فقال حبيب بن سلمة: لك عندي يا أبا ذر ألف درهم وخمسمائة شاة، قال أبو ذر: أعط خادمك ألفك وشويهاتك من هو أحوج إلى ذلك مني، فإني إنما أسأل حقي في كتاب الله.
فجاء عليّ (عليه السلام) فقال له عثمان: ألا تغني عنا سفيهك هذا. قال: أيّ سفيه؟ قال: أبو ذر.
قال عليّ: ليس بسفيه سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ما أظلت الخضراء ولا أقلت الغبراء على أصدق لهجة من أبي ذر، أنزله بمنزلة مؤمن آل فرعون {إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}(1). قال عثمان: التراب في فيك، قال عليّ (عليه السلام): بل التراب في فيك، أنشد الله من سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول ذلك لأبي ذر؟ فقام أبو هريرة وعشرة فشهدوا بذلك على قول عليّ»(2).
____________
(1) غافر /28.
(2) بحار الأنوار 8/346 ط الكمپاني على الحجر نقلاً عن أمالي الطوسي.
5- وذكر الثقفي في تاريخه عن ثعلبة بن حكيم قال: «بينا أنا جالس عند عثمان وعنده أناس من أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من أهل بدر وغيرهم، فجاء أبو ذر يتوكأ على عصاه فقال: السلام عليكم فقال: اتق الله يا عثمان إنّك تسمع كذا وكذا وتصنع كذا وكذا - وذكر مساويه - فسكت عثمان حتى إذا انصرف قال: مَن يعذرني من هذا الّذي لا يدع مساءة إلاّ ذكرها؟ فسكت القوم فلم يجيبوه، فأرسل إلى عليّ فجاء فقام مقام أبي ذر، فقال: يا أبا الحسن ما ترى أبا ذر لا يدع لي مساءة إلاّ ذكرها.
فقال: يا عثمان أنّي أنهاك عن أبي ذر، يا عثمان أنهاك عن أبي ذر ثلاث مرات، أتركه كما قال الله تعالى لمؤمن آل فرعون {إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}(2) قال له عثمان: بفيك التراب، قال له عليّ: بل بفيك التراب ثمّ انصرف»(3).
____________
(1) نفس المصدر /316.
(2) غافر /28.
(3) بحار الأنوار 8/346 ط الكمپاني.
تحية السخط إذا ألتقينا | لا أنعم الله بعمرو عيناً |
فقال له أبو ذر: فوالله ما سمّاني الله عمروا، ولا سماني أبواي عمروا، وإني على العهد الّذي فارقت عليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ما غيّرت ولا بدّلت، فقال له عثمان: كذبت، لقد كذبت على نبيّنا، وطعنت في ديننا، وفارقت رأينا، وضغنت قلوب المسلمين علينا ثمّ قال لبعض غلمانه: ادع لي قريشاً، فانطلق رسوله، فما لبثنا أن امتلأ البيت من رجال قريش فقال لهم عثمان: إنا أرسلنا اليكم في هذا الشيخ الكذاب الّذي يكذب على نبينا وطعن في ديننا وضغن قلوب المسلمين علينا. وإنّي قد رأيت أن أقتله وأصلبه أو أنفيه من الأرض. فقال بعضهم: رأينا لرأيك تبع وقال بعضهم: لا تفعل فإنّه صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وله حقّ، فما منهم أحدٌ أدّى الّذي عليه، فبينا هم كذلك اذ جاء عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يتوكأ على عصاً سراً، فسلّم عليه ونظر ولم يجد مقعداً، فأعتمد على عصاه. فما أدري أتخلّف عمداً؟ أم يظن به غير ذلك. قال عليّ: فيم أرسلتم إلينا، فقال عثمان: أرسلنا إليكم في هذا الشيخ الّذي قد كذب على نبيّنا وطعن في ديننا وخالف رأينا، وضغن قلوب المسلمين علينا، وقد رأينا أن نقتله أو نصلبه أو ننفيه من الأرض.
قال له عثمان: بفيك التراب، فقال له عليّ: بل بفيك التراب، وسيكون، فأمر بالناس فاخرجوا»(2).
7- وذكر الثقفي في تاريخه عن المعرور بن سويد قال: «كان عثمان يخطب، فأخذ أبو ذر بحلقة الباب فقال: أنا أبو ذر من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا جندب سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (إنّما مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح في قومه من تخلّف عنها هلك، ومن ركبها نجا).
قال له عثمان: كذبت.
فقال له عليّ (عليه السلام): إنما كان عليك أن تقول كما قال العبد الصالح {إِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ}(3) فما أتمّ حتى قال عثمان: بفيك التراب.
فقال عليّ (عليه السلام): بل بفيك التراب»(4).
أقول: يبدو أن شتم عثمان للإمام «بفيك التراب» وردّ الإمام عليه بمثلها، كانت في مواطن عديدة، فقد مرّت آنفاً في مخالفات شرعية في مسائل الحج في أكل المحرم الصيد فراجع. وجاءت أيضاً قريباً ففي المسجد وفـي بيت عثمان مكرراً.
____________
(1) غافر /28.
(2) بحار الأنوار 8/317 ط الكمپاني على الحجر نقلاً عن تاريخ الثقفي.
(3) غافر /28.
(4) بحار الأنوار 8/317 ط الكمپاني.
قال: أريد هذا الّذي كذا وكذا. يعني سعد بن أبي وقاص فشتمه. فقال له عليّ: أيها الرجل دع هذا عنك.
قال: فلم يزل بهما الكلام حتى غضب عثمان فقال: ألست المتخلـّف عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم تبوك (؟!).
قال عليّ: ألستَ الفارّ عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يوم أحد قال: ثمّ حجز بينهما الناس»(1).
أقول: إنّ من السخرية بمكان، أن يقول ذلك عثمان، وهو يعلم أن ذلك كان من قول المنافقين في يوم تبوك(2) كما يعلم هو وغيره أن ذلك كان سبب قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ يومئذ: (ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي) فعرف ذلك بحديث المنزلة، وقد أستوفى ابن عساكر طرقه في تاريخه.
وقال: وقد رواه جمع كثير من الصحابة والأنصار والتابعين، وذكر من رواته عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص بطرق عنه كثيرة، ثمّ ذكر أسماء ما يزيد على عشرين صحابياً ممّن روى الحديث المذكور(3).
____________
(1) المصنف لعبد الرزاق 11/356.
(2) جاء في كلام الإمام الحسن الزكي (عليه السلام) قال لمعاوية وأصحابه: أنشدكم بالله أتعلمون أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أستخلفه على المدينة في غزوة تبوك ولاسخطه ذلك ولا كرهه، وتكلّم فيه المنافقون... (بحار الأنوار 44/78 ط الإسلامية، وراجع الاحتجاج للطبرسي).
(3) تاريخ مدينة دمشق دمشق (ترجمة الإمام) 1/281 - 364 ط بيروت.
?هذا الحديث أخرجه جميع أصحاب الصحاح الستة كما أخرجه الكثيرون من المحدّثين والمؤرخين وأرباب السير، ومنهم ابن سعد في الطبقات بسنده عن البرّاء بن عازب وزيد بن أرقم قالا: «لمّا كان عند غزوة جيش العسرة وهي تبوك قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعليّ بن أبي طالب: إنّه لا بدّ من أن أقيم أو تقيم فخلّفه، فلمّا نَصَل رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) غازياً قال ناس: ما خلّف عليّاً إلاّ لشيء كرهه منه، فبلغ ذلك عليّاً فاتـّبع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى انتهى إليه فقال له: ما جاء بك يا عليّ؟ قال: لا يا رسول الله إلاّ إنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشيء كرهته مني! فتضاحك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وقال: (يا عليّ أما ترضى أن تكون مني كهارون من موسى غير أنّك لستَ بنبي ّ؟ قال: بلى يا رسول الله قال: فإنّه كذلك)»(2).
وذكر ابن سعد الحديث برواية سعد بن أبي وقاص وفيه: «فأدبر عليّ مسرعاً كأنّي أنظر إلى غبار قدميه يسطح»(3).
ولا يبعد من مناوئي الإمام من العثمانية أنهم أختلقوا لعثمان تجهيز جيش العسرة في مقابل حديث المنزلة يومئذ. هذا عن تعيير عثمان للإمام بتخلّفه يوم
____________
(1) الاستيعاب 2/459 ط حيدر آباد.
(2) طبقات ابن سعد 3ق1/15.
(3) نفس المصدر.
9- وروى البلاذري في الأنساب قال: «حدثني عباس بن هشام عن أبيه عمّن حدثه عن حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس: ان عثمان شكا عليّاً إلى العباس فقال له: يا خال إنّ عليّاً قد قطع رحمي وألّب الناس عليّ، والله لئن كنتم يا بني عبد المطلب أقررتم هذا الأمر في أيدي بني تيم وعدي فبنو عبد مناف أحق أن لا تنازعوهم فيه ولا تحسدوهم عليه.
قال عبد الله بن العباس: فأطرق أبي طويلاً ثمّ قال: يا ابن أخت لئن كنت لا تحمدُ عليّاً فما نحمدك له، وإن حقّك في القرابة والإمامة لـَلحقّ الّذي لا يُدفع ولا يُجحد، فلو رقيت فيما نطأطأ، أو تطأطأت فيما رقى تقاربتما، وكان ذلك أوصل وأجمل.
قال: قد صيّرت الأمر عن ذلك إليك فقرّب الأمر بيننا.
____________
(1) آل عمران /155.
(2) راجع أيضاً الإصابة لابن حجر في ترجمة رافع بن المعلّى الأنصاري وسعيد بن عثمان الأنصاري فقد ذكر نزول الآية في الرجلين ومعهما عثمان بن عفان.
فخرج أبي من عنده ثمّ التفت إليّ فقال: يا بُني ليس إلى هذا الرجل من أمره شيء. ثمّ قال: اللّهمّ أسبق بي الفتن ولا تبقني إلى ما لا خير لي في البقاء إليه. فما كانت جمعة حتى هلك»(1).
10- وروى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات عن عبد الله بن عباس قال: «ما سمعت من أبي شيئاً قط في أمر عثمان يلومه فيه ولا يعذره، ولا سألته عن شيء من ذلك مخافة أن أهجم منه على ما لا يوافقه، فأنا عنده ليلة ونحن نتعشى إذ قيل هذا أمير المؤمنين عثمان بالباب، فقال أئذنوا له، فدخل فأوسع له على فراشه وأصاب من العشاء معه، فلمّا رفع قام من كان هناك وثبتّ أنا، فحمد الله عثمان وأثنى عليه ثمّ قال:
أمّا بعد يا خال فإني قد جئتك أستعذرك من ابن أخيك عليّ سبّني وشهر أمري وقطع رحمي وطعن في ديني، وإني أعوذ بالله منكم يا بني عبد المطلب إن كان لكم حقّ تزعمون أنكم غُلبتم عليه فقد تركتموه في يدي مَن فعل ذلك بكم، وأنا أقرب إليكم رحماً منه، وما لمت منكم أحداً إلاّ عليّاً، ولقد دعيت أن أبسط عليه فتركته لله والرحم وأنا أخاف أن لا يتركني فلا أتركه.
قال ابن عباس: فحمد أبي الله وأثنى عليه ثمّ قال: أمّا بعد يا بن أختي فإن كنت لا تحمد عليّاً لنفسك فإنّي لأحمدك لعليّ وما عليّ وحده قال فيك بل
____________
(1) أنساب الأشراف 1ق4/498.
قال عثمان: فذلك إليك يا خال وأنت بيني وبينهم. قال: أفأذكر لهم ذلك عنك؟ قال: نعم، وأنصرف. فما لبثنا أن قيل: هذا أمير المؤمنين قد رجع بالباب، قال أبي: أئذنوا له فدخل فقام قائماً ولم يجلس وقال: لا تعجل يا خال حتى أوذنك. فنظرنا فإذا مروان بن الحكم كان جالساً بالباب ينتظره حتى خرج فهو الّذي ثناه عن رأيه الأوّل.
فأقبل عليَّ أبي وقال: يا بني ما إلى هذا من أمره شيء، ثمّ قال: يا بني أملك عليك لسانك حتى ترى ما لابدّ منه. ثمّ رفع يديه فقال: اللّهمّ اسبق بي ما لا خير لي في إدراكه، فما مرّت جمعة حتى مات (رحمه الله)»(1).
11- وروى البلاذري في أنساب الأشراف بإسناده عن صهيب مولى العباس: «ان العباس قال لعثمان: أذكّرك الله في أمر ابن عمك وابن خالك وصهرك وصاحبك مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقد بلغني أنّك تريد أن تقوم به وبأصحابه. فقال: أوّل ما أجيبك به أنّي قد شفـّعتك، إنّ عليّاً لو شاء لم يكن أحد عندي إلاّ دونه ولكن أبى إلاّ رأيه.
ثمّ قال لعليّ: مثل قوله لعثمان فقال عليّ: لو أمرني عثمان أن أخرج من داري لخرجت»(2).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/397. وهذه الواقعة غير الّتي سبقتها وان عاصرتها زماناً ففي الاُولى كانت الشكوى في دار عثمان والعباس حاضر عنده. أمّا هذه فهي في دار العباس وعثمان حاضر عنده، ولا مانع من تعدّدهما إذا عرفنا تخبّط السياسة يومئذ في معالجة مشاكل الناس وأستحواذ مروان على عثمان في تدبير أُموره.
(2) أنساب الأشراف 1ق 4/498 و 499.
فقال عليّ (عليه السلام): أمّا الفرقة فمعاذ الله أن أفتح لها بأباً وأسهّل إليها سبيلاً، ولكني أنهاك عمّا ينهاك الله ورسوله عنه، وأهديك إلى رشدك. وأمّا عتيق وابن الخطاب فان كانا أخذا ما جعله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لي فأنت أعلم بذلك والمسلمون، وما لي ولهذا الأمر وقد تركته منذ حين.
فأمّا أن لا يكون حقي بل المسلمون فيه شرع فقد أصاب السهم الثغرة، وأمّا أن يكون حقي دونهم، فقد تركته لهم طبت به نفساً، ونفضت يدي عنه استصلاحاً.
وأمّا التسوية بينك وبينهما فلست كأحدهما، إنّهما وليا هذا الأمر فطلقا أنفسهما وأهلهما عنه. وعُمتَ فيه وقومك عوم السابح في اللجة، فارجع إلى الله أبا عمرو وانظر هل بقي من عمرك إلاّ كظم الحمار فحتى متى وإلى متى؟ ألا تنهى سفهاء بني أمية عن أعراض المسلمين وأبشارهم وأموالهم؟ والله لو ظلم عامل من عمالك حيث تغرب الشمس لكان أثمه مشتركاً بينه وبينك.
13- وروى الزبير بن بكار في كتابه الموفقيات بسنده عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال: «أرسل إليَّ عثمان في الهاجرة فتقنعت بثوبي وأتيته، فدخلت عليه وهو على سريره وفي يده قضيب وبين يديه مال دثر، صُبرتان من وَرِق وذهب. فقال: دونك خذ من هذا حتى تملأ بطنك فقد أحرقتني، فقلت: وصلتك رحم إن كان هذا المال ورثته أو اعطاكه معطِ أو أكتسبته من تجارة. كنتُ أحد رجلين إما آخذ وأشكر، أو أوفر وأجهد، وإن كان من مال الله وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل، فوالله ما لك أن تعطينيه، ولا لي أن آخذه. فقال أبيت والله إلاّ ما أبيت، ثمّ قام إليَّ بالقضيب فضربني، والله ما رددت يده حتى قضى حاجته، فتقنعت بثوبي ورجعت إلى منزلي، وقلت: الله بيني وبينك إن كنت أمرتك بمعروف ونهيت عن منكر»(2).
14- وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن ابن عباس (رحمه الله) قال: «صليت العصر يوماً ثمّ خرجت فإذا أنا بعثمان في أيام خلافته في بعض أزقة المدينة وحده، فأتيته إجلالاً وتوقيراً لمكانه، فقال لي: هل رأيت عليّاً؟ قلت: خلّفته في المسجد، فإن لم يكن الآن فيه فهو في منزله. قال: أمّا منزله فليس فيه فابغه لنا في المسجد، فتوجهنا إلى المسجد، وإذا عليّ (عليه السلام) يخرج منه.
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/398 ط مصر الأولى.
(2) نفس المصدر.
فحمد الله عثمان وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثمّ قال: أمّا بعد يا بني خاليّ وابنيّ عمّي فإذ جمعتكما في النداء فاستجمعكما في الشكاية على رضائي عن أحدكما ووجدي على الآخر، إنّي أستعذركما من أنفسكما وأسألكما فيأتكما وأستوهبكما رجعتكما، فوالله لو غالبني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما، ولو تهضّموني ما تعززت إلاّ بعزّكما، ولقد طال هذا الأمر بيننا حتى تخوّفت أن يجوز قدره ويعظم الخطر فيه. ولقد هاجني العدو عليكما وأغراني بكما، فمنحني الله والرحم ممّا أراد، وقد خلونا في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وإلى جانب قبره، وقد أحببت أن تظهرا لي رأيكما وما تنطويان لي عليه وتصدقا فان الصدق أنجى وأسلم وأستغفر الله لي ولكما.
قال: بل تكلم عني وعنك.
فحمدت الله وأثنيت عليه، وصليت على رسوله ثمّ قلت: أمّا بعد يا بن عمنا وعمتنا فقد سمعنا كلامك لنا وخلطك في الشكاية بيننا على رضاك - زعمت - عن أحدنا ووجدك على الآخر، وسنفعل في ذلك فنذمّك ونحمدك، اقتداء منك بفعلك فينا، فانا نذمّ مثل تهمتك إيانا على ما أتهمتنا عليه بلا ثقة إلاّ ظناً، ونحمد منك غير ذلك من مخالفتك عشيرتك، ثمّ نستعذرك من نفسك استعذارك إيانا من أنفسنا، ونستوهبك فيأتك استيهابك إيانا فيأتنا، ونسألك رجعتك مسألتك إيانا رجعتنا، فإنا معاً أيّما حمدت وذممت منا كمثلك في أمر نفسك، ليس بيننا فرق ولا اختلاف، بل كلانا شريك صاحبه في رأيه وقوله، فوالله ما تعلمنا غير معذرّين فيما بيننا وبينك، ولا تعرفنا غير قانتين عليك ولا تجدنا غير راجعين اليك، فنحن نسألك من نفسك مثل ما سألتنا من أنفسنا.
وأمّا قولك: لو غالبتني الناس ما أنتصرت إلاّ بكما أو تهضّموني ما تعزّزت إلاّ بعزّكما، فأين بنا وبك عن ذلك ونحن وأنت كما قال أخو كنانة:
بدا بخير ما رام نال وان يرم | نخض دونه غمرا من اللغر رائمه |
لنا ولهم منا ومنهم على العدى | مراتب عـزّ مصعـدات سلالـمه |
وأمّا قولك في هيج العدو إياك وإغرائه لك بنا، فوالله ما أتاك العدو من ذلك شيئاً إلاّ وقد أتانا بأعظم منه فمنعناه ما أراد ما منعك من مراقبة الله والرحم،
وأمّا مساءلتك إيانا عن رأينا فيك وما ننطوي عليه لك، فإنا نخبرك ان ذلك إلى ما تحبّ لا يعلم واحد منا من صاحبه إلاّ ذلك، ولا يقبل منه غيره، وكلانا ضامن على صاحبه ذلك وكفيل به، وقد برّأت أحدنا وزكّيته وأنطقت الآخر وأسكته، وليس السقيم منا ممّا كرهت بأنطق من البري فيما ذكرت، ولا البري منا ممّا سخطت بأظهر من السقيم فيما وصفت، فإما جمعتنا في الرضا وإما جمعتنا في السخط، لنجازيك بمثل ما تفعل بنا في ذلك مكايلة الصاع بالصاع، فقد أعلمناك رأينا وأظهرنا لك ذات أنفسنا وصدقناك، والصدق - كما ذكرت - أنجى وأسلم، فأجب إلى ما دعوت إليه، وأجلل عن النقص والعذر مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وموضع قبره، وأصدق تنج وتسلم ونستغفر الله لنا ولك.
قال ابن عباس: فنظر إليّ عليّ (عليه السلام) نظر هيبة، وقال: دعه حتى يبلغ رضاه فيما هو فيه. فوالله لو ظهرت له قلوبنا وبدت له سرائرنا حتى رآها بعينه كما يسمع الخبر عنها بإذنه ما زال متجرّماً منتقماً، والله ما أنا ملقى على وضمة، وإني لمانع ما وراء ظهري، وان هذا الكلام لمخالفة منه وسوء عشرة. فقال عثمان: مهلاً أبا حسن فوالله إنّك لتعلم ان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وصفني بغير ذلك يوم يقول وأنت عنده: إنّ من أصحابي لقوماً سالمين لهم وانّ عثمان لمنهم انّه لأحسنهم بهم ظناً وأنصحهم لهم حبّاً.
فقال عليّ (عليه السلام): فصدّق قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بفعلك، وخالف ما أنت الآن عليه، فقد قيل لك ما سمعت وهو كاف إن قبلت، قال عثمان: تثق يا أبا الحسن؟ قال: نعم أثق ولا أظنك فاعلاً.
قال ابن عباس: فأخذت بأيديهما حتى تصافحا وتصالحا وتمازحا، ونهضت عنهما فتشاورا وتآمرا وتذاكرا، ثمّ افترقا: فوالله ما مرّت ثالثة حتى لقيني كلّ واحد منهما يذكر من صاحبه ما لا تبرك عليه الإبل، فعلمت أن لا سبيل إلى صلحهما بعدها»(1).
15- وروى الزبير بن بكار في كتاب الموفقيات عن عمه عن عيسى بن داود عن رجاله قال: «قال ابن عباس (رحمه الله): لما بنى عثمان داره بالمدينة أكثر الناس عليه في ذلك فبلغه، فخطبنا في يوم جمعة ثمّ صلّى بنا ثمّ عاد إلى المنبر فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على رسوله ثمّ قال:
أمّا بعد فانّ النعمة إذا حدثت حدث لها حسّاد حسبها وأعداء قدرها، وإنّ الله لم يحدث لنا نعماً ليحدث لها حسّاد عليها ومنافسون فيها، ولكنه قد كان من بناء منزلنا هذا ما كان أرادة جمع المال فيه وضم القاصية إليه. فأتانا عن أناس منكم أنّهم يقولون أخذ فيأنا وأنفق شيأنا واستأثر بأموالنا، يمشون خمراً، وينطقون سراً، كأنا غيّب عنهم، وكأنّهم يهابون مواجهتنا، معرفة منهم بدحوض حجتهم، فاذا غابوا عنا يروح بعضهم إلى بعض يذكرنا، وقد وجدوا على ذلك أعواناً من نظرائهم ومؤازرين من شبهائهم، فبُعداً بُعداً، ورغماً رغماً، ثمّ أنشد بيتين كأنه يوميء فيهما إلى عليّ (عليه السلام):
توقـّد بنار أينما كنت وأشتعـل | فلست ترى ممّا تعالج شافـياً |
تشط فيقصي الأمر دونك أهلـُه | وشيكاً ولا تدعى إذا كنت نائياً |
____________
(1) نفس المصدر 2/399.
قال: ثمّ همّ بالنزول فبصر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ومعه عمّار بن ياسر (رضي الله عنه) وناس من أهل هواه يتناجون فقال: أيهاً أيهاً أسراراً لا جهاراً، أما والذي نفسي بيده ما أحنق على جرة ولا أوتى على ضعف مرة، ولولا النظر لي ولكم والرفق بي وبكم لعاجلتكم فقد أغتررتم، وأقلتم من أنفسكم، ثمّ رفع يديه يدعو ويقول: اللّهمّ قد تعلم حبي للعافية فألبسنيها، وإيثاري للسلامة فاتنيها.
قال: فتفرق القوم عن عليّ (عليه السلام)، وقام عدي بن الخيار فقال: أتم الله عليك يا أمير المؤمنين النعمة وزادك في الكرامة، والله لأن تـُحسد أفضل من أن تحسد، ولأن تُـنافس أجل من أن تنافِس، أنت والله في حبنا الصميم ومنصبنا الكريم، إن دعوت أُجبت، وأن أمرت أُطعت، فقل نفعل وادع نجب. جُعلت الخيرة والشورى إلى أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليختاروا لهم ولغيرهم، وانّهم ليـرون مكانك
اذهب إليك فـما للحسود | طـلابـك تحت العـثار |
حكمتَ فما جُرت في خُلةٍ | فحكمك بالحقّ بادي المنار |
فإن يسبعـوك قـسراً وقد | جهرتَ بسيفك كلّ الجهار |
قال: ونزل عثمان فاتى منزله، وأتاه الناس وفيهم ابن عباس فلمّا أخذوا مجالسهم أقبل على ابن عباس فقال: مالي ولكم يا بن عباس؟ ما أغراكم بي وأولعكم بتعقـّب أمري؟ أتنقمون عليّ أمر العامة أتيت من وراء حقوقهم أم أمركم، فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم، لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر وإحياء الفتن والله لقد ألقى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إليَّ ذلك، وأخبرني عن أهله واحداً واحداً، والله ما كذبت ولا أنا بمكذوب.
فقال ابن عباس: على رسلك يا أمير المؤمنين، فوالله ما عهدتك جَهِراً بسرّك ولا مظهراً ما في نفسك فما الّذي هيّجك وثوّرك؟ إنا لم يولعنا بك أمر، ولم نتعقب أمرك بشيء، أُتيت بالكذب وتـُسوّق عليك بالباطل، والله ما نقمنا عليك لنا ولا للعامة، قد أوتيت من وراء حقوقنا وحقوقهم، وقضيت ما يلزمك لنا ولهم، فأمّا الحسد والبغي وتثوير الفتن وإحياء الشرّ فمتى رضيت به عترة النبيّ وأهل بيته، كيف وهم منه واليه، على دين الله يثورون الشر؟ أم على الله يحيون الفتن؟ كلا ليس البغي ولا الحسد من طباعهم، فاتئد يا أمير المؤمنين وأبصر أمرك وأمسك عليك، فان حالتك الأولى خير من حالتك الأخرى، لعمري إن كنت