الصفحة 271
لأثيراً عند رسول الله وإن كان ليفضي إليك بسره ما يطويه عن غيرك ولا كذبت ولا أنت بمكذوب، أخسىء الشيطان عنك ولا يركبك، وأغلب غضَبك ولا يغلبك، فما دعاك إلى هذا الأمر الّذي كان منك؟

قال: دعاني إليه ابن عمك عليّ بن أبي طالب.

فقال ابن عباس: وعسى أن يكذب مبلّغك؟

قال عثمان: إنّه ثقة.

قال ابن عباس: إنّه ليس بثقة من بلّغ وأغرى.

قال عثمان: يا بن عباس ألله انّك ما تعلم من عليّ ما شكوت منه؟

قال: اللّهمّ لا، إلاّ أن يقول كما يقول الناس ينقم كما ينقمون، فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟

فقال عثمان: إنّما آفتي من أعظم من الداء الّذي ينصب نفسه لرأس الأمر وهو عليّ ابن عمك، وهذا والله كلّه من نكده وشؤمه.

قال ابن عباس: مهلاً أستثن يا أمير المؤمنين قل إن شاء الله.

فقال: إن شاء الله، ثمّ قال: إنّي أنشدك يا بن عباس الإسلام والرحم فقد والله غُلبت وابتليت بكم والله لوددت أن هذا الأمر كان صار إليكم دوني، فحملتموه عني وكنت أحد أعوانكم عليه، إذاً والله لوجدتموني لكم خيراً ممّا وجدتكم لي. ولقد علمتُ أن الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه وأختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أرفعوه عنكم، أم رفعوكم عنه؟

قال ابن عباس: مهلاً يا أمير المؤمنين فانا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا وبك حسوداً، ان أمرك إليك ما

الصفحة 272
كان قولاً، فإذا صار فعلاً فليس إليك ولا في يديك، وانا والله لنخالفنّ إن خولفنا ولننازعنّ إن نوزعنا، وما تمنيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلاّ أن يقول قائل منا ما يقوله الناس، ويعيب كما عابوا.

فأمّا صرف قومنا عنا الأمر فعن حسدٍ قد والله عرفته، وبغيٍ قد والله علمتَه، فالله بيننا وبين قومنا.

وأمّا قولك: إنّك لا تدري أرفعوه عنا أم رفعونا عنه، فلعمري إنّك لتعرف إنّه لو صار إلينا هذا الأمر ما ازددنا به فضلاً إلى فضلنا، ولا قدراً إلى قدرنا، وإنا لأهل الفضل وأهل القدر، وما فضل فاضل إلاّ بفضلنا، ولا سبق سابق إلاّ بسبقنا، ولولا هدينا ما أهتدى أحد، ولا أبصروا من عمىً ولا قصدوا من خور.

فقال عثمان: حتى متى يا بن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني، هبوني كنت بعيداً ما كان لي من الحقّ عليكم أن أراقب وأن أناظر، بلى ورب الكعبة، ولكن الفرقة سهّلت لكم القول فيّ وتقدّمت لكم إلى الإسراع إليَّ والله المستعان.

قال ابن عباس: مهلاً حتى ألقى عليّاً ثمّ أحمل إليك على قدر ما أرى.

قال عثمان: افعل فقد فعلت، وطالما طلبت فلا أطلب ولا أجاب ولا أعتب.

قال ابن عباس: فخرجت فلقيت عليّاً وإذا به من الغضب والتلظي أضعاف ما بعثمان، فأردت تسكينه فأمتنع، فأتيت منزلي وأغلقت بابي وأعتزلتهما. فبلغ ذلك عثمان فأرسل إليَّ فأتيته وقد هدأ غضبه، فنظر إليّ ثمّ ضحك وقال: يا بن عباس ما أبطأ بك عنا؟ إنّ تركك العَود إلينا لدليل على ما رأيت عند صاحبك، وعرفت من حاله فالله بيننا وبينه خذ بنا في غير ذلك.


الصفحة 273
قال ابن عباس: فكان عثمان بعد ذلك إذا أتاه عن عليّ فأردت التكذيب عنه يقول: ولا يوم الجمعة أبطأت عنا وتركتَ العود إلينا، فلا أدري كيف أردّ عليه... اهـ»(1).

16- وروى الزبير بن بكار أيضاً في الموفقيات عن ابن عباس (رحمه الله) قال: «خرجت من منزلي سحراً أسابق إلى المسجد وأطلب الفضيلة فسمعت خلفي حساً وكلاماً فتسمعته فإذا حس عثمان وهو يدعو ولا يرى أنّ أحداً يسمعه ويقول: اللّهمّ قد تعلم نيّتي فأعنّي عليهم، وتعلم الذين أبتليت بهم من ذوي رحمي وقرابتي فأصلحني لهم وأصلحهم لي.

قال: فقصّرت من خطوتي واسرع في مشيته فألتقينا فسلّم فرددت عليه. فقال: انّي خرجت ليلتنا هذه أطلب الفضل والمسابقة إلى المسجد، فقلت: إنّه أخرجني ما أخرجك، فقال: والله لئن سابقت إلى الخير انّك لمن سابقين مباركين، وإنّي لأحبكم وأتقرب إلى الله بحبكم.

فقلت: يرحمك الله يا أمير المؤمنين إنا لنحبّك ونعرف سابقتك وسنّك وقرابتك وصهرك.

قال: يا بن عباس فما لي ولأبن عمك وابن خالي، قلت: أي بني عمومتي وبني أخوالك؟ قال: اللّهم غفراً تسأل مسألة الجاهل، قلت: إنّ بني عمومتي من بني خؤلتك كثير فأيهم تعني؟ قال: أعني عليّاً لا غيره. فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ما أعلم منه إلاّ خيراً ولا أعرف له إلاّ حسناً.

قال: والله بالحري أن يستر دونك ما يظهره لغيرك، ويقبض عنك ما يبسط به إلى سواك.

____________

(1) نفس المصدر.


الصفحة 274
قال: ورمينا بعمّار بن ياسر فسلّم فرددت عليه سلامه ثمّ قال: من معك؟ قلت أمير المؤمنين عثمان. قال نعم وسلّم بكنيته ولـم يسلّم عليه بالخلافة فـردّ عليه.

ثمّ قال عمّار: ما الّذي كنتم فيه فقد سمعت ذرواً منه؟ قلت: هو ما سمعت، فقال عمّار: رب مظلوم غافل وظالم متجاهل. قال عثمان: أما إنّك من شناتنا وأتباعهم، وأيم الله إنّ اليد عليك منبسطة، وإنّ السبيل إليك لسهلة، ولولا إيثار العافية ولمّ الشعث لزجرتك زجرة تكفي ما مضى وتمنع ما بقي.

فقال عمّار: والله ما أعتذر من حبي عليّاً وما اليد بمنبسطة ولا السبيل بسهلة، إنّي لازم حجة ومقيم على سنّة، وأمّا إيثارك العافية ولمّ الشعث فلازم لك ذلك، وأمّا زجري فأمسك عنه فقد كفاك معلّمي تعليمي.

فقال عثمان: أما والله إنّك ما علمت من أعوان الشر الحاضين عليه الخذلة عند الخير والمثبطين عنه.

فقال عمّار: مهلاً يا عثمان فقد سمعتَ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يصفني بغير ذلك.

قال عثمان: ومتى؟

قال يوم دخلت عليه منصرفه عن الجمعة وليس عنده غيرك وقد ألقى ثيابه وقعد في فضله فقبّلت صدره ونحره وجبهته.

فقال: يا عمّار إنّك لتحبّنا وإنا لنحبّك، وانك لمن الأعوان على الخير المثبّطين عن الشرّ.

فقال عثمان: أجل ولكنك غيّرت وبدّلت.

قال: فرفع عمّار يده يدعو وقال: أمّن يا بن عباس: اللّهم مَن غيّر فغيّر به. ثلاث مرات.


الصفحة 275
قال: ودخلنا المسجد، فأهوى عمّار إلى مصلاه ومضيت مع عثمان إلى القبلة فدخل المحراب وقال: تلبث عليّ إذا أنصرفنا.. فلمّا رآني عمّار وحدي أتاني فقال: أما رأيت ما بلغ بي آنفاً.

قلت: أما والله لقد أصعبتَ به وأصعب بك وان له لسنّه وفضله وقرابته.

قال: إنّ له ذلك، ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه. وانصرف، وصلّى عثمان وأنصرفت معه يتوكأ عليّ. فقال: هل سمعت ما قال عمّار؟ قلت: نعم فسرّني ذلك وساءني، أمّا مساءته اياي فما بلغ بك وأمّا مسرّته لي فحملك واحتمالك. فقال: انّ عليّاً فارقني منذ أيام على المقاربة، وان عماراً آتيه فقائل له وقائل، فابدره إليه فإنّك اوثق عنده منه وأصدق قولاً فألق الأمر إليه على وجهه. فقلت: نعم وأنصرفت أريد عليّاً (عليه السلام) في المسجد فإذا هو خارج منه، فلمّا رآني تفجّع لي من فوت الصلاة وقال: ما أدركتها؟ قلت: بلى ولكني خرجت مع أمير المؤمنين، ثمّ أقتصصت عليه القصة.

فقال: أما والله يا بن عباس إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها.

فقلت: إن له سنّه وسابقته وقرابته وصهره.

قال: إن ذلك له ولكن لا حقّ لمن لا حقّ عليه. قال: ثمّ رهقنا عمّار فبشّ به عليّ وتبسّم في وجهه وسأله، فقال عمّار: يا بن عباس هل ألقيت إليه ما كنا فيه؟ قلت: نعم، قال: أما والله إذاً لقد قلت بلسان عمّار ونطقت بهواه. قلت: ما عدوت الحقّ جهدي، ولا ذلك من فعلي وانك لتعلم أيّ الحظين أحبّ إليَّ، وأيّ الحقين أوجب عليّ.

قال: فظن عليّ انّ عند عمّار غير ما ألقيت إليه، فأخذ بيده وترك يدي، فعلمت إنّه يكره مكاني فتخلّفت عنهما وأنشعب بنا الطريق فسلكاه ولم يدعني،

الصفحة 276
فأنطلقت إلى منزلي، فاذا رسول عثمان يدعوني فأتيته، فأجد ببابه مروان وسعيد ابن العاص في رجال من بني أمية، فأذن لي وألطفني وقرّبني وأدنى مجلسي ثمّ قال: ما صنعت؟ فأخبرته الخبر على وجهه وما قال الرجل وقلت له وكتمته قوله إنّه ليقرف قرحة ليحورنّ عليه ألمها، إبقاءً عليه وإجلالاً له، وذكرت مجيء عمّار وبشّ عليّ له وظن عليّ أن قِبلـَه غير ما ألقيت عليه، وسلوكهما حيث سلكا. قال: وفعلا؟ قلت: نعم. فأستقبل القبلة ثمّ قال: اللّهم ربّ السموات والأرض عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم أصلح لي عليّاً وأصلحني له، أمّن يا بن عباس، فأمّنت، ثمّ تحدثنا طويلاً وفارقته وأتيت منزلي... اهـ»(1).

17- ذكر ابن قتيبة في الإمامة والسياسة وابن عبد ربه في العقد الفريد: «وكان عليّ كلما اشتكى الناس إليه أمر عثمان أرسل أبنه الحسن إليه، فلمّا أكثر عليه قال له: إنّ أباك يرى أنّ أحداً لا يعلم ما علم، ونحن أعلم بما نفعل، فكفّ عنّـا، فلم يبعث عليّ ابنه في شيء بعد ذلك.

وذكروا انّ عثمان صلّى العصر ثمّ خرج إلى عليّ يعوده في مرضه ومروان معه، فرآه ثقيلاً، فقال: أما والله لولا ما أرى منك ما كنت أتكلم بما أريد أن أتكلّم به، والله ما أدري أيّ يوميك أحبّ إليَّ أو أبغض؟ أيوم حياتك؟ أو يوم موتك؟ أما والله لئن بقيت لا أعدم شامتاً يعدّك كهفاً، ويتخذك عضداً، ولئن متّ لأفجعنّ بك، فحظـّي منك حظّ الوالد المشفق من الولد العاقّ، إن عاش عقـّه، وان مات فجعه، فليتك جعلت لنا من أمرك لنا علماً نقف عليه ونعرفه، إما صديق مسالم، وإما عدو مُعاني، ولا تجعلني كالمختنق بين السماء والأرض، لا يرقى بيد

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/396.


الصفحة 277
ولا يهبط برجل، أما والله لئن قتلتك لا أصيب منك خَلـَفاً، ولئن قتلتني لا تصيب مني خلفاً، وما أحب أن أبقى بعدك.

قال مروان: إي والله وأخرى إنّه لا ينال ما وراء ظهورنا حتى تكسّر رماحنا وتقطع سيوفنا، فما خير العيش بعد هذا. فضرب عثمان في صدره وقال: ما يدخلك في كلامنا؟

فقال عليّ: إنّي والله في شغل عن جوابكما ولكني أقول كما قال أبو يوسف {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}»(1).

18- ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد: وقال عبد الله بن العباس: أرسل إليّ عثمان فقال لي: إكفني ابن عمك. فقلت: إن ابن عمي ليس بالرجل يُرى له ولكنه يرى لنفسه فأرسلني إليه بما أحببت. قال: قل له فليخرج إلى ما له بينبع فلا أغتمّ به ولا يغتمّ بي، فأتيت عليّاً فأخبرته، فقال: ما اتخذني عثمان إلاّ ناضحاً ثمّ أنشد يقول:


فكيف به أنّى أداوي جراحَهفيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

أما والله أنّه ليختبر القوم، فأتيت عثمان فحدثته الحديث كلّه إلاّ البيت الّذي أنشده وقوله أنّه ليختبر القوم. فأنشد عثمان:


فكيف به أنّى أداوي جراحَهفيَدوى فلا مُلّ الدواء ولا الداء

وجعل يقول: يا رحيم أنصرني، يا رحيم أنصرني.

قال: فخرج عليّ إلى ينبع فكتب إليه عثمان حين أشتد الأمر: أمّا بعد فقد بلغ السيل الزُبى، وجاوز الحزام الطبيين، وطمع فيّ من كان يضعف عن نفسه.

____________

(1) الإمامة والسياسة 1/30، والعقد الفريد ط لجنة التاليف والترجمة والنشر بمصر، والآية من سورة يوسف /18.


الصفحة 278

فإنّك لم يفخر عليك كفاخرضعيف ولم يغلبك مثلُ مغلّبِ

فأقبل إليَّ علـى أيّ أمر يك أحببت، وكن لـي أم عليّ، صديقاً كنت أم عدواً:


فإن كنت مأكولا فكن خير آكلوإلاّ فأدركني ولمّا أمزّق(1)

19- روى الشريف الرضي في نهج البلاغة قال: «ومن كلام له (عليه السلام) قال لعبد الله بن عباس وقد جاءه برسالة من عثمان وهو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس بأسمه للخلافة، بعد أن كان سأله مثل ذلك من قبل. فقال (عليه السلام):

يا بن عباس ما يريد عثمان إلاّ أن يجعلني جملاً ناضحاً بالغَرب، اقبل وأدبر، بعث إليَّ أن أخرج ثمّ بعث إليَّ أن أقدم، ثمّ هو الآن يبعث إليَّ أن أخرج، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثماً»(2).

مظاهر الحب والبغض بين قريش وبين بني هاشم:

لا شك أن الحبّ والبغض لهما من المظاهر ما لا يخفى أثره مهما حاول صاحبهما الكتمان ومنها الرضا والسخط، كما أن لهما نوازع نفسية تدفع بصاحبها إلى تلك المظاهر.

____________

(1) العقد الفريد 4/309.

وجاء في أنساب الأشراف 1ق4/568 تح ـ إحسان عباس بيروت عن يحيى بن سعيد قال: كان طلحة قد استولى على أمر الناس في الحصار فبعث عثمان عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب إلى عليّ بهذا البيت. وذكر في حديث أبي مخنف قال صلّى عليّ بالناس يوم النحر وعثمان محصور فبعث عثمان ببيت المزق... وسيأتي تمام الحديث في محله.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/282 ط مصر الأولى.


الصفحة 279
فمن كانت نوازعه خيّرة كانت مظاهره كذلك تدعو إلى الخير - والعكس بالعكس-.

وإذا أردنا أن نعرف مدى صحة ذلك عند بني هاشم وسائر الناس ومنهم قريش، نجد لبني هاشم ضوابط أخلاقية من قبل الإسلام حددتها وثيقة حلف المطيبين ووثيقة حلف الفضول، وزادت في توثيق عراها تعاليم الإسلام الّتي جاءهم بها النبيّ الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو منهم، فكانت موازين الحبّ والبغض- كما في حديث ابن عباس مرفوعاً وموقوفاً - قال: «عادِ في الله، ووالِ في الله. فإنّه لا ينال ولاية الله إلاّ بذاك، ولا يجد رجل طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصيامه حتى يكون كذلك»(1)، وعلى ضوء ذلك كانت مظاهر حبّهم وسخطهم.

أمّا عن قريش سواء الحاكمين منهم والمحكومين، عدا بني المطلب - كما مرّ ويأتي، فإنّهم كانوا وبني هاشم يداً واحدة في الجاهلية وفي الإسلام - فإنّهم كانوا يبغضون بني هاشم بدءاً من الرسول الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ومروراً بأقرب الناس إليه وانتهاءً بأحفاده وذراريه من بعده.

فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صاحب الخلق الرفيع آذوه في بدء الدعوة ولم يقف أذاهم حتى يوم وفاته، وما حديث الكتف والدواة وبعث أسامة ولعن من تخلـّف عنه من القارئ ببعيد.

ومع ذلك كلّه فقد كان يريدهم أن يكونوا كما أراد الله يسيروا على هديه فتركهم وسائر أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها. فهو لهم من الناصحين، ولكن قريشاً لا تحب الناصحين.

____________

(1) كنز العمال 1/288 ط مؤسسة الرسالة في حلب.


الصفحة 280
ثمّ عليّ (عليه السلام) كذلك أحبّ لهم ما أحبّه لهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولكنهم ما أحبّوه بل أبغضوه، ولهم تبريرات سيأتي ذكرها، وخذ بعدُ سائر وجوه بني هاشم كالعباس وابنه عبد الله وأضرابهما، ممن أحبّوا لقريش الخير ولكن قريش كانت تكنّ لهم بغضها، وتظهره حين توافيها الفرصة. فيعمل ذلك في تبدّل المظاهر، فيكون السخط وتكون النقمة. والآن لابدّ لنا من معرفة دور الهاشميين في أيام عثمان من أحداثه، فهو واحد من القرشيين، وهو واحد من الخالفين فهل كان عليّ من الساخطين ومع الساخطين؟

وهل كانت كذلك بقية الهاشميين؟

سؤال يفرض نفسه حين نقرأ تناقضات قرشية مبعثرة هنا وهناك. وللإجابة على السؤال علينا أن نقرأ بعض ما مرّ في حياة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حول الموضوع، فانّه من ذلك اليوم معه تجذرت الأصول ثمّ تنامت مع الزمن الفروع، فأثمرت مُرّاً بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم). ولم يزل أهل البيت يتجرعون مرارة الإقصاء عن مراتبهم الّتي رتبهم الله فيها، مع ما كان عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من عطف وحنان على جميع الأمة وقريش منها، ثمّ هو الّذي فضّلهم على سائر العرب. فكانوا يفخرون بذلك، لكن قريشاً تأبى أن تخضع لبني هاشم فتقرّ لهم بالفضل عليهم. فإلى تلك النصوص:

أخرج ابن سعد في الطبقات بسنده عن عبد الله بن حارثة انّه قال: «لمّا قدم صفوان بن أمية بن خلف الجمحي قال له رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (على من نزلتَ يا أبا وهب)؟ قال: نزلت على العباس بن عبد المطلب.

قال: (نزلت على أشدّ قريش لقريش حبّاً)»(1).

____________

(1) طبقات ابن سعد 4ق1/15.


الصفحة 281
وقد مرّ بنا في ترجمة العباس موقفه في فتح مكة وأتيانه بأبي سفيان حتى أسلم بعد جهدٍ من العباس. فلنقرأ ماذا كان جزاؤه من قريش! وهو الّذي كان كما في حديث رواه الحاكم في المستدرك: «قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (العباس عم نبيكم أجود قريشاً كفاً وأحناه عليكم)»(1)، وفي لفظ آخر: (أوصلها لها).

فقد أخرج ابن أبي شيبة في مصنفه: «أن العباس دخل على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مَن أغضبك؟ قال: يا رسول الله ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقوا بوجوه مبشرة، وإذا لقونا لقونا بغير ذلك. قال: فغضب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حتى أحمرّ وجهه وحتى أستدر عرقٌ بين عينيه - وكان إذا غضب أستدرّ - فلمّا سرّي عنه قال: والذي نفس محمّد بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله. ثمّ قال: أيها الناس من آذى عمي العباس فقد آذاني، إن عم الرجل صنو أبيه»(2).

ولم يقف بغضهم عند حدّ حتى كان رجل من المهاجرين يلقى العباس فيقول له يا أبا الفضل أرأيت عبد المطلب بن هاشم والغيطلة كاهنة بني سهم جمعهما الله جميعاً في النار، فصفح عنه، ثمّ لقيه الثانية فقال له مثل ذلك فصفح عنه، ثمّ لقيه الثالثة فقال له مثل ذلك، فرفع العباس يده فوجأ أنفه فكسره، فأنطلق الرجل كما هو إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فلمّا رآه قال: ما هذا؟ قال: العباس، فأرسل إليه فجاءه فقال: ما أردت إلى رجل من المهاجرين؟ فقال: يا رسول الله والله لقيني فقال - وذكر مقالته - فصفحت عنه مراراً، ثمّ والله ما ملكت نفسي، وما إياه أراد ولكنه أرادني.

____________

(1) مستدرك الحاكم 3/328.

(2) مصنف ابن أبي شيبة 12/108ط باكستان، وقارن سنن الترمذي(المناقب)، ومستدرك الحاكم 3/333.


الصفحة 282
فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (ما بال أحدكم يؤذي أخاه في الأمر...)(1)، وكأن المهاجرين لم يسمع قوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء)(2).

ولئن تكتم الراوي على اسم الرجل من المهاجرين في هذا الحديث، إلاّ أنّ قتادة نمّ على استحياء على اسمه فقال: كان بين عمر وبين العباس قول فأسرع إليه العباس، فجاء عمر إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: «ألم تر عباساً فعل بي كذا وكذا وفعل فأردت أن أجيبه فذكرت مكانه منك فكففتَ عنه، فقال: يرحمك الله إن عمّ الرجل صنو أبيه»(3).

وفي حديث آخر كشف العباس السبب في تمعّر الوجوه عند ملاقاتهم فقال: «يا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم. فقال النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (لن يصيبوا خيراً حتى يحبوكم لله ولقرابتي. ترجو سلهف شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب)»(4).

والآن فقد تبيّن سبب انقباض قريش من بني هاشم فكانت تلاقيهم بوجوه عليها غبرة ترهقها قترة. لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أوقع فيهم وقائع أورثتهم البغضاء وملأت قلوبهم الشحناء.

وإذا رجعنا إلى تاريخ تلك الوقائع نجد الإمام عليّ (عليه السلام) هو فارسها المقدّم في جميع الحروب فبدءاً من وقعة بدر وهي الّتي أعز الله بها المسلمين وأذل قريش المشركين، نجد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ندب عمه الحمزة وعبيدة بن الحارث من بني

____________

(1) طبقات ابن سعد 3 ق 1/16.

(2) مجمع الزوائد 8/76.

(3) طبقات ابن سعد 3 ق 1/17.

(4) المصنف لابن أبي شيبة 12/109، وتهذيب ابن عساكر لابن بدران 7/239. وسلهف حي من أحياء العرب.


الصفحة 283
المطلب وابن عمه عليّ بن أبي طالب فكانوا أوّل المجاهدين من المسلمين في تلك الوقعة وقد قتلوا ثلاثة من صناديد قريش وكلّهم من بني أمية، وهم عتبة وشيبة والوليد، وفي هذه الوقعة مات عبيدة مرتثاً بجراحه، فبقي الحمزة وعليّ، حتى إذا كان يوم أحد واستشهد الحمزة بتحريض هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية فقد أغرت وحشياً على أن يقتل لها أحد الثلاثة محمّداً أو الحمزة أو عليّ، فأصاب الحمزة، ومثلـّت به هند حتى استخرجت كبده فلاكتها، وبقي عارها عليها وعلى ابنها معاوية فكان يعيّر بابن آكلة الأكباد، فبنو حرب لم ينسوا ما كان من حمزة وعليّ وعبيدة في يوم بدر، كما ان بني هاشم لم ينسوا ما كان من هند يوم أحد، وبعد يوم أحد لم يبق من الثلاثة الذين عضدوا النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من بني هاشم يوم بدر إلاّ عليّ، فكان يخوض غمار الوقائع فكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلما فغرت فاغرة للمشركين قذف أخاه في لهواتها، فلا ينكفيء حتى يطأ صماخها بأخمصه مكدوداً دؤباً في سبيل الله، فانظر تاريخ الوقائع في الأحزاب، وخيبر وحنين وغيرها تجد شواهد الصدق، فتلكم هي الوقائع الّتي أورثت الأضغان في القرشيين، فكانوا لا يحبون الهاشميين، ومنهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فكانوا وهم يظهرون الإسلام ويخرجون مع النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حروبه، إلاّ أنّهم يسرّون حسواً في أرتغاء، وما دحرجة الدباب ليلة العقبة إلاّ دليل ذلك الحقد الدفين والكاشف عن النفاق.

ففي صحيح مسلم بسنده عن أبي الطفيل قال: «كان بين رجل من أهل العقبة وبين حذيفة ما يكون بين الناس، فقال: أنشدك الله كم كان أصحاب العقبة؟ فقال له القوم: أخبره إذ سألك.

قال: كنا نجد أنّهم أربعة عشر، فإن كنت فيهم فقد كان القوم خمسة عشر، وأشهد بالله أن إثني عشر منهم حرب لله ولرسوله ويوم يقوم الأشهاد، وعذر

الصفحة 284
ثلاثة، وقالوا: ما سمعنا منادي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا علمنا بما أراد القوم، وقد كان في حرّة فمشى فقال: إن الماء قليل فلا يسبقني إليه أحد، فوجد قوماً قد سبقوه فلعنهم يومئذ»(1) فأنجاه الله ممّا مكروا وأرادوا به كيداً فجعلهم الأخسرين.

____________

(1) جاء في هامش صحيح مسلم 8/123 قوله (عليه السلام) في أمتي اثنا عشر منافقاً وهم الذين قصدوا قتل النبيّ (عليه السلام) ليلة العقبة مرجعه من تبوك، حين أخذ النبيّ (عليه السلام) مع عمّار وحذيفة طريق الثنيّة والقوم بطن الوادي، فطمع أثنا عشر رجلاً في المكر به فاتبعوه ساترين وجوههم غير أعينهم، فلمّا سمع رسول الله خشفة القوم من ورائه أمر حذيفة أن يردّهم، فخوّفهم الله حين أبصروا حذيفة، فرجعوا مسرعين على أعقابهم حتى خالطوا الناس، فأدرك حذيفة النبيّ (عليه السلام) فقال لحذيفة: هل عرفت أحداً منهم؟ قال: لا فإنهم كانوا متلثمين، ولكن أعرف رواحلهم، فقال (عليه السلام) : إن الله أخبرني بأسمائهم وأسماء آبائهم، وسأخبرك بهم إن شاء الله عند الصباح، فمن ثمة كان الناس يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، قيل: أسرّه النبيّ أمر هذه الفئة المشؤمة لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم... أهـ مبارق. ولم يرق لابن حزم ذلك فقال: وأمّا حديث حذيفة فساقط، لأنه من طريق الوليد ابن جميع وهو هالك ولا نراه يعلم من وضع الحديث، فانه قد روى أخباراً فيها أن أبا بكر وعمر وعثمان وطلحة وسعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه) أرادوا قتل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والقاءه من العقبة في تبوك. وهذا هو الكذب الموضوع الّذي يطعن الله واضعه.

أقول: وما ذكره ابن حزم في توهين الوليد بن جميع إنما هو دفع بالصدور وليس بشيء، ويبدو التشنج في كلامه واضحاً حيث رماه بالهلكة وليس هو كذلك، فقد ذكره رجال الجرح والتعديل من العامة فأثنوا عليه وقالوا: هو الوليد بن عبد الله بن جميع الزهيري وقد ينسب إلى جده. قال ابن سعد كان ثقة له أحاديث قال أحمد وأبو داود: ليس به بأس، وقال ابن معين والعجلي: ثقة، وقال أبو زرعة: لا بأس به، وقال أبو حاتم صالح الحديث. وقال عمرو بن عليّ: كان يحيى بن سعيد لا يحدثنا عنه، فلمّا كان قبل موته بقليل حدثنا عنه. وذكره ابن حبان في الثقات قال ابن حجر: وذكره أيضاً في الضعفاء وقال: ينفرد عن الأثبات بما لا يشبه حديث الثقات فلمّا فحش ذلك منه بطل الإحتجاج به.

وقال البزار: أحتملوا حديثه وكان فيه تشيّع، وقال العقيلي في حديثه أضطراب، وقال الحاكم: لو لم يخرج له مسلم لكان أولى. راجع ميزان الأعتدال4/337، وتهذيب التهذيب 11/138.

أقول: فتبيّن بعد عرض هذه الأقوال ان الرجل لم يكن من الهالكين كما قال ابن حزم، كما لم يكن فحش تفرّده فبطل الأحتجاج به كما قال ابن حبان في الضعفاء، وانما

=>