الصفحة 190
فأين صار دعاء عائشة لعليّ جواباً على دعائه لها بالمغفرة، فقالت: ولك...؟

وأين صارت رواية الندم وتمني كلّ من عائشة وعليّ الموت قبل عشرين سنة؟

هذا كله إن صحت الأنباء وهي لا تصح، ولنقل له ولأمثاله: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ}(1).

وثمة من تحاشى ذكر كلام الإمام الّذي أوردناه آنفاً نقلاً عن البلاذري واكتفى بقوله: «لمّا كان يوم الجمل ما كان وظفر عليّ بن أبي طالب دنا من هودج عائشة فكلمها بكلام. فأجابته: ملكتَ فأسجح»(2).

«فقال عليّ: صدق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ قال: يا هذه أستفززت الناس وألّبت بينهم في كلام كثير، فقالت: يا بن أبي طالب إذا ملكت فأسجح، وجاء ابن عباس فقال: إنّما سُميتِ أم المؤمنين بنا؟ قالت نعم، قال: أولسنا أولياء زوجكِ؟ قالت: بلى قال: فلم خرجت بغير إذننا؟ قالت قضاء وأمر»(3).

«وإنّ عليّاً وقف على خباء عائشة يلومها على مسيرها، فقالت: يا بن أبي طالب ملكت فاسجح»(4).

وهكذا سرعان ما سرت الضبابية في أفق التاريخ فعتمت على الحقيقة حتى جعلت الإمام نادماً على ما صدر منه بدءاً من مسيره من المدينة ومروراً بمنازله في الطريق وانتهاءً بيوم الحرب حتى قال ابن كثير في تاريخه: «حتى جعل عليّ يقول لابنه الحسن: يا بني ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين عاماً، فقال له:

____________

(1) يوسف /52.

(2) أنظر العقد الفريد لابن عبد ربّه 4/328.

(3) البدء والتاريخ للمقدسي 5/215.

(4) سير أعلام النبلاء للذهبي 2/125 ط ذخائر العرب.


الصفحة 191
يا أبتِ قد كنت أنهاك عن هذا. قال: يا بني إني لم أرَ أن الأمر يبلغ هذا»(1). وهذا أيضاً رواه الذهبي(2).

يا لله، عليّ لا يدري أنّ الأمر يبلغ هذا؟! أليس هو القائل: (أمرني رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقتال الناكثين والمارقين والقاسطين)(3).

ألم يرو البزار وأبو يعلى عن عليّ بن ربيعة قال: «سمعت عليّاً (عليه السلام) على المنبر وأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين ما لي أراك تستحل الناس استحلال الرجل إبله، أبعهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو شيئاً رأيته؟ قال: والله ما كَذِبت ولا كُذّبت، ولا ضللتُ ولا ضلّ بي، بل عهد من رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عهده إلي وقد خاب من افترى، عهد إليَّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»(4).

لماذا يندم وهو القائل: (لقد ضربتُ هذا الأمر ظهره وبطنه - أو رأسه وعينيه - فما وجدتُ إلاّ السيف أو الكفر)(5).

ما باله يندم؟ وهو القائل: (أنا فقأت عين الفتنة، لولا أنا ما قوتل أهل النهروان وأهل الجمل، ولولا اني أخشى أن تتركوا العمل لأنبأتكم بالّذي قضى الله على لسان نبيّكم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمن قاتلهم مبصراً ضلالتهم عارفاً بالهدى الّذي نحن عليه)(6)، وهذا أمر يعرفه حتى الصحابة، فقد سئل أبو أيوب عن قتاله مع الإمام

____________

(1) البداية والنهاية 7/424.

(2) سير أعلام النبلاء 3/641.

(3) تاريخ بغداد 8/340.

(4) كنز العمال 11/317.

(5) المصنف لابن أبي شيبة 15/274، ومستدرك الحاكم 3/115.

(6) كشف الغمة 1/243 ط مكتبة الشريف الرضي بقم، وراجع كنز العمال 11/285 نقلاً عن ابن أبي شيبة وأبي نعيم في الحلية والدورقي.


الصفحة 192
أهل لا إله إلاّ الله، فقال للسائل: «يا هذا إنّ الرائد لا يكذب أهله، وإنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرنا بقتال ثلاثة مع عليّ، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين، فأمّا الناكثون فقد قابلناهم أهل الجمل طلحة والزبير، وأمّا القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم - يعني معاوية وعمراً - وأمّا المارقون فهم أهل الطرفاوات، وأهل السعيفات، وأهل النخيلات، وأهل النهروانات، والله ما أدري أين هم، ولكن لابدّ من قتالهم إن شاء الله»(1).

ومن النماذج المضللة:

ما رووه من أقوال الإمام يؤبّن فيها قتلى أهل الجمل بما يضفي عليهم من الثناء ويستمطر لهم الرحمة من السماء، ويرفع عنهم إصر إراقة الدماء؟

فقد روى الطبري - وهو شيخ المؤرخين ومرجعهم - من حديث سيف - وهو المتهم بالزندقة والكذب في حديثه باعترافهم - توجع عليّ على قتلى الجمل فكان من حديثه: «وأقام عليّ بن أبي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة ونُدب الناس إلى موتاهم، فخرجوا اليهم فدفنوهم، فطاف عليّ معهم في القتلى، فلمّا أتي بكعب بن سور قال: زعمتم انّما خرج معهم السفهاء، وهذا الحبر قد ترون. وأتى على عبد الرحمن بن عتّاب فقال: هذا يعسوب القوم - يقول الّذي كانوا يُطيفون به - يعني أنّهم قد كانوا اجتمعوا عليه ورضُوا به لصلاتهم.

وجعل عليّ كلّما مرّ برجل فيه خير قال: زعم أنّه لم يخرج إلينا إلاّ الغوغاء، هذا العابد المجتهد. وصلّى على قتلاهم من أهل البصرة وعلى

____________

(1) تاريخ بغداد 13/186، ومستدرك الحاكم 3/139، وكنز العمال 6/88 ط الأولى بحيدر آباد.


الصفحة 193
قتلاهم من أهل الكوفة، وصلّى على قريش من هؤلاء وهؤلاء فكانوا مدنيين ومكيّين...»(1).

وفي العقد الفريد: «ومرّ عليّ بقتلى الجمل فقال: اللّهمّ اغفر لنا ولهم، ومعه محمّد بن أبي بكر وعمّار بن ياسر، فقال أحدهما لصاحبه: أما تسمع ما يقول؟ قال: اسكت لا يزيدك»(2).

وفي طبقات ابن سعد: «فسار عليّ ليلته في القتلى معه النيران، فمرّ بمحمّد بن طلحة قتيلاً فقال: يا حسن (محمّد السجاد وربّ الكعبة) ثمّ قال أبوه صرعه هذا المصرع، ولولا برّه بأبيه ما خرج. فقال الحسن: ما كان أغناك عن هذا، فقال: ما لي ولك يا حسن وقد كان قال له قبل ذلك يا حسن ودّ أبوك أنّه قد كان مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة»(3).

وقال ابن كثير: وقد طاف عليّ بين القتلى فجعل كلما مرّ برجل يعرفه ترحمّ عليه ويقول: يعزّ عليّ أن أرى قريشاً صرعى - وقد مرّ على ما ذكر - على طلحة بن عبيد الله وهو مقتول فقال: لهفي عليك أبا محمّد، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، والله لقد كنت كما قال الشاعر:


فتى كان يدنيه الغنى من صديقهإذا ما هو استغنى ويبعده الفقر(4)

وهكذا بدأوا النول ثمّ بدأ نسيج البرد المهلهل فكفّنوا به أولئك القتلى من القادة، وليذهب الأتباع إلى جهنم وبئس المصير على حدّ ما قاله الحسن البصري

____________

(1) تاريخ الطبري 4/538 ط دار المعارف.

(2) العقد الفريد 4/331 ط لجنة التأليف والترجمة والنشر.

(3) طبقات ابن سعد 5/39 ط افست ليدن.

(4) البداية والنهاية 7/244 ط السعادة.


الصفحة 194
وحوشب وهاشم الأوقص وبكر ابن اخت عبد الواحد فقد كانوا يقولون إذا ذكروا يوم الجمل: هلكت الأتباع ونجت القادة(1) (؟) إنّها إحدى الكبر. ولما مرّ بنا ما قاله الإمام عند مروره بالقتلى فلا حاجة بنا إلى إطالة المقام ونختم ذلك بما رواه الشريف الرضي في نهج البلاغة قال: «ومن كلام له (عليه السلام) لمّا مرّ بطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد وهما قتيلان يوم الجمل: لقد أصبح أبو محمّد بهذا المكان غريباً، أما والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب أدركت وتري من بني عبد مناف، وأفلتني أعيار بني جُمح، لقد أتلعوا أعناقهم إلى أمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه»(2).

ومن النماذج المضللة في المقام:

خبر عمر بن شبة الّذي رواه في كتابه تاريخ المدينة قال: «حدّثنا محمّد بن عباد قال حدّثنا بعض أصحابنا عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة: انّ ابن عباس (رضي الله عنه) خطب بالبصرة فذكر عثمان بن عفان (رضي الله عنه) فعظّم أمره وقال: لو أنّ الناس لم يطلبوا بدمه لأمطر الله عليهم حجارة من السماء»(3).

وهذا الخبر رواه البلاذري في أنساب الأشراف(4) والمحب الطبري(5) والسيوطي في تاريخ الخلفاء(6) وغيرهم، وأحسبهم جميعاً أخذوه عن عمر بن شبة.

____________

(1) العثمانية للجاحظ /246 ط دار الكتاب العربي بمصر تح ـ وشرح عبد السلام محمّد هارون.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/41.

(3) تاريخ المدينة 2/1254.

(4) ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب في أواخر ترجمة عثمان 3/84 بهامش الإصابة.

(5) الرياض النضرة 2/137.

(6) ورواه ابن سعد في الطبقات في ترجمة عثمان وعنه ابن عساكر في تاريخه أيضاً في ترجمة عثمان.


الصفحة 195
ومهما يكن فهو خبر ساقط لا لجهالة في السند (بعض أصحابنا) الّذي روى عنه (محمّد بن عباد) المجهول أيضاً هو الآخر. ولا لاختلاط سعيد بن أبي عروبة الّذي كان قدرياً وقال أحمد فيه قدري لم يكن له كتاب إنّما كان يحفظ، وقال رحيم اختلط سنة 145. ولا لتدليس قتادة لأنّه أحد الأئمة الأعلام حافظ مدلّس، ولم يرو عن ابن عباس؟ لا لذلك كله، بل إن متن الخبر يستبطن كذبه! كيف يقول ابن عباس ذلك وهو ممّن قاتل الذين طالبوا بدم عثمان، فلماذا قاتلهم اذن؟!

ومن النماذج المضلّلة:

ما رواه غير واحد من أن طلحة لم يخرج من الدنيا إلاّ وبيعة الإمام في عنقه!

وحديث بيعته من مهازل التاريخ. وإليك ذلك:

روى ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي عن الأصبغ بن نباتة: «انّه لمّا انهزم أهل البصرة ركب عليّ (عليه السلام) بغلة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الشهباء - وكانت باقية عنده - وسار في القتلى ليستعرضهم، فمر بكعب بن سور القاضي - قاضي البصرة - وهو قتيل، فقال: أجلسوه، فأجلس فقال: ويل أمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلّك فأزلّك فعجّلك إلى النار. أرسلوه، ثمّ مرّ بطلحة بن عبيد الله قتيلاً فقال: أجلسوه فأجلس، ثمّ قال:

- قال أبو مخنف في كتابه -: فقال له: ويل أمك طلحة، لقد كان لك قدم لو نفعك، ولكن الشيطان أضلّك فأزلّك فعجّلك إلى النار.

قال ابن أبي الحديد: وأمّا أصحابنا فيروون غير ذلك، يروون أنّه قال لمّا أجلسوه: أعزز عليّ أبا محمّد أن أراك معفّراً تحت نجوم السماء وفي بطن هذا

الصفحة 196
الوادي، أبعد جهادك في الله وذبّك عن رسول الله. فجاء إليه إنسان فقال: أشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم وهو صريع فصاح بي فقال: مِن أصحاب مَن أنت؟ فقلت: من أصحاب أمير المؤمنين، فقال أمدد يدك لأبايع لأمير المؤمنين فمددت يدي فبايعني لك. فقال عليّ (عليه السلام): أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلاّ وبيعتي في عنقه»(1).

انتهى كلام ابن أبي الحديد، وأنت خبير بما فيه.

أمّا أوّلاً: فلأنّ هذه الرواية ممّا انفرد أصحابه بنقلها فهي غير مسموعة، والمعروف بين الفريقين ما رواه أبو مخنف.

وثانياً: إنّه - ابن أبي الحديد - قال في أوائل شرحه عند الكلام على البغاة والخوارج: أمّا أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلّهم إلاّ عائشة وطلحة والزبير، فإنّهم تابوا، ولولا التوبة لحكموا لهم بالنار، لإصرارهم على البغي.

فإنّ هذا الكلام منهم صريح في استحقاقه للنار لولا التوبة، ولابدّ لهم من اثبات التوبة، وأنّى لهم بذلك. ثمّ لو صح ـ وأنى يصح ـ خبر مبايعته لرجل من أصحاب الإمام في تلك الحال صريعاً آيساً من الحياة فلا يجدي شيئاً، لأنه لا يرفع العقاب. لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}(2).

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/82 ط مصر الأولى.

(2) النساء /17 - 18.


الصفحة 197
ونعود إلى رواية أصحاب ابن أبي الحديد في بيعة طلحة فنقول له: إنّها رواية ثور بن مجزأة، وسندها ضعيف جداً كما قاله ابن حجر في الأطراف ونقله عنه المتقي الهندي(1)، وكذا قاله ونقل عن السيوطي في الأطراف أنّ سندها ضعيف جداً(2).

ولو أغمضنا عن ضعف سندها فهي كما تدل على اعتراف طلحة بأحقية الإمام بالخلافة، فإنّها تشير إلى كذبه حين كان يقول انّه بايع أوّلاً مكرهاً والسيف على رقبته ثمّ نكث البيعة وألقحها حرباً عواناً بين المسلمين ثمّ الآن يبايع مرة ثانية (؟).

وزاد علماء التبرير في الطنبور نغمة فقالوا: «دخل موسى بن طلحة على عليّ فقال له عليّ: إنّي لأرجو أن أكون أنا وأبوك ممّن قال الله فيهم {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ}(3) وأمسى عليّ بالبصرة ذلك اليوم الّذي أتاه فيه موسى بن طلحة فقال ابن الكواء: أمسيت بالبصرة يا أمير المؤمنين؟ فقال: كان عندي ابن اخي. قال: ومن هو؟ قال: موسى بن طلحة فقال ابن الكواء: لقد شقينا إن كان ابن أخيك. فقال عليّ: ويحك ان الله قد أطّلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم...»(4). إلى آخر ما هنالك من خداع وتضليل.

____________

(1) كنز العمال كتاب الفتن من قسم الأفعال 6/81 ط حيدر آباد الأولى، و 11/316 ط حيدر آباد الثانية.

(2) منتخب الكنز بهامش مسند أحمد 5/441.

(3) الحجر /47.

(4) الإمامة والسياسة 1/70 ط سنة 1328 هـ.


الصفحة 198
وختاماً فلنذكر للقارئ ما قاله الشريف المرتضى: «فأمّا ما رواه - يعني القاضي عبد الجبار - من ترحم أمير المؤمنين (عليه السلام) - على طلحة - وقوله: إنّي لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير اخواناً على سرر متقابلين، خبر ضعيف لا يوجب العلم، ويعارضه ما قدمناه من الأخبار الّتي تدل على الإصرار ونفي التوبة ممّا هو أظهر في الرواية وأشهر وأولى من غيره من حيث كانت تلك الأخبار قد تلقتها الفرق المختلفة بالقبول، وأخباره يرويها قوم وينكرها آخرون...»(1).

خطبة الإمام:

روى الطبرسي عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: «لمّا فرغ أمير المؤمنين (عليه السلام) من قتال أهل البصرة، وضع قتبا على قتب(2) فحمد الله وأثنى عليه فقال: يا أهل البصرة، يا أهل المؤتفكة، يا أهل الداء العُضال، يا أتباع البهيمة، يا جند المرأة رغا فأجبتم، وعقر فهربتم، ماؤكم زعاق، ودينكم نفاق، وأحلامكم رقاق...

ثمّ نزل يمشي بعد فراغه من خطبته فمشينا معه، فمرّ بالحسن البصري وهو يتوضأ فقال: يا حسن أسبغ الوضوء، فقال: يا أمير المؤمنين لقد قتلتَ بالأمس أناساً يشهدون أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، ويصلون الخمس، ويسبغون الوضوء.

فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام): قد كان ما رأيت فما منعك أن تعين علينا عدونا؟

____________

(1) الشافي /290 ط حجرية سنة 1301 هـ.

(2) القتب: الرحل الّذي يوضع على ظهر البعير.


الصفحة 199
فقال: والله لأصدقنك يا أمير المؤمنين، لقد خرجت في أوّل يوم فاغتسلت وتحنطت وصببت عليَّ سلاحي، وأنا لا أشك في أنّ التخلف عن أم المؤمنين عائشة كفر. فلمّا انتهيت إلى موضع من الخريبة نادى مناد يا حسن إلى أين ارجع، فإنّ القاتل والمقتول في النار، فرجعت ذاعراً وجلست في بيتي.

فلمّا كان اليوم الثاني لم أشك أن التخلف عن أم المؤمنين هو الكفر، فتحنطت وصببت عليَّ سلاحي وخرجت أريد القتال حتى انتهيت إلى موضع من الخريبة فنادى مناد من خلفي يا حسن إلى أين مرة بعد أخرى فان القاتل والمقتول في النار.

قال عليّ (عليه السلام): صدقت أفتدري من ذلك المنادي؟ قال: لا. قال (عليه السلام): أخوك إبليس، وصدقك أنّ القاتل والمقتول منهم في النار.

فقال الحسن البصري: الآن عرفت يا أمير المؤمنين انّ القوم هلكى»(1).

أقول: وإنّ الخطبة الّتي رواها لنا ابن عباس إنّما هي جزء من خطبة طويلة، روتها مصادر الفريقين كلّ أخذ منها ما يريد(2).

وما ذكر من مرور الإمام بالحسن البصري ليس له واقع، والحسن لم يكن بالبصرة يومئذٍ، وإنّما دخل البصرة أيام صفين، قال النسائي وابن المديني وصاحب التنقيح: لم يسمع من ابن عباس ولا رآه قط، كان بالمدينة أيام كان ابن عباس على البصرة.

____________

(1) الاحتجاج 1/250 ط النعمان.

(2) أنظر نهج البلاغة خطبة /13و14، وإرشاد المفيد /137 ط الحيدرية، والجمل للمفيد/407 ط دار المفيد، والأخبار الطوال للدينوري /153، ومروج الذهب 2/377، وعيون الأخبار لابن قتيبة 1/217، والعقد الفريد لابن عبد ربه 4/328، وتفسير عليّ بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى (والمؤتفكة أهوى)، وبحار الأنوار 8/447.


الصفحة 200
وقوله: (خطبنا ابن عباس) يعني خطب أهل البصرة، ولم يكن شاهداً لخطبته، ولا دخل البصرة بعد، لأن ابن عباس خطب يوم الجمل، والحسن دخل أيام صفين(1).

أمر تسيير عائشة إلى المدينة:

لم يبق للإمام أمر أهمّه إلاّ إرجاع عائشة إلى بيتها، ولمّا كان (عليه السلام) يتّبع أمر رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في قتاله الناكثين فهو يقتفي ما رسم له، وقد مرّت أحاديث دالة على ذلك. وثمة أحاديث أُخرى في خصوص تسيير عائشة:

فقد روى أبو رافع عنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنّه قال لعليّ: (سيكون بينك وبين عائشة أمر، فإذا كان ذلك فارددها إلى مأمنها). قال ابن حجر: أخرجه أحمد والبزار بسند حسن(2). وأخرجه السيوطي في الخصائص عنهما وعن الطبراني(3).

وفي حديث أم سلمة (رضي الله عنها) قالت: «ذكر النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة، فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (أنظري يا حميراء(4) ألاّ تكوني أنت).

____________

(1) تحقيق الغاية، حافظ ثناء الله الزاهدي /129 و131 ط باكستان.

(2) فتح الباري 16/165.

(3) الخصائص 2/127ط حيدر آباد الأولى.

(4) من الطريف أن ينكر ابن قيم الجوزية ورود حديث فيه لفظ (الحميراء) وتبعه في ذلك غير واحد. وكأنهم ـ فيما أحسب ـ من باب سد الذرائع عندهم انكروا ذلك، لئلا يصدمهم حديث الحوأب وفيه: إياك أن تكونيها يا حميراء، أو يدمغهم حديث ام سلمة المار ذكره في المتن، مع أن الأحاديث الّتي ورد فيها لفظ (الحميراء) نافت على العشرين ـ فيما أحصيت ـ وربّما فاتني غيرها. فلا يعقل أن تكون جميع تلك الأحاديث موضوعة، وبينها ما هو ثابت بسند صحيح كحديث الحوأب، وقد أدرجه ناصر الدين الألباني في كتابه سلسلة الأحاديث الصحيحة 1/267 ـ 277. وأفاض الكلام في سنده ودلالته، والرد على من أنكره وهو سعيد الأفغاني، فراجع (إشعاع البتيراء على أحاديث الحميراء) مخطوط للكاتب والبتيراء اسم للشمس كما في القاموس (بتر).


الصفحة 201
ثمّ التفت إلى عليّ فقال: (يا عليّ إن وليتَ من أمرها شيئاً فارفق بها)»(1).

إذن فعلى الإمام أن يتفرغ لذلك.

قال طه حسين: «وكان من الأمور ذات الخطر الّتي أراد عليّ أن يفرغ منها قبل أن يترك البصرة، ردّ عائشة إلى المدينة لتقرّ في بيتها كما أمرها الله»(2).

ولمّا كان قد أنزلها في دار عبد الله بن خلف، فصارت لجأً لفلول الجرحى وغيرهم من أصحابها، فكان لابدّ له من إنذارها بالتهيوء للرحيل، قبل أن يتعاظم الخطب بطول بقائها، ومن ذا هو الرسول الّذي سيرسله اليها، وهو يعلم منها - لما يبلغه عنها - صلابة وعناداً. وهل لها إلاّ ابن عمّه عبد الله بن عباس الّذي سبق له أن كان رسوله اليها قبل الحرب. وله مواقف معها من قبلُ دلّت على كفاءة عالية وقدرة في دحض حججها.

وقد ذكرت بعض المصادر - كما سيأتي بيانها - بأنّ الإمام استدعاه عقب خطبته في ذم أهل البصرة فقال: (أين ابن عباس؟) فدعي له من كلّ ناحية، فأقبل إليه فقال: (إئت هذه المرأة ومرها فلترجع إلى بيتها الّذي أمرها الله أن تقرّ فيه).

قال ابن عباس: فأتيتها وهي في دار بني خلف فطلبت الإذن عليها فلم تأذن.

وهنا سؤال يفرض نفسه، لماذا لم تأذن عائشة لابن عباس؟ ولعل في استعراض مواقفه السابقة معها، وما كان يدور بينهما من تشنج نجد جواب ذلك وهو الّذي فرض على عائشة تصلّب موقفها في عدم الإذن.

____________

(1) أخرجه الحاكم في المستدرك 2/136وصححه، كما أخرجه البيهقي في الدلائل وغيره.

(2) الفتنة الكبرى 2/59.


الصفحة 202
وإذا رجعنا نستقرئ مواقف ابن عباس معها، فعلينا أن نبدأ بها من يوم اجتمع بها في الصلصل سنة 35هـ حيث ضمّهما المنزل وكلاهما في الطريق إلى مكة، وكان ابن عباس أمير الموسم في تلك السنة، فحرّضته على عثمان ودعته إلى الهتاف بطلحة، وقد مرّ بنا في الجزء الثاني خبر ذلك مفصّلاً.

ومن بعد ذلك كانت مواقف سفارته بين الإمام وبين زعماء الناكثين وهي منهم، وكلّها كانت مواقف نصيحة لها من ابن عباس أن لا تخوض فيما وضع عنها وعن النساء، وعليها أن ترجع إلى بيتها وتقرّ فيه كما أمرها الله، ولكنه لم يجد لديها أذناً صاغية.

وآخر موقف كان قبيل نشوب الحرب، إذ أرسله الإمام وهو يحمل مصحفاً ليدعو القوم إلى ما فيه فاجتمع بطلحة والزبير، ولمّا أتى عائشة وكانت في هودجها تحفّها الأزد وضبّة، وقد أخذ كعب بن سور القاضي بخطام الجمل، فلمّا رأته نادته ما الّذي جاء بك يا بن عباس، والله ما سمعت منك شيئاً، ارجع إلى صاحبك وقل له ما بيننا وبينك إلاّ السيف، وتعاوت الغوغاء من حولها: ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك.

فهذا التشنّج المذموم مع رسول يطلب حكم الكتاب لحقن الدماء، لا شك له أثره في نفس ابن عباس، كما لا شك أيضاً له ذكراه الأليمة في نفس قيادة مهزومة.

والآن أتاها وقد تبدّل الموقف على الساحة، فهي كانت رأساً تقود جيشاً، وأضحت الآن أسيرة حرب، ورهينة مغلوبة. وأصبح ابن عباس قائداً منتصراً، ورسولاً لإمام غدا مظفّرا، فلعل شعورها بالفشل والخيبة دعاها إلى أن تحجب ابن عباس من الدخول عليها، لئلا تراه في عزّ النصر، ويراها في ذل الهزيمة.


الصفحة 203
أو لعلها لم تأذن له لئلا يرى بيوتاً في دار ابن خلف ضمت فلول الناكثين، أخفتهم معها حيث منحها الإمام الحماية الكافية، فهي تحميهم بكنفها، وإن شملهم العفو العام.

وما يدرينا لعلهما معاً اعتملا في نفسها فلم تأذن له.

ومهما يكن مردّ ذلك المنع، فلم يكن منعها برادع لابن عباس وهو رسول الإمام، وحبر الأمة لا يخفى عليه وجه فقاهة الدخول بغير إذنها، إلاّ أنّه الأدب القرآني الّذي كان ابن عباس ترجمانه يأمره بالآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(1).

ولعل عائشة أيضاً تخيّلت أنّها بمنعه من الدخول عليها، ستغلبه بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النبيّ إِلاّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ}(2).

ولم تدر أنّ ابن عباس أوعى منها لأحكام القرآن كما سيتبين ذلك عند قراءة نص المحاورة.

ماذا عن نص المحاورة؟

هذا موضوع استجدّ عندي بحثه بعد أن قرأت قريباً كتاب (عائشة والسياسة) لسعيد الأفغاني الشامي، والرجل معروف من خلال كتابه (الإسلام والمرأة) ومعنّي بعائشة خاصة من خلال تحقيقه لكتاب (الإجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة) للزركشي وقد طبعه بدمشق سنة 1358هـ وتصاعدت حمّى

____________

(1) النور /27.

(2) الأحزاب /53.


الصفحة 204
الهيام بها فأخرج كتابه (عائشة والسياسة) وطبعه بالقاهرة سنة 1947م. فقرأته من ألفه إلى يائه - كما يقولون - فرأيته في المقدمة ينأى بنفسه عن التقليد، ويزعم لنفسه (التحرّر من كثير من الآراء والمذاهب التاريخية الّتي يتعبد بها بعض الباحثين لعصرنا...)(1).

وقال: «وعلى هذا فلست إذن متبعاً مذهباً ما، ولن أخضع الحوادث لتفسير ما فأكلّف الأشياء غير طبائعها، فلا أقول بالعليّة التاريخية المطردّة، ولا أقرّ (الجبرية) في التاريخ، وأجد أبعد المذاهب عن الواقع وأنآها عن الحقّ والفطرة: مذهب التفسير المادي للتاريخ...».

وهذا نهج جيّد لو استقام على الطريقة، ويستحق الإجادة حين رأيته قال: «وأحبّ أن أنبّه هنا إلى خطأ يوقع كثيراً من الباحثين في القصور ذلك أنّهم يكتفون في بحوثهم في التاريخ العربي بالمصادر التاريخية فحسب، فتجيء بحوثهم على ضلع، ما تكاد تستقل واقفة، وكم من حقائق تاريخية خلت منها مصادر التاريخ وزخرت بها كتب الأدب ودواوين الشعر... وأن ما استفدته أنا من كتب اللغة والفقه والحديث والتفسير والأدب والأخبار... لا يقلّ عمّا أصبته في مطوّلات التاريخ...».

فهذا أيضاً جيّد ونهج قويم لو لم يقل: «ولابدّ من الإشارة إلى أنّي جعلت أكثر اعتمادي - بعد البحث في المصادر التاريخية - على تاريخ الطبري خاصة، فهو أقرب المصادر من الواقع، وصاحبه أكثر المؤرخين تحرّياً وأمانة، وعليه اعتمد كلّ من أتى بعده من الثقات. وليس الكامل لابن الأثير إلاّ تاريخ الطبري منسّقاً مختصراً منه الأسانيد واختلاف الروايات، وحسبك انّ ابن خلدون فيلسوف

____________

(1) عائشة والسياسة، المقدمة /3.


الصفحة 205
المؤرخين نقل عنه حوادث الجمل ثمّ أدلى بهذه الشهادة القيّمة: «هذا أمر الجمل ملخصاً من كتاب أبي جعفر الطبري، اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين»(1).

فأين التحرّر الّذي زعمه أوّلاً؟! ثمّ أين الدعوة إلى قراءة الحقائق التاريخية في كتب اللغة والفقه والحديث والتفسير...؟ ولِمَ نعى على الآخرين الاقتصار على المصادر التاريخية فحسب؟ فما دام قد أكثر الاعتماد على الطبري وليكن الباقي مرجعاً ثانوياً أو لا يكون. وهو لئن قارب الصواب حيناً فقد جانبه أحياناً ولست في مقام المؤاخذة والحساب على ما وجدته من هنات وهفوات في كتابه. ولقد سجلت ما عندي على هوامش صفحاته حين قراءتي له.

لكن ممّا ينبغي التنبيه عليه في المقام أن أشير إلى زلة من زلاّته ممّا يتعلق بابن عباس وهذا هو الّذي حداني إلى ذكره في المقام.

فالأفغاني ناقش رواية ابن عباس لحديث الحوأب، وهذه نقطة أولى تقدمت الإشارة إليها في هامش بعض الصفحات قريباً، واكتفيت برد ابن بلده ناصر الدين الألباني، فراجع.

أمّا النقطة الثانية: فهي مناقشته حوار ابن عباس مع عائشة بالبصرة وقد أرسله الإمام اليها يأمرها بالتهيؤ للرحيل والعودة إلى بيتها الّذي أمرها الله أن تقرّ فيه. فلابدّ لي من عرض جميع ما وقفت عليه من نصوص المحاورة ثمّ عرض مناقشة الأفغاني بعد ذلك.

____________

(1) تاريخ ابن خلدون 2/425 مطبعة النهضة سنة 1355هـ.

أقول: لقد مرّ بالقارئ ما ذكرته من شواهد خداع وتضليل المؤرخين ما قاله ابن كثير، ولدى المقارنة تبيّن ما ارتكبه من الخيانة. فراجع.