الصفحة 175
أقول: ولئن جانب الصواب في آخر كلامه، لأنّه لم يتخلص من عقدة الموروث، فقد كان غيره أشدّ غيرة على أمه لكنه أكثر صراحة وصرامة في لومه لها.

17- قال عبد الكريم الخطيب: «وقد أحصى المحصون عدّة قتلى هذه الحرب من المسلمين فبلغ بها بعضهم أكثر من ثلاثين ألفاً»(1)، بينما وقف بعضهم عند ستة آلاف، فالطبري يروي في بعض رواياته أن عدد القتلى من الفريقين كانوا أكثر من ستة آلاف، وابن أعثم يروي أن قتلى أصحاب عليّ كانوا سبعمائة، أمّا أصحاب عائشة فكانوا تسعة آلاف، وصاحب العقد الفريد يروي أنّ عدد قتلى أصحاب عائشة عشرون ألفاً، وأنّ من قتل من أصحاب عليّ كانوا خمسمائة.

وأياً كان الخلاف في هذه المرويات، فإنّ دماء غزيرة جرت في هذا الإلتحام، وأرواحاً كثيرة طيبة أزهقت في تلك المعركة.

وما نريد أن نلقي تبعة كلّ هذا على أم المؤمنين (رضي الله عنها)، فقد كانت دوافع جانبية كثيرة، تحرّك هذه الحرب وتذكي ضرامها، ولكن الّذي لا شك فيه أنّ زمام الموقف كلّه كان في يد السيدة عائشة. وأنّها لو أشارت بيدها إلى الجيش المجتمع حولها إشارة سلام وانصراف لما بقي أحد في أرض المعركة.

ولكن ثبات أم المؤمنين في الميدان ووقوفها في أرض المعركة جعل الذين قاتلوا معها لا يقاتلون إلاّ دفاعاً عنها، وإلاّ دفعاً لما قد يتعرض لها من سوء، ولهذا فقد استماتوا في حمايتها(2).

____________

(1) مرآة الجنان لليافعي 1/97 وبلغت القتلى يومئذ ثلاثة وثلاثين ألفاً على ما ذكر أهل التواريخ.

(2) عليّ بن أبي طالب بقية النبوة وخاتم الخلافة /355 ـ 356.


الصفحة 176
18- قال سعيد الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة: «وأمّا السيدة عائشة فنقدها عثمان كان أشدّ عليه لما لها من الحرمة والإجلال ونفاذ الكلمة، وقد عرف الأمويون وطلحة والزبير ما يكون لدعواهم من القوة إذا نهضت بها معهم عائشة، وعرفوا ما تكنّ من الكره لخلافة عليّ، فما زالوا يفتلون لها في الذروة والغارب حتى نهضت لما أنهضوها، وحملت من هذه الفتنة نصيبها...».

ثمّ قال: «وأنا أقطع أنّ الأمور لم تكن لتصل إلى العاقبة السيئة الّتي رأيناها لو غابت عائشة عن فتنة الجمل، لقد كانت السيدة لهذه الفتنة - من حيث لا تريد - روحها، وكان مقامها فيها أقوى ما حفّز الجماهير على التطوع لها وعلى تهافتهم على الإستماتة بين يدي جمل عائشة...».

وقال: «هذا وقد أكثر لها الناصحون من اخواتها امهات المؤمنين وأصحاب رسول الله الأجلاء، وعقلاء أهل المصرَين البصرة والكوفة، فلم تستجب لنصح أحد، ونفذ قضاء الله.

والله سبحانه أعفى النساء من الدخول فيما هو من شأن الرجال، فلم يكلفهنّ سياسة ولا إدارة ولا إثارة جماهير، ولا تجييش جيوش، ولا تأليباً على الخلفاء، فإن باشرن شيئاً من هذا كان ذلك هو الفتنة عينها، وكان المجتمع حينئذٍ يعالج داءً دخيلاً في كيانه ينذر بالشر المستطير، وسترى بعد قليل أنّ السيدة ذاتها حكمت على نفسها هذا الحكم، ورأت أنّها أتت أمراً إدّاً لا يغتفر»(1).

____________

(1) عائشة والسياسة /207.


الصفحة 177
فجميع هذه الأقوال تدفع ما ذكره طه حسين من تبادل الاستغفار ليسدل الستار على تلك المشاهد المروعة من القتلى والجرحى وما خلّفته الحرب من دمار. ولا غرابة إذن لو قرأنا إدانة عائشة ـ كما مرّ ـ وليس على من أدانها أيّ عتب حين يخاطبها:


فمنك البكاء ومنك العويلومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإماموقاتله عندنا من أمر

كما قال لها ذلك عمّار(1) وعلى هذا كان قول القائل:


أذنبت يا عائش في قتالكأخالطه عافك جمّالك
فهل علينا بعد هذا إثماذا تركناك ومنك الظلم
وحسبنا منك أعترفت بالخطاحين رأيت الأمر أمراً غلطا

19- وقال محمّد بن اسحاق بن خزيمة: «عهدت مشايخنا يقولون: إنّا نشهد بأن كلّ من نازع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب في خلافته فهو باغ. وبه قال ابن إدريس»(2).

20- قال أبو منصور عبد القاهر البغدادي: «أجمع أهل الحقّ على صحة إمامة عليّ وقت انتصابه لها بعد قتل عثمان، وأنه كان محقاً مصيباً في التحكيم وفي قتال أصحاب الجمل وأصحاب معاوية بصفين»(3).

____________

(1) مروج الذهب 2/371 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.

(2) معرفة علوم الحديث /84.

(3) أصول الدين /286 ـ 292.


الصفحة 178
21- وقال أبو إسحاق الشيرازي الشافعي: «وقاتل عليّ أهل البصرة يوم الجمل وقاتل معاوية بصفين وقاتل الخوارج بالنهروان، استدل بذلك على قتال من خرج عن طاعة الإمام»(1).

22- وقال إمام الحرمين الجويني: «كان عليّ بن أبي طالب إماماً حقاً في توليته ومقاتلوه بغاة»(2).

23- وقال الكاساني الحنفي: «قاتل سيدنا عليّ أهل حروراء بالنهروان بحضرة الصحابة تصديقاً لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لسيدنا عليّ: إنّك تقاتل على التأويل كما تقاتل على التنزيل، والقتال على التأويل هو القتال مع الخوارج، ودل الحديث على إمامة سيدنا عليّ لأنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شبّه قتال سيدنا عليّ بقتاله على التنزيل، وكان رسول الله محقاً في قتاله على التنزيل، فلزم أن يكون سيدنا عليّ محقاً في قتاله بالتأويل»(3).

24- وقال الزيلعي: «كان الحقّ بيد عليّ في نوبته فالدليل عليه قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لعمّار: تقتلك الفئة الباغية، ولا خلاف انه كان مع عليّ وقتله أصحاب معاوية، ثمّ قال: أجمعوا على أنّ عليّاً كان مصيباً في قتال أهل الجمل وهم طلحة والزبير وعائشة ومَن معهم، وأهل صفين وهم معاوية وعسكره»(4).

25- وقال ابن مفلح الحنبلي: «كان عليّ أقرب إلى الحقّ من معاوية، وأكثر المصنّفين في قتال أهل البغي يرى القتال من ناحية عليّ، ومنهم من يرى الإمساك».

____________

(1) المهذب في الفقه الشافعي 2/234 ط مصر سنة 1343.

(2) الإرشاد في أصول الاعتقاد /433.

(3) بدائع الصنائع 7/140 أحكام المرتدين.

(4) نصب الراية 4/69 (كتاب أدب القاضي).


الصفحة 179
26- وقال ابن هبيرة في حديث أبي بكرة في ترك القتال في الفتنة أي في قتل عثمان: «فأمّا ما جرى بعده فلم يكن لأحد من المسلمين التخلف عن عليّ. ولما تخلف عنه سعد وابن عمر وأسامة ومحمّد بن مسلمة ومسروق والأحنف ندموا، وكان عبد الله بن عمر يقول عند الموت: إنّي لم أخرج من الدنيا وليس في قلبي حسرة إلاّ تخلفي عن عليّ، وكذا روي عن مسروق وغيره بسبب تخلّفهم»(1).

27- وقال محمّد بن الحسن الشيباني - تلميذ أبي حنيفة -: «لو لم يقاتل معاوية عليّاً (عليه السلام) ظالماً له متعدياً باغياً كنا لا نهتدي لقتال أهل البغي»(2).

28- وقال الشافعي: «السكوت عن قتلى صفين حسن، وان كان عليّ أولى بالحقّ من كلّ من قاتله»(3).

لقد وضعت الحرب أوزارها:

خلّفت وراءها مخلّفات كثيرة، فإن يكن النصر قد حالف جيش الإمام، فقد خالف بين وجهات نظر أفراده. فثمة مسائل لم يكن المسلمون قد عرفوا حكمها من قبل، إذ لم يبتلوا بقتال أهل القبلة، إذن كيف لهم أن يعرفوها اليوم، وبتعبير أدّق كيف يتهضمّونها وهذه المسائل ظهرت في ثلاثة محاور:

أوّلاً: إعلان العفو العام عن الجرحى والمنهزمين وغيرهم.

ثانياً: عدم الأسرى في هذه الحرب.

ثالثاً: عدم الغنائم إلاّ ما قاتلوا به وعليه.

____________

(1) الفروع 3/542 ـ 543.

(2) الجواهر المضيئة في طبقات الحنفية 2/26.

(3) أدب الشافعي ومناقبه /314.


الصفحة 180
ولسنا نعرف مثلاً لذلك في أي عصر من العصور فقد أحتج جيش عليّ لأن غنائم معركته حرمت عليه، وقال بعضهم: أحل لنا دمهم وحرم علينا أموالهم، ولكن عليّاً لم يلق بالاً إلى هذا الاحتجاج فقد كان يضع مبادئ عليه أن يقرّها حتى ولو صادفت احتجاجاً أو اعتراضا(1).

وهذه الثلاثة هي السيرة الّتي تعلّمها المسلمون من الإمام (عليه السلام) ولولاه لم يعرفوا أحكامها.

أخرج ابن أبي شيبة بسند صحيح عن زيد بن وهب قال: «فكفّ عليّ يده حتى بدأوه بالقتال، فقاتلهم بعد الظهر، فما غربت الشمس وحول الجمل عين تطرف ممّن كان يذبّ عنه. فقال عليّ: لا تتموا جريحاً، ولا تقتلوا مدبراً، ومن أغلق بابه وألقى سلاحه فهو آمن»(2).

وأخرج أيضاً بسنده عن أبي البختري قال: «لمّا انهزم أهل الجمل قال عليّ: لا يطلب عبدٌ خارجاً من المعسكر، وما كان من دابة أو سلاح فهو لكم، وليس لكم أم ولد، والمواريث على فرائض الله، وأي امرأة قتل زوجها فلتعتد أربعة أشهر وعشراً.

قالوا يا أمير المؤمنين: تحلّ لنا دماؤهم ولا تحلّ لنا نساؤهم، قال: فخاصموا. فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة، قال: فهاتوا سهامكم وأقرعوا على عائشة فهي رأس الأمر وقائدهم. قال: ففرقوا وقالوا نستغفر الله، قال: فخصمهم عليّ»(3).

____________

(1) اليمين واليسار في الإسلام /121 لأحمد عباس صالح.

(2) المصنف لابن أبي شيبة 15/286 ط باكستان كراتشي، سنن البيهقي 8/181 ط دار الفكر فتح الباري لابن حجر 16/168 ط الحلبي بتفاوت يسير.

(3) المصنف لابن أبي شيبة 15/263.


الصفحة 181
قال ابن حزم: «وفي أيامه كانت وقعة الجمل وصفين، وعلم الناس منه فيها كيف قتال اهل البغي»(1).

وروى البيهقي بسنده قال عليّ (رضي الله عنه) يوم الجمل: «نمنّ عليهم بشهادة أن لا إله إلاّ الله ونورّث الآباء من الأبناء»(2).

قال أبو حنيفة الدينوري: «فجعلوا يمرون بالذهب والفضة في معسكرهم والمتاع فلا يعرض له أحد إلاّ ما كان من السلاح الّذي قاتلوا به، والدواب الّتي حاربوا عليها.

فقال له بعض أصحابه: يا أمير المؤمنين كيف حلّ لنا قتالهم ولم يحلّ لنا سبيهم وأموالهم؟

فقال عليّ (رضي الله عنه): ليس على الموحدّين سبي، ولا يغنم من أموالهم إلاّ ما قاتلوا به وعليه، فدعوا ما لا تعرفون، والزموا ما تؤمرون»(3).

وقال المسعودي: «ودخل عليّ بيت مال البصرة في جماعة من المهاجرين والأنصار، فنظر إلى ما فيه من العين والوَرِق، فجعل يقول: يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري، وأدام النظر إلى المال مفكراً، ثمّ قال: اقسموه بين أصحأبي ومن معي خمسمائة خمسمائة، ففعلوا فما نقص درهم واحد، وعدد الرجال اثنا عشر الف. وقبض ما كان في عسكرهم من سلاح ودابة ومتاع وآلة وغير ذلك فباعه وقسّمه بين أصحابه، وأخذ لنفسه كما أخذ لكلّ واحد ممّن معه من أصحابه وأهله وولده خمسمائة درهم، فأتاه رجل من أصحابه فقال: يا أمير

____________

(1) جوامع السيرة /355 ط دار المعارف.

(2) سنن البيهقي 8/182.

(3) الأخبار الطوال /151 ط تراثنا بمصر.


الصفحة 182
المؤمنين إنّي لم آخذ شيئاً وخلفني عن الحضور كذا - وأدلى بعذره - فاعطاه الخمسمائة الّتي كانت له»(1).

ولقد أخذت مسألة غنائم الحرب بين أهل القبلة بُعداً أوسع بعد حرب صفين لاختلاف الحكم بين الحربين، وسوف نقرأ لابن عباس حديثاً مع الخوارج الحرورية في ذلك.

ولقد قال (عليه السلام): (سرت في أهل البصرة سيرة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أهل مكة)(2).

تطواف في المعركة:

قال الشيخ المفيد: «لمّا انجلت الحرب بالبصرة وقتل طلحة والزبير، وحُملت عائشة إلى قصر بني خلف، ركب أمير المؤمنين (عليه السلام) وتبعه أصحابه - ومنهم ابن عباس - وعمّار بن ياسر يمشي مع ركابه حتى خرج إلى القتلى يطوف عليهم. فمرّ بعبد الله بن خلف الخزاعي وعليه ثياب حسان مشهرّة فقال الناس: هذا والله رأس الناس، فقال (عليه السلام): (ليس برأس الناس ولكنه شريف منيع النفس). ثمّ مرّ بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال: (هذا يعسوب القوم ورأسهم كما ترونه)، ثمّ جعل يستعرض القتلى رجلاً رجلاً، فلمّا رأى أشراف قريش صرعى في جملة القتلى قال (عليه السلام): (جدعت أنفي، أمّا والله ان كان مصرعكم لبغيضاً إليَّ، ولقد تقدمت إليكم وحذّرتكم عضّ السيوف وكنتم أحداثاً لا علم لكم بما ترون، ولكن الحَين ومصارع السوء، نعوذ بالله من سوء المصرع).

____________

(1) مروج الذهب 2/380 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد ط السعادة.

(2) أنساب الأشراف 2/273 تح ـ المحمودي.


الصفحة 183
ثمّ صار حتى وقف على كعب بن سور وهو مجدّل بين القتلى وفي عنقه المصحف، فقال: (نحّوا المصحف وضعوه في مواضع الطهارة)، ثمّ قال: (أجلسوا لي كعباً)، فاجلس، ورأيته ينخفض إلى الأرض فقال: (يا كعب بن مسور قد وجدت ما وعدني ربّي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟) ثمّ قال: (أضجعوا كعباً)، فتجاوزه فمرّ (عليه السلام) فرأى طلحة صريعاً فقال: (أجلسوا طلحة) فأجلس، وقال: (يا طلحة بن عبيد الله قد وجدت ما وعدني ربي حقاً فهل وجدت ما وعدك ربك حقاً؟) ثمّ قال: (أضجعوه). فوقف رجل من القرّاء أمامه وقال: يا أمير المؤمنين ما كلامك هذه الهام قد صديت لا تسمع لك كلاماً ولا ترد جواباً؟ فقال (عليه السلام): (والله إنّهما ليسمعان كلامي كما تسمّع أصحابُ القليب كلام رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولو أذن لهما في الجواب لرأيت عجباً). ومرّ بمعبد بن المقداد بن عمرو وهو في الصرعى فقال: (رحم الله أبا هذا إنّما كان رأيه فينا أحسن من رأي هذا). فقال عمّار بن ياسر: الحمد لله الّذي أوقعه وجعل خده الأسفل، إنا والله يا أمير المؤمنين لا نبالي عمّن عَند عن الحقّ من ولد ووالد. فقال (عليه السلام): (رحمك الله يا عمّار وجزاك عن الحقّ خيراً).

ومرّ بعبد الله بن ربيعة بن رواح (دراج)(1)وهو في القتلى فقال: (هذا البائس ما كان أخرجه نصر عثمان، والله ما كان رأي عثمان فيه ولا في أبيه بحسن).

ومرّ بمعبد بن زهير بن أمية فقال: (لو كانت الفتنة برأس الثريا لتناولها هذا الغلام، والله ما كان فيها بذي مخبره، ولقد أخبرن من أدركه انّه يلوذ خوفاً من السيف حتى قتل البائس ضياعاً).

____________

(1) في نسخة بخط سيدنا المغفور له السيد الوالد تاريخ نسخها سنة 1357هـ وقد رجعت إليها كلما راجعت المطبوعة بالحيدرية سنة 1368هـ لأنّها أصح.


الصفحة 184
ومرّ بمسلم بن قرظة فقال: (البرّ أخرج هذا ولقد سألني أن أكلّم عثمان في شيء يدّعيه عليه بمكة فلم أزل به حتى أعطاه وقال لي: لولا أنت ما أعطيته، ان هذا ما علمت بئس العشيرة، ثمّ جاء لحينه ينصر عثمان).

ثمّ مرّ بعبد الله بن عُمير بن زهير قال: (هذا أيضاً ممّن أوضع في قتالنا يطلب بزعمه دم عثمان ولقد كتب إليَّ كتباً آذى عثمان فيها فأعطاه شيئاً فرضي عنه).

ومرّ بعبد الله بن حكيم بن حزام فقال: (هذا خالف أباه في الخروج عليّ، وإنّ أباه حيث لم ينصرنا بايع وجلس في بيته ما ألوم أحداً إذ كفّ عنا وعن غيرنا ولكن الملوم الّذي يقاتلنا).

ومرّ بعبد الله بن المغيرة بن الأخنس فقال (عليه السلام): (أمّا هذا فقتل أبوه يوم قتل عثمان في الدار فخرج غضباً لمقتل أبيه، وهو غلام لا علم له بعواقب الأمور).

ومرّ بعبد الله بن الأخنس بن شريق فقال (عليه السلام): (أمّا هذا فإنّي أنظر إليه وقد أخذ القوم السيوف وإنّه لهارب يعدو من السيف فنهيت عنه فلم يُسمع نهيي حتى قتل، وكان هذا ممّن حقد عليّ، فتيان قريش أغمار لا علم لهم بالحرب خدعوا واستزلّوا فلمّا وقعوا ألحجوا فقتلوا).

ثمّ أمر (عليه السلام) مناديه فنادى: من أحبّ أن يواري قتيله فليواره. وقال (عليه السلام): (واروا قتلانا في ثيابهم الّتي قتلوا فيها فإنّهم يحشرون على الشهادة وإنّي الشاهد لهم بالوفاء)»(1).

شفيع القرشيين ابن عباس:

روي الشيخ المفيد عن الواقدي قال: «لمّا فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من أهل الجمل جاءه قوم من فتيان قريش يسألونه الأمان وأن يقبل منهم البيعة،

____________

(1) كتاب الجمل /193.


الصفحة 185
فاستشفعوا إليه بعبد الله بن العباس فشفّعه، وأمر لهم في الدخول عليه، فلمّا مثلوا بين يديه، قال لهم: (ويلكم يا معشر قريش علامَ تقاتلونني؟ على أن حكمتُ فيكم بغير عدل؟ أو قسمت بينكم بغير سويّة؟ أو استأثرت عليكم؟ أو لبعدي عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أو لقلة بلاء مني في الإسلام)؟

فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن أخوة يوسف فاعف عنا واستغفر لنا، فنظر إلى أحدهم فقال له: (من أنت)؟ قال: أنا مساحق بن مخرمة، معترف بالزلّة، مقر بالخطيئة، تائب من ذنبي.

فقال (عليه السلام): (قد صفحت عنكم، وأيم الله إنّ فيكم من لا أبالي بايعني بكفه أم بأسته، ولئن بايعني لينكثن)»(1).

شفعاء مروان لدى الإمام:

روى البلاذري بسنده عن عليّ بن الحسين أن مروان بن الحكم حدّثه - وهو أمير على المدينة - قال: «لمّا توافقنا يوم الجمل لم يلبث أهل البصرة أن انهزموا، فقام صائح لعليّ فقال: لا يقتل مدبر، ولا يدفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن طرح السلاح فهو آمن.

قال مروان فدخلت داراً، ثمّ أرسلت إلى حسن وحسين وابن جعفر وابن عباس فكلموه، فقال: هو آمن فليتوجه حيث ما شاء، فقلت: لا تطيب نفسي حتى أبايعه، قال: فبايعته، ثمّ قال: اذهب حيث شئت»(2).

وفي شرح النهج: «فقالا - الحسن والحسين - له: يبايعك يا أمير المؤمنين، قال (عليه السلام): أو لم يبايعني قبل - بعد / ظ - مقتل عثمان؟ لا حاجة لي في بيعته،

____________

(1) كتاب الجمل /205 نسخة مخطوطة.

(2) أنساب الاشراف (ترجمة الإمام) 2/262.


الصفحة 186
إنّها كفّ يهودية، لو بايعني بيده لغدر بسُبّته، أمّا إن له إمرة كلعقة الكلب أنفه، وهو أبو الاكبش الأربعة، وستلقى الأمة منه ومن ولده يوماً أحمر».

قال ابن الحديد في شرح النهج: «قد روي هذا الخبر من طرق كثيرة، ورويت فيه زيادة لم يذكرها صاحب نهج البلاغة، وهي قوله (عليه السلام) في مروان: يحمل راية ضلالة بعدما يشيب صدغاه...»(1).

وفي حديث الواقدي: «أنّ مروان تقدم إليه وهو متكئ على رجل، فقال (عليه السلام): ما بك هل بك جراحة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وما أراني إلاّ لما بي، فتبسم وقال: لا والله ما أنت لما بك وستلقى هذه الأمة منك ومن ولدك يوماً أحمر، ثمّ بايعه وانصرف.

وتقدم إليه عبد الرحمن بن هشام، فلمّا نظر إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: والله إن كنتَ أنت وأهلُ بيتك لأهل دعة، وإن كان فيكم غنى، ولكن أعفو عنكم، ولقد ثقل عليّ حيث رأيتكم في القوم، وأحببت أن تكون الواقعة بغيركم.

فقال له عبد الرحمن: فقد صار ذلك إلى ما تحب، ثمّ بايعه وانصرف»(2).

وفي حديث البلاذري عن ابن عباس قال: «انّ عليّاً أخذ يوم الجمل مروان ابن الحكم وموسى بن طلحة فأرسلهما»(3).

وفي الخرايج روي عن أبي الصيرفي عن رجل من مراد قال: «كنت واقفاً على رأس أمير المؤمنين يوم البصرة إذ أتاه ابن عباس بعد القتال فقال: انّ لي حاجة فقال (عليه السلام): ما أعرفني بالحاجة الّتي جئت فيها تطلب الأمان لابن الحكم؟ قال: نعم أريد أن تؤمنه قال: آمنته، ولكن اذهب وجئني به ولا تجئني به إلاّ رديفاً

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/53.

(2) الجمل للشيخ المفيد /206 نسخة مخطوطة.

(3) أنساب الاشراف (ترجمة الإمام) 2/262.


الصفحة 187
فإنّه أذلّ له، فجاء به ابن عباس ردفاً خلفه كأنه قرد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): أتبايع؟ قال: نعم وفي النفس ما فيها، قال: الله اعلم بما في القلوب، فلمّا بسط يده ليبايعه أخذ كفه عن كفّ مروان فنترها فقال: لا حاجة لي فيها انها كف يهودية، لو بايعني بيده عشرين مرة لنكث بأسته، ثمّ قال: هيه يا بن الحكم خفت على رأسك أن تقع في هذه المعمعة، كلا والله حتى يخرج من صلبك فلان وفلان يسومون هذه الأمة خسفاً ويسوقونها كأساً مصبّرة»(1).

حوار الإمام مع القرشيين:

روى أبو مخنف في كتاب الجمل: بسنده عن مساحق القرشي قال: «لمّا انهزم الناس يوم الجمل اجتمع معه طائفة من قريش فيهم مروان بن الحكم فقال بعضهم لبعض: والله لقد ظلمنا هذا الرجل - يعنون أمير المؤمنين - ونكثنا بيعته من غير حَدَث، والله لقد ظهر علينا، فما رأينا أكرم سيرة منه، ولا أحسن عفواً منه بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، تعالوا حتى ندخل عليه ونعتذر إليه فيما صنعناه.

قال: فصرنا إلى بابه فاستأذناه فأذن لنا، فلمّا مثلنا بين يديه جعل متكلمنا يتكلم.

فقال (عليه السلام): أنصتوا أكفكم، إنما أنا بشر مثلكم، فان قلت حقاً فصدّقوني، وإن قلت باطلاً فردّوا عليّ.

ثمّ قال (عليه السلام): أنشدكم الله أتعلمون أن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قبض وأنا أولى الناس به وبالناس من بعده؟ قلنا: اللّهمّ نعم قال: فعدلتم عني وبايعتم أبا بكر فأمسكت ولم أحبّ أن أشق عصا المسلمين وأفرّق بين جماعتهم، ثمّ ان أبا بكر جعلها لعمر من بعده فكففتُ ولم أهج الناس وقد علمت أني كنت أولى الناس بالله

____________

(1) أنظر بحار الأنوار 8/411 ط الكمباني.


الصفحة 188
وبرسوله وبمقامه، فصبرت حتى قتل، وجعلني سادس ستة، فكففت ولم أحبّ أن أفرّق بين المسلمين، ثمّ بايعتم عثمان فطعنتم عليه وقتلتموه وأنا جالس في بيتي، فأتيتموني وبايعتموني كما بايعتم أبا بكر وعمر، فما بالكم وفيتم لهما ولم تفوا لي؟ وما الّذي منعكم من نكث بيعتهما ودعاكم إلى نكث بيعتي؟.

فقلنا له: يا أمير المؤمنين كن كالعبد الصالح يوسف إذ قال: {لا تَثْرِِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}(1).

فقال (عليه السلام): لا تثريب عليكم اليوم، وإنّ فيكم رجلاً لو بايعني بيده لنكث بأسته، يعني مروان بن الحكم»(2).

نماذج من الخداع والتضليل في حرب الجمل:

لقد دأب علماء التبرير على إشاعة الضبابية المكثفة في آفاق التاريخ، من خلال الدسّ والافتراء، وإذاعة الروايات المضللة الخادعة، وفي هذا الموقف - موقف الإمام في حرب الجمل خصوصاً مع صاحبة الهودج - فقد تبارى القوم في ذلك، سيّان الأولّين منهم والآخرين.

من الأولين:

نموذجاً أبو جعفر الطبري المتوفى سنة 310هـ في تاريخه(3)، فاقرأوا ما رواه من حديث سيف بسنده قال: «وانتهى إليها عليّ فقال: كيف أنت يا أمّه؟ قالت بخير، قال: يغفر الله لكِ قالت: ولكَ».

____________

(1) يوسف /92.

(2) الجمل للشيخ المفيد /206 ط الحيدرية، وأمالي الطوسي 2/120 مط النعمان.

(3) تاريخ الطبري 4/534.


الصفحة 189
واقرأوا ما رواه أيضاً من حديث سيف عن محمّد وطلحة قالا: «وغشي الوجوه عائشة، وعليّ في عسكره، ودخل القعقاع بن عمرو على عائشة في أوّل من دخل فسلّم عليها فقالت: إني رأيت رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي وارتجزا بكذا، فهل تعرف كوفيّك منهما؟ قال: نعم ذلك الّذي قال: (أعقّ أم نعلم) وكذب والله، إنّك لأبّر أم نعلم، ولكن لم تطاعي، فقالت: والله لوددت أنّي مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة. وخرج فأتى عليّاً فأخبره أن عائشة سألته فقال: ويحك من الرجلان؟ قال ذلك أبو هالة الّذي يقول: كيما أرى صاحبه عليّاً.

فقال: والله لوددتُ أني متّ قبل هذا اليوم بعشرين سنة فكان قولهما واحداً».

هذا ما رواه الطبري عن سيف وهو المتهم في أحاديثه وردّده الببغاوات من بعده بدءاً من ابن الأثير وابن كثير وابن خلدون والذهبي والعصامي على تفاوت بينهم في النقل، وابن كثير مثلاً قال بعد ذكره حديث حرب الجمل: «هذا ملخص ما ذكره أبو جعفر بن جرير (رحمه الله) عن أئمّة هذا الشأن، وليس فيما ذكره أهل الأهواء من الشيعة وغيرهم من الأحاديث المختلفة على الصحابة والأخبار الموضوعة الّتي ينقلونها بما فيها، وإذا دعوا إلى الحقّ الواضح أعرضوا عنه وقالوا: لنا أخبارنا ولكم أخباركم، فنحن حينئذٍ نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين»(1).

والآن فاقرأوا تلخيص ما مرّ نقله عن الطبري من حديث سيف: «فقال: وجاء إليها عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين مسلّماً فقال: كيف أنتِ يا أمّه؟ قالت بخير فقال: يغفر الله لك.

وجاء وجوه الناس من الأمراء والأعيان يسلمون على أم المؤمنين (رضي الله عنها)...».

____________

(1) القصص /55.