فقالت: يا بن عباس أخطأت السنّة، قعدت على وسادتنا في بيتنا بغير إذننا، فقلت: ليس هذا بيتك الّذي أمرك الله أن تقرّي فيه، ولو كان بيتك ما قعدت على وسادتك إلاّ بإذنك، ثمّ قلت: إنّ أمير المؤمنين أرسلني إليك يأمركِ بالرحيل إلى المدينة، فقالت: وأين أمير المؤمنين ذاك عمر.
فقلت: عمر وعليّ، قالت: أبيت، قلت: أما والله ما كان إباؤك إلاّ قصير المدة عظيم المشقة، قليل المنفعة، ظاهر الشؤم، بيّن النكد، وما عسى أن يكون إباؤك؟ والله ما كان أمرك إلاّ كحلب شاة، حتى صرت لا تأمرين ولا تنهين ولا تأخذين ولا تعطين، وما كنتِ إلاّ كما قال أخو بني أسد:
ما زال إهداء الصغائر بيننا | نثّ الحديث وكثرة الألقاب |
حتى نزلتِ كأن صوتكِ بينهم | في كل نائبة طنين ذباب |
قال: فبكت حتى سمع نحيبها من وراء الحجاب، ثمّ قالت: اني معجّلة الرحيل إلى بلادي ان شاء الله تعالى، والله ما من بلد أبغض إليّ من بلد أنتم فيه.
قلت: ولم ذاك فوالله لقد جعلناكِ للمؤمنين أمّاً، وجعلنا أباكِ صدّيقاً.
قالت: يا بن عباس أتمن عليّ برسول الله؟
قلت: ما لي لا أمُنّ عليك بمن لو كان منك لمننتِ به عليّ.
نص المحاورة في مصادر القرن التاسع:
1- إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم لمحمّد بن خلفة الوشتاني الأبي المالكي المتوفى سنة 827 هـ أو 828هـ: «قال ابن عباس: ولمّا انقضى أمر الجمل دخل عليّ البصرة بعد ثلاثة أيام ثمّ خطب خطبته الطويلة الّتي يقول فيها: يا أهل السبخة، يا أهل المؤتفكة، إئتفكت بأهلها ثلاث مرات في الدهر وعلى الله تمام الرابعة، يا جند المرأة، يا أتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعُقر فانهزمتم أخلاقكم دقاق وأحلامكم رقاق، ودينكم نفاق، نزلتم أشرّ بلاد الله وأبعدها من السماء وسُميت بشرّ الأسماء، هي البصرة والمؤتفكة وتدمر. أين ابن عباس؟
فدعي له من كلّ جانب. فقال: إئتِ هذه المرأة فلترجع إلى بيتها الّذي أمر الربّ أن تقرّ فيه.
قال: فجئت فاستأذنت فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن، ومددت يدي إلى وسادة فجلست عليها.
فقالت: يا ابن عباس ما رأيت مثلك تدخل بيتي بغير إذن، وتجلس على وسادتي بغير إذن.
____________
(1) آل عمران /34.
(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/81 - 82 ط مصر الاُولى.
قالت: رحم الله أمير المؤمنين ذلك عمر.
قلت: نعم وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
قالت: أبيت أبيت.
قلت: ما كان إباؤك إلاّ فواق ناقة ثمّ أبتِ ما تحكمين ولا تأمرين ولا تنهين.
فبكت حتى علا نشيجها ثمّ قالت نرجع، فإن أبغض البلاد إليّ البلاد أنتم فيها.
فقلت: أما والله ما كان جزاؤنا منك أن جعلناكِ أم المؤمنين، وجعلنا أباكِ صدّيقاً لهم.
قالت: أتمنّ عليَّ برسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم؟
قلت: نعم أمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننتِ به علينا.
ثمّ أتيت عليّاً فأخبرته، فقبّل بين عيني، وقال: بأبي وأمي {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(1)»(2).
فنادى ابن عباس؟
ماذا قال سعيد الأفغاني في كتابه (عائشة والسياسة) في هذا المقام؟
لقد جعل الفصل الخامس من كتابه في آخر أيام عائشة بالبصرة، وعنونه: (دخول عائشة البصرة وتجهيزها إلى الحجاز). ثمّ بدأ ينقل نصوص الطبري في
____________
(1) آل عمران /34.
(2) إكمال إكمال المعلم بشرح صحيح مسلم 6/239 ط دار الكتب العلمية بيروت.
وهنا فصل بنجوم ثلاث بين ما مرّ وما يأتي، وتبدلت اللهجة الجادة إلى هزل أدبي، وكأنه كاتب قصصي يصوّر للقارئ بعض مشاهد مسرحياته الخيالية، ولعله أصابه السأم من مرويات الطبري لأحاديث سيف - المتهم حتى بالزندقة والكذب(1) - فاستبدل النغم فقال يخاطب قارءه:
«لعلك اشتقت إلى روايات ابن أبي الحديد الطريفة! فقد طال إمساكنا عن أخباره وإضرابنا عن قصصه، فها نحن أولاء مطلعوكَ على مشهد ممتع وحوار أمتع:
لمّا فرغ عليّ من القتال دعا بآجرتين: فحمد الله وأثنى عليه وخطب في أهل البصرة قائلاً: (يا أنصار المرأة، وأصحاب البهيمة! رغا فجئتم، وعقر فانهزمتم، نزلتم شر بلاد، أبعدها عن السماء... إلخ).
ثمّ نادى(2) ابن عباس فاقبل إليه فقال له:
____________
(1) قال ابن عدي: بعض أحاديثه مشهورة وعامتها منكرة لم يتابع عليها. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات. قال وقالوا انه كان يضع الحديث. وبقية كلام ابن حبان: اتهم بالزندقة وقال البرقاني عن الدار قطني: متروك وقال الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط. تهذيب التهذيب 4/296.
(2) هكذا يريد ابن أبي الحديد: نداء وصراخا على رؤوس الأشهاد. تعليقة الأفغاني في كتابه عائشة والسياسة /193.
إني زلَلتُ زلَة فأعتـذر | سـوف أكيس بعدها وأنشمر |
قال ابن عباس: فجئت فاستأذنت عليها فلم تأذن لي، فدخلت بلا إذن، فمددت يدي إلى وسادة في البيت فجلست عليها، فقالت عائشة: تالله ما رأيت مثلك يا بن عباس! تدخل بيتنا بلا إذننا، وتجلس على وسادتنا بغير أمرنا؟، (أخطأت السنّة مرتين).
فقلت: (نحن علمناكم السنّة)(1) والله ما هو بيتك، وما بيتك إلاّ الّذي خلّفك رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) به وأمرك الله أن تقري فيه فلم تفعليّ. إنّ أمير المؤمنين يأمرك أن ترجعي إلى بلدك الّذي خرجتِ منه.
قالت: رحم الله أمير المؤمنين، ذاك ابن الخطاب.
قلت: وهذا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب.
قالت: أبيت أبيت.
قلت: ما كان إباؤكِ إلاّ فواق(2) ناقة، ثمّ صرت ما تُحلين ولا تمرِين، ولا تأمرين ولا تنهين، وما كنت إلاّ كما قال أخو بني أسد:
ما زال إهداء الصغائر بيننا | نثّ الحديث وكثرة الألقاب |
حتى نزلتِ كأن صوتكِ بينهم | في كل نائبة طنين ذباب |
____________
(1) علق الأفغاني في المقام بقوله: هكذا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/82.
(2) الفواق: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثمّ تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر، ثمّ تحلب ـ مختار الصحاح.
قالت (كذا في المطبوع والصواب قلت): أما والله ما كان هذا جزاؤنا منك إذ جعلناك للمؤمنين أمّاً، وجعلنا أباكِ لهم صدّيقاً.
قالت: أتمنّ عليَّ برسول الله يا بن عباس؟.
قلت: نعم، نمنّ عليك بمن لو كان منك بمنزلته منا لمننتِ به علينا.
قال ابن عباس: فأتيت عليّاً فأخبرته بما كان، فقبّل بين عينيّ وقال: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}(1)، أنا كنت أعلم بك حيث بعثتك(2) انتهت الرواية.
أمّا الّذي لا يمكن أن يقبله امرؤ ذو روية فما رواه المسعودي المؤرخ الحزبي فقد زعم أن عائشة قالت لعليّ بعد خطب طويل كان بينهما: «إني أحبّ أن أقيم معك فأسير إلى قتال عدوك عند مسيرك.
____________
(1) آل عمران /34.
(2) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/82، وانظر العقد الفريد 3/103، واليعقوبي 2/213، ولقد كان هذا الخبر ـ ان صح ـ أجدر أن يوجد في الطبري وأرجّح أنه راج بعده (مات الطبري سنة 310) ولعله علم به وأهمله لكذبه. ومن أمعن في هذه الأقوال استبعد صدورها عن مثل ابن عباس، فليس ممّا يرضاه ذوق أن تجابه امرأة مهزومة بمثل هذا فكيف بمثل عائشة مكانة وحرمة. والخبر مصنوع بأداة حزبية عصبية طبقية، والا فابن عباس أصح عقيدة وأتقى لله من أن ينسب إلى أسرته ما هو من صنع الله، وكلّ مسلم يعلم: أن زواج عائشة كان بوحي من الله، وأن صديقية أبي بكر كانت هداية من الله وحده، لا وساماً تمنحه أسرة. وكلّ ما مرّ بك آنفاً وما سيمرّ بك عاجلاً من معاملة عليّ لعائشة ومخالفيه... مبعد عن تصديق هذا الخبر الروائي. لقد كان ابن أبي الحديد (أو صناع بعض أخباره على الأصح) في كثير ممّا يروى: الصديق الجاهل للإمام كرم الله وجهه. والمشهور من نبل عليّ ودينه وسمو خلقه... يجعل المنصفين يضربون بكثير من هذه الروايات عرض الحائط. وقريب منه في ذلك ابن عباس. (تعليقة سعيد الأفغاني بنصها وفصها).
وهذا خبر غير معقول البتة وهو مخالف منطق الحوادث، أمن تجييش الجيوش على عليّ، إلى القتال معه؟ أهكذا انقلاباً فجائياً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار بهذه الخفة والسرعة الخاطفة؟؟! ألا قليلاً من العقل والرويّة أيها المؤرخون العصبيون!».
ثمّ وضع نجومه الثلاث للفاصلة وقال: «ونعود - بعد هذه الاستجمامة المسليّة - إلى التاريخ الجدّ:
جهز عليّ عائشة بكلّ شيء ينبغي لها من مركب وزاد ومتاع...»(2)
وقفة مع الأفغاني للحساب:
وهنا لابدّ من وقفة عابرة معه لنحاسبه بعد أن استعاد نشاطه في تلك الاستجمامة المسليّة، فإن في كلامه متناً وهامشاً مواقع للنظر، وإلى القارئ بعضاً منها:
أوّلاً: لقد ساق المحاورة موهماً قراءه أنّها نقلاً عن ابن أبي الحديد، وأكّد ذلك في تعليقه على أوّل جملة منها (ثمّ نادى ابن عباس) فقال في الهامش - كما مرّ -: «هكذا يريد ابن أبي الحديد نداءً وصراخاً على رؤوس الجماهير»، وزاد في تأكيده بذكر الجزء والصفحة (2/82)! وهل يشك بعد هذا أحد بأنّه نقلها عن ابن أبي الحديد؟
ونحن لا نعنّي القارئ كثيراً سوى الرجوع إلى ما مرّ من نص المحاورة الّتي رواه ابن أبي الحديد، وهي في مدوّنات القرن السابع، فليقرأها بإمعان فهل
____________
(1) مروج الذهب 2/9 تعليقة سعيد الأفغاني.
(2) عائشة والسياسة /190.
وقد يعجب القارئ إذا ما نبّهته إلى إغراق الأفغاني في التعتيم على الواقع حين قال في الهامش بعد ذكر شرح النهج: (واُنظر العقد الفريد 3/103، واليعقوبي 2/213). وهذا يعني أن في المصدرين المذكورَين أيضاً مثل ما سبق نقله عن شرح نهج البلاغة (2/82)! وقد مرت المحاورة أيضاً نقلاً عنهما معاً وليس فيهما جملة (ثمّ نادى ابن عباس).
نعم ورد في نص العقد الفريد جملة: (أين ابن عباس) ولعله أوّل مصدر ترد فيه هذه الجملة، ثمّ لم ترد بعد إلاّ في نص ورد عند الآبي المالكي في إكمال إكمال المعلم في شرح صحيح مسلم، وهو من مدونات القرن التاسع. واللافت للنظر أن ابن عبد ربه صاحب العقد الفريد والآبي صاحب الإكمال كلاهما مغربيّان، وليست لهما أي صلة بحزبية ابن أبي الحديد كما يحلو للأفغاني رميه بذلك على استحياء كما سيأتي.
وقد يزداد القارئ عجباً إذا أخبرته أن ما ذكره الأفغاني من تمثل الإمام بالشعر الرجز فذكر ثلاثة شطور ليس له في أيّ من المصادر الّتي ذكرها أيّ أثر!! وقد مرّت جميع نصوص المحاورة في مختلف المصادر عبر القرون وليس فيها ذكر لذلك الرجز، فمن أين أتى به ودسّه سعيد الأفغاني؟
إنّه أتى به من تاريخ الطبري، ولو أنّه نقله بأمانة لرفع عنه إصر الخيانة، ولكنه غيّر وبدّل. والأبيات مذكورة في تاريخ الطبري. وهي من حديث سيف،
خذها... واحذراً أبا حسن | إنـا نمـرّ الأمر إمرار الرسن |
وإنّما الشعر: خذها إليك واحذراً أبا حسن.
فقال عليّ مجيباً: إنّي عجزت عجزة ما اعتذر سوف أكيس بعدها واستمرّ».
ثمّ قال الطبري: «وكتب إليَّ السري عن شعيب عن سيف عن محمّد وطلحة قالا: ولمّا أراد عليّ الذهاب إلى بيته قالت السبيئة:
خذها... واحذراً أبا حسن | إنـا نمـرّ الأمر إمرار الرسن |
صولة أقوام كأسداد السفن | بمشرفّيـات كـغدران اللبـنَ |
ونطعن الملك بلين كالشطن | حتى يُمرّنَ على غير عـنَن |
فقال عليّ: وذكر تركهم العسكر والكينونة على عِدةَ ما منّوا حين غمزوهم ورجعوا إليهم، فلم يستطيعوا أن يمتنعوا حتى...(1)
إنّي عجزت عجزة لا أعتذر | سوف أكيس بعدها واستمر |
ارفع من ذيلي ما كنت أجرّ | وأجمع الأمر الشتيت المنتشر |
إن لم يشاغبني العجول المنتصر | أو يتركوني والسلاح يبتدر...(2) |
ثانياً: لقد مرت بنا تعليقة الأفغاني على جملة (نحن علّمناكم السنّة) فقال: «هكذا في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد(2/82)». وهذا كسابقه محض
____________
(1) هنا نقص في أصول ط (عن هامش الطبري 4/437 ط دار المعارف).
(2) تاريخ الطبري 4/436 - 437 ط دار المعارف.
ثمّ إنّ جملة: (نحن علمناكم السنّة) لم ترد بهذا اللفظ نصاً في أيّ مصدر من المصادر الّتي بين يدي وهي أكثر من عشرين مصدراً!
نعم إنّ الّذي ورد فيها جملة: (نحن علّمناكِ وأباكِ السنّة)(1)، أو جملة: (نحن أولى بالسنّة منكِ، ونحن علّمناك السنّة)(2)، أو جملة: (نحن علمناكِ السنّة)(3). ثمّ لم ترد في بقية المصادر بأيّ صيغة اخرى، فأين الأمانة يا سعيد الأفغاني؟!
ثالثاً: لقد مرّ بنا تعليقه في نهاية الخبر تشكيكه في صحته، ورجّح أنه راج بعد الطبري الّذي مات سنة310، ثمّ قال: «ولعله علم به وأهمله لكذبه...». وهذا لعمري يدل على مدى لوذعية الأفغاني وبُعدِ غوره في فهم الأخبار التأريخية (؟) فما دام لم يذكره الطبري فهو بترجيحه راج الخبر من بعده، أو لعله علم به وأهمله لكذبه...
أيّ ميزان هذا؟ فإنّ الطبري رجل جمّاع أخبار وليس بصَنّاع، وهو يعترف في مواضع من تاريخه بأنّه قد لا يذكر من الحقائق التاريخية لعلة هناك، وقد يذكر العلة أحياناً وقد لا يذكرها!
وإلى القارئ بعض تلك الموارد في خصوص الفترة من زمن عثمان إلى خلافة الإمام لنقرأ تصريحات خطيرة للطبري، وهي تعني ضياع الكثير من الحقائق التاريخية.
____________
(1) كما في أخبار الدولة العباسية راجع رقم /2 من مصادر القرن الثالث.
(2) كما في رجال الكشي راجع رقم /4 من مصادر القرن الخامس.
(3) كما في مصباح الأنوار راجع رقم /1 من مصادر القرن السادس.
وفي هذه السنة - أعني سنة ثلاثين - كان ما ذكر من أمر أبي ذر ومعاوية، وإشخاص معاوية إياه من الشام إلى المدينة وقد ذُكر في سبب إشخاصه إياه منها أمور كثيرة كرهت ذكر أكثرها.
فأمّا العاذرون معاوية في ذلك فإنّهم ذكروا في ذلك قصة كتب بها الي السري يذكر أن شعيباً حدثه عن سيف...».
- ثمّ ساق القصة، وأتبعها بخبر آخر بنفس السند الأوّل، وهكذا بثالث ورابع وكلّها عن سيف المتهم بالزندقة فضلاً عن كونه ساقطاً في الرواية كما مرّ عن الدار قطني، إلى غير ذلك من الأقوال في تجريحه - ثمّ قال: «وأمّا الآخرون، فإنّهم رووا في سبب ذلك أشياء كثيرة وأموراً شنيعة كرهت ذكرها»(1).
لماذا ذكر أخبار العاذرين، وكلّها عن سيف فلم يكره ذكرها؟ حتى إذا وصلت النوبة إلى أخبار الآخرين احرنجم عن ذكرها.
(المورد الثاني): قال: «ذكر الخبر عن قتل عثمان (رضي الله عنه):
وفي هذه السنة قتل عثمان بن عفان (رضي الله عنه). ذكر الخبر عن قتله وكيف قتل: قال أبو جعفر (رحمه الله): قد ذكرنا كثيراً من الأسباب الّتي ذكر قاتلوه أنهم جعلوها ذريعة إلى قتله، فأعرضنا عن ذكر كثير منها لعللٍ دعت إلى الإعراض عنها...»(2).
لماذا الإعراض يا شيخ المؤرخين؟
____________
(1) تاريخ الطبري 4/283 ط دار المعارف.
(2) نفس المصدر 4/365.
قال أبو جعفر: وأمّا غير سيف فإنّه ذكر من خبر هذه الوقعة وأمر الزبير... غير الّذي ذكر سيف عن صاحبيه...»(1).
ثمّ قال: «واحتمل محمّد بن أبي بكر عائشة فضُرب عليها فسطاط، فوقف عليّ عليها فقال: استفززت الناس وقد فزّوا، فألّبتِ بينهم حتى قتل بعضهم بعضاً... في كلام كثير. فقالت عائشة: يا بن أبي طالب ملكت فاسجح نعم ما أبليتَ قومك اليوم، فسرّحها عليّ، وأرسل معها جماعة...»(2).
ماذا كان الكلام الكثير؟ ولماذا غصّ الطبري بذكره؟ ولماذا لم يذكر كيف كان أمر تسريحها؟ ومن الّذي أتاها وأمرها وحاورها وحاورته؟ وهذا ما ذكره غيره، وأعرض هو عنه، وهكذا تطمس الحقائق. وهذا ما يتعلق بابن عباس في هذا المقام، فكم ممّا يتعلق بغيره وطمسته الأقلام؟
(المورد الرابع): قال: «وذكر هشام عن أبي مخنف قال: وحدثني يزيد بن ظبيان الهمداني: أن محمّد بن أبي بكر كتب إلى معاوية بن أبي سفيان لما وُلّي، فذكر مكاتبات جرت بينهما كرهت ذكرها لما فيه ممّا لا يحتمل سماعَها العامة...»(3).
وعلى هذه الموارد فقس ما سواها.
رابعاً: ما ذكره من استبعاد صدور مثل ذلك من ابن عباس مع امرأة مهزومة فكيف بمثل عائشة مكانة وحرمة.
____________
(1) نفس المصدر 4/508.
(2) نفس المصدر 4/509 - 510.
(3) نفس المصدر 4/557.