يا ربّ إنّ مسلماً دعاهم | يتلو كتاب الله لا يخشاهم |
يأمر بالمعروف من مولاهم | فخضّبوا من دمه قناهم |
وأمهم قائمة تراهم | تأمرهم بالقتل لا تنهاهم(1) |
ولم يبرح إذ جاء من الميمنة عبد الله بن عباس ومعه عبد الله بن بديل، يحملان ابناً لابن بديل - أو أخاً له - قد قتل بسهام القوم الطائشة، فقال ابن بديل: حتى متى يا أمير المؤمنين ندلي نحورنا للقوم يقتلونا رجلاً رجلاً، قد والله أعذرتَ إن كنت تريد الإعذار.
وعندها تهيأ للحرب ورفع يديه إلى السماء وقال: (اللّهمّ إليك شخصت الأبصار، وأفضت القلوب وأتقرب إليك بالأعمال، ربّنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين)، وأعطى الراية ولده محمّد ابن الحنفية، ثمّ نادى: (أيّها الناس لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تكشفوا عورة، ولا تهيجوا امرأة، ولا تمثلوا بقتيل)، فبينما يوصي أصحابه إذ أظلّتهم نبال القوم فقتل رجل من أصحابه فقال: اللّهمّ اشهد.
____________
(1) قارن الطبري 4/511 ـ 512 ط دار المعارف، وشرح النهج لابن أبي الحديد 2/431، والفتوح لابن أعثم 2/313، وأنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/240 ـ 241 تح ـ المحمودي.
فقال: (اربط بها ما قد توهى من هذه الدرع من خلفي).
فقال ابن عباس: أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا.
فقال (عليه السلام): (ولم؟) قال: أخاف عليك. قال (عليه السلام): (لا تخف أن أوتى من ورائي، والله يا بن عباس ما وليت في زحفٍ قط). ثمّ قال. (إلبَس يا بن عباس)، فلبس درعاً سعدية... اهـ»(1).
وكان ابن عباس يلبس في الحرب من القلانس ما يكون من السيجان(2).
وقد رأى الإمام ابن عمه وهو يمشي بين الصفين فقال: (أقرّ الله عين من له ابن عم مثل هذا)، وهذه كلمة تنبيء عن صورة انطباع معبّر ومؤثر في نفس الإمام لذلك المشهد الّذي رأى فيه ابن عمه، فابن عمه لم يكن يمشي بين الصفين تمشي نزهة، وإنّما كان مشي في ساحة حرب وقتال سوف تتطاير فيه رؤوس وتتقطع فيه الأيدي وهذه الكلمة رواها لنا شاهد عيان - وأي شاهد ذلك؟! - هو الإمام الحسين (عليه السلام) ونقلها عنه ولده الإمام عليّ بن الحسين، وعنه الزهري(3)،وما أكثر ما كان يمشي ابن عباس بين الصفين، في ذهابه وايابه إلى كلّ من طلحة والزبير وعائشة حين يبعثه الإمام عسى أن يفيئوا إلى الطاعة ولكن فيما يبدو أن جميع تلك المساعي لم تجد نفعاً، حتى تولى الإمام بنفسه بذل النصيحة في دعوته لحقن الدماء.
____________
(1) كتاب الجمل /163 ط الحيدرية.
(2) المخصص لابن سيده 4/79، ولسان الميزان 3/127.
(3) أنظر البداية والنهاية لابن كثير 8/299.
قال طلحة: ألّبت الناس على عثمان (رضي الله عنه).
قال عليّ: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}(1) يا طلحة تطلب بدم عثمان! فلعن الله قتلة عثمان. يا زبير أتذكر يوم مررت برسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم في بني غنم، فنظر إليّ فضحك وضحكتُ إليه فقلتّ: لا يدع ابن أبى طالب زهوه، فقال لك رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم: (صه(2) إنّه ليس به زهو، ولتقاتلنّه وأنتَ له ظالم)؟ فقال: اللّهمّ نعم، ولو ذكرت ما سرتُ مسيري هذا، والله لا أقاتلك أبداً.
فانصرف عليّ إلى أصحابه فقال: أمّا الزبير فقد أعطى الله عهداً ألاّ يقاتلكم.
ورجع الزبير إلى عائشة فقال لها: ما كنتُ في موطن منذ عقلت إلاّ وأنا أعرف فيه أمري غير موطني هذا فقالت: فما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أدعهم وأذهب. فقال له ابنه عبد الله: جمعتَ بين هذين الغارين(3) حتى إذا حددّ بعضهم لبعض أردت أن تتركهم وتذهب! أحسست رايات ابن أبي طالب، وعلمتَ أنّها
____________
(1) النور /25.
(2) اسم فعل بمعنى: أسكت وهو بلفظ واحد للجميع في المذكر والمؤنث.
(3) الغاران هنا بمعنى: الجيشان.
لم أر كاليوم أخا إخوان | أعجَبُ من مكفّر الأيمان |
وقال رجل من شعرائهم:
يعتق مكحولاً لصون دينه | كفـارة لله عن يمينه |
ويبدو من حديث البلاذري في أنساب الأشراف(2) أن العتق لم يكن لذلك بل لأنّه عزم أن يلحق بمعاوية فقد روى بسنده عن يحيى بن سعيد قال: كتب معاوية إلى الزبير: أن أقبل إليّ أبايعك ومن يحضرني، فكتم الزبير ذلك عن طلحة وعائشة، ثمّ بلغها فكبر ذلك عليها، وأخبرت عائشة به ابن الزبير، فقال لأبيه: أتريد أن تلحق بمعاوية؟ فقال: نعم ولم لا أفعل وابن الحضرمية ينازعني في الأمر! ثمّ بدا له في ذلك. وأحسبه كان حلف ليفعلنّ فدعا غلاماً له فأعتقه وعاد إلى الحرب.
ومهما كان السبب فهو قد أوقد الحرب ثمّ ولّى عنها راجعاً حتى لحقه ابن جرموز بوادي السباع فقتله، كما سيأتي حديث مقتله(3).
____________
(1) تاريخ الطبري 4/501.
(2) في أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/257 ـ 258 تح ـ المحمودي.
(3) رحم الله أبا سعيد بن عقيل بن أبي طالب فقد قال لابن الزبير في كلام جرى بينهما في مجلس معاوية: دع عنك عليّاً والزبير، إنّ عليّاً دعا إلى أمر فاتبع وكان فيه رأساً، ودعا الزبير إلى أمر كان فيه الرأس امرأة، فلمّا تراءت الفئتان والتقى الجمعان نكص الزبير على عقبيه، وأدبر منهزماً قبل أن يظهر الحقُ فيأخذه أو يدحض الباطلُ فيتركه، فأدركه رجل لو قيس ببعض أعضائه لكان أصغر، فضرب عنقه وأخذ سلبه وجاء برأسه. ومضى عليّ قُدماً كعادته مع ابن عمه ونبيّه صلّى الله عليه (وآله) وسلّم، فرحم الله عليّاً ولا رحم الزبير.
فقال ابن الزبير: أمّا والله لو أن غيرك تكلّم بهذا يا أبا سعيد لعلم، قال: إنّ الّذي تعرّض به يرغب عنك. وأخبرت عائشة بمقالتهما، فمرّ أبو سعيد بفنائها فنادته: يا أحول يا خبيث أنت القائل لابن أختي كذا وكذا؟ فالتفت أبو سعيد فلم ير شيئاً فقال: ان الشيطان ليراك من حيث لا تراه، فضحكت عائشة وقالت: لله أبوك ما أخبث (ما أذلق) لسانك.
شرح النهج لابن أبي الحديد 3/7، عقد الفريد 4/14 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر تح ـ أحمد أمين، أحمد الزين، إبراهيم الأبياري.
وقامت الحرب على ساق:
ليس اعتباطاً اخترت هذا العنوان، فقد قال أبو مخنف: «أمر عليّ (عليه السلام) ولده محمّداً أن يحمل الراية، فحمل وحمل معه الناس، واستحر القتل بين الفريقين، وقامت الحرب على ساق»(1).
وقد كانت العرب تقول ذلك كناية عن منتهى الشدّة، وبذلك فسّر ابن عباس ترجمان القـرآن قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ}(2) كمـا في أجوبة نافع ابن الأزرق وقد سأله عن ذلك فقال: شدّة الآخرة، واستشهد له بقول الشاعر:
إصبر عناق إنه شرّ باق | قد سنّ لي قومك ضرب الأعناق |
كما فسر له أيضاً قوله تعالى: {وَالْتَفَّتْ السَّاقُ بِالسَّاقِ}(3) فقال: الشدّة بالشدّة وأنشده شاهداً قول الشاعر:
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/431 ط مصر الأولى.
(2) القلم /42.
(3) القيامة /29.
أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّها | وإن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا(1) |
إذن فليس اعتباطاً اخترت لك هذا العنوان ما دامت الشدّة في حرب الجمل قد بلغت أقصاها بشهادة المتحاربين.
فلنقرأ بعض الشهادات من الفريقين:
1- قال محمّد بن الحنفية: دفع إلي أبي الراية يوم الجمل وقال: تقدّم، فتقدمت حتى لم أجد متقدّماً إلاّ على رمح، قال: تقدّم لا أم لك فتكأكأتُ وقلت: لا أجد متقدماً إلاّ على سنان رمح، فتناول الراية من يدي متناوِل لا أدري مَن هو؟ فنظرت فإذا أبي بين يدي وهو يقول:
أنتِ الّتي غرّك مني الحسنى | يا عيشَ إنّ القوم قوم أعدا |
2- وقال عبد خير في حديث له عن حرب الجمل: فمشى بعضنا إلى بعض، وشجرنا بالرماح حتى لو شاء الرجل أن يمشي عليها مشى، ثمّ أخذتنا السيوف فما شبهتها إلاّ دار الوليد(3).
3- وقال عبد الله بن سنان الكاهلي: لمّا كان يوم الجمل ترامينا بالنبل حتى فنيت، وتطاعنّا بالرماح حتى تشبكّت في صدورنا وصدورهم، حتى لو سيّرت
____________
(1) روى البلاذري في أنسابه /51 ط بولس آبل سنة 1884 عن أبي مخنف: ان ابن الزبير كان يقاتل لما أتاه الحجاج يقاتله في المسجد الحرام:
قد قامت بنا الحرب على ساق | قبلك سنّ الناس ضرب الأعناق |
(2) تاريخ الطبري 4/514 ـ 515 ط دار المعارف.
(3) المصنف لابن أبي شيبة 15/277 ط باكستان.
4- وقال أبو بشير: كنت مع مولاي زمن الجمل، فما مررت بدار الوليد قط فسمعت أصوات القصّارين يضربون إلاّ ذكرت قتالهم(2).
5- وقال عيسى بن حطّان: حاص الناس حيصة(3)، ثمّ رجعنا وعائشة على جمل أحمر في هودج أحمر ما شبهته إلاّ بالقنفذ من النبل(4).
6- قال حريث بن فحش: ما شهدت يوماً أشد من يوم ابن عليس إلاّ يوم الجمل(5).
وهلمّ فاقرأ ما رواه ابن عبد ربّه الأندلسي(6) عن غندر قال حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت عبد الله بن سلمة - وكان مع عليّ بن أبي طالب - والحارث بن سويد - وكان مع طلحة والزبير - وتذاكرا وقعة الجمل، فقال الحارث بن سويد: والله ما رأيت مثل يوم الجمل، لقد أشرعوا رماحهم في صدورنا، وأشرعنا رماحنا في صدورهم، ولو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت، يقول هؤلاء: لا إله إلاّ الله والله أكبر، ويقول هؤلاء: لا إله إلاّ الله والله أكبر، فوالله لوددت أنّي لم أشهد ذلك اليوم، وأنّي أعمى مقطوع اليدين والرجلين. وهذا أخرجه ابن أبي شيبة(7).
____________
(1) تاريخ الطبري /532.
(2) نفس المصدر.
(3) جالوا جولة يطلبون الفرار (لسان العرب حاص).
(4) تاريخ الطبري 4/532.
(5) المصنف لابن أبي شيبة 15/277 ط باكستان.
(6) في العقد الفريد 4/327 تح ـ أحمد أمين ورفيقيه.
(7) في مصنفه ـ كتاب الجمل ـ 15/258.
ولم يكن الرجال أبلغ من النساء اللائي حضرن يوم الجمل في التصوير إن لم يكنّ أشجى في التعبير، فقد روى المسعودي فقال: خرجت امرأة من عبد القيس تطوف القتلى، فوجدت ابنين لها قد قتلا، وقد كان قتل زوجها وأخوان لها فيمن قتل قبل مجيء عليّ البصرة، فأنشأت تقول:
شهدت الحروب فشيّبني | فلم أرَ يوماً كيوم الجمل |
أضرّ على مؤمن فتنة | وأقتله لشجاع بطل |
فليت الظغينة في بيتها | وليتك عسكر لم ترتحل(1) |
وثمة امرأة ثكلى من المعسكر الآخر فقدت أبناءها أربعة أو خمسة وهم كعب بن سور الأزدي القاضي وأخوته فقتلوا جميعاً يوم الجمل، فجاءت أمهم حتى وقفت عليهم فقالت:
يا عينُ جودي بدمع سَرِب | على فتية من خيار العرب |
وما لهمُ غير حَين النفو | س أيُّ أميري قريش غلب(2) |
وحسبنا حديث المدائني وقد رواه البلاذري(3) وغيره، قال: «المدائني عن أبي خيران الحِمّاني عن عوف الأعرابي عن أبي رجاء العطاردي قال: رأيت
____________
(1) مروج الذهب 2/369 ط بيروت، وقارن العقد الفريد 4/325 ونسب الأبيات لرجل شهد الجمل، وفي أنساب البلاذري (ترجمة الإمام) 2/370 نسبها لشاعر ثمّ قال: ويقال هو عثمان بن حنيف.
(2) الكامل للمبرد 4/22 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم.
(3) في أنسابه (ترجمة الإمام) 2/266 تح ـ المحمودي.
لقد أوردتنا حومة الموت أمّنا | فما صدرت إلاّ ونحن رواء |
أطعنا قريشاً ضلة من حلومنا | ونصرتنا أهل الحجاز عناء |
لقد كان عن نصر ابن ضبّة أمّه | وشيّعتها مندوحة ومباء |
أطعنا بني تيم بن مرة شقوةً | وما تيم إلاّ أعبد وإماء |
فقلت: سبحان الله أتقول هذا عند الموت، قل: لا إله إلاّ الله، فقال: يا بن اللخناء إياي تأمر بالجزع عند الموت؟ قال: فولّيت عنه متعجباً منه، فصاح بي أدن مني لقنّي الشهادة، فصرت إليه، فلمّا قربت منه استدناني وقال: ادن مني ولقنّي فإنّ في أذني وَقراً، فدنوت منه فقال لي من أنت؟ قلت: رجل من أهل الكوفة، فوثب عليّ فاصطلم أذني كما ترى، فجعلت ألعنه وأدعو عليه، فقال: إذا صرت إلى أمك فأخبرها أن عُمير بن الأهلب الضبي فعل بك هذا، مخدوع المرأة الّتي أرادت أن تكون أمير المؤمنين»(2).
قال ابن أعثم: «وانقلب الهمداني بغير اذن، ثمّ أن كرّ عليه بسيفه حتى قطعه إرباً إربا.
____________
(1) سمّاه ابن اعثم في الفتوح 2/335 بـ (مسعود بن عمرو الهمداني).
(2) مروج الذهب 2/379 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد، وقارن الطبري 4/523 ـ 524 ط دار المعارف، وابن الأثير 3/108 ط بولاق، ومروج الذهب 2/370 ط بيروت وسمط النجوم العوالي وتاريخ ابن عساكر في ترجمة سعيد بن شمر وفي تهذيبه 6/130، والفتوح لابن أعثم 2/335 وغيرها.
وحديث أبي بكرة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أخرجه البخاري في صحيحه(2).
وهكذا بقي يوم الجمل مثلاً في شدة القتال وتفاني المتحاربين حتى روى المبرّد(3) قول اسحاق بن خلف البهراني يخاطب عليّ بن عيسى القمي:
وللكرد منك إذا زرتهم | بكيدك يوم كيوم الجمل |
شوقي وحرب الجمل:
ولقد صوّر أمير الشعراء أحمد شوقي الحرب من بدايتها إلى نهايتها فأجمل تصويرها، فقال في كتابه(4) مخاطباً الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب:
يا جبلاً تأبى الجبال ما حمَل | ماذا رمت عليك ربّة الجَمل |
أثأر عثمان الذي شجاها | أم غُصةٌ لم ينتزع شجاها(5) |
قضية من دمه تبنيها | هبّت لها واستنفرت بنيها |
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/81.
(2) راجع فتح الباري 16/166 ط الحلبي سنة 1387هـ.
(3) الكامل 2/19 تح ـ محمّد أبو الفضل إبراهيم.
(4) دول العرب وعظماء الإسلام /54.
(5) يشير الى ما في نفسها من ضغن على الإمام منذ قضية الأفك، وإنما اتخذت الطلب بدم عثمان وسيلة لاغواء السذج ممّن اوردتهم حومة الموت.