الصفحة 254

3- ثمّ مع ابن عباس:

«إنّ في استعراض مواقفها المتشنجة مع ابن عباس - نجدها من قبل حرب الجمل كما نجدها عند الحرب وبعد الحرب، ثمّ لم تقف عند ذلك الحد بل استمرت كذلك حتى وهي في النزع الأخير تلفظ أنفاسها لتفد على ربّها بما كسبت، كما أنّ ابن عباس لم يكن يكنّ لها البغضاء، بقدر ما كان شديداً في الحقّ عليها ومعها، ولئن أعوزتنا الشواهد على ذلك في عهد الرسالة، فإنها لن تعوزنا من خلال أحاديثه الّتي سمعها من النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم). وفيها إدانة لعائشة مثل خبر الحوأب الّذي مرّت الإشارة إليه، ولا عبرة بإنكار الأفغاني رواية أبن عباس له، بحجة واهية حيث قال: والثاني أن سند الذهبي في هذا الحديث ينتهي في احدى روايتيه - إلى ابن عباس. وابن عباس على عدالته - ممّن خبّ وأوضع في الحزبية السياسية، فهو أكبر أنصار عليّ وألد خصوم عائشة في خلافها عليه، فلعل هذا جعله - إن صحت نسبة الحديث إليه ـ يتسامح ويغض عمّا فيه لتأييد مذهبه السياسي؟ وإلاّ فإنّي اسأل: هل كان ابن عباس حاضراً قول النبيّ هذا وهو بين نسائه؟؟ إنّي - استناداً إلى سكوت الرواية عن ذلك من جهة، وإلى ضرورة التصريح بذلك هنا من جهة ثانية - اقطع بالنفي، وإنّ على المثبت أن يأتي بدليل ينص على أن ابن عباس كان حاضراً مجلس النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع نسائه!! ولا يغني - هنا خاصة - قولهم: «إن مراسيل الصحابة يحتج بها» لأنّ وجود ابن عباس هنا مع النساء في حديث خاص بهنّ، غير مألوف، فيحتاج إثباته إلى النص الصريح. هذا ولم أذكر ما في ذوقي الخاص لقاء هاتين السجعتين في رواية الزمخشري: (ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تسير حتى تنبحها كلاب الحوأب) من بُعد عن البلاغة النبوية عند من أكثر إلفه لها.


الصفحة 255
ولست أدري لم لا يطبّق أولئك الأفاضل قواعد المحدثين على المتن والسند معاً؟ ومهما يكن فقد بينت للقارئ - فيما تقدم - ماحداني على الشك وفيه بلاغ»(1).

أقول: إنّ الأفغاني حاول جاهداً تكذيب الحديث برواية ابن عباس وعمدة حجته بأنّه - لو صح - فهو حديث بين نسائه ويقطع بنفي حضور ابن عباس ذلك المجلس، ولعل الأفغاني لم يدرك علاقة ابن عباس بالرسول سوى القرابة والتقريب منه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) له، أنه كان يحضر معه في بعض بيوت أزواجه ويبيت عنده كما بات في بيت خالته ميمونة وقد مرّ في الجزء الأوّل شواهد ذلك فراجع، وجاء في مسند أحمد عن عكرمة عن ابن عباس قال: «صليت إلى جنب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعائشة خلفنا تصلي معنا وأنا إلى جنب النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصلي معه»(2).

وأمّا تكذيبه الحديث مطلقاً فقد كفانا في الرد عليه ابن بلده ناصر الدين الألباني(3).

إنّ ابن عباس كان يتتبع جمع المعلومات الّتي فيها إدانة لعائشة، فهل يشك الأفغاني في حديثه الّذي أخرجه البخاري في سؤاله من عمر عن المرأتين اللتين تظاهرا عليه فقال له: هما عائشة وحفصة، وقد ذكرنا ذلك الموقف وما فيه في الجزء الثاني، فراجع.

ولا شك أنّ عائشة كانت تبدر منها فلتات مناوئة لأهل البيت ومخالفة للحقائق ويتناقلها بعض السامعون إمّا لشكّه في صحتها أو لغرض آخر فيأتي ابن عباس فيسأله عنها فيصحح لهم المعلومة، وقد مرّ بنا حديث أبي غطفان عن وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأنّه سمع عروة يحدّث عن خالته عائشة أنّها تقول:

____________

(1) عائشة والسياسة /89 ـ 90.

(2) مسند أحمد 1/302 ط مؤسسة قرطبة بمصر.

(3) راجع كتاب سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأوّل /767 ـ 777 وفي 772 تجد رد الألباني على الأفغاني في عدة مؤاخذات حرية بالمراجعة.


الصفحة 256
مات بين سحري ونحري، فقال له ابن عباس: أتعقل؟ وهي لهجة استفزاز وتنبيه على عظم الخطأ في المعلومة المتلقاة من عائشة، ثمّ أتبع ذلك بالقسَمَ مؤكداً صحة ما لديه في ذلك، وقد مرّ الحديث قريباً في مواقفها المتشنجة مع عليّ، فراجع.

كما لاشك أنّ الحال تزايدت توتّراً مع تمادي الإيام، وبلغت حد المكاشفة منذ يوم الصلصل، وتفاقم الخطب في حرب الجمل، وتفجّر البركان حتى كاد يبلغ حد الاقتتال بين مجموعتين من غلمان كلّ منهما حتى رَكبت عائشة على بغلة وخرجت فلقيها ابن أبي عتيق حفيد أخيها عبد الرحمن فقال لها: يا أمي جعلت فداك أين تريدين؟ قالت: بلغني أن غلماني وغلمان ابن عباس اقتتلوا فركبت لأصلح بينهم، فقال: أعتق ما أملك ان لم ترجعي، فقالت: ما حملك على هذا؟ قال: ما انتهى يوم الجمل حتى تأتينا بيوم البغلة. (وفي رواية الجاحظ عن الشرقي بن القطامي قال: عزمت عليك إلاّ ما رجعت فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة)(1).

____________

(1) أنظر عائشة والسياسة /247 نقلاً عن المراح في المزاح /38، وانظر جمع الجواهر في الملح والنوادر /4 ط عيسى البابي سنة 1372 تح ـ البيجاوي.

ذكر اليعقوبي في تاريخه 2/200 في وفاة الحسن بن علي: أن عائشة ركبت بغلة شهباء وقالت: بيتي لا آذن فيه لأحد، فأتاها القاسم بن محمد بن أبي بكر فقال لها: يا عمّة ما غسلنا رؤوسنا من يوم الجمل الأحمر أتريدين أن يقال يوم البغلة الشهباء... أهـ.

وفي ذلك يقول القائل:


عائش ما نقـول في قتـالكسلكت في مسالك الـمـهالـك
وحسبـك ما أخـرج البخاريمـن الـصـحـيـح مـومـئـاً للـدار
قد قيل تبـت وعليّ غمضّافلم سجدت الشكر لما قبضا
وقد ركبت البغل في يوم الحسنتـؤجّـجـيـن نـار هـاتـيك الفتن


الصفحة 257
فبعد هذا كلّه لابدّ لنا من استذكار جميع تلك المواقف الّتي يستبين فيها ابن عباس بمنتهى اللين والتسامح مع البيان الهاديء الواضح، بينما نرى من عائشة التجهم ونرى عندها انقباضا ونفوراً.

ربما تعداهما فكان تشنّجاً أظهر الشحناء منها علانية، والآن فلنمرّ على تلك المواقف مرور الكرام لنعرف مَن كان منهما يريد الوئام والسلام، ومن كان يريد الخصام ولو بحدّ الحسام. ومن هو أهدى سبيلاً؟

والمواقف هي كما يلي:

1- موقف يوم الصلصل، وقد ضمهما المكان، فهي خرجت من المدينة إلى مكة مغاضبة لعثمان ومحرّضة عليه، وابن عباس خرج أميراً على الموسم ليقيم للناس حجّهم، فقالت له: «يا بن عباس أنشدك الله ـ فإنك قد أعطيت لساناً ازعيلا(1) ان تخذل عن هذا الرجل، وأن تشكك فيه الناس فقد بانت لهم بصائرهم، وأنهجت(2) ورفعت لهم المنار، وتحلّبوا من البلدان لأمر قد حُمّ وقد رأيت طلحة بن عبيد الله قد اتخذ على بيوت الأموال والخزائن مفاتيح، فإن يل يسر بسيرة ابن عمه أبي بكر.

فقال لها ابن عباس: يا أمه لو حدث بالرجل حَدَثٌ ما فزع الناس إلاّ إلى صاحبنا.

فقالت: أيهاً عنك إنّي لست اُريد مكابرتك ولا مجادلتك»(3).

____________

(1) الأزعيل: الذلق.

(2) أنهج الطريق: وضُح وبان.

(3) تاريخ الطبري 4/407 ط دار المعارف، وانظر الفتوح لابن اعثم 2/226، وكتاب الجمل للشيخ المفيد /61 تجد ذلك بتفاوت راجع الجزء الثاني من كتابنا هذا تجد الروايات كلها مذكورة.


الصفحة 258
2- موقف ثاني وهو قبل الحرب بالبصرة وقد أتاها هو وزيد بن صوحان أرسلهما الإمام إليها، وقد مرّ ذكره في أوّل سفارات ابن عباس لحقن الدماء. فراجع تجد الرسالة المليئة بالعطف واللطف والنصيحة، كما تجد الجواب المهزوز حين تقول لهما: «ما أنا برادّة عليكم شيئاً، فإنّي أعلم أنّي لا طاقة لي بحجج عليّ ابن أبي طالب.

فقال لها ابن عباس: لا طاقة لكِ بحجج المخلوق فكيف طاقتكِ بحجج الخالق».

3- موقف آخر ثالث قبل الحرب وقد أتاها رسولاً من قبل الإمام بعد أن اجتمع بطلحة فلم يجد عنده خيراً. وكان معه كتاب من الإمام إليها ينصحها فيه ويخوّفها مغبّة العاقبة. وقد مرّ ذكر ذلك مفصلاً في السفارة الثانية فراجع تجد ابن عباس يبلّغها الرسالة ويقرأ عليها الكتاب، وإذا به يسمع منها الغلظة والفظاظة: «يا ابن عباس ابن عمك يرى انّه قد تملّك البلاد، لا والله ما بيده منها شيء إلاّ وبيدنا أكثر منه.

فقال لها ابن عباس: يا أمّاه إن أمير المؤمنين (عليه السلام) له فضل وسابقة في الإسلام، وعظم عناء.

قالت: ألا تذكر طلحة وعناه يوم أحد؟

فقال لها: والله ما نعلم أحداً أعظم عناءً من عليّ (عليه السلام).

قالت: أنت تقول هذا ومع عليّ أشباه كثيرة.

قال لها: الله الله في دماء المسلمين.

قالت: وأي دم يكون للمسلمين إلاّ أن يكون عليّ يقتل نفسه ومن معه.

قال ابن عباس: فتبسّمت، فقالت: ممّا تضحك يا بن عباس؟


الصفحة 259
فقال: والله معه قوم على بصيرة من أمرهم يبذلون مهجهم دونه.

قالت: حسبنا الله ونعم الوكيل».

4- موقف آخر رابع دخل عليها فذكّرها بحديث يوم الصلصل وأنّها السبب في قتل عثمان محذّراً لها سوء العواقب، فقالت له: «ذاك المنطق الّذي تكلمت به يومئذ هو الّذي أخرجني، لم أر لي توبة إلاّ الطلب بدم عثمان ورأيت أنّه قتل مظلوماً.

فقال لها ابن عباس: أنت قتلتيه بلسانكِ، فأين تخرجين، توبي وأنتِ في بيتكِ، أو أرضي ولاة دم عثمان وولده.

قالت: دعنا من جدالك فلسنا من الباطل في شيء».

5- وموقف خامس أتاها وهي في الهودج وهو يحمل مصحفاً يدعوها ويدعوهم إلى ما فيه، فردّته وقالت: «والله لا سمعت منك شيئاً، ارجع إلى صاحبك فقل له ما بيننا وبينك إلاّ السيف. وصاح من حولها: ارجع يا بن عباس لا يسفك دمك».

هذه هي المواقف الّتي سبقت المحاورة، وقد رأينا لغة العطف واللطف في كلام ابن عباس، وقرأنا لغة الشدة والعنف في كلام عائشة. فبعد هذا العَرض هل يستنكر من ابن عباس لو يرد على عائشة بنفس اللهجة الحادّة، ولم لا؟ وها هي تستفزّه بكلماتها النابية، وقد طفح كيلها، فأبدت كامن صدرها يفيض حقداً وبغضاً. فلا لوم على ابن عباس إذا ما ردّ الحجر من مأتاه، وأسكت النامّة وقد حلّت بسببها الطامة بالعامة.


الصفحة 260
وإلى هنا فلنترك الأفغاني ونبعده قصياً، بعد أن قرأناه نَسِيّاً وفَرِيّاً. ولنبصّر القارئ الآن بأن ابن عباس وعائشة عاشا بعد حرب الجمل متهاجرَيْن تقريباً، وبقيا على حالهما كذلك، حتى ماتت عائشة، ولعله اشتدت المهاجرة والمخاصمة في عهد معاوية حين تناصرت هي وإياه على عداوة أهل البيت. وكان ابن عباس رجل الساحة المناصر لأهل البيت، كما يظهر بوضوح من مواقفه مع الأمويين وشيعتهم. كما كانت عائشة تدعمهم فيما ترويه لهم من أحاديث، والشواهد على ذلك متوفرة، سيأتي بعضها في الحلقة الثالثة: تاريخه العلمي (في الفقه والحديث والتفسير) إن شاء الله تعالى فنعجّل منها واحداً:

أخرج الحافظ الكنجي الشافعي في كفاية الطالب وعنه الاربلي في كشف الغمة قال: «روى الكنجي بسنده المنتهى إلى أبي صالح قال ذكر عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) عند عائشة وأبن عباس حاضر، فقالت عائشة: كان من أكرم رجالنا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال ابن عباس: وأي شيء يمنعه عن ذاك؟ اصطفاه الله لنصرة رسوله، وارتضاه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لأخوّته، واختاره لكريمته، وجعله أبا ذريته ووصيّه من بعده، فإن ابتغيتِ شرفاً فهو في أكرم منبت وأورق عود، وإن اردتِ إسلاماً فأوفر بحظه وأجزل بنصيبه، وإن أردتِ شجاعته فبهمة حرب وقاضية حتم، يصافح السيوف أنساً، لا يجد لوقعها حسّاً، ولا ينهنه نعنعة، ولا تقله الجموع، الله ينجده، وجبرئيل يرفده، ودعوة الرسول تعضده، أحدّ الناس لساناً، وأظهرهم بياناً، وأصدعهم بالصواب في أسرع جواب، عظته أقلّ من عمله، وعمله يعجز عنه أهل دهره، فعليه رضوان الله، وعلى مبغضيه لعائن الله»(1).

____________

(1) كشف الغمة 1/363، كما في البحار 40/51 ط الجديدة.


الصفحة 261

حديث واحد خير شاهد:

أمّا الآن فأكتفي بشاهد واحد ردّت فيه عائشة فتيا فقهية لابن عباس بإصرار وعناد لغرض سياسي أكثر منه بيان حكم شرعي، وتلك الفتيا فيمن أقام وأرسل الهدي تطوّعاً إلى الحرم، هل عليه أن يجتنب عمّا يجتنبه المحرم كما هو رأي ابن عباس؟ أو لا يجب كما هو رأي عائشة. ورُوي عنها في ذلك عدة أحاديث نافت على العشرة متفاوتة سنداً ومتناً حتى ليخيّل لناظرها أنها في وقائع متعددة، مع أنّ الأصل فيها واقعة واحدة - كما سيأتي بيانه - والأحاديث الّتي رويت عنها ونافت على العشرة، روى بعضها مالك وعنه البخاري أيضاً، كما روى بعضها الآخر هو ومسلم وبقية أصحاب السنن والمسانيد. ومدار الجميع على الرواة عن عائشة، وجميعهم من حامّتها وخاصّتها كعروة ابن أختها، والقاسم ابن أخيها، وعمرة بنت عبد الرحمن ربيبتها، وهؤلاء الثلاثـة جعلهم ابن عيـيـنة أعلم الناس بحديث عائشة(1) ثمّ رواية أبي قلابة وهو عبد الله بن يزيد الجرمي(2) ورواية الأسود بن يزيد النخعي ومسروق بن الأجدع من المختصّين بها(3) ولهؤلاء جميعاً مقام مرموق عند حكام الأمويين أضف إليهم ابن شهاب الزهري فهو من صنائعهم.

____________

(1) اسعاف المبطأ /21.

(2) كان ديوانه بالشام ومات بداريا سنة 104- 105، وحسبك بذلك تعريفاً. راجع المعارف /446 - 447.

(3) قال ابن أبي الحديد في شرح النهج 1/269 وروى أبو نعيم عن عمرو بن ثابت عن أبي إسحاق قال: ثلاثة لا يؤمنون على عليّ بن أبي طالب: مسروق ومرة وشريح وروي ان الشعبي رابعهم ـ وقال: روى سلمة بن كهيل انهما ـ الأسود بن يزيد ومسروق بن الاجدع ـ كانا يمشيان إلى بعض أزواج رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فيقعان في عليّ (عليه السلام) فأما الاسود فمات على ذلك، وأمّا مسروقاً فلم يمت حتى كان لا يصلي لله تعالى صلاة إلاّ صلّى بعدها على عليّ ابن أبي طالب (عليه السلام) لحديث سمعه من عائشة في فضله.


الصفحة 262
والآن إلى صور الحديث الّذي أشرنا إليه نقلاً عن المصادر الثلاث الأولى:

1- الموطأ لمالك بشرح تنوير الحوالك للسيوطي: «حدثني يحيى عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن محمّد عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته أنّ زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن عبد الله بن عباس قال: من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر الهديَ، وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ، أو مري صاحب الهدي.

قالت عَمرة: قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيدَيّ ثمّ قلدَها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده، ثمّ بعث بها مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مع أبي فلم يحرم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيء أحلّه الله له حتى نُحِرَ الهدي»(1).

2- صحيح البخاري: «حدثنا عبد الله بن يوسف أخبرنا مالك عن عبد الله ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنّها أخبرته أنّ زياد ابن أبي سفيان كتب إلى عائشة (رضي الله عنها): أن عبد الله بن عباس (رضي الله عنهما) قال: من أهدى هدياً حَرُمَ عليه ما يحرم على الحاج حتى يُنحر هديُه. قالت عَمرة: فقالت عائشة (رضي الله عنها): ليس كما قال ابن عباس (رضي الله عنه)، فتلت قلائد هدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده، ثمّ بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيء أحله الله حتى نُحر الهديَ»(2).

3- صحيح البخاري: «حدثنا اسماعيل بن عبد الله قال حدثني مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها أخبرته قالت عائشة (رضي الله عنها): أنا فتلت قلائد هدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيديّ ثمّ قلّدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)

____________

(1) الموطأ 1/248 ـ 249 ط مصطفى محمّد بمصر.

(2) صحيح البخاري، كتاب الحج، باب من قلد القلائد بيده 2/169ط بولاق.


الصفحة 263
بيديه، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيء أحلّه الله له حتى نُحر الهدي»(1).

4- صحيح مسلم: «حدثنا يحيى بن يحيى قال قرأت على مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عَمرة بنت عبد الرحمن أنها اخبرته ان ابن زياد كتب إلى عائشة ان عبد الله بن عباس قال: من أهدى هدياً حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر الهدي وقد بعثت بهدي فاكتبي إليّ بأمركِ، قالت عَمرة: قالت عائشة: ليس كما قال ابن عباس، أنا فتلت قلائد هدي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيدي ثمّ قلّدها رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بيده، ثمّ بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) شيء أحلّه الله له حتى نحر الهدي»(2).

هذه هي صور الحديث الواحد وأصله عند مالك في الموطأ ورواه الشيخان - البخاري ومسلم - عنه، فليقارن القارئ بين هذه الصور ليعلم مدى الأمانة في النقل، فمن تزيّد ومن تغيير ومن نقصان. لماذا ذلك؟ ومن أجل أن تبقى تلك الرموز ـ صحاحاً ورجالاً ـ في البروج العاجية، استبسل علماء التبرير في سدّ بعض الفجوات،إلاّ أنّهم لم يوفّقوا تماماً. وقد أخترت طائفة من أقوالهم من خلال شروحهم لتلك الصحاح فمن شروح الموطأ: المنتقى لأبي الوليد الباجي، وشرح الزرقاني، وتنوير الحوالك للسيوطي.

ومن شروح البخاري: فتح الباري لابن حجر، وإرشاد الساري للقسطلاني، والكواكب الدراري للكرماني، وكوثر المعاني الدراري في كشف خبايا صحيح البخاري للشنقيطي الجكني.

____________

(1) نفس المصدر، كتاب الوكالة، باب الوكالة في البدن وتعاهدها 3/102.

(2) صحيح مسلم (كتاب الحج) باب استحباب بعث الهدي الى الحرم 1/372 ح 11 ط بولاق.


الصفحة 264
ومن شروح مسلم: شرح النووي، وإكمال إكمال المعلم للآبي، ومكمل إكمال إكمال المعلم للسنوسي.

إلى غير ذلك كسنن البيهقي ومصنف ابن أبي شيبة وتكملة المنهل المورود بشرح سنن أبي داود.

ماذا قال علماء التبرير؟

1- قال ابن حجر في فتح الباري: «(تنبيه) وقع عند مسلم عن يحيى بن يحيى عن مالك في هذا الحديث: انّ ابن زياد بدل قوله: انّ زياد بن أبي سفيان، وهو وهم نبّه عليه الغساني ومن تبعه»(1).

2- وقال النووي في شرح صحيح مسلم: «إنّ ابن زياد كتب إلى عائشة... هكذا وقع في جميع نسخ صحيح مسلم ان ابن زياد، قال أبو عليّ الغساني والمازري والقاضي وجميع المتكلمين على صحيح مسلم: هذا غلط وصوابه: أن زياد بن أبي سفيان وهو المعروف بزياد بن أبيه، وهكذا وقع على الصواب في صحيح البخاري والموطأ وسنن أبي داود وغيرها من الكتب المعتمدة، ولأن ابن زياد لم يدرك عائشة والله أعلم»(2).

ونحن نقول له: فأين قوله: اتفق العلماء رحمهم الله على أنّ اصح الكتب بعد القرآن العزيز الصحيحان البخاري ومسلم، وتلقتهما الأمة بالقبول، وكتاب البخاري أصحهما وأكثرهما فوائد ومعارف ظاهرة وغامضة(3)، ولا ضيرَ حتى ولو لم يروه أولئكم، فإنّ البخاري وحده يكفيهم لأن كتابه عندهم أصح وأكثر

____________

(1) فتح الباري 4/293 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378هـ.

(2) صحيح مسلم 9/72 ط مصر.

(3) مقدمة شرح صحيح مسلم للنووي 1/14.


الصفحة 265
فوائد؟ وإن تزيّد في النقل فمنح الترضّي حسب الهواية والمشتهاية، وإن تنّقص فحذف في روايته في الوكالة بعض ما ذكره في روايته في كتاب الحج فقارن - وفي المقامين حذف من رواية المصدر جملة (أو مري صاحب الهدي) فهكذا هي الأمانة في النقل(؟!). ولعل هذا من الفوائد والمعارف الغامضة ومهما يكن فنحن لا يهمنا غلط مسلم في ذكره ابن زياد بدل أبيه، فكلاهما دعيّ وفي النصب سواء، والاعتذار بأنّ ابن زياد لم يدرك عائشة، إعتذارٌ واه فقد أدركها، لأنّها ماتت سنة (56هـ أو 57هـ أو 58هـ) كما في تاريخ اليعقوبي(1)، وابن زياد ولاه معاوية - خراسان بعد وفاة أبيه زياد سنة 54، وليس بالضرورة أن يكون سؤاله لها أيام ولايته البصرة فيمكن أنّه سألها أيام أبيه، وإنّما الّذي يهمنا هو تنبيه القارئ إلى أنّ المرجعية الرسمية للأحكام الشرعية يومئذ هي عائشة دون باقي أمهات المؤمنين وبقية فقهاء الصحابة والتابعين، ولذلك قلنا أستبسل شرّاح الصحيح في سدّ الثغرات، وزاد بعضهم فضاعف جهده لإثبات صحة رأي عائشة وتفنيد رأي ابن عباس حتى ولو كان رأيه موافقاً لرأي عمر ورأي عليّ وآراء آخرين من صحابة وتابعين، بل تصاعدت حمّى الزهري - وهو من فقهاء البلاط الأموي - فجعل لها المنّة على المسلمين حيث كشفت لهم ما استغلق عليهم فهمه (؟؟؟) كما سيأتي.

3- قال ابن التين: «خالف ابن عباس في هذا جميع الفقهاء، واحتجت عائشة بفعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وما روته في ذلك يجب أن يصار إليه، ولعل ابن عباس رجع عنه، انتهى»(2).

____________

(1) تاريخ اليعقوبي 2/212.

(2) فتح الباري 4/ 294 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378.


الصفحة 266
ولفجاجة هذا الرأي وسماجة هذا القول تعقبه ابن حجر بقوله: «وفيه قصور شديد، فإنّ ابن عباس لم ينفرد بذلك، بل ثبت ذلك عن جماعة من الصحابة:

منهم ابن عمر: رواه ابن أبي شيبة عن ابن علية عن أيوب وابن المنذر من طريق ابن جريح كلاهما عن نافع عن ابن عمر كان إذا بعث بالهدي يمسك عما يمسك عنه المحرم إلاّ أنّه لا يلبي(1).

ومنهم قيس بن سعد بن عبادة: أخرج سعيد بن منصور من طريق سعيد بن المسيب عنه نحو ذلك(2).

وروى ابن أبي شيبة من طريق محمّد بن عليّ بن الحسين عن عمر وعليّ أنّهما قالا في الرجل يرسل ببدنته أنّه يمسك عما يمسك عنه المحرم(3). وهذا منقطع»(4).

4- وقال ابن المنذر: «قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حَرُمَ عليه ما يحرم على المحرم.

وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرماً، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار»(5)(؟).

5- وقال ابن حجر: «ومن حجة الأولين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالساً عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقدّ قميصه من جيبه

____________

(1) أنظر المصنف لابن أبي شيبة 4 ق1/88 ط باكستان ادارة القرآن والعلوم الإسلامية.

(2) فتح الباري 4/294.

(3) نفس المصدر.

(4) نفس المصدر.

(5) أنظر فتح الباري 4/294 ط مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر سنة 1378هـ.


الصفحة 267
حتى أخرجه من رجليه، وقال: إنّي أمرت ببُدني الّتي بعثت أن تقلّد اليوم وتشعر على مكان كذا، فلبست قميصي ونسيت، فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. الحديث، وهذا لا حجة فيه لضعف اسناده، إلاّ انّ نسبة ابن عباس إلى التفرد بذلك خطأ...»(1).

6- وقال أيضاً: «وقد ذهب سعيد بن المسيب إلى أنّه لا يجتنب شيئاً ممّا يجتنبه المحرم إلاّ الجماع ليلة جمع. رواه ابن أبي شيبة عنه بإسناد صحيح»(2).

7- وقال أيضاً: «نعم جاء عن الزهري ما يدل على أنّ الأمر استقرّ على خلاف ما قال ابن عباس، ففي نسخة أبي اليمان عن شعيب عنه، وأخرجه البيهقي من طريقه قال: أوّل من كشف العمى عن الناس وبيّن لهم السنّة في ذلك عائشة فذكر الحديث عن عروة وعمرة عنها. قال: فلمّا بلغ الناس قول عائشة أخذوا به وتركوا فتوى ابن عباس(3)»(4).

8- وقال أيضاً: «وذهب جماعة من فقهاء الفتوى إلى أن من أراد النسك صار بمجرد تقليده الهدي محرماً، حكاه ابن المنذر عن الثوري وأحمد وإسحاق»(5).

9- وقال أيضاً: «وقال أصحاب الرأي: من ساق الهدي وأمّ البيت ثمّ قلّد وجب عليه الاحرام»(6).

____________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

(3) سنن البيهقي 5/233 ـ 234 فراجع ستجد الدفاع باندفاع عن رأي عائشة.

(4) فتح الباري 4/294.

أخرجه الهميثي في مجمع الزوائد 3/227 ط القدسي وقال رواه أحمد والبزار باختصار ورجال أحمد ثقات.

(5) نفس المصدر.

(6) نفس المصدر.


الصفحة 268
10- وقال أيضاً: «وقال الجمهور: لا يصير بتقليد الهدي محرماً ولا يجب عليه شيء»(1).

11- وقال أيضاً: «ونقل الخطأبي عن أصحاب الرأي مثل قول ابن عباس، وهو خطأ عليهم، فالطحاوي أعلم بهم منه، ولعل الخطأبي ظن التسوية بين المسألتين»(2).

12- وقال أمين محمود خطاب(3): «وسبب هذا الحديث ما روت عمرة بنت عبد الرحمن أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة - وذكر الحديث - ثمّ قال أخرجه البخاري والطحاوي»(4).

وقد أخرج الطحاوي هذا الحديث من ثمانية عشر طريقاً، لبيان حجة من قال: لا يجب على من بعث هدياً أن يتجرد عن ثيابه، ولا يترك شيئاً من محظورات الإحرام إلاّ بدخوله فيه بحج أو عمرة. وإلى هذا ذهب أكثر الصحابة والحنفيون ومالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأحمد.

وعن ابن عباس وعمر وعليّ والنخعي وعطاء وابن سيرين: ان من أرسل هدياً إلى الحرم يلزمه إذا قلده الاحرام. ويحرم عليه كلّ ما يحرم على المحرم، لحديث عبد الرحمن بن عطاء بن أبي لبيبة عن عبد الملك بن جابر عن جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما) قال: كنت عند النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جالساً فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه، فنظر القوم إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: إني أمرت ببُدني الّتي بعثت بها أن

____________

(1) نفس المصدر.

(2) نفس المصدر.

(3) في فتح الملك المعبود تكملة المنهل العذب المورود شرح سنن الإمام أبي داود 1/14 ط الأولى بالاعتصام بالخيمية سنة 1375.

(4) انظر فتح الباري 3/354 (من قلد القلائد بيده) و /439، وشرح معاني الآثار.


الصفحة 269
تقلد اليوم وتشعر على ماء كذا وكذا، فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي. وكان قد بعث ببُدنه من المدينة فأقام بالمدينة. أخرجه أحمد والطحاوي والبزار(1) لكن ابن أبي لبيبة ليس ممّن يحتج به فيما ينفرد به، فكيف فيما خالفه فيه من هو أثبت منه.

قال الطحاوي في شرح معاني الآثار: اسناد حديث عائشة صحيح لا تنازع بين أهل العلم فيه، وليس حديث جابر بن عبد الله كذلك، لأن من رواه دون من روى حديث عائشة، لكن قال في مجمع الزوائد بعد أن ذكر الحديث: ورجال أحمد ثقات.(وعن عطاء) بن يسار عن نفر من بني سلمة قالوا: كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جالساً فشق ثوبه. فقال إني واعدت هدياً يشعر اليوم. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وبهذا يرد على من قال: الظاهر أنه لا أصل لهذا الحديث.

ماذا وراء الأكمة من غمّة؟

إنّ اندفاع علماء التبرير في دفاعهم المستميت يوحي بدءاً بأنّهم في مقام إثبات حكم شرعي، وإن دلّ على دعم موقف عائشة في فتياها الّتي ردت بها على فتيا ابن عباس، كما هو الوجه الظاهر للعملة الّتي يتعاملون بها مع الناس، وهنا وجه باهت اللون خافت النور إذا قيس بالوجه الآخر الّذي كانوا يتعاملون به مع الحكام فإنّه ليس كذلك، بل هو ذو لون صارخ أشدّ وهجاً وأكثر رهجاً، وهو جوهر القضية في الحديث المذكور.

وذلك فيما أرى - والله العالم - كان لإستصدار قرار عائشي بتصديق نسب زياد بعد الإستلحاق وانه ابن أبي سفيان، وهذا يتم من خلال جواب الكتاب

____________

(1) انظر 13/33 من الفتح الرباني. و 3/227 من مجمع الزوائد (من بعث هدياً وهو مقيم) و 1/439 من شرح معاني الآثار (هامش المصدر السابق).