(اللّهمّ إنّي أستعينك على قريش ومن أعانهم، فإنهم قطعوا رحمي، وصغّروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثمّ قالوا: إلاّ إنّ في الحقّ أن تأخذه، وفي الحقّ أن تتركه).
قال الشيخ محمّد عبده في شرحه: «ثمّ قالوا...أي أنّهم أعترفوا بفضله، وأنّه أجدرهم بالقيام به ففي الحقّ أن يأخذه، ثمّ لمّا اختار المقدّم في الشورى غيره، عقدوا له الأمر وقالوا للإمام: في الحقّ أن تتركه، فتناقض حكمهم بالحقية في القضيتين، ولا يكون الحقّ في الأخذ إلاّ لمن توفرت فيه الشروط»(2).
وقال (عليه السلام):
تلكم قريش تمناني لتقتلني | فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا |
____________
<=
قال ذلك ـ فيما أحسب ـ لأنه يروي حديث حذيفة وأمثال ذلك مما فيه أسماء رموز القرشيين، ثمّ ما قاله الحاكم لو لم يخرّج له مسلم لكان أولى، أفلا عطف على مسلم أبا داود والترمذي والنسائي فكلّهم أخرج له في سننه، فالرجل معدود من رجال الصحاح، الّذين قالوا بوثاقتهم حيّ على الفلاح، فليس هو بهالك وحديثه يصح أعتباره من المدارك. وقد أخرجه أحمد في مسنده عن أبي الطفيل ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. فسقط التعلق به والحمد لله رب العالمين.
اُنظر المحلى لابن حزم 11/221 - 224 وراجع منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5/91 نقلاً عن ابن أبي شيبة في المصنف.
(1) شرح نهج البلاغة لمحمّد عبده 1/77 ط الإستقامة.
(2) نفس المصدر 2/103 وفي بعض الروايات اللّهم إنّي أستعديك على قريش.
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم | بذات روقين ما يعفو لها أثر(1) |
وقد مرت بعض كلمات عمر مع ابن عباس وتأتي كاملة في صفحة أحتجاجاته، وفيها أقواله المعربة عن كراهية قريش للإمام نحو قوله: «ولكن قريش لا تحتمله»، وقوله: «وقريش لما قد وترها»، وقوله: «وبغض قريش له».
وقد ردّ ابن عباس على عمر أقواله كلّها فمن ذلك قوله: «وأمّا بغض قريش له، فوالله ما يبالي ببغضهم له بعد أن جاهدهم في الله حين أظهر الله دينه، فقصم أقرانها، وكسر آلهتها، وأثكل نساءها في الله، لامه من لامه»(2).
وإنّ أبلغ تمثيل قاله عمر في تصوير منتهى حقد قريش وكراهيتهم للإمام وتصويره: «إنّ قريشاً ينظرون إلى الإمام نظر الثور إلى جازره»، ولم أقف على هذا التشبيه عند غيره، وهو تشبيه بالغ الدقة في التصوير والتعبير. فهو قد جزر منهم سبعين.
قال عمر بن الخطاب لابن عباس. في حديث سيأتي بطوله في صفحة احتجاجاته.: «ما منع قومكم منكم؟
قال: لا أعلم يا أمير المؤمنين، قال: اللّهمّ اغفر إنّ قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة والخلافة فتذهبون في السماء بذخاً وشمخاً، لعلكم تقولون: انّ أبا بكر أراد الإمرة عليكم وهضمكم، قال: لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم ممّا فعل، ولولا رأي أبي بكر فيّ بعد موته لأعاد أمركم إليكم، ولو فعل ما هنأكم مع قومكم، إنّهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره»(3).
____________
(1) الفائق للزمخشري (روق) وذات الروقين أي الداهية العظيمة قال أبو عثمان المازني: لم يصح عندنا أن عليّاً تكلم من الشعر بشيء إلاّ هذين البيتين.
(2) فرائد السمطين 1/335 تح ـ المحمودي.
(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/63 ط مصر الأولى.
فاقرأ ما قاله عثمان لابن عباس - في حديث سيأتي بطوله في صفحة احتجاجاته -: «الله إنّك ما تعلم من عليّ ما شكوتُ منه؟ قال: اللّهمّ لا إلاّ أن يقول كما يقول الناس، ينقم كما ينقمون فمن أغراك به وأولعك بذكره دونهم؟ فقال عثمان: إنّما آفتي من أعظم الداء الّذي ينصب نفسه لرأس الأمر وهو عليّ ابن عمك. وهذا والله كلّه من نكده وشؤمه.
قال ابن عباس: مهلا استثن يا أمير المؤمنين قل ان شاء الله. فقال: إن شاء الله ثمّ قال إنّي أنشدك يا بن عباس الإسلام والرحم فقد والله غلبتُ وابتليت بكم، والله لوددت ان هذا الأمر كان صار إليكم دوني فحملتموه عني، وكنت أحد أعوانكم عليه، اذاً والله لوجدتموني لكم خيراً ممّا وجدتكم لي. ولقد علمت أنّ الأمر لكم ولكن قومكم دفعوكم عنه وأختزلوه دونكم، فوالله ما أدري أرفعوه عنكم أم رفعوكم عنه؟
قال ابن عباس: مهلاً يا أمير المؤمنين فإنا ننشدك الله والإسلام والرحم مثل ما نشدتنا أن تطمع فينا وفيك عدواً، وتشمت بنا وبك حسوداً، إنّ أمرك إليك ما كان قولا، فإذا صار فعلا فليس إليك ولا في يديك، وإنا والله لنخالفنّ إن خولفنا، ولننازعنّ إن نوزعنا، وما تمنّيك أن يكون الأمر صار إلينا دونك إلاّ أن يقول قائل منا ما يقوله الناس، ويعيب كما عابوا.
فأمّا صرف قومنا عنّا الأمر فعن حسد قد والله عرفته، وبغي قد والله علمته، فالله بيننا وبين قومنا.
فقال عثمان: حتى متى يا ابن عباس يأتيني عنكم ما يأتيني هبوني كنت بعيداً ما كان لي من الحقّ عليكم أن أراقـَب وأن أناظر، بلى ورب الكعبة ولكن الفـُرقة سهّلت لكم القول فيّ، وتقدمت إلى الإسراع إليّ والله المستعان»(1).
وروى أبو سعد الآبي في كتابه(2) عن ابن عباس قال: «وقع بين عثمان وعليّ (عليه السلام) كلام فقال عثمان: ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم وقد قتلتم منهم يوم بدر سبعين كأن وجوههم شنوف(3) الذهب تصرع أنـُفـُهُم قبل شفاههم»(4).
ومن حقّ السائل أن يسأل عثمان وشيعته عن المقتولين ببدر أليس كانوا مستحقين للقتل؟ فإن كانوا فما ذنب مَن قتلهم ما داموا كفاراً والإسلام أمر بقتلهم لأنهم هم الذين جاؤا لحربه؟
ثمّ ما بال عثمان يتحرق - وهو خليفة المسلمين - لقتل الكافرين، ثمّ يصفهم وصف المتلهف عليهم؟ إنّ ذلك معيب عليه لكن الرجل لم يتخل عن أمويته وتعصبه لقومه جميعاً كافرهم ومسلمهم، ميتهم وحيّهم، فهو يحقد على
____________
(1) نفس المصدر 2/395 ـ 396 ط الأولى بمصر.
(2) اسم كتابه نثر الدرر وقد طبع منه سابقاً بعضاً بمصر وطبع حديثاً في بيروت على ما بلغني.
(3) الشنوف والشَنف وهو القرط الأعلى، أو معلاق في قوف الأذن، أو ما علق في أعلاها، وأمّا ما علّق في أسفلها فقرط (قطر المحيط ـ شنف).
(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/400.
وما قريش الّتي لا تحب عليّاً ولا بني هاشم وينظرون إليهم نظر الثور إلى جازره كما مرّ عن عمر إلاّ وهم قريش الّتي ذكرها عثمان بقوله لعليّ: «ما أصنع إن كانت قريش لا تحبكم... الخ». رواه أبو نعيم في كتابه معرفة الصحابة ولفظه عن ابن عباس: «قال عثمان لعليّ (رضي الله عنهما): ما ذنبي إن لم يحبك قريش وقد قتلت منهم سبعين رجلا كأن وجوههم سيوف الذهب»(2).
وأحسب أن المعني لعثمان أوّلاً وآخراً هو الإمام عليّ (عليه السلام) لأنّه قاتل المشركين والكفار، فأوردهم النار وألزم آخرهم العار. لذلك عظمت بليّته، فكانت قريش بجميع بطونها ومنهم بنو أمية تحقد على بني هاشم ونبيها - كما مرّ عن عمر ذلك - ولا تحبّهم - كما قال عثمان - فكان سهم الإمام عظيماً كعظمته، وكثيراً كثرة جهاده.
روى ابن عساكر بسنده: «انّ رجلا سأل أحمد بن حنبل عن قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (عليّ قسيم النار) فقال: هذا حديث يضطرب طريقه عن الأعمش ولكن الحديث الّذي ليس عليه لبس قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق) وقال الله (عزّ وجلّ): {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ}(3) ?فمن أبغض عليّاً فهو في الدرك الأسفل من النار»(4).
____________
(1) مسند أحمد 1/217 ط محققة، 1/62 ط أفست مصر الأولى.
(2) معرفة الصحابة 1/300 - 301 ط الأولى أطروحة دكتوراه تح ـ د محمّد راضي بن حاج عثمان سنة 1408.
(3) النساء /145.
(4) تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الإمام عليّ) 2/253.
فإلى ما قاله واحد منهم وهو محمّد بن سليمان(1) حاجب الحجاب، وهذا الرجل لم يكن يتعصب لمذهب بعينه كما قال ابن أبي الحديد وقد رآه، فلنقرأ ما يقول: «وقد سأله جعفر بن مكي الحاجب عما عنده في أمر عليّ وعثمان فقال: هذه عداوة قديمة النسب بين عبد شمس وبين بني هاشم، وقد كان حرب بن اُمية نافر عبد المطلب بن هاشم، وكان أبو سفيان يحسد محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحاربه، ولم تزل الثنتان متباغضتين وإن جمعتهما المنافية، ثمّ إن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زوّج عليّاً بابنته، وزوّج عثمان بابنته الاُخرى وكان اختصاص رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لفاطمة أكثر من اختصاصه للبنت الأخرى، وللثانية الّتي تزوجها عثمان بعد وفاة الأولى. واختصاصه أيضاً لعليّ وزيادة قربه منه وامتزاجه به واستخلاصه إياه لنفسه، أكثر وأعظم من اختصاصه لعثمان، فَنَفَس عثمان ذلك عليه فتباعد ما بين قلبيهما...».
إلى أن قال: «ثمّ أتفق أن عليّاً (عليه السلام) قتل جماعة كثيرة من بني عبد شمس في حروب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فتأكد الشنآن، واذا أستوحش الإنسان من صاحبه أستوحش صاحبه منه.
ثمّ مات رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فصبا إلى عليّ جماعة يسيرة لم يكن عثمان منهم، ولا حضر في دار فاطمة مع مَن حضر من المخلّفين عن البيعة، وكانت في نفس عليّ (عليه السلام) أمور من الخلافة لم يمكنه إظهارها في أيام أبي بكر وعمر لقوة عمر وشدّته، وانبساط يده ولسانه.
____________
(1) وصفه ابن أبي الحديد بأنه حاجب الحجاب وقال: وكان ظريفاً أديباً وقد أشتغل بالرياضيات من الفلسفة ولم يكن يتعصب لمذهب بعينه.
ومع ذلك فلم يكن عليّ (عليه السلام) لينكر من أمره إلاّ منكراً، ولا ينهاه إلاّ عما تقتضي الشريعة نهيه عنه.
وكان عثمان مستضعفاً في نفسه، رخواً، قليل الحزم، واهي العقدة، وسلّم عنانه إلى مروان يصرّفه كيف شاء، فالخلافة له في المعنى ولعثمان في الإسم، فلمّا انتقض على عثمان أمره استصرخ عليّاً ولاذ به، وألقى زمام أمره إليه، فدافع عنه حيث لا ينفع الدفاع، وذبّ عنه حين لا يغني الذبّ، فقد كان الأمر فسد فساداً لا يرجى صلاحه»(1).
ومع هذه العداوة المتأصلة في جذورها كيف يبرئ معاوية وبنو اُمية الإمام وبني هاشم، مع أنّهم وأعوانهم كانوا يشهدون ببراءته وبراءتهم، ولكنها الأحقاد الأموية فاقرأ ما قاله عبد الله بن عمر لمن سأله هل شرك عليّ في دم عثمان؟ فقال: «لا والله ما علمت ذلك في سر ولا علانية، ولكنه كان رأساً يفزع إليه فألحق به ما لم يكن»(2).
واقرأ لابن عمر كلمته الاُخرى في حقّ ابن عباس وبراءته من دم عثمان قال: «ما زال ابن عباس ينهى عن قتل عثمان ويعظّم شأنه حتى جعلت ألوم نفسي على أن لا أكون قلت مثل ما قال»(3).
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/401 ط مصر الأولى.
(2) أنساب الأشراف 1 ق 4/593.
(3) نفس المصدر 1 ق 4/595.
ولكن معاوية قال لابن عباس في كتاب كتبه إليه بعد صلح الإمام الحسن (عليه السلام). جاء فيه: «لعمري لو قتلتك بعثمان رجوت أن يكون ذلك لله رضا، وأن يكون رأياً صواباً، فإنّك من الساعين عليه، والخاذلين له، والسافكين دمه، وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني ولا بيدك أمان».
فأجابه بجواب طويل جاء فيه: «وأمّا قولك إنّي من الساعين على عثمان والخاذلين والسافكين له وما جرى بيني وبينك صلح فيمنعك مني، فأقسم بالله لأنت المتربّص بقتله والمحبّ لهلاكه، والحابس الناس قبلك عنه على بصيرة من أمره، ولقد أتاك كتابه وصريخه يستغيث بك ويستصرخ، فما حفلت به حتى بعثت إليه معذراً بأمر أنت تعلم أنّهم لن يتركوه حتى يقتل، فقتل كما كنت أردت، ثمّ علمت عند ذلك أن الناس لن يعدلوا بيننا وبينك فطفقت تنعى عثمان وتلزمنا دمه، وتقول قتل مظلوماً، فإن يك قتل مظلوماً فأنت أظلم الظالمين، ثمّ لم تزل مصوّباً ومصعّداً وجاثماً ورابضاً تستغوي الجهّال، وتنازعنا حقنا بالسفهاء حتى أدركت ما طلبت، وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين»(2).
نعم أنّ بني هاشم كانوا من الكارهين لولاية عثمان أولاً لأنهم يرون أن الحقّ لهم، وكانوا من الساخطين على سيرته ثانياً حين أسخط المسلمين عملُه، ولم يكونوا وحدهم قد سخطوا سيرته، بل جميع الصحابة في المدينة وخارجها كانوا كذلك.
فقد روى شعبة بن الحجاج عن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف قال: «قلت له: كيف لم يمنع أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن عثمان؟
____________
(1) نفس المصدر 1 ق 4/594.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 4/58.
وروى عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن مقتل عثمان هل شهده أحد من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ فقال: «نعم شهده ثمانمائة»(2).
فهذان القولان وإن لم يعيّنا بالاسم مَن هم أولئك الصحابة الذين شهدوا مقتل عثمان ولم يمنعوا عنه، بل إن منهم من قتله، لكن لم يكن عليّ ولا ابن عباس ولا بقية بني هاشم مع أولئك الصحابة القاتلين لعثمان وإذ لم يكونوا معهم، فما بال بني أمية عصبوا قتله بهم؟ انهم لم يكونوا مع القاتلين ولا مع المحرّضين عليه، بل كانوا من المدافعين عنه، وقد ردّوا عنه كثيراً حتى أعجزهم هو حين لم يأخذ بنصائحهم وكان يتـّهمهم لما في نفسه من جذور العداوة المتأصلة بين بيتي عبد مناف - بني هاشم وبني أمية -.
والآن إلى ما رواه البلاذري والطبري وابن الأثير وابن كثير والنويري نقلاً عن الواقدي من نصائح الإمام أمير المؤمنين لعثمان، ننقلها بلفظ الطبري قال - بعد ذكر نقمة الناس وتداعي الأمصار بالنكير على سيرة عثمان -: «فاجتمع الناس وكلّموا عليّ بن أبي طالب، فدخل على عثمان فقال: الناس ورائي وقد كلّموني فيك والله ما أدري ما أقول لك، وما أعرف شيئاً تجهله، ولا أدلـّك على أمر لا تعرفه، إنّك لتعلم ما علمنا ما سبقناك إلى شيء فنخبرك عنه، ولا خلونا بشيء فنبلّغكه، وما خصصنا بأمر دونك، وقد رأيتَ وسمعتَ وصحبتَ رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم ونلتَ صهره.
وما ابن أبي قحافة بأولى بعمل الحقّ منك، ولا ابن الخطاب بأولى بشيء من الخير منك، وإنّك أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم رَحِماً،
____________
(1) نفس المصدر 1/231.
(2) نفس المصدر.
وإنّي أحذّرك الله، وأحذّرك سطوته ونقماته، فإن عذابه شديد أليم. وأحذّرك أن تكون إمام هذه الأمة المقتول، فإنّه يقال: يقتل في هذه الأمة إمام، فيفتح عليها القتل والقتال إلى يوم القيامة، وتـُلبّس أمورُها عليها، ويتركهم شيعاً، فلا يبصرون الحقّ لعلوّ الباطل، يموجون فيها موجاً، ويمرجون فيها مرجاً. فلا تكونن لمروان سيّقة يسوقك حيث شاء بعد جلال السنّ وتقضّي العمر.
فقال عثمان: قد والله علمتُ، ليقولـُنّ الّذي قلتَ، أما والله لو كنتَ مكاني ما عنفتك ولا أسلمتك، ولا عبت عليك، ولا جئت مُنكراً أن وصلتَ رحماً، وسددت خلّة، وآويت ضائعاً، ووليت شبيهاً بمن كان عمر يولّي.
أنشدك الله يا عليّ هل تعلم أن المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فتعلم أن عمـر ولاّه؟ قال: نعم، قال: فلـم تلومني أن ولّيت ابن عامر فـي رحمه وقرابته؟
قال عثمان: هم أقرباؤك أيضاً. فقال عليّ: لعمري إن رحمهم مني لقريبة، ولكن الفضل في غيرهم.
قال عثمان: هل تعلم إنّ عمر ولّى معاوية خلافته كلّها؟ فقد وليته.
فقال عليّ: أنشدك الله هل تعلم إنّ معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم.
قال عليّ: فإن معاوية يقتطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغك فلا تغيّر على معاوية. ثمّ خرج عليّ من عنده.
وخرج عثمان على أثره، فجلس على المنبر فقال: أمّا بعد، فإن لكل شيء آفة، ولكلّ أمر عاهة، وإن آفة هذه الأمة، وعاهة هذه النعمة عيّابون طعّانون، يُرونكم ما تحبون، ويُسرّون ما تكرهون، يقولون لكم وتقولون، أمثال النعام يتبعون أوّل ناعق، أحبّ مواردها إليها البعيد، لا يشربون إلاّ نَغَصاً، ولا يردون إلاّ عكَراً، لا يقوم لهم رائد، وقد أعيتهم الأمور، وتعذّرت عليهم المكاسب.
ألا فقد والله عبتم عليّ بما أقررتم لابن الخطاب بمثله، ولكنه وطأكم برجله، وضربكم بيده، وقمعكم بلسانه، فدنتم له على ما أحببتم أو كرهتم، ولنتُ لكم، وأوطأت لكم كنفي، وكففت يدي ولساني عنكم، فأجترأتم عليَّ. أما والله لأنا أعزّ نفراً، وأقرب ناصراً، وأكثر عدداً، وأقمن إن قلت هلمّ أُتي إليّ، ولقد أعددت لكم أقرانكم، وأفضلت عليكم فضولها، وكشّرت لكم عن نابي وأخرجتم مني خُلـُقاً لم أكن أحسِنَه، ومنطقاً لم أنطق به، فكفـّوا عليكم ألسنتكم
ألا فما تفقدون من حقّكم؟ والله ما قصّرت في بلوغ ما كان يبلغ مَن كان قبلي، ومن لم تكونوا تختلفون عليه. فَضَل فضلٌ من مال، فما لي لا أصنع في الفضل ما أريد! فلمَ كنت إماماً؟!
فقام مروان بن الحكم فقال: إن شئتم حكّمنا والله بيننا وبينكم السيف نحن وأنتم كما قال الشاعر:
فرشنا لكم أعراضَنا فنبت بكم | معارسُكم تبنون في دمن الثرى |
فقال عثمان: أسكت لا سكتّ، دعني وأصحابي، ما منطقك في هذا؟ ألم أتقدّم إليك ألا تنطق! فسكت مروان ونزل عثمان»(1).
وختاماً فإنّ لابن عباس مواقف مع الشانئين من قريش سنأتي على ذكرها في صفحة احتجاجاته، كما أنّ له أحاديث مرفوعة يرويها للمسلمين حرصاً على هدايتهم أن يخدعهم الإعلام الكاذب من حكام قريش.
فمن الأحاديث ما رواه مرفوعاً عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: (يا بني عبد المطلب إنّي سألت الله لكم أن يعلّم جاهلكم وأن يثبّت قائمكم، وأن يهدي ضالكم، وأن يجعلكم نجداء جوداء رحماء، أما والله لو أن رجلاً صفّ قدميه بين الركن والمقام مصلياً، ولقي الله وهو يبغضكم أهل البيت لدخل النار)(2).
____________
(1) تاريخ الطبري 4/337 ـ 339 ط دار المعارف. وأنظر أنساب الأشراف 1 ق4/549 تح ـ احسان عباس، تاريخ الكامل 3/62 - 64 ط بولاق، والبداية والنهاية 7/168 ط السعادة، ونهاية الإرب 19/470.
(2) أمالي المفيد /134 ط الحيدرية سنة 1367.
معرفة نتائج السخط:
فلنقرأ منها أوّلاً ما كتبه طه حسين في الفتنة الكبرى قال: «ويكاد المؤرخون يجمعون على أنّ الأعوام الستة الأولى من خلافة عثمان مرّت بسلام، فلمّا أستقبل عثمان الشطر الثاني من خلافته ظهرت المصاعب وقامت المشكلات. ويخيّل إليَّ أنّ المسلمين رضوا بخلافة عثمان ست سنين، ثمّ أحتملوها أربع سنين، فلمّا جاوز عثمان بخلافته الأعوام العشرة، جعل المسلمين يضيقون به ويستطيلون خلافته، يظهرون ذلك في شيء من الرفق أوّل الأمر، ثمّ في شيء من الحِدّة بعد ذلك، ثمّ في عنف جعل يتزايد شيئاً فشيئاً حتى أنتهى إلى غايته المنكرة وهي قتل الإمام.
وليس معنى ذلك انّ عثمان لم يلق معارضة أثناء هذه الأعوام العشرة، فقد ظهرت المعارضة منذ اليوم الأوّل لخلافته بالقياس إلى قضية عبيد الله بن عمر، وإنّما معناه انّ المعارضة لم تبلغ طور الخطورة إلاّ في العامين الأخيرين من حياة عثمان...
ويقول الرواة: انّ عبد الرحمن بن عوف كان أوّل من اجترأ على عثمان، فألغى بعض أمره وأطمع الناس فيه. وذلك ان بعض السعاة أقبلوا بإبل الصدقة،
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/458.
فكان اجتراء عبد الرحمن وأصحابه خطراً في نفسه لأنه تغيير لأمر السلطان.
وكان سكوت عثمان على هذا الإجتراء أشد منه خطراً، لأنّه اعتراف بالخطأ ونقص من هيبة السلطان»(1).
وقال أيضاً: «ثمّ جعلت المعارضة تشتد في الأمصار وتصل أصداؤها إلى المدينة، حتى اضطر عثمان إلى أصطناع النفي الإداري، وجعلت المعارضة تشتد في المدينة وتصل أصداؤها إلى الأمصار فتزيد المعارضين في الأقاليم شدة وأجتراء. حتى أضطر عثمان إلى أن يصطنع الشدة مع معارضيه أنفسهم، فيوعد وينذر، ولا يملك نفسه أحياناً من البطش ببعض المعارضين وقد روى المؤرخون: أن الناس كثروا على عثمان ونالوا منه أشنع ما نيل من أحد سنة أربع وثلاثين. وكان أصحاب النبيّ يرون ويسمعون ثمّ لا ينهون ولا يذبّون إلاّ جماعة ضئيلة: زيد بن ثابت وأبو أسيد الساعدي وكعب بن مالك وحسان بن ثابت.
بل كان من أصحاب النبيّ الذين أقاموا بالمدينة يكتبون إلى أصحاب النبيّ الذين تفرّقوا في الثغور يستقدمونهم إلى المدينة لتقويم ما أعوجّ من أمر الخلافة، يقولون لهم: إنكم خرجتم تطلبون الجهاد، وانما الجهاد وراءكم، فارجعوا إلى المدينة لإقامة الدين وصيانته، فقد عرّضه السلطان لشر عظيم، واجتمع الناس فتذاكروا الأحداث والخطوب، ولاموا عثمان فأكثروا لومه ثمّ كلّفوا عليّاً أن يدخل على عثمان فيكلّمه.
____________
(1) الفتنة الكبرى 1/200.
ثمّ ذكر ما مرّ بنا ذكره في آخر مظاهر الحب والبغض.
وقال أيضاً: «تلقـّى أهل الأمصار وعداً من إمامهم فأطمأنوا إليه، ثمّ تبينوا أنّ الخليفة لم يصدق وعده فأقبلوا ثائرين يريدون أن يفرغوا من هذا الأمر، وألاّ يعودوا حتى يفرغوا...
إنّما كانوا يريدون أن يحاصروا الإمام ويعاجلوه حتى يصلوا إلى خلعه أو إلى قتله، وقد بلغوا ما أرادوا فدخلوا المدينة وحاصروا الإمام...
يريد الثائرون أن يخلع نفسه، ويأبى هو أن ينزع قميصاً قد كساه الله (عزّ وجلّ) إياه.... ولكن الأمور تتعقد فجأة فقد عرف الثائرون أن عثمان قد أرسل إلى العمّال في الأمصار يأمرهم بأن يرسلوا إليه الجند لينصروه...
وما يكاد الثائرون يعرفون هذا النبأ حتى يتغير الحصار وتتغير معه سيرتهم مع عثمان...»(2).
وقال أيضاً: «ثمّ ثار الناس فتحاصبوا وحُصب عثمان حتى صُرع، وأحتمل مغشياً عليه، فأدخل داره فلم يخرج منها إلاّ مقتولا... اهـ»(3).
هذه كانت نتائج السخط العارم الّذي اجتاح حكومة عثمان حتى أودى بحياته، فأعقب الأمة شراً مستطيراً، وكان الصحابة الّذي عاشوا تلك الأيام من الساخطين إلاّ نفر يسير لم يتجاوزوا عدد الأصابع وهم لم يغنوا عنه شيئاً.
____________
(1) نفس المصدر 1/202.
(2) نفس المصدر 1/210.
(3) نفس المصدر 1/212.