كما أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) أوضح له في حينه أنه لم يخف عليه منظوره لصالح الدنيا فقد قال له: «وأمّا ما ذكرت من إقرارهم - يعني عمال عثمان - والله ما أشك أنّ ذلك خير في عاجل الدنيا لإصلاحها، وأمّا الّذي يلزمني من الحقّ والمعرفة بعمّال عثمان، فوالله لا أولّي منهم أحداً أبداً، فإن أقبلوا فذلك خير لهم، وإن أدبروا بذلت لهم السيف».
هذا كله إذا أعتمدنا روايات الطبري والمسعودي ومن وافقهما في أنّ ابن عباس صوّب رأي المغيرة في اثبات عمّال عثمان، ولا أقل فمعاوية.
____________
(1) المجادلة /22.
(2) الكهف /5.
(3) أنظر صفحة احتجاجاته على معاوية في الحلقة الثالثة نقلاً عن شرح النهج لابن أبي الحديد 2/106.
فقال عبد الله بن العبّاس: إن الكوفة والبصرة عين المال، وإن ولّيتهما إياهما لم آمن أن يضيّقا عليك(1) وإن ولّيت معاوية الشام لم تنفعك ولايته، فقال المغيرة: لا أرى لك أن تنزع ملك معاوية فإنّه لا يتهمكم بقتل ابن عمه، وإن عزلته قاتلك فولّه وأطعني، فأبى وقبل قول ابن عباس»(2).
ولعل منشأ انتزاع الروايات السابقة في تحوير رأي ابن عباس من عدم تولية معاوية إلى توليته، هو ما أخرجه البلاذري عن أبي مخنف وغيره: «قال عليّ لعبد الله بن عباس: سر إلى الشام فقد بعثتك عليها، فقال ابن عباس: ما هذا برأي، معاوية ابن عم عثمان وعامله، والناس بالشام معه وفي طاعته، ولست آمن أن يقتلني بعثمان على الظنّة فان لم يقتلني تحكّم عليّ وحبسني، ولكن أكتب إليه
____________
(1) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1/77: طلب طلحة والزبير من عليّ (عليه السلام) أن يوليهما المصرين البصرة والكوفة فقال حتى أنظر.
ثمّ أستشار المغيرة بن شعبة فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين وان الكوفة والبصرة عين الخلافة وبهما كنوز الرجال ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت ولست آمنهما إن ولّيتهما أن يحدثا أمراً، فأخذ برأي ابن عباس.
(2) انساب الاشراف (ترجمة الامام) /209 تح المحمودي.
تولية الإمام عمّاله على البلاد:
قال طه حسين: «فقد كان اختيار العمّال على الأقاليم أولَ شيء فكّر فيه عليّ بعد أن فرغ من بيعة أهل المدينة. وقد أختار عمّاله اختياراً حسناً، فأرسل إلى البصرة عثمان بن حُنيف من أعلام الأنصار، وأرسل أخاه سهل بن حُنيف إلى الشام، وأرسل قيس بن سعد بن عُبادة إلى مصر. وهذا يدل على انه أراد ان يرضي الأنصار بهذا الأختيار فهو قد اختار منهم ثلاثة لهذه الأمصار الخطيرة: البصرة والشام ومصر. أمّا الكوفة فيروي بعض المؤرخين: أنه اختار لها عُمارة بن شهاب، ولكنه لقي في طريقه من أهل الكوفة من ردّه إلى عليّ وأنذره بالموت إن لم يرجع، وأنبأه بأن اهل الكوفة لا يرضون بغير أميرهم أبي موسى، فرجع عمارة من حيث أتى»(2).
وكذلك سهل بن حنيف فقد رجع من الطريق حيث لاقى خيل معاوية بتبوك فأرجعته.
____________
(1) نفس المصدر /208.
(2) عليّ وبنوه /25 ط دار المعارف.
قال: وأتاه طلحة والزبير فقالا: إنّه قد نالتنا بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جفوة فأشركنا في أمرك، فقال: أنتما شريكاي في القوة والاستقامة، وعوناي على العجز والأود.
قال: (وروى بعضهم) أنّه ولى طلحة اليمن والزبير اليمامة والبحرين، فلمّا دفع اليهما عهديهما قالا له: وصلتك رحم، قال: وأنتما وصلتكما ولاية أمور المسلمين واستردّ العهد منهما، فعتبا من ذلك وقالا: آثرت علينا. فقال: لولا ما ظهر من حرصكما فقد كان لي فيكما رأي»(1).
وقال ابن اعثم في الفتوح: «ثمّ دعا بابن اخته جعدة بن هبيرة بن أبي وهب المخزومي فعقد له عقداً وولاّه على بلاد خراسان، وأمره بالمسير اليها ليفتح ما بقي منها.
ثمّ دعا بعبد الرحمن مولى بديل بن ورقاء الخزاعي فعقد له عقداً وأمره بالمسير إلى أرض الماهَينْ أميراً وعاملاً عليها، ووجّه بعمّاله إلى جميع البلاد الّتي كانت تحت طاعته، فسمع القوم وأطاعوا»(2).
وذكر الواقدي في كتاب الجمل: «أنّ الإمام كتب إلى معاوية في أوّل ما بويع له: من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي سفيان: أمّا بعدُ فقد علمتَ إعذاري فيكم وإعراضي عنكم، حتى كان ما لابدّ منه ولا دفع له،
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2/155.
(2) الفتوح 2/268 ـ 269.
قال الطبري في تاريخه: «وكان رسول أمير المؤمنين إلى معاوية سبرة الجُهني، فقدم عليه فلم يكتب معاوية بشيء ولم يجبه، وردّ رسوله، وجعل كلّما تنجّز جوابه لم يزد على قوله:
أدم إدامة حِصن أو خُداً بيدي | حرباً ضروساً تشبّ الجزلَ والضَرَما |
في جاركم وابنكم إذ كان مقتله | شنعاءَ شيبّتِ الأصداغ واللَمَما |
أعيا المسودُ بها والسيدّون فلم | يوجد لها غيرنا مولىً ولا حَكَما |
وجعل الجهني كلما تنجّز الكتاب لم يزده على هذه الأبيات، حتى كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر، دعا معاوية برجل من بني عبس، ثمّ أحد بني رواحة يدعى قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً عنوانه من معاوية إلى عليّ. فقال: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل الطومار، ثمّ أوصاه بما يقول، وسرّح رسول عليّ، وخرجا فقدما المدينة في ربيع الأوّل لغرتّه فلمّا دخلا المدينة رفع العبسي الطومار كما أمره، وخرج الناس ينظرون إليه، فتفرقوا إلى منازلهم وقد علموا أن معاوية معترض، ومضى حتى يدخل على عليّ، فدفع إليه الطومار ففض خاتمه فلم يجد في جوفه كتابة، فقال للرسول: ما وراءك؟ قال: آمن أنا؟ قال: نعم، ان الرسل آمنة لا تقتل. قال: ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلاّ بالقود، قال: ممّن؟ قال: من خيط نفسك...»(2).
____________
(1) شرح نهج البلاغة لمحمد عبده 3/149.
(2) تاريخ الطبري 4/443 ط دار المعارف.
فلمّا قدم رسوله على معاوية وقرأ كتابه بعث رجلاً من بني عُميس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك أمّا بعد: فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك اليها ابن أبي طالب، فانه لا شيء بعد هذين المصرَين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجدّ والتشمير، أظفركما الله وخذل مناويكما.
فلمّا وصل هذا الكتاب إلى الزبير سرّ به، وأعلم به طلحة وأقرأه إيّاه، فلم يشكّا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف عليّ (عليه السلام)»(1).
وقال الطبري: «وأحبّ أهل المدينة أن يعلموا ما رأي عليّ في معاوية وانتقاضه، ليعرفوا بذلك رأيه في قتال أهل القبلة، أيجسر عليه أو ينكل عنه... فدسّوا إليه زياد بن حنظلة التميمي - وكان منقطعاً إلى عليّ - فدخل عليه فجلس إليه ساعة ثمّ قال له عليّ: يا زياد تيسّر، فقال: لأي شيء؟ فقال: تغزو الشام، فقال زياد: الأناة والرفق أمثل، فقال:
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/77، وستأتي أيضاً رواية عن الزبير بن بكار في الموفقيات أنّ معاوية كتب إلى جماعة آخرين يحرّضهم على الإعلان بالخلاف على الإمام والمطالبة بدم عثمان.
ومن لا يصانع في أمور كثيرة | يُضرّس بأنياب ويوطأ بمنسم |
فتمثل عليّ وكأنّه لا يريده:
متى تجمع القلب الذكي وصارما | وأنفاً حميّا تجتنبك المظالم |
فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ فقال السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل، ودعا عليّ محمّد بن الحنفية فدفع إليه اللواء، وولّى عبد الله بن عباس ميمنته، وعمر بن أبي سلمة - أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد - ولاّه ميسرته، ودعا أبا ليلى بن عمر بن الجراح - ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح- فجعله على مقدّمته، واستخلف على المدينة قثم بن عباس(1) ولم يولّ ممّن خرج على عثمان أحداً.
وكتب إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشام، وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي موسى مثل ذلك، وأقبل على التهيّؤ والتجهزّ، وخطب أهلَ المدينة فدعاهم إلى النهوض في قتال اهل الفرقة.
وقال: إنّ الله (عزّ وجلّ) بعث رسولاً هادياً مهديّاً بكتاب ناطق، وأمر قائم واضح، لا يهلك عنه إلاّ هالك، وان المبتدعات والشبهات هنّ المهلكات إلاّ من حفظ الله، وإنّ في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم غير ملوّية ولا مستكرَه بها، والله لتفعلنّ أو لينقُلنّ الله عنكم سلطان الإسلام، ثمّ لا ينقله اليكم أبداً حتى يأرز الأمر اليها، انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون أن يفرّقوا جماعتكم لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق، وتقضون الّذي عليكم»(2).
____________
(1) لقد مرّ أنه استعمله على مكة.
(2) تاريخ الطبري 4/445 ـ 446.
ابن عباس مشيراً وقائداً ووزيراً في حكومة الإمام:
لقد مرّ بنا ذكره مشيراً في الحديث عن مشورة المغيرة، ومرّ بنا قريباً تعيينه قائداً على الميمنة للجيش الّذي بدأ إعداده لمواجهة التمرّد بالشام. وسيأتي بقية الحديث عن ذلك الجيش وما جرى له. أمّا الآن فإلى معرفة بداية استيزار الإمام له.
قال ابن قتيبة: «وذكروا ان الزبير وطلحة أتيا عليّاً بعد فراغ البيعة فقالا: هل تدري على ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟
قال عليّ: نعم على السمع والطاعة، وعلى ما بايعتم عليه أبا بكر وعمر وعثمان.
فقالا: لا، ولكنّا بايعناك على أنا شريكاك في ألامر.
فقال عليّ: لا، ولكنكما شريكان في القول والاستقامة والعون على العجز والأودَ.
قال: وكان الزبير لا يشك في ولاية العراق وطلحة في اليمن، فلمّا أستبان لهما أن عليّاً غير مولّيهما شيئاً، أظهرا الشكاة، فتكلم الزبير في ملأ من قريش فقال: هذا جزاؤنا من عليّ، قمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب،
____________
(1) عليّ وبنوه /27 ط دار المعارف.
قال طلحة: ما اللوم إلاّ أنا كنا ثلاثة من أهل الشورى، كرهه أحدنا وبايعناه وأعطيناه ما في أيدينا ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا ما رجونا.
قال: فانتهى قولهما إلى عليّ، فدعا عبد الله بن عباس - وكان استوزره - فقال له بلغك قول هذين الرجلين؟ قال: نعم بلغني قولهما. قال: فما ترى؟ قال: أرى أنّهما أحبّا الولاية، فولّ البصرة الزبير، وولّ طلحة الكوفة فإنهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان.
فضحك عليّ ثمّ قال: ويحك إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس، يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القويّ بالسلطان، ولو كنت مستعملاً أحداً لضرّه ونفعه لاستعملت معاوية على الشام، ولولا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.
ثمّ أتى طلحة والزبير إلى عليّ فقالا: يا أمير المؤمنين إئذن لنا إلى العمرة، فإن تقم إلى انقضائها رجعنا إليك وإن تسر نتبعك، فنظر اليهما وقال: نعم والله ما العمرة تريدان، إن تمضيا إلى شأنكما فمضيا»(1).
أقول: لقد مرّ بنا ما نقلناه عن البلاذري في حديث مشورة المغيرة قول ابن عباس: «إنّ الكوفة والبصرة عين المال، وإن ولّيتهما إياهما لم آمن أن يضيّقا عليك» فكيف نصدّق برواية ابن قتيبة في تبدّل رأي ابن عباس في تولية الزبير وطلحة، ولم يكن بين الموقفين ما يدعو إلى التغيير والتبديل؟!
____________
(1) الإمامة والسياسة 1/47 ـ 48 ط سنة 1328 بمصر.
أمّا الآن فإلى:
قراءة في التاريخ:
فلنقرأ - قبل تاريخه الحضور الفاعل والمؤثّر - شيئاً عن بوادر الخلاف الّتي استهدفت خلافة الإمام أمير المؤمنين، وتسليط الضوء على حجج المخالفين، بدءاً من معاوية ثمّ طلحة والزبير وعائشة وسائر بني أمية وأشياعهم من الناكثين وأتباعهم من القاسطين. فإنّ قراءة ذلك هي جزء من قراءة تاريخ ابن عباس. الّذي شارك الإمام في السرّاء والضرَاء بدءاً من خلافته وحتى مقتله، وبقي ابن عباس مستمراً في كفاحه من بعده كما كان له في حياته.
وإنّما قدمت ذكر معاوية على غيره من المخالفين الحانقين على الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، لأنّي وجدته أوّل من أعلن الخلاف وحرّض عليه، فقد كتب الرسائل في ذلك إلى كلّ من طلحة والزبير وسعيد بن العاص وعبد الله بن عامر ابن كريز والوليد بن عُقبة ويعلى بن مُنيّة وهو اسم أمه! وإنّما اسم أبيه أمية. وهو الّذي لقنّهم الحجة بطلب دم عثمان.
فلنقرأ ما قاله ابن أبي الحديد في شرح النهج: «وأنا أذكر في هذا الموضع خبراً رواه الزبير بن بكار في الموفقيات(1) ليعلم من يقف عليه أن معاوية لم يكن
____________
(1) وهذا ممّا لم يرد في نسخة الموفقيات المطبوعة بتحقيق سامي مكي العاني. كما لم يستدركه فيما استدرك ممّا لم يرد ذكره في آخر الكتاب، وقد استدركته عليه في نسختي مع موارد أخرى فاتته بلغت ثلاثة عشر مستدركاً حتى الآن.
قال الزبير: حدثني محمّد بن محمّد بن زكريا بن بسطام، قال: حدثني محمّد بن يعقوب بن أبي الليث، قال: حدثني أحمد بن محمّد بن الفضل بن يحيى المكي عن ابيه عن جده الفضل بن يحيى عن الحسن بن عبد الصمد عن قيس بن عرفجة قال:
لمّا حصر عثمان أبرد مروان بن الحكم بخبره بريدَين أحدهما إلى الشام والآخر إلى اليمن وبها يومئذ يعلى بن منية، ومع كلّ واحد منهما كتاب فيه: ان بني أمية في الناس كالشامة الحمراء، وان الناس قد قعدوا لهم برأس كلّ محجّة وعلى كلّ طريق، فجعلوهم مرمى العرّ والعضيهة(1)، ومقذف القشب والأفيكة(2) وقد علمتم أنها لم تأت عثمان إلاّ كرهاً تجبذ من ورائها، وإني خائف إن قتل أن تكون من بني أمية بمناط الثريا، إن لم نصر كرصيف الأساس المحكم، ولئن وهَى عمود البيت ليتداعين جدرانه، والّذي عيب عليه إطعامكما الشام واليمن، ولا شك أنكما تابعاه إن لم تحذرا، وأمّا أنا فمساعف كلّ مستشير، ومعين كلّ مستصرخ، ومجيب كلّ داع، أتوقع الفرصة، فأثب وثبة الفهد، أبصر غفلة مقتنصة، ولولا مخافة عطب البريد وضياع الكتب لشرحت لكما من الأمر ما لا تفزعان معه إلى أن يحدث الأمر، فجدّا في الطلب ما أنتما وليّاه، وعلى ذلك فليكن العمل ان شاء الله. وكتب في آخره:
____________
(1) العُرّ: الجرب، والعضيهة الافك والبهتان.
(2) القشب من الكلام الفري والقاشب الّذي يعيب الناس بما فيه، والأفيكة: الكذب.
وما بلغت عثمان حتى تخطّمت | رجالٌ ودانت للصغار رجال |
لقد رجعت عوداً على بدء كونها | وإن لم تجدّا فالمصير زوال |
سيبدي مكنون الضمائر قولُهم | ويظهر منهم بعد ذاك فعال |
فإن تقعدا لا تطلبا ما ورثتما | فليس لنا طول الحياة مقال |
نعيش بدار الذل في كل بلدةٍ | وتظهر منّا كابة وهزال |
فلمّا ورد الكتاب على معاوية أذِّن في الناس: الصلاة جامعة ثمّ خطبهم خطبة المستنصر المستصرخ، وفي أثناء ذلك ورد عليه قبل أن يكتب الجواب كتاب مروان بقتل عثمان وكانت نسخته:
وهب الله لك أبا عبد الرحمن قوة العزم وصلاح النيّة، ومنّ عليك بمعرفة الحقّ واتباعه فاني كتبت إليك هذا الكتاب بعد قتل عثمان أمير المؤمنين، وأيّ قتلة قُتل، نحر كما ينحر البعير الكبير عند اليأس من أن ينوء بالحَمل، بعد أن نُقبت صفحتُه بطيّ المراحل وسير الهجير، وإني معلمك من خبره غير مقصر ولا مطيل: إنّ القوم استطالوا مدّته، واستقلّوا ناصره، واستضعفوا بدنه، وأمّلوا بقتله بسَطَ أيديهم فيما كان قَبضَه عنهم، واعصوصبوا عليه، فظل محاصراً، قد مُنع من صلاة الجماعة ورد المظالم، والنظر في أمور الرعية، حتى كأنه هو فاعل لما فعلوه، فلمّا دام ذلك أشرف عليهم، فخوّفهم الله وناشدهم، وذكّرهم مواعيد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم له، وقوله فيه، فلم يجحدوا فضله ولم ينكروه، ثمّ رموه بأباطيل اختلقوها، ليجعلوا ذلك ذريعة إلى قتله، فوعدهم التوبة ممّا كرهوا، ووعدهم الرجعة إلى ما أحبّوا. فلم يقبلوا ذلك، ونهبوا داره، وانتهكوا حرمته، ووثبوا عليه فسفكوا دمه، وانقشعوا عنه انقشاع سحابة قد أفرغت ماءها، منكفئين
فلمّا ورد الكتاب أمر بجمع الناس، ثمّ خطبهم خطبة أبكى منها العيون وقلقل القلوب، حتى علت الرنّة، وارتفع الضجيج، وهمّ النساء أن يتسلّحن.
ثمّ كتب إلى طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام، وسعيد بن العاص، وعبد الله بن عامر بن كريز، والوليد بن عُقبة ويعلى بن مُنية - وهو اسم أمه - وإنّما اسم أبيه أمية.
فكان كتاب طلحة: أمّا بعد، فإنك أقل قريش في قريش وترا، مع صباحة وجهك وسماحة كفّك، وفصاحة لسانك، فأنت بأزاء من تقدّمك في السابقة، وخامس المبشرين بالجنة، ولك يوم أحد وشرفُه وفضلُه، فسارع رحمك الله إلى ما تقلّدك الرعية من أمرها ممّا لا يسعك التخلّف عنه، ولا يرضى الله منك إلاّ بالقيام به، فقد أحكمتُ لك الأمر قبلي، والزبير فغير متقدم عليك بفضل، وأيكما قدّم صاحبه، فالمقدّم الإمام، والأمر من بعده للمقدِّم له، سلك الله بك قصد المهتدين، ووهب لك رُشد الموفقّين والسلام.
وكتب إلى الزبير: أمّا بعد، فإنك الزبير بن العوام، ابن أبي خديجة وابن عمة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وحوارّيه، وسلَفَه، وصهر أبي بكر، وفارس المسلمين، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان، بعثك المبعث، فخرجت كالثعبان المنسلخ، بالسيف المنصلت، تخبط خبط الجمل الرديع(1) كلّ ذلك قوّة إيمان، وصدق يقين، وسبقت لك من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البشارة بالجنّة،
____________
(1) الرديع: أي المردوع من ردعه إذا كفّه.
وكتب إلى مروان بن الحكم: أمّا بعد فقد وصل إلي كتابك بشرح خبر أمير المؤمنين، وما ركبوه به ونالوه منه، جهلاً بالله وجرأة عليه، واستخفافاً بحقّه، ولأمانيّ لوّح الشيطان بها في شَرَك الباطل ليدهدههم(1) في أهويات الفتن، ووهدات الضلال، ولعمري لقد صدق عليهم ظنّه، ولقد اقتنصهم بأنشوطة فخّه، فعلى رسلك أبا عبد الله، يمشي الهوينى ويكون أوّلاً، فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد لا يصطاد إلاّ غيلة، ولا يتشازر(2) إلاّ عن حيلة، وكالثعلب لا يفلِتُ إلاّ روغانا، واخف نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكفّ، وامتهن نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره، وابحث عن أمورهم بحث الدجاجة عن حبّ الدخن عند فقاسها، وأَنغِل(3) الحجاز فإني منغلٌ الشام. والسلام.
وكتب إلى سعيد بن العاص: أمّا بعد، فإن كتاب مروان ورد عليّ من ساعة وقت النازلة، تقبل به البُرد بسير المطيّ الوجيف(4) تتوجس توجّس الحيّة الذكر
____________
(1) أي: ليرديهم.
(2) التشازر: النظر بمؤخر العين.
(3) أي احملهم على الضغن والعداوة.
(4) الوجيف: السريع في سيره.
تالله لا يذهب شيخي باطلاً | حـتى أبـير مالكاً وكاهلاً |
القاتلين الملك الحـلاحلا | خير مُعدّ حسباً ونائـلا(4) |
وكتب إلى عبد الله بن عامر: أمّا بعد، فإن المنبر مركَب ذلول، سهل الرياضة، لا ينازعك اللجام، وهيهات ذلك، إلاّ بعد ركوب أثباج المهالك، واقتحام أمواج المعاطب، وكأني بكم يا بني أمية شعارير(5) كالأوارك تقودها الحُداة، أو كرُخم الخندمة(6) تذرق خوف العُقاب، فثب الآن رحمك الله قبلَ أن
____________
(1) الّذي يرقى الحية ويقبض عليها.
(2) اللمظة واللماظة، اليسير من السمن تأخذه بإصبعك.
(3) صغار النمل.
(4) الشعر لأمرئ القيس الكندي ديوانه /134جمع السندوبي.
(5) الشعارير: المتفرقون، والأوارك النوق الّتي تلزم الأراك فترعاه فهي تتفرق لتتبع الأراك.
(6) اسم موضع فيها مأوى الرُخم تختفي فيه من العُقاب.