلو من طرافة للتسلي فقد رواه الذهبي في سير أعلام النبلاء 4/205 ط دار الفكر:عن أبي هريرة قال: أتيت رسول الله بتمرات فقلت أدع لي فيهنّ يا رسول الله بالبركة، فقبضهنّ ثمّ دعا فيهنّ بالبركة ثمّ قال: خذهنّ فاجعلهنّ في مزود، فإذا أردت أن تأخذ منهنّ، فأدخل يدك فخذ ولا تنثرهنّ نثراً. فقال: فحملت من ذلك التمر كذا وكذا وسقا في سبيل الله، وكنا نأكل ونـُطعِم وكان المزود معلقاً بحقوي، لا يفارق حقوي، فلمّا قتل عثمان انقطع.

وهذا أخرجه أحمد في المسند 16/258 تح ـ أحمد محمّد شاكر والترمذي في سننه في المناقب باب مناقب لأبي هريرة وقال: هذا حديث حسن غريب. ونحن لا يهمّنا ذكر مخرجّيه، بقدر ما يهمنا معرفة مصدّقيه. فان أبا هريرة أسلم عام سبعة للهجرة بعد فتح خيبر، ولا شك أنّه لم يأت في ذلك التاريخ بتمراته من اليمن يطلب لها البركة. وهو قد خرج إلى البحرين مع العلاء الحضرمي عام ثمان ولم يعد إلى ان أستدعاه عمر للشهادة على قدامة بن مظعون عام /20 أو21. فلابد أن تكون التمرات المباركات أتى بهنّ فيما بين سنة إسلامه وسنة خروجه إلى البحرين، واذا عرفنا أن البركة في مزوده المبارك دامت حتى قتل عثمان سنة /35 فتكون سنيّ البركة28 سنة أو أزيد من ذلك، وإذا نظرنا إلى بركة التمر حتى أخذ منه أكثر من200 وسق كما في رواية أبي رية في شيخ المضيرة /224 ط الثالثة دار المعارف بمصر، وثمة تحقيق حول رواية أبي هريرة لمنقبة المزود، لكنه لم يحاسبه على الأوساق فإن الوسق ستون صاعاً أو حمل بعير، وقيل الوسق عند أهل الحجاز /320 رطلاً وعند أهل العراق/480 رطلاً. (قطر المحيط).

فإذا أردنا حساب ذلك يكون ما أخذه منه في كلّ عام أكثر من 2240 رطلا بحساب أهل الحجاز كما نفترض ذلك لأن المباركة حجازية وحصة اليوم الواحد من تلك البركة في حدود /75 رطلاً يا سلام. فما دامت البركة معلـّقة بحقوه فلا تفارقه حضراً وسفراً لماذا إذن كان يخدم عثمان وأبنة غزوان على طعام بطنه، ولماذا يقول: كانت لي خمس عشرة تمرة فأفطرت على خمس وتسحرت بخمس وأبقيت خمساً لفطري(تاريخ ابن كثير 1/112 (ولماذا ولماذا؟ فأين عنه المزود، فأقرأ ولك أن لا تصدّق المزايدة بالمزود ولكن لا شك أنّه بعد مقتل عثمان حسنت حاله وكثر ماله فقد أخرج ابن سعد في الطبقات 4 ق2/53 ط أفست ليدن: بسنده عن محمّد قال: تمخط أبو هريرة وعليه ثوب من كتان ممشّق،

=>


الصفحة 244

تاسعاً ـ زيد بن ثابت الأنصاري:

قال أبو عمر: «كان عثمان يحب زيد بن ثابت وكان زيد عثمانياً»(1). ولعله المدافع الوحيد عن عثمان من الأنصار ولقد مرّ بنا أن عثمان أعطاه مائة ألف من مال أتى به أبو موسى الأشعري، ولقد ذكر الطبري في تاريخه موقفه يوم الجمعة حين رجع المصريون ومعهم غلام عثمان والكتاب الّذي فيه قتلهم: «وخرج عثمان للصلاة وخطب مندّداًً بالثوار، ومستشهداً على ذلك من حضر. فقام محمّد بن مسلمة فقال: أنا أشهد بذلك فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده، فقام

____________

<=

فتمخّط فيه، فقال: بخ بخ يتمخط أبو هريرة في الكتان، لقد رأيتني أخرّ فيما بين منبر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحجرة عائشة يجيء الجائي يرى أن بي جنوناً وما بي إلاّ الجوع، ولقد رأيتني واني لأجير لابن عفـّان وابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رحلي أسوق بهم إذا أرتحلوا، وأخدمهم إذا نزلوا. فقالت يوماً: لتردّنه حافياً ولتركبّنه قائماً ـ تعني البعير ـ قال: فزوجنيها الله بعد ذلك فقلت لها: لتردّنه حافية، ولتركِبنّه قائمة. ويبدو أنّه بصص بعينيه الأميرة يوم كان يخدمها فأعجبته وتمناها فصارت إليه ولكنه لم يخف تشفـّيه منها.

روى البلاذري قال: وخلف أبو هريرة على فاختة بنت غزوان وهي بسرة فكان يقول كنت أجير ابن عفان بطعام بطني وعقبة رحلي، أخدمهم إذا نزلوا وأسوق بهم إذا ركبوا، فغضب عليّ يوماً فقال: لتمشينّ حافياً، ثمّ تزوجت أمرأته (أنساب الأشراف 1ق4/593).

ولا تخفى لغة التشفي عند أبي هريرة بالرغم من إحسان الزوجين عثمان وأبنة غزوان إليه فلم يكن وفياً لهما ولا للأمويين بقدر ما كانوا هم له في حياته كما مرّ، وحتى بعد وفاته. فقد كان ولد عثمان هم الذين يحملون سريره - عند موته - ومن قصره بالعقيق حتى بلغوا البقيع حفظاً لحقه بما كان من رأيه في عثمان (طبقات ابن سعد 4ق2/63) وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية يخبره بموت أبي هريرة، فكتب إليه أنظر من ترك فأدفع إلى ورثته عشرة آلاف درهم وأحسن جوارهم، وأفعل إليهم معروفاً، فإنه كان ممن نصر عثمان وكان معه في الدار فرحمه الله (طبقات ابن سعد 4ق2/63). وكلّ إناء بالذي فيه ينضح.

(1) الاستيعاب بهامش الإصابة 1/534.


الصفحة 245
زيد بن ثابت فقال: أبغني الكتاب، فثار إليه من ناحية أخرى محمّد بن أبي قتيرة فأقعده وقال: فأفظع... وحصبوا عثمان حتى صُرع عن المنبر»(1).

وقد روى البلاذري من حديث أبي مخنف: «انّه أجتمع عليه الأنصار فقالوا: ماذا ترى يا أبا سعيد؟ فقال: أتطيعوني؟ قالوا: نعم ان شاء الله، فقال: إنكم نصرتم الله ونبيّه فانصروا خليفته، فأجابه قوم منهم.

فقال سهل بن حنيف: يا زيد أشبعك عثمان من عضدات المدينة - العضيدة نخلة قصيرة يُنال حملها - فقال زيد: لا تقتلوا الشيخ ودعوه يموت فما أقرب أجله.

فقال الحجاج بن غزية الأنصاري - أحد بني النجار -: والله لو لم يبق من عمره إلاّ ما بين الظهر والعصر لتقرّبنا إلى الله بدمه»(2).

وفي حديث الواقدي: «أنّ زيد بن ثابت أجتمع عليه عصابة من الأنصار وهو يدعوهم إلى نصرة عثمان فوقف عليه جبلّة بن عمرو بن حبّة المازني فقال له: وما يمنعك يا زيد أن تذبّ عنه؟ أعطاك عشرة آلاف دينار وحدائق من نخل لم ترث عن أبيك بمثل حديقة منها»(3).

وروى البلاذري عن رجاله قالوا: «لمّا أعطى عثمان مروان بن الحكم ما أعطاه وأعطى الحارث بن الحكم بن أبي العاص ثلثمائة ألف درهم، وأعطى زيد ابن ثابت الأنصاري مائة ألف درهم. جعل أبو ذر يقول: بشّر الكافرين بعذابٍ أليم...».

وروى ابن أعثم في الفتوح: «انّ زيد بن ثابت كان إلى جانب عثمان يوم أشرف على الناس وكلمهم، فلمّا سكت عثمان تكلم زيد بن ثابت فقال: {إِنَّ الَّذِينَ

____________

(1) تاريخ الطبري 4/353 ط دار المعارف.

(2) أنساب الأشراف 1ق4/569 تح ـ إحسان عباس.

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/225 ط مصر الأُولى.


الصفحة 246
فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إلى اللَّهِ}(1) فصاح به الناس يا زيد انّ عثمان قد أشبعك من أموال الأرامل ولابدّ لك من نصره»(2).

وروى المسعودي عن سعيد بن المسيب: «أنّ زيد بن ثابت حين مات خلّف من الذهب والفضة ما كان يكسّر بالفؤوس، غير ما خلّف من الأموال والضَياع بقيمة مائة ألف دينار»(3).

ولم لا يخلّف ذلك وقد كان خازن بيت المال ولاّه عثمان بعد عزل عبد الله ابن الأرقم وقال له يوماً، وقد فضل في بيت المال فضلة خذها فهي لك فأخذها زيد فكانت أكثر من مائة ألف، فكم من فضلة حواها بلا كدّ ولا نصَب وقس على زيد بن ثابت حسان بن ثابت الّذي كان عثمان محسناً إليه. كما يقول المسعودي في المروج(4). وكان إحسان عثمان إلى حسّان قد غمره حتى صيّره عثمانياً منحرفاً عن غيره، وهو القائل فيمن تخلّف عن عثمان وخذله من الأنصار وغيرهم، وأعان عليه وعلى قتله:


خذلته الأنصار إذ حضر الموت وكانت ثقاته الأنصار
أين أين الوفاء إذ مُنع الماء فدته النفوس والأبصار
مَن عذيري من الزبير ومن طلحةهاجا له أمراً له إعصار
ثم قالا أراد يستبدل الديناعتذرا وللأمور قرار
فتولى محمد بن أبي بكر جهاراً وبعده عمّار

... الخ.

____________

(1) الأنعام /159.

(2) أنساب الأشراف 1ق4/541 تح ـ إحسان عباس.

(3) مروج الذهب 2/342 ط 3 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد بمصر.

(4) المصدر السابق 2/356.


الصفحة 247
وهذه الأبيات ذكرها ابن أعثم في الفتوح(1)، وورد منها الأوّل والثالث والخامس في مروج الذهب(2)، ولم ترد في ديوان حسان المطبوع.

فحسان لم ينصر عثمان بسوى اللسان، لأنه كان الجبان، ويكفيه شاهداً يوم الأحزاب حيث كان في أطم مع النساء والصبيان(3).

سخاء عثمان إلاّ مع بني هاشم!


فالأرض إلاّ على ملاكها سعةوالمال إلاّ على أربابه ديم

قال الدكتور طه حسين في الفتنة الكبرى (عثمان): «والسياسة المالية الّتي اصطنعها عثمان منذ نهض بالخلافة كلّها موضوع للنقمة والإنكار من أكثر الذين عاصروا عثمان، ومن أكثر الرواة والمؤرخين. وإن أصبحت فيما بعدُ موضوعاً للجدل بين المتكلمين يدافع عنها أهل السنة والمعتزلة. وينكرها الشيعة والخوارج جميعاً... اهـ»(4).

____________

(1) الفتوح 2/239.

(2) مروج الذهب 2/355 و356 بتفاوت.

(3) ذكر الذهبي في ترجمة حسان في كتابه سير أعلام النبلاء 4/135 ط دار الفكر قال: لما خلّف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) نساءه في حصن فارع وفيهن صفية بنت عبد المطلب وخلّف فيهنّ حسان، فأقبل رجل من المشركين ليدخل عليهن فقالت صفية لحسان عليك الرجل، فجبن وأبى عليها فتناولت السيف فضربت به المشرك حتى قتلته، فقطعت رأسه، وقالت لحسان قم فأطرحه على اليهود وهم تحت الحصن قال:

والله ما ذلك فيّ، فأخذت هي رأسه فرمت به عليهم، فقالوا: قد علمنا والله، ان هذا لم يكن ليترك أهله خلوفاً ليس معهم أحد فتفرقوا. وذكر أيضاً أن صفية قالت لحسان قم فأسلبه فإني امرأة وهو رجل، فقال: ما لي بسلبه يا بنت عبد المطلب من حاجة. وهذا مروي في سيرة ابن هشام ومستدرك الحاكم وتاريخ دمشق وغيرها. ولا عَجَبَ، إنما العجَبَ من الذهبي أن يذكره في سير أعلام النبلاء، وكان عليه أن يجعله في(سير أعلام الجبناء) ولعل الرجل لم يجد لحسان ثانياً في الجُبن.

(4) الفتنة الكبرى 1/190.


الصفحة 248
فمن بواعث النقمة على عثمان بعثرة الأموال بسخاء هنا وهناك في غير مستحقيها، ثمّ حرمان ناقديه حتى من عطائهم كما مرّ في صنعه ذلك مع أبي ذر وابن مسعود، ولما كان بنو هاشم وعلى رأسهم الإمام عليّ (عليه السلام) وعمه العباس وابنه عبد الله من جملة الناصحين لعثمان في تطبيع سيرته مع الساخطين، فقد غاظه أن يكونوا من الناقدين فصنع معهم ما وسعه أن يفعل بهم ومعهم، فلم يمنحهم إقطاعاًَ، ولم ينفحهم إشباعاً، بل كان تفويقاً وترشيفاً كسائر الناس وكان ذلك ما أحنقهم عليه، كيف وهم يرون فيأهم في غيرهم متقسماً وأيديهم من فيئهم صفرات وحسبنا في المقام قول الإمام: «إنّ بني أمية ليفوقونني تراث محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تفويقاً، لأنفضنّهم نفض اللـّحام الوِذام التَرِبَةَ»(1).

قال الشريف الرضي: «وقوله (عليه السلام): (ليفوقونني) أي: يعطونني من المال قليلاً قليلاً كفواق الناقة، وهو الحلبة الواحدة من لبنها، والوِذام: جمع وذمة وهي: الحزّة من الكرش أو الكبد تقع في التراب فتـُنفض».

قال ابن أبي الحديد: «إعلم أن أصل هذا الخبر قد رواه أبو الفرج عليّ بن الحسين الأصفهاني في كتاب الأغاني بإسناد رفعه إلى الحرب بن جيش قال: بعثني سعيد بن العاص وهو يومئذ أمير الكوفة من قبل عثمان بهدايا إلى المدينة، وبعث معي هدية إلى عليّ (عليه السلام)، وكتب إليه إنّي لم أبعث إلى أحد أكثر ممّا بعثت به إليك إلاّ إلى أمير المؤمنين، فلمّا أتيت عليّاً (عليه السلام) وقرأ كتابه قال: لشدّ ما يحظر عليّ بنو أمية تراث محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أما والله لأنفضنها نفض القصاب التراب الوذمة. قال أبو الفرج وهذا خطأ إنّما هو الوذام التربة. قال: وحدثني بذلك أحمد بن عبد

____________

(1) شرح نهج البلاغة 1/123 شرح محمّد عبده.


الصفحة 249
العزيز الجوهري عن أبي يزيد عمر بن شبة باسناد ذكره في الكتاب أن سعيد بن العاص حيث كان أمير الكوفة بعث مع ابن أبي عائشة مولاه إلى عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بصلة، فقال عليّ (عليه السلام): والله لا يزال غلام من غلمان بني أمية يبعث إلينا ممّا أفاء الله على رسوله بمثل قوت الأرملة، والله لئن بقيت لأنفضنها نفض القصّاب الوذام التربة»(1).

ولقد بحثت كثيراً عسى أجد خبراً يُذكر فيه منحةً من عثمان لأحد الهاشميين ولو لمرة واحدة، فلم أقف على ذلك إلاّ في خبر رواه البلاذري في أنسابه قال: «وكان ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب شريك عثمان في الجاهلية، فقال العباس بن ربيعة بن الحارث لعثمان: أكتب إلى ابن عامر يُسلفني مائة ألف درهم، فكتب له فأعطاه مائة ألف درهم صلة، وأقطعه دار العباس بن ربيعة فهي تعرف به»(2).

فهذا هو الوحيد الّذي نال صلة ابن عامر أتته رمية من غير رام، من غير كدٍّ وجهد، ولم يكن قد أستجدى من عثمان أو عامله ابن عامر، بل طلب أن يسلفه ابن عامر، إلاّ أنّ ابن عامر هزّته الأريحيّة فسخا له بمائة ألف درهم من بيت المال وزاد على ذلك أقطعه داراً فهي تعرف به؟ وستأتي رواية الزبير بن بكار وفيها إرسال عثمان على الإمام عليّ (عليه السلام) وقت الهاجرة فأتاه وبين يديه مال دثر صرتان من وَرِق وذهب، فقال دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني. فأبى أن يأخذ منه لأنه من مال المسلمين وليس لعثمان حقّ بعثرته كيف شاء. فانتظر تمام الحديث في محله.

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/63 ط مصر الاُولى.

(2) أنساب الأشراف 1ق4/528.


الصفحة 250

مواقف عثمان مع بني هاشم:

والآن وبعد مسيرة مع جانب من الأحداث عبر أكثر من عقد من الزمن طالت أيام حكومة عثمان، فقد رأينا كيف استطالت فيها أعناق رجالٍ لم يكونوا لولاه إلاّ في غيابات التاريخ، ومع لعنات الذكر السيء، وقد جعلوا من حكومة عثمان - الواهي المستضعف أمام نزواتهم وشهواتهم - حكومة تسلط وجبرية، بينما هم من اللعناء والطلقاء والفسّاق، فساموا المسلمين سوء العذاب قتلاً وتشريداً وتطريداً ونهباً بلا خوف من عثمان، بل على رضى منه أحياناً، فارتفع النكير والتشهير، وبدت نذر الشرّ المستطير، لأنّ عثمان أوّل من آثر القرابة والأولياء كما مرّ ذلك عن الشيباني. ورأينا أيضاً إلى جانب ما سبق كيف تنكر لعثمان بعض المنتفعين به، ممّن كانوا ينعمون بعطائه ويحبوهم جزيل حبائه، لكنهم أساؤا إليه إساءة لا تغتفر بمعيار الأخلاق العربية وهم جميعاً من أبنائها، فضلاً عن الشريعة الإسلامية وكلهم يعيشون في أجوائها. فكانوا من أشدّ المحرّضين عليه كطلحة والزبير وعائشة وغيرهم ممن جازوه جزاء سنّمار.

ثمّ رأينا من خلال تلك الأحداث إطلالة لبني هاشم، فقرأنا اسم عليّ واسم العباس واسم ابنه عبد الله في أسباب السخط وأسماء الساخطين، وهذا يحملنا على الاعتقاد في تصنيفهم بالرأي مـع الساخطين، إذ لم يكونوا يوماً ما مـن النفعيين.

وهذا ما يلزمنا أيضاً بالوقوف عنده لقراءة بعض النصوص قراءة تدبّر وتمحيص لنعرف لماذا كانوا رأياً مع الساخطين؟ فهل نالهم عثمان بأذاه كما نال أبا ذر وابن مسعود وعمّار وأضرابهم من نفي أو ضرب فأعلنوا سخطهم لما لحقهم من الأذى؟


الصفحة 251
أم أنّهم أفقدهم عثمان منافعهم الشخصية، فأثار ذلك حفائظهم عليه، فأعلنوا سخطهم لفقدانهم منافعهم. أم أنّهم كانوا ضحية الاستجابة لسماع شكاوى المحرومين الذين لحقهم حيف وعسف عثمان وولاته، فأتخذوا من بني هاشم لجأ وكهفاً لرفع الضيم عنهم، فأعلنوا هم سخطهم تضامناً مع المحرومين؟

ربّما كان ذلك كلّه مجتمعاً، وإن كان تأثير آخرها أقوى من تأثير البعض الآخر، مضافاً إلى التداعيات الّتي تجمّعت في خزين ترات التراكمات، فصارت النفرة بين الطرفين معلنة دون حجاب، حتى أسفرت بينهما بمواجهة الخطاب، ومع ذلك فتبقى الفوارق بين المواقف حسب تصرفات عثمان أزاء الأقطاب الثلاثة، فهو على ما وصفه علماء التبجيل بالحياء والدعة في السلوك والسيرة، إلاّ أنّه كانت له مواقف متشنّجة بل ومتنمّرة مع الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) فمن المنتظر أن تكون مواقف الإمام مماثلة، إلاّ إنا لدى المقارنة نجد اللين وسلامة الطوية والنصح له أكثر شواهد من الشدّة من جانب الإمام.

أمّا موقف عثمان من العباس وابنه فإنه كان مع الأب أكثر أدباً وألين عريكة ربّما لأنّه من أخواله، وليس يعني ذلك تخلصه من عقدة النقص الّتي كانت قريش تشعر بها - ومنهم عثمان - أزاء بني هاشم حيث يرون أسباب الفضل بأيديهم، وهذا الشعور الموروث عند عامة القرشيين وعند الأمويين خاصة، لم تمحه الأيام، فكان يثير كامن أحقادهم فيظهرونه عند مواتاة الفرص. كما ستأتي كلمات عثمان المسعورة الّتي تنم عن حقدٍ دفين.

فلنقرأ بعض النصوص الجارحة من عثمان له وعليه أزاء بني هاشم وفي مقدمتهم الأقطاب الثلاثة خصوصاً الإمام عليّ (عليه السلام) لنعرف مدى المعاناة الّتي كانوا يعيشونها:


الصفحة 252
1- أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن سعيد بن المسيّب قال: «كان لعثمان آذن فكان يخرج بين يديه للصلاة. قال: فخرج يوماً فصلّى والآذن بين يديه ثمّ جاء - فجلس الآذن ناحية - ولفّ - عثمان - رداءه فوضعه تحت رأسه وأضطجع ووضع الدرة بين يديه، فأقبل عليّ في إزار ورداء وبيده عصاً، فلمّا رآه الآذن من بعيد قال: هذا عليّ قد أقبل فجلس عثمان فأخذ عليه رداءه، فجاء عليّ حتى قام على رأسه فقال: اشتريت ضيعة آل فلان ولوقف رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فـي مائها حقّ؟ أمـا إنّـي قد علمت أنّه لا يشتريها غيرك.

فقام عثمان وجرى بينهما كلام، حتى ألقى الله (عزّ وجلّ) العباس فدخل بينهما، ورفع عثمان على عليّ الدرة، ورفع عليّ على عثمان العصا، فجعل العباس يسكّتهما ويقول لعليّ: أمير المؤمنين، ويقول لعثمان: ابن عمك.

فلم يزل حتى سكّتهما، فلمّا أن كان من الغد رأيتهما وكلّ واحد منهم آخذ بيد صاحبه وهما يتحدثان... اهـ».

قال الهيثمي: «رواه الطبراني في الأوسط وفيه جماعة لم أعرفهم»(1).

2- أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عباس قال: «كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أعطانا نصيباً من خيبر، وأعطاناه أبو بكر، فلمّا كان عمر وكثر عليه الناس، أرسل إلينا ثمّ قال: إنّ الناس قد كثروا عليَّ فإن شئتم أن أعطيكم مكان نصيبكم من خيبر مالاً؟ فنظر بعضنا إلى بعض، فقلنا: نعم، فطـُعن عمر ولم يعطنا شيئاً، فأخذها عثمان فأبى أن يعطينا وقال: قـد كان عمر أخذها منكم».

____________

(1) مجمع الزوائد 7/266.


الصفحة 253
قال الهيثمي: «رواه البزار وفيه حكيم بن جبير وهو متروك»(1)(2).

3- أخرج عبد الرزاق في المصنف عن معمّر عن أبي إسحاق قال: «جاء أبو ذر إلى عثمان فعاب عليه شيئاً ثمّ قام. فجاء عليّ معتمداً على عصاً حتى وقف على عثمان، فقال له عثمان: ما تأمرنا في هذا الكذّاب على الله وعلى رسوله؟ فقال عليّ: أنزله منزلة مؤمن آل فرعون {إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}(3).

فقال له عثمان: أسكت في فيك التراب.

فقال عليّ: بل في فيك التراب(4) إستأمرتنا فأمرناك»(5).

أقول: لئن تستـّر عبد الرزاق أو أحد رواته فلم يذكر ما عاب به أبو ذر على عثمان، فلا نعدم من ذكره بأمانته، ممّن لا يخشى بطش عثمان وبطانته.

فقد روى عبد الله بن أبي عمرة الأنصاري قال: «لمّا قدم أبو ذر على عثمان قال: أخبرني أيّ البلاد أحبّ إليك؟ قال: مهاجري، قال: لستَ بمجاوري.

____________

(1) نفس المصدر 6/6.

(2) من المضحك ـ وشر البلية ما يضحك ـ أن حكيم بن جبير من رجال الصحاح كما رمز له الذهبي في ميزان الاعتدال 1/583 وفي نظري إنما جرحوه بالترك والضعف ونكران الحديث، لأنه روى بسنده عن سلمان قلت يا رسول الله إن الله لم يبعث نبياً إلاّ بيّن له من يلي بعده، فهل بيّن لك؟ قال: نعم، عليّ.

وكذلك روى بسنده عن عليّ: أمرت بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، راجع ميزان الاعتدال 1/584 ولهذا ونحوه قال فيه أبو حاتم: ضعيف الحديث له رأي غير محمود نسأل الله السلامة غال في التشيّع، تهذيب التهذيب 2/446.

(3) غافر /28.

(4) لقد مرت شتيمة مماثلة متبادلة بين عثمان أو عمرو وبين عليّ في مخالفات شرعية في مسائل الحج في أكل المحرم الصيد فراجع.

(5) المصنف لعبد الرزاق 11/349.