موقف الإمام مع المتخلفين:
وحسبنا خطبته سلام الله عليه لمّا تخلّف عن بيعته عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص ومحمّد بن مسلمة وحسان بن ثابت وأسامة بن زيد على ما رواه الشعبي - وهو غير متهم عليهم - قال: «لمّا اعتزل سعد ومن سمّينا أمير المؤمنين وتوقفوا عن بيعته: حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (أيّها الناس إنكم بايعتموني على ما بويع عليه مَن كان قبلي، وانّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا فإذا بايعوا فلا خيار لهم، وإنّ على الإمام الإستقامة وعلى الرعية التسليم، وهذه بيعة عامة مَن رغب عنها رغب عن دين الإسلام، واتّبع غير سبيل أهله، ولم تكن بيعتكم إياي فلتة، وليس أمري وأمركم واحداً، إني أريدكم لله وانتم تريدونني لأنفسكم.
أيّها الناس أعينوني على أنفسكم، وأيم الله لأنصفنّ المظلوم من ظالمه، ولأقودنّ الظالم بخزامته حتى أورده منهل الحقّ وإن كان كارهاً)»(1).
وزاد المفيد قوله: (وقد بلغني عن سعد وابن سلمة وأسامة وعبد الله وحسان ابن ثابت أموراً كرهتها والحقّ بيني وبينهم)(2).
قال المسعودي: «وقعد عن بيعته جماعة عثمانية لم يروا إلاّ الخروج عن الأمر، منهم: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر(3) - وبايع يزيد بعد ذلك
____________
(1) مصادر نهج البلاغة 2/305 - 306 ط الثانية بيروت.
(2) الإرشاد /130 ط الحيدرية سنة 1381 هـ.
(3) من غرائب العجائب أن يعتذر علماء التبرير عن ابن عمر، وأغرب ما رأيت اعتذار ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمته قال: (وكان رحمه الله لورعه أشكلت عليه حروب عليّ وقعد عنه). وبهذا الاعتذار التافه يستغفل المسلمين لتبرير تخلف ابن عمر عن بيعة أميرالمؤمنين عليه السلام، وكأن السذاجة والفجاجة غلبت على الرجل الّذي يعتبر حجة في فنه (الحديث والرجال والفقه) فقال الّذي قاله من دون التفات إلى عذره في التعليل العليل، إن قعود ابن عمر عن بيعة الإمام كان قبل الحروب، فكيف صار السبب قبل المسبّب؟! وأي ربط بين البيعة وبين الحروب؟ وكثير ممّن بايع ثمّ لم يشارك في الحروب. وما بال ابن عمر لم يستشكل في بيعة يزيد وبيعة عبد الملك مع تلك الحروب الّتي ألحقت بالأمة فجائع وفظائع، فأين غاب عنه ورعه المزعوم عند ابن عبد البر؟ وندم ابن عمر بعد ذلك أن لا يكون قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين يأبى على ابن عبد البر ما اعتذر به، وما ذلك إلاّ من زلل الأهواء وخطل الآراء.
وقال المسعودي أيضاً: «وأتاه جماعة ممّن تخلّف عن بيعته من بني أمية منهم: سعيد بن العاص ومروان بن الحكم والوليد بن عُقبة بن أبي معيط، فجرى بينه وبينهم خطب طويل(؟).
وقال له الوليد: إنا لم نتخلّف عنك رغبة عن بيعتك، ولكنا قوم وَترَنا الناس، وخفنا على نفوسنا، فعذرنا فيما نقول واضح، أمّا أنا فقتلت أبي صبراً، وضربتني حداً.
وقال سعيد بن العاص كلاماً كثيراً (؟) وقال له الوليد: أمّا سعيد فقتلت أباه، وأهنت مثواه، وأمّا مروان فإنك شتمت أباه وعبت عثمان في ضمّه إياه».
ثمّ قال المسعودي: «وقد ذكر أبو محنف لوط بن يحيى أنّ حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير قبل نفوذه بالقميص أتوا عليّاً في آخرين من العثمانية، فقال كعب بن مالك: يا أمير المؤمنين ليس مسيئاً من أعتب، وخير كفء ما محاه عذر في كلام كثير(؟). ثمّ بايع وبايع من ذكرنا جميعاً»(1).
____________
(1) مروج الذهب 2/361 تح ـ عبد الحميد، و 2/4 ط البهية سنة 1346 هـ.
وأخيراً ماذاكان بقية كلام كعب بن مالك في كلام كثير(؟).
إنّها بليّة التاريخ حين تُكتم الحقائق وتكُمُّ الأفواه.
ولئن كتم المسعودي أو بعض رواة كتابه ما مرّ من كتمان، فقد وجدنا بعض ذلك قد رواه مؤرخ أقدم منه هو ابن اعثم الكوفي في كتابه الفتوح(1) ومع ذلك فقد بقيت فجوات بيّنة فيما ذكر، شعراً ونثراً، فمن شاء الاستزادة فليراجع الفتوح.
كما أنّ اليعقوبي ذكر في تاريخه ما مر من كلام الوليد مع الإمام ومنه: «فتبايعنا على أن تضع عنّا ما أصبنا، وتعفي لنا عما في أيدينا، وتقتل قتلة صاحبنا.
فغضب عليّ (عليه السلام) وقال: أمّا ما ذكرت من وتري اياكم فالحق وتركم، وأمّا وضعي عنكم عمّا في أيديكم فليس لي أن أضع حق الله، وأمّا إعفائي عمّا في أيديكم فما كان لله وللمسلمين فالعدل يسعكم.
وأمّا قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لزمني قتالهم غداً، ولكن لكم أن أحملكم على كتاب الله وسنّة نبيّه، فمن ضاق عليه الحقّ فالباطل عليه أضيق، وإن شئتم فالحقوا بملاحقكم.
فقال مروان: بل نبايعك ونقيم معك فترى ونرى»(2).
____________
(1) الفتوح 2/259 ط دار الندوة.
(2) تاريخ اليعقوبي 2/154 ط النجف.
وفي رواية أخرى: أولئك قوم خذلوا الحقّ ولم ينصروا الباطل.
ثمّ قال: وتخلّف أيضاً عن بيعته معاوية ومن معه في جماعة أهل الشام»(1).
حبر الأمة عند الإمام في مشورة المغيرة:
لقد مرّ بنا في رحلة العودة أن ابن عباس ورد المدينة بعد مقتل عثمان بخمسة أيام وقبل بيعة الإمام، ولمّا كان قتل عثمان يوم 18 ذي الحجة فيكون ورود ابن عباس إلى المدينة يوم 23، ولمّا كانت بيعة الإمام يوم الجمعة لخمس بقين من ذي الحجة، فيعني انّ ابن عباس حضر جانباً من المداولات حول مبايعة الإمام. وهذا ما تقدم في رحلة العودة.
لكن الطبري أورد لنا حديثاً بسنده عن أبي هلال قال: «قال ابن عباس: قدمت المدينة من مكة بعد قتل عثمان (رضي الله عنه) بخمسة أيام، فجئت عليّاً أدخل عليه فقيل لي عنده المغيرة بن شعبة، فجلست بالباب ساعة، فخرج المغيرة فسلّم عليَّ فقال: متى قدمت؟ فقلت الساعة، فدخلت على عليّ فسلّمت عليه، فقال لي: لقيتَ الزبير وطلحة؟ قال: قلت: لقيتهما بالنواصف، قال: ومن معهما؟ قلت: أبو سعيد بن الحارث بن هشام في فئة من قريش، فقال عليّ: أما إنّهم لن يدَعَوا أن يخرجوا يقولان: نطلب بدم عثمان، والله نعلم أنّهم قتلة عثمان.
قال ابن عباس: يا أمير المؤمنين أخبرني عن شأن المغيرة ولم خلا بك؟
____________
(1) الاستيعاب 3/55 بها متن مش الاصابة ط مصطفى محمد بمصر 1358هـ.
قال: فإن كنتَ قد أبيت عليَّ فانزع مَن شئت وأترك معاوية، فإنّ لمعاوية جرأة، وهو في أهل الشام يُسمع منه، ولك حجة في إثباته، وكان عمر بن الخطاب قد ولاّه الشام كلّها، فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين أبداً، فخرج من عندي على ما أشار به، ثمّ عاد فقال لي: إني أشرت عليك بما أشرتُ به فأبيتَ عليَّ، ثمّ نظرتُ في الأمر فإذا أنت مصيب، لا ينبغي لك أن تأخذ أمرك بخدعة، ولا يكون في أمرك دلسة.
قال: فقال ابن عباس: فقلت لعليّ: أمّا أوّل ما أشار به عليك فقد نصحك، وأمّا الآخر فغشّك، وأنا أشير عليك بأن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعليَّ أن أقلعه من منزله.
قال عليّ: لا والله، لا أعطيه إلاّ السيف، قال: ثمّ تمثّل بهذا البيت:
ما ميتة إن متّها غيرَ عاجز | بعارٍ إذا ما غالت النفس غولُها |
فقلت: يا أمير المؤمنين، أنت رجل شجاع لست بإرب الحرب، أما سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول: (الحرب خدعة)؟ فقال عليّ: بلى.
فقال ابن عباس: أما والله لئن أطعتني لأصدُرنَّ بهم بعد وِرد، ولأتركنّهم ينظرون في دُبُر الأمور لا يعرفون ما كان وجهها، في غير نقصان عليك ولا إثم
فهذا الخبر يوحي بأن بيعة الإمام قد تمت قبل وصول ابن عباس إلى المدينة، كما يوحي بأنها - البيعة - كانت بعد مقتل عثمان بيوم، إذ كان مجيء المغيرة إلى الإمام بعد مقتل عثمان بيومين، فلو لم تكن البيعة قد تمت لما كان معنى لكلام المغيرة معه في شأن عمّال عثمان، كما ذكر خروج طلحة والزبير وملاقاة ابن عباس لهما بالنواصف (؟) فهذه الأمور تحملنا على عدم التصديق بالخبر، ثمّ ليس كبير أثر لتاريخ الوصول في مجرى الأحداث، بقدر ما للوصول من أثر في سرعة المشاورات والمداولات حول خطّة الإمام في الحكم، وسماعه الرأي الآخر المخالف، ولئن تضاربت الرواة في التحديد الزماني فإنّها قد اتفقت على اللقاء المكاني، فقد ذكرت أنّه التقى المغيرة بباب الإمام أو عنده.
ثمّ إنّ ما دار بين الإمام وبين ابن عباس حول ما أتى به المغيرة من رأي في المرتين حول عمّال عثمان يجعل لنا حق النظر فيما أشار به ابن عباس من تصويب لبعض الرأي.
ولكن قبل ذلك علينا أن نتذكّر ما رواه هو بنفسه - وقد مرّ - من قول عمر له: «يا بن عباس، ما يمنع قومكم منكم وأنتم أهل البيت خاصة؟ قلت: لا أدري. قال: لكني أدري، إنّكم فضلتموهم بالنبوة، فقالوا: إن فضلوا بالخلافة مع النبوة لم يبقوا لنا شيئاً، وان أفضل النصيبين بأيديكم، بل ما أخالها إلاّ مجتمعة لكم، وإن نزلت على رغم أنف قريش»(2).
____________
(1) تاريخ الطبري 5/44- 441.
(2) العقد الفريد 4/280.
وهذا ما كان يعلمه المغيرة أيضاً من رأي عمر، فقد روى حديث اجتماع نفر من الصحابة في دار طلحة جاء فيه قال: «إنّي لعند عمر بن الخطاب، ليس عنده أحد غيري، إذ أتاه آت فقال: هل لك يا أمير المؤمنين في نفر من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يزعمون أن الّذي فعل أبو بكر في نفسه وفيك لم يكن له، وأنّه كان بغير مشورة ولا مؤامرة، وقالوا: تعالوا نتعاهد أن لا نعود لمثلها، قال عمر: وأين هم؟ قال: في دار طلحة، فخرج نحوهم وخرجت معه، وما أعلمني يُبصرني من شدة الغضب، فلمّا رأوه كرهوه وظنوا الّذي جاء له، فوقف عليهم، وقال: أنتم القائلون ما قلتم، والله لن تتحابّوا حتى يتحابّ الأربعة: الإنسان والشيطان يغويه وهو يلعنه، والنار والماء يطفئها وهي تحرقه، ولم يأنُ لكم بعد، وقد آن ميعادكم ميعاد الشيخ متى هو خارج.
قال: فتفرقوا فسلك كلّ واحد منهم طريقاً.
قال المغيرة: ثمّ قال لي ادرك ابن أبي طالب فاحبسه عليَّ، فقلت: لا يفعل أمير المؤمنين وهو معدّ - أي غضبان - فقال: أدركه وإلا قلت لك يا بن الدبّاغة، قال: فأدركته، فقلت له قف مكانك لإمامك واحلم فانه سلطان وسيندم وتندم، قال: فأقبل عمر فقال: والله ما خرج هذا الأمر إلاّ من تحت يدك.
قال عليّ: اتق الله أن لا تكون الّذي نطيعك فنفتنك، قال: ونحب أن تكون هو؟ قال: لا، ولكننا نذكّرك الّذي نسيت، فالتفتَ اليّ عمر فقال: انصرف فقد سمعتَ منا عند الغضب ما كفاك فتنحّيت قريباً، وما وقفتُ إلاّ خشية أن يكون
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/115.
وجاءني عمر، فمشيت معه وقلت: يغفر الله لك أغضبتَ؟ قال: فأشار إلى عليَّ وقال: أما والله لولا دعابة فيه ما شككت في ولايته، وإن نزلت على رغم أنف قريش»(1).
فهذان الخبران يدلاّن على سماع كلّ من ابن عباس والمغيرة قول عمر بأن الخلافة سوف تصل إلى الإمام وإن نزلت على رغم أنف قريش، وها هي الآن فقد وصلت، وهي كذلك كانت على رغم أنف قريش، وكان المفروض أن تكون أحب إليهم من خلافة غيره، لأنّها لم تكن بيعة إكراه، فلماذا المراغمة؟! - لأنّ عليّاً (عليه السلام) لا تأخذه في الله لومة لائم، ولأنّه (عليه السلام) كان واضحاً وصريحاً - وقد مرّت بنا خطبته فور تسلّمه السلطة وتخلف من تخلّف.
إذن فماذا تعني مشورة المغيرة من دون أن يستشار؟
لقد تضاربت آراء الباحثين حول قصة دخول المغيرة بن شعبة، فهم بين من رآها مكيدة أراد أن يستعلم بها رأي الإمام في عمّال عثمان، وبين من رآها نصيحة أراد أن يتقرّب بها إلى قلب الإمام الّذي أصبح وشيكاً ليرجمنّه بأحجاره للحدّ الّذي بجنبه(2).
____________
(1) العقد الفريد 4/281 - 282.
(2) قال أبو جعفر الإسكافي: وكان المغيرة بن شعبة يلعن عليّاً (عليه السلام) لعناً صريحاً على منبر الكوفة وكان بلغه عن عليّ (عليه السلام) في أيام عمر انه قال: لئن رأيت المغيرة لأرجمنّه باحجاره، يعني واقعة الزنا بالمرأة الّتي شهد عليه فيها أبو بكرة، ونكل زياد عن الشهادة، فكان يبغضه لذاك ولغيره من أحوال اجتمعت في نفسه (شرح النهج لابن أبي الحديد 1/360 ط الأولى بمصر).
وقد روى أبو الفرج في كتابه الأغاني 14/142 قال قال عليّ بن أبي طالب لئن أخذت المغيرة لأتبعنه أحجاره.
وحديث زنا المغيرة ثابتٌ ومشهور، فمن شاء الوقوف عليه وكيف درأ عمر الحدّ عنه فليراجع الأستيعاب في تراجم زياد، ونافع، وابي بكرة، والمغيرة 1/568 و 3/389 و 544 و 4/23 على التعاقب، وليراجع الإصابة 3/452 و 544، وتاريخ الطبري 4/207 ط الحسينية، وتاريخ ابن الأثير حوادث سنة 17، وكذا تاريخ أبي الفداء، وأسد الغابة في تراجم السابقين في الاستيعاب، ومستدرك الحاكم 3/448 وتلخيصه بهامشه للذهبي، وطبقات الشافعية 2/209 ط مصر سنة 1324 هـ، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 2/413، وفتوح البلدان للبلاذري /352، والأخبار الطوال للدينوري /113، ووفيات الأعيان في ترجمة يزيد بن زياد بن مفرغ 2/455 ط حجرية بايران، وشرح النهج لابن أبي الحديد 3/159 - 162، والبداية والنهاية 7/81 وغيرها وغيرها.
قال السيد أمير علي معلّقاً على كلمة المؤرخ الفرنسي سيديو والّتي مرت في مبايعة الناس للإمام: «فلقد أحاط به في بادئ الأمر أعداء بني أمية، ولكنه لم يحتط للدسائس، وأبى أن يقرّ عمال عثمان مدفوعاً بشرف الغاية الّتي كانت من أبرز مميّزاته، وبرغم النصائح الّتي أسديت إليه لمسايرة الظروف، فقد أنتزع الأملاك الّتي أقطعها عثمان لأتباعه من بيت المال، وقسم الخراج طبقاً للقواعد الّتي سنّها عمر، فجلبت عليه هذه الإجراءات الحازمة سخط من أثروا في العهد
____________
(1) عليّ وبنوه لطه حسين /24 ـ 25.
وفي كلامه أكثر من ملاحظة أهمها تقسيمه الخراج بالتساوي وليس طبقاً لما سنّه عمر من التفاضل!
والآن إلى الحوار الّذي جرى بين الإمام وبين ابن عباس حول مجيء المغيرة برأييه في مرتين وما نسب إلى ابن عباس من رأي في ذلك:
قال المسعودي في مروج الذهب: «وأتى المغيرة بن شعبة عليّاً فقال له: إنّ لك حق الطاعة والنصيحة، وإنّ الرأي اليوم تجوز به ما في غد، وانّ المضاع اليوم تضيع به ما في غد، أقرر معاوية على عمله، وأقرر ابن عامر على عمله، وأقرر العمال على أعمالهم، حتى إذا أتتك طاعتهم وطاعة الجنود استبدلت أو تركت. قال: حتى أنظر، فخرج من عنده وعاد إليه من الغد، فقال: إني أشرت عليك بالأمس برأي وتعقبته برأي، وإنّما الرأي أن تعاجلهم بالنزع، فتعرف السامع من غيره وتستقبل أمرك، ثمّ خرج من عنده، فتلقاه ابن عباس خارجاً وهو داخل، فلمّا انتهى إلى عليّ قال: رأيت المغيرة خارجاً من عندك فيم جاءك؟ قال: جاءني أمس بكيت وكيت، وجاءني اليوم بذيت وذيت. فقال: أمّا أمس فقد نصحك، وأمّا اليوم فقد غشك قال: فما الرأي؟ قال: كان الرأي أن تخرج حين قتل عثمان أو قبل ذلك، فتأتي مكة فتدخل دارك فتغلق عليك بابك، فإن كانت العرب مائلة مضطرة في أثرك لا تجد غيرك، فأمّا اليوم فإن بني أمية سيحسنون الطلب بأن يلزموك شعبة من هذا الأمر، ويشبهون فيك على الناس.
____________
(1) مختصر تاريخ العرب /44.
ثمّ ذكر المسعودي ما وجده في وجه آخر وهو ما ذكره الطبري من حديث أبي هلال وقد مرّ آنفاً.
ويعتقد البعض أن مجيء المغيرة إلى الإمام كان دسيسة أموية يستطلع رأيه فيهم بطريقة أنيقة، وقد فهم كلّ ما يود فهمه بالأخص فيما يتعلق بمعاوية، وربما شهد لهذا أنّ كلامه عن معاوية في شقه الأخير لا يشبه توجيه النظر، بل الدفاع.
وتأمل قوله: «ولك في إثباته حجة فقد كان عمر ولاه الشام كلها»! وهل الخليفة في حاجة إلى حجة من عمل غيره في تثبيت عامل أو عزله؟! أو ليس هذا هو حجة الدفاع بعينه.
ثمّ إنّ في رواية أخرى عند الطبري نقرأ لغة المساومة من المغيرة، فهو يقول للإمام كما روى الطبري بسنده عن ابن عباس: «...فقلت: ماذا قال لك هذا؟ فقال: قال لي قبل مرّته هذه: أرسل إلى عبد الله بن عامر وإلى معاوية وإلى عثمان بعهودهم تُقرّهم على أعمالهم ويبايعون لك الناس، فإنهم يهدّئون البلاد، ويسكّنون الناس، فأبيت ذلك عليه يومئذ، وقلت: والله لو كان ساعة من نهار لاجتهدت فيها رأيي، ولا ولّيتُ هؤلاء ولا مثلهم يُولّى.
قال: ثمّ انصرف من عندي وأنا أعرف فيه انه يرى أني مخطيء، ثمّ عاد إليّ الآن فقال: إنّي أشرت عليك أوّل مرّة بالّذي أشرت عليك وخالفتني فيه، ثمّ
____________
(1) مروج الذهب 2/363.
فأنظر إلى قوله: «فإنّهم يهدئون البلاد ويسكّنون الناس»! فهو محام دفاع، وهو مساوم عن الجماعة العثمانية وهو وهو...
ولننظر إلى ما قال ابن عباس: «فقلت لعليّ: أمّا المرة الأولى فقد نصحك، وأمّا المرة الآخرة فقد غشّك.
قال له عليّ: ولم نصحني؟ قال ابن عباس: لأنك تعلم أنّ معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى تثبّتهم لا يبالوا بمن ولي هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولوا: أخَذَ هذا الأمر بغير شورى، وهو قتل صاحبنا، ويؤلّبون عليك فينتقض عليك أهل الشام وأهل العراق، مع إنّي لا آمن طلحة والزبير أن يكرّا عليك.
فقال عليّ: أمّا ما ذكرت من إقرارهم، فوالله ما أشك أن ذلك خيرٌ في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأمّا الّذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان، فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف.
قال ابن عباس: فأطعني وادخل دارك، والحقّ بمالك بينبع، وأغلق بابك عليك، فإنّ العرب تجول جولة وتضطرب ولا تجد غيرك، فإنك والله لئن نهضت مع هؤلاء اليوم ليحملنّك الناس دم عثمان غداً.
فأبى عليّ، فقال لابن عباس سر إلى الشام فقد وليتكها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية رجل من بني أمية وهو ابن عم عثمان وعامله على الشام، ولست آمن أن يضرب عنقي لعثمان، أو أدنى ما هو صانع أن يحبسني فيتحكّم عليّ.
____________
(1) تاريخ الطبري 5/439 ط دار المعارف.
وقد وردت رواية أخرى نحواً ممّا مر، لا تختلف في جوهرها عما سبق، كما لا أهمية كبيرة لما أخرجه الحافظ أبو حاتم حبّان البستي (ت 354) في كتابه (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء) بسنده عن عبد الرحمن بن القاسم التيمي قال: «لمّا قدم عليّ الكوفة لقيه المغيرة بن شعبة فقال له: إني أستشير عليك برأي فأقبله، قال: هات، قال: أقر معاوية على الشام يسمح لك طاعته، فإن أهل الشام قد ذاقوه فأستعذبوه، ووليهم عشرين سنة لم يعتبوا عليه في عرض ولا مال، فقال: والله لو سألني قرية ما وليته إياها. قال فقال المغيرة: أراه سيلي أرضين وقريات»(2).
فهذا الّذي أخرجه ابن حبّان مضافاً إلى انقطاع في سنده، فهو مخالف لجميع ما مر ذكره نقلاً عن مصادر موثوقة، وكان أصحابها أقدم زمناً منه، كابن قتيبة (ت 276) والبلاذري (ت 279) والطبري (ت310) وابن عبد ربه الأندلسي (ت 328) والمسعودي (ت 342).
وليس من الأهمية البالغة تحقيق أيّ الروايات هي الأصح، ما دامت جميعاً تتفق في أصل القضية. وإنما المهمّ أن نعرف مدى صواب الرأي في مشورة
____________
(1) تاريخ الطبري 4/439 - 440.
(2) روضة العقلاْء ونزهة الفضلاء /195 بتحقيق وتصحيح محمّد محي الدين عبد الحميد ومحمّد عبد الرزاق حمزة المدرس بالمسجد الحرام ومحمّد حامد الفقي رئيس جماعة أنصار السنّة المحمّدية ط مطبعة السنّة المحمّدية بمصر سنة 1368 هـ ومما يؤخذ على المحققين عدم انتباههم إلى ما في ذلك من مخالفة تاريخية صريحة.
أمّا بالنسبة إلى رأي المغيرة أوّل مرّة: فلا شكّ في أنّه كان لصالح الأمويين وليس لصالح الإمام كما مرّ، فإنّ الإمام لو أثبتهم لثوّر على نفسه البلاد الّتي كانوا عليها، لأنّهم كانوا سبب النقمة على عثمان، والإمام يعلم ذلك وهو الّذي كان ينعى سلوكهم على عثمان، فكيف يسعه أن يبقيهم في مراكزهم، هذا من الجانب السياسي فضلاً عن الجانب الديني الّذي يوجب عزلهم لفسقهم وظلمهم.
وقد قال للمغيرة: (ويحك يا مغيرة والله ما منعني من ذلك إلاّ قول الله تعالى لنبيّه محمّد صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}(1) والله لا يراني الله تعالى وأنا استعمل معاوية على شيء من أعمال المسلمين أبداً، ولكني أدعوه إلى ما نحن فيه، فإن هو أجاب إلى ذلك أصاب رشده، وإلاّ حاكمته إلى الله (عزّ وجلّ)(2).
وروى ابن قتيبة في الإمامة والسياسة موقفاً يكشف حقيقة المغيرة وسوء نيته منذ أوّل يوم بيعة الإمام جاء فيه: «فقال له عليّ: هل لك يا مغيرة في الله؟ قال: فأين هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تأخذ سيفك فتدخل معنا في هذا الأمر فتدرك مَن سبقك، وتسبق مَن معك، فإني أرى أموراً لابدّ للسيوف أن تشحذ لها وتقطف الرؤس بها.
فقال المغيرة: إنّي والله يا أمير المؤمنين ما رأيت عثمان مصيباً، ولا قتله صواباً، وإنّها لظُلمة تتلوها ظلمات، فأريد يا أمير المؤمنين إن أذنتَ لي أن أضع
____________
(1) الكهف /15.
(2) الفتوح لابن أعثم 2/267.
قال عليّ: قد أذنت لك فكن من أمرك على ما بدا لك.
فقام عمّار فقال: معاذ الله يا مغيرة تقعد أعمى بعد أن كنت بصيراً يغلبك من غلبتَه ويسبقك من سبقته، أنظر ما ترى وما تفعل، فأما أنا فلا أكون إلاّ في الرعيل الأوّل.
فقال له المغيرة: يا أبا اليقظان إياك أن تكون كقاطع السلسلة، فرّ من الضحل(1) فوقع في الرمضي(2).
فقال عليّ لعمار: دعه فإنّه لن يأخذ من الآخرة إلاّ ما خالطته الدنيا، أما والله يا مغيرة إنّها المثوبة المؤبدة تؤدّي مَن قام فيها إلى الجنة ولما اختار بعدها، فإذا غشيناك فنم في بيتك.
فقال المغيرة: أنت والله يا أمير المؤمنين أعلم مني، ولئن لم أقاتل معك لا أعين عليك فإن يكن ما فعلت صواباً، فإياه أردت، وإن خطأ فمنه نجوت، ولي ذنوب كثيرة لا قبل لي بها إلاّ الإستغفار منها»(3).
فهذا الموقف كشف لنا حقيقة المغيرة ونواياه السيئة في مجانبة الحقّ الّذي هو مع عليّ (عليه السلام) بشهادة قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الثابت روايته عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة)(4)، وسيأتي بعد هذا مغادرته المدينة إلى مكة مع الناكثين والحاقدين من الأمويين.
____________
(1) الضحل: الماء القليل على الأرض لا عمق له.
(2) الرمضي: المطر يأتي قبل الخريف فيجد الأرض حارة محترقة.
(3) الإمامة والسياسة 1/46 ط سنة 1328 هـ بمصر.
(4) تاريخ بغداد 14/321، وقارن مستدرك الحاكم 3/119، ومجمع الزوائد 9/234 وغيرها.
وقد روى ابن أعثم في الفتوح، والمسعودي في المروج أبيات شعر للمغيرة في ذلك وهي برواية المسعودي:
منحتُ عليّاً في ابن هند نصيحة | فردّت فلا يسمع لها الدهر ثانيه |
وقلت له أرسل إليه بعهده | على الشام حتى يستقر معاويه |
ويعلم أهل الشام أن قد ملكته | وام ابن هند عند ذلك هاويه |
فلم يقبل النصح الّذي جئته به | وكانت له تلك النصيحة كافيه(2) |
وروى اليعقوبي في تاريخه قوله: «والله ما نصحت له قبلها ولا أنصح له بعدها»(3).
فهذا هو المغيرة أزنى ثقيف، وهذا مبلغ دينه في النصح لإمام المسلمين.
وأمّا رأي ابن عباس في تصويب رأي المغيرة أوّل مرة، واعتبره نصيحة: فإن صح ذلك، فهو من خلال منظوره الخاص في تلك الساعة، وإلاّ فقد تبيّن له بعدُ وجهُ الحقّ، وأن الرأي الصواب ما كان رآه أمير المؤمنين (عليه السلام).
وقد اعترف هو بذلك في ردّه على المغيرة بعد مدة فقد قال للمغيرة في مجلس معاوية: «كان والله أمير المؤمنين (عليه السلام) أعرف بوجوه الرأي ومعاقد الحزم
____________
(1) راجع مروج الذهب 2/363 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد، وتاريخ ابن الأثير 3/84 ط بولاق.
(2) الفتوح 2/267 ط سنة 1326، مروج الذهب 2/16 - 17 ط البهية سنة 1346.
(3) تاريخ اليعقوبي 2/156.