الصفحة 79
وقال أيضاً: «عن عامر الشعبي انّ عليّاً (عليه السلام) حين قدم من البصرة نزع جريراً عن هَمَدان فجاء حتى نزل الكوفة، فأراد عليّ أن يبعث إلى معاوية رسولاً فقال له جرير: ابعثني إلى معاوية فإنّه لم يزل لي مستنصحاً ووُدّا، آتيه فأدعوه على أن يسلّم لك هذا الأمر، ويجامعك على الحقّ، على أن يكون أميراً من أمرائك، وعاملاً من عمّالك ما عمل بطاعة الله، واتبع في كتاب الله، وأدع أهل الشام إلى طاعتك وولايتك، وجلّهم قومي وأهل بلادي وقد رجوت ألاّ يعصوني.

فقال له الأشتر: لا تبعثه ودعه، ولا تصدّقه، فوالله إنّي لأظن هواه هواهم، ونيّته نيّتهم.

فقال له عليّ: دعه حتى ننظر ما يرجع به الينا، فبعثه عليّ (عليه السلام)... وهذا أيضاً يجب أن يحسب له مقدار من الزمان ولا أقل من شهر»(1).

وقال أيضاً: «فانطلق جرير حتى أتى الشام ونزل بمعاوية فدخل عليه...»(2).ثمّ ذكر كلام جرير في الإمام وبيعة أهل الإسلام له إلاّ الشام ودفع إليه كتاب الإمام (عليه السلام) ـ وذكر نسخة الكتاب.

ثمّ ذكر خطبة جرير وهي خطبة بليغة: «ثمّ قعد فقال معاوية: أنظِر وننظُر واستطلعُ رأي أهل الشام ثمّ خطب معاوية فيهم ودعاهم إلى أنّه ولي دم عثمان فأجابوه إلى الطلب بدمه...»(3).

وقال أيضاً: «واستحثه جرير بالبيعة فقال يا جرير إنّها ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده، فأبلعني ريقي حتى أنظر، ودعا ثقاته فقال له عتبة بن أبي سفيان ـ

____________

(1) نفس المصدر /32.

(2) نفس المصدر /33.

(3) نفس المصدر /34 ـ 36.


الصفحة 80
وكان نظيره ـ إجتمعنّ على هذا الأمر بعمرو بن العاص وأثمن له بدينه، فإنّه من قد عرفت، وقد اعتزل أمر عثمان في حياته وهو لأمرك أشدّ اعتزالاً إلاّ أن ير فرصة»(1).

وقال أيضاً: «وكتب معاوية إلى عمرو وهو بالسبع من فلسطين... فلمّا قرأ الكتاب على عمرو استشار ابنيه... فاشار عليه عبد الله بما هو خير له في دينه، واشار عليه محمّد بما هو خير له في دنياه - وأخيراً ذكر تردده حتى قطع عليه ذلك غلامه وردان - فسار حتى قدم على معاوية، وعرف حاجته إليه، فكايد كلّ منهما صاحبه حتى تمت الصفقة فاعطى معاوية مصر طعمة لعمرو وكتبا بذلك كتاباً»(2).

وذكر بعد ذلك: «قال ـ معاوية لعمرو ـ ما ترى في عليّ؟ فأشار عليه بأن يرسل إلى شرحبيل بن السمط الكندي وهو عدو لجرير المرسَل إليك، فأرسل إليه ووطّن له ثقاتك فليفشوا في الناس عليّاً قتل عثمان...

فكتب ـ معاوية ـ إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ ابن أبي طالب بأمر فظيع فأقدم.

ودعا معاوية رؤوس قحطان واليمن وكانوا ثقات معاوية وخاصته وبني عم شرحبيل، فأمرهم أن يلقوه ويخبروه أن عليّاً قتل عثمان، واستشار شرحبيل أهل اليمن، فنهاه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معإذ بن جبل وختنه وكان أفقه أهل الشام... وبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً بشعر ينصحه فيه،

____________

(1) نفس المصدر /38.

(2) نفس المصدر /39 - 42.


الصفحة 81
لكنه لم يقبل النصيحة، وأتى معاوية وتلقاه الناس وعظّموه بأمر معاوية، فدخل على معاوية وقد حشي دماغه بأنّ عليّاً قتل عثمان. فقال يا معاوية أبى الناس إلاّ أنّ عليّاً قتل عثمان، ووالله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك. قال معاوية: ما كنت لأخالف عليكم، وما أنا إلاّ رجل من أهل الشام. قال: فردّ هذا الرجل إلى صاحبه إذاً.ثمّ أمر حصين بن نمير أن يحضر له جريراً فأحضره وتجادلا هو وشرحبيل إلى أن كتب جرير رسالة شعرية إلى شرحبيل ينصحه فيها، فتراجع عن رأيه وبلغ معاوية ذلك فلفق له رجالاً يدخلون عليه ويعظمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليّاً فأعادوه إلى رأيه الأوّل. وبلغ ذلك قومه فأرسل إليه ابن أختٍ له من بارق بشعرٍ ينصحه ويعيّره بمتابعة ابن هند، فعزم على قتاله إلاّ أنّه هرب إلى الكوفة، ثمّ أتى معاوية وجعل يحرّضه على الطلب بدم عثمان فقال له جرير يا شرحبيل، مهلاً فإنّ الله حقن الدماء ولمّ الشعث وجمع أمر الأمة... فإياك أن تفسد بين الناس، وأمسك عن هذا القول قبل أن يظهر منك قول لا تستطيع ردّه... ثمّ قام فتكلم فصدّقه الناس، فعندها أيس جرير»(1).

وهذا كلّه يحتاج إلى حساب الزمان الّذي استغرقته تلك المفاوضات والمكاتبات.

وقال أيضاً: «أتى معاوية جريراً في منزله فقال يا جرير انّي قد رأيت رأياً قال: هاته قال اكتب إلى صاحبك يجعل لي الشام ومصر جباية، فإذا حضرته الوفاة لم يجعل لأحد بعده بيعة في عنقي، وأسلّم له هذا الأمر واكتب إليه بالخلافة، فقال: جرير أكتب بما أردت وأكتب معك، فكتب معاوية بذلك إلى عليّ.

____________

(1) نفس المصدر /49.


الصفحة 82
فكتب عليّ إلى جرير: أمّا بعد فإنّما أراد معاوية ألاّ يكون لي في عنقه بيعة، وأن يختار من أمره ما أحب وأراد أن يريّثك حتى يذوق أهل الشام، وان المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليّ أن استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة، فأبيت ذلك عليه، ولم يكن الله ليراني اتخذ المضلين عضدا، فإن بايعك الرجل، وإلاّ فأقبل.

وقال: وفشا كتاب معاوية في العرب فبعث إليه الوليد بن عقبة ـ وهذا كان في المدينة ـ وذكر مقطوعتين من الشعر يحرّضه على الحرب»(1).

وقال أيضاً: «فخرج جرير يتجسس الأخبار فإذا هو بغلام يتغنى على قعود له ـ ثمّ ذكر شعره يسمّي قاتلي عثمان والمحرّضين عليه، وقال في الإمام:


فأمّا عليّ فاستغاث ببيتهفلا آمر فيها ولم يك ناهيا

... إلى آخر أبياته.

فسأله جرير من أنت؟ قال من قريش واصلي من ثقيف، أنا ابن المغيرة بن الأخنس بن شريق قتل أبي مع عثمان يوم الدار، فعجب جرير من قوله وكتب بشعره إلى عليّ. فقال عليّ: والله ما اخطأ الغلام شيئاً»(2).

وقال أيضاً: «أبطأ جرير عند معاوية حتى أتّهمه الناس. وقال عليّ: وقّتُ لرسولي وقتاً لا يقيم بعده إلاّ مخدوعاً أو عاصياً، وأبطأ على عليّ حتى أيس منه»(3).

____________

(1) نفس المصدر /58.

(2) نفس المصدر /60.

(3) نفس المصدر /61، وفي شرح النهج لابن أبي الحديد 1/219 كلام له (عليه السلام) في ذلك.


الصفحة 83
وقال أيضاً: «وكتب عليّ إلى جرير بعد ذلك: أمّا بعد فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الجزم، ثمّ خيّره بين حرب مُجلية، أو سلم مُحظية. فإن اختار الحرب فانبذ له وان اختار السلم فخذ بيعته.

فلمّا انتهى الكتاب إلى جرير أتى معاوية فأقرأه الكتاب فقال له يا معاوية، إنّه لا يطبع على قلب إلاّ بذنب، ولا يُشرح صدر إلاّ بتوبة، ولا أظن قلبك إلاّ مطبوعاً، أراك قد وقفت بين الحقّ والباطل كأنّك تنتظر شيئاً في يدي غيرك.

فقال معاوية: ألقاك بالفيصل أوّل مجلسي إن شاء الله.

فلمّا بايع معاوية أهل الشام وذاقهم قال: يا جرير الحقّ بصاحبك وكتب إليه بالحرب»(1)، ولم يذكر نص الكتاب إلاّ أنّ المبرّد ذكره في الكامل وعنه ابن أبي الحديد في شرح النهج(2).

وقال نصر: «لمّا رجع جرير إلى عليّ كثر قول الناس في التهمة لجرير في أمر معاوية...»(3).

ثمّ ذكر ما جرى بين الأشتر وجرير من كلام وتبادل التهم وحتى الشتم ممّا أغضب جريراً فخرج مغاضباً إلى قرقيسيا ولحق به أناس من قسر من قومه، ولم يشهد صفين من قسر غير تسعة عشر، ولكن أحمس شهدها منهم سبعمائة رجل.

____________

(1) وقعة صفين /62.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/252.

(3) وقعة صفين /66 ـ 67.


الصفحة 84
وقال أيضاً: «وخرج عليّ إلى دار جرير فشعث منها وحرّق مجلسه، وخرج أبو زرعة بن عمر بن جرير فقال: أصلحك الله إن فيها أرضاً لغير جرير، فخرج عليّ منها إلى دار ثوير بن عامر فحرّقها وهدم منها. وكان لحق بجرير»(1).

وفي رواية ابن سعد في طبقاته في ترجمة جرير بسنده عنه قال: «بعث إليَّ عليّ ابن عباس والأشعث بن قيس قال: فأتياني وأنا بقرقيسيا فقالا: انّ أمير المؤمنين (عليه السلام) يقرئك السلام يخبرك أنّه نعم ما آراك الله من مفارقتك معاوية، وإنّي أنزلك منزلة نبيّ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم الذي أنزلكها، فقال لهما جرير: إنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وآله بعثني إلى اليمن أُقاتلهم وأدعوهم إلى الإسلام، فإذا قالوا لا إله إلاّ الله حرمت أموالهم ودماؤهم، ولا أُقاتل رجلاً يقول لا إله إلاّ الله أبداَ فرجعا على ذلك»(2).

فهذا الخبر يضيف أبعاداً زمانية أُخرى مضافاً إلى ما تقدم.

ولنقف هنا وقفة تأمل وحساب لأبعاد الزمان والمكان لجميع ما مرّ بنا منذ كتاب الإمام إلى جرير وهو بهمدان وحتى نهاية مفارقة جرير الكوفة إلى قرقيسيا، فذلك كلّه جرى والإمام بعدُ في الكوفة لم يخرج إلى حرب صفين، فياترى كم يستغرق جميع ما جرى من زمان؟

ولا يفاجأ القارئ إذا ما أتيناه بنص عند ابن اعثم جاء فيه: «فأمر جرير فقُدّمت أثقاله ثمّ استوى على فرسه وسار حتى قدم على عليّ (رضي الله عنه) بعد عشرين ومائة ليلة فأخبره بأخبار معاوية»(3)!

____________

(1) نفس المصدر /68.

(2) طبقات ابن سعد 6/294 ط 1 تح ـ الدكتور عليّ محمّد عمر نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.

(3) كتاب الفتوح لابن أعثم 2/404 ط دار الندوة الجديدة بيروت.


الصفحة 85
فإذا كانت مدة مكث جرير بالشام وحدها كانت أربعة أشهر، وهي تزيد على ما ذكروه من مدة دخول الإمام الكوفة 12 رجب إلى خروجه منها إلى صفين في 5 شوال سنة 36هـ، إذن فالصحيح أن لا نبهر بأسماء المؤرخين، كما أنا لا نبخسهم حقّهم، ولكن الحقّ أحق أن يتّبع، ونذهب إلى أن حرب صفين كانت سنة 37هـ إلى سنة 38هـ، ويؤكد صحة ما ذهبنا إليه قول الشعبي في فترة المكث كانت سبعة عشر شهراً يجري الكتب فيها فيما بينه وبين معاوية وعمرو بن العاص.

ويزيدنا إيماناً بصحة ذلك، أنّ ابن عباس أقام الحج سنة 36هـ(1) فحج الناس بأمر من الإمام، ولو كان الإمام قد خرج في شوال أو ذي القعدة إلى حرب معاوية وكان ابن عباس معه، لا يمكن أن يحج بالناس في تلك السنة، لأنّ الحرب بدأت في ذي الحجة وكان قد ولاّه الإمام على الميسرة، ولم يرد في شيء من التواريخ أنّه ترك الحرب وتوجه إلى الحج.

وأحسب أنّي بصّرت القارئ بعرض المشكلة وحلّها بما يتفق ومنطق العقل وحساب الزمان والمكان. فإنّ الناس يومئذ كانوا يستعملون في مراكبهم الخيل والإبل ـ والبغال على ندرة ـ وتلك وسائطهم لنقل رسائلهم، ولابدّ لرسلهم من قطع المسافات، كما لابدّ من ملاحظة حال الرسول وحال المرسل وحال المرسل إليه، فكلّ ذلك يستدعي منا فرض مدة زمنية على أقل تقدير. ومهما افترضناها من قلة فهي تبلغ أضعاف ممّا ذكره المؤرخون ومنهم المسعودي ـ كما قدمنا ـ فلم يكن لدى الناس يومئذ وسائل الإتصالات كما هي اليوم فلا طائرات ولا فاكس ولا أنترنيت ولا موبايل، ولا هم يحزنون.

____________

(1) تاريخ الطبري 5/244 ط الحسينية، وتاريخ اليعقوبي 2/190 ط الغَر، ومروج الذهب 2/567 ط العامرة البهية سنة 1346 هـ.


الصفحة 86

معاوية والمخاتلة:

قال صاحب الحدائق الوردية: «ولمّا انقضى ـ كذا ـ حرب الجمل بالفتح المبين لأمير المؤمنين، وبلغ إلى معاوية ذلك كتب إلى عليّ (عليه السلام).

بسم الله الرحمن الرحيم، لعليّ بن أبي طالب من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك فإنّي أحمد إليك الله الّذي لا إله إلاّ هو، أمّا بعد: فوالله ما بقي أحد أحبّ أن يكون هذا الأمر إليه منك، ولقد عرفتَ رأي أبي قبل، لقد جاءك يوم توفى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يدعوك إلى البيعة، فأنا على ذلك اليوم أسرع إن أعطيتني النَصَفَ، وتحاملتَ على نفسك لقرابتي إن استعملتني على الشام، وأعطيتني ما أثلج به لا تنزلني عنه، بايعتُ لك ومَن قِبَلي، وكنا اعوانك، فقد رأيت عمر قد ولاّني فلم يجد عليّ، وإن لم تفعل فوالله لأجلبنّ عليك خمسين ألف حصان قارح في غير ذلك من الخيل.

فلمّا قرأ عليّ (عليه السلام) الكتاب استشار فيه عبد الله بن عباس والحسن بن عليّ وعمّار بن ياسر رجلاً رجلاً.

فقال عمّار: والله ما أرى أن تستعمله على الزرقاء، وإنّما فيها خمسة أنفس.

فقال عليّ: أطو ذلك.

ثمّ دعا الحسن وابن عباس، فقالا: قد كنّا أشرنا عليك أن تقرّه على عمله، ولا تحرّكه، حتى إذا بايع الناس أخذت ما أردت وأقررته إن رأيته أهلاً لذلك»(1).

____________

(1) الحدائق الوردية /35 نسخة مخطوطة بمكتبة الإمام كاشف الغطاء. وقد طبع الكتاب أخيراً في صنعاء بتحقيق د. المرتضى بن زيد المحطوري الحسني سنة 1423 والخبر في 1/66 وأشار في الهامش إلى أنّه في المصابيح /308.


الصفحة 87
قال صاحب الحدائق: وروينا عن السيّد أبي العباس بإسناده أنّ عليّاً (عليه السلام) قال: كان المغيرة بن شعبة قد أشار عليّ ان استعمل معاوية على الشام وأنا بالمدينة فأبيت عليه، ولم يكن الله ليراني أن اتخذ المضلين عضدا.

قال: قال الواقدي في حديثه: فلمّا علم معاوية ذلك من عليّ، قال: والله ما كتبت إليه وأنا أريد أن أليَ له شيئاً ولا أبايعه، ولكن أردت أن أخدعه وأقول لأهل الشام انظروا إلى عليّ وإلى ما عرض عليّ فيزيدهم بصيرة ويختلف أهل العراق عليه.

وروى غير واحد: أنّ معاوية أرسل أبا هريرة وأبا الدرداء إلى الإمام يدعوانه ليعيد الأمر شورى بين المسلمين، وقد مرّا في رجوعهما من الإمام بحمص فعاتبهما عبد الرحمن بن غنم بن كريب الأشعري صاحب معإذ بن جبل وكان أفقه أهل الشام، فكان ممّا قال لهما: عجبت منكما كيف جاز عليكما ما جئتما به تدعوان عليّاً إلى أن يجعلها شورى، وقد علمتُما أنّه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجاز والعراق، وأنّ من رضيَه خيرٌ ممّن كرهه، ومن تبعه خير ممّن لم يتابعه، وأيّ مدخلٍ في الشورى لمعاوية، وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة، وهو وأبوه رؤوس الأحزاب(1).

إلى جهاد القاسطين:

لمّا عزم الإمام على المسير بنفسه إلى حرب معاوية، وكان ذلك قصده الأوّل منذ كان في المدينة، لولا أنّ الناكثينَ ـ طلحة والزبير ـ ومن لفّ لفهما من بني أمية واستغوائهم عائشة خرجوا معلنين الخلاف على الإمام، صرفه عن قصده

____________

(1) أنظر المقفّى الكبير للمقريزي 4/47 دار الغرب الإسلامي.


الصفحة 88
الأوّل، ولولاهم لعاجله الحرب، ولكن جرى القدر الماضي على قدر، فلمّا قضى على الزمرة الناكثة واتباعهم، وأتى الكوفة أخذ في إسداء النصائح قبل أن يعلن الحرب، وجرت مكاتبات دامت سبعة عشر شهراً، لم تردع معاوية ولم تخضعه، فصمّم حينئذٍ على الإستعداد والمسير بنفسه، فكتب إلى عماله وأمراء الأجناد أن يوافوه بأجنادهم إلى النخيلة. وكان ابن عباس أحد من كتب إليه الإمام في ذلك.

روى نصر في كتابه بسنده عن عبد الله بن عوف بن الأحمر: «أنّ عليّاً لم يبرح النخيلة حتى قدم عليه ابن عباس بأهل البصرة، وكان كتب عليّ إلى ابن عباس وإلى أهل البصرة:

أمّا بعد فأشخص إليَّ مَن قِبلك من المسلمين والمؤمنين، وذكّرهم بلائي عندهم، وعفوي عنهم، واستبقائي لهم، ورغّبهم في الجهاد، وأعلمهم الّذي لهم في ذلك من الفضل.

فقام فيهم ابن عباس فقرأ عليهم كتاب عليّ، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: (أيّها الناس، استعدّوا للمسير إلى إمامكم، وانفروا في سبيل الله خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم، فإنكم تقاتلون المحلّين والقاسطين، الذين لا يقرءون القرآن، ولا يعرفون حكم الكتاب ولا يدينون دينَ الحقّ، مع أمير المؤمنين وابن عم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصادع بالحقّ والقيّم بالهدى، والحاكم بحكم الكتاب، الّذي لا يرتشي في الحكم ولا يداهن الفجّار، ولا تأخذه في الله لومة لائم).

فقام الأحنف بن قيس، فقال: نعم والله لنجيبنّك، ولنخرجنّ معك على العسر واليسر، والرضا والكره، نحتسب في ذلك الخير، ونأمل من الله العظيم من الأجر.


الصفحة 89
وقام إليه عمرو بن مرجوم العبدي، فقال: وفّق الله أمير المؤمنين، وجمع له أمر المسلمين، ولعن المحلّين القاسطين، الذين لا يقرءون القرآن، نحن والله عليهم حنقون، ولهم في الله مفارقون. فمتى أردتنا صحبتك خيلُنا ورجلُنا.

وأجاب الناس وخفّوا، فاستعمل ابن عباس على البصرة أبا الأسود الدؤلي، وخرج حتى قدم على عليّ ومعه رؤوس الأخماس:

خالد بن المعمّر السدوسي(1) على بكر بن وائل، وعمرو بن مرحوم العبدي(2) على عبد القيس، وصبرة بن شيمان الأزدي(3) على الأزد، والأحنف بن قيس(4) على تميم وضبة والرباب، وشريك بن الأعور الحارثي(5) على أهل العالية.

____________

(1) خالد بن المعمّر السدوسي، من رؤساء بني بكر في عهد عمر، وكان مع الإمام عليّ في الجمل وصفين ومن أمراء جيشه أدرك عصر النبوة وبقي حتى عهد معاوية فولاّه إمرة إرمينية فقصدها فمات في طريقه إليها بنصبين. الأعلام للزركلي 2/340.

(2) عمرو بن مرحوم العبدي كانت إليه رئاسة عبد القيس وله موقف مشرّف ومشكور في فتنة ابن الحضرمي كما سيأتي الحديث عنها في أيام الإمام الحسن (عليه السلام)، وقد عدّه الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).

(3) صبرة بن شيمان الأزدي، رأس الأزد في أيامه وقائدهم في وقعة الجمل، كان مع عائشة على يسارها، وله كلام مع معاوية وقد اجتمعت الوفود عنده فتكلموا فأكثروا فقام صبرة فقال يا أمير المؤمنين، إنا حيّ فعال ولسنا بحيّ مقال، ونحن بأدنى فعالنا عند أحسن فعالهم، فقال: صدقت. الأعلام للزركلي 3/286.

(4) الأحنف بن قيس سيّد بني تميم، أحد عظماء الدهاة الفصحاء الشجعان، يضرب به المثل في الحلم، اعتزل الحرب يوم الجمل ثمّ شهد صفين مع الإمام عليّ (عليه السلام) ولما تولى معاوية الأمر بعد الصلح مع الإمام الحسن (عليه السلام) عاتبه معاوية فأغلظ له في الجواب فسئل معاوية عن صبره عليه فقال: هذا الّذي إذا غضب غضب له مئة ألف لا يدرون فيم غضب. توفي بالكوفة سنة /72 هـ وأخباره كثيرة جمع الجلودي كتاب (أخبار الأحنف) وللزركلي أيضاً نحو ذلك.

(5) شريك بن الأعور الحارثي هو ابن عبد الله الأعور البصري كان من شيعة الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بالبصرة جليل القدر شهد صفين وقاتل مع عمار بن ياسر، وهو الّذي أتى به ابن زياد معه من البصرة إلى الكوفة حين قدمها لضبطها من الثورة على الأمويين وقد دخلها مسلم بن عقيل، فنزل شريك على هاني بن عروة وبها مسلم فحرّضه على اغتيال ابن زياد حين يأتي لعيادته وكان مريضا، ومات بالكوفة سنة 60 ودفن بالثوية، وصلّى عليه ابن زياد، ولما علم ابن زياد انّه كان يحرّض على قتله قال: والله لا أصلي على جنازة عراقي أبداً، ولولا ان قبر زياد فيهم لنبشت شريكاً. تاريخ الطبري 6/ 202 ط الحسينية.


الصفحة 90
فقدموا على عليّ بالنخيلة...»(1).

قال البلاذري: «وقد كان الأحنف وشريك قدما الكوفة مع عليّ، فردّهما إلى البصرة ليستنفرا هؤلاء الذين ساروا معهما إلى الكوفة، ويقال إنهما شيّعاه فردهما قبل أن يبلغا الكوفة ليستنفرا الناس إليه ففعلا، ثمّ أشخصهما ابن عباس معه»(2).

إلى صفين:

قال الخضري في محاضراته: «لم تكن واقعة الجمل على شدة هولها وفظاعة أمرها إلاّ مقدمة لما هو أشد منها وأفظع أمراً وهو الحرب في صفين».

قال أبو حنيفة الدينوري: «فلمّا اجتمع إلى عليّ قواصيه، وانضمت إليه أطرافه، تهيأ للمسير من النخيلة، ودعا زياد بن النضر وشريح بن هانيء فعقد لكل واحد منهما على ستة آلاف فارس. ـ وذكر وصية الإمام لهما ـ ثمّ قال: فلمّا كان اليوم الثالث من مخرجهما قام في أصحابه خطيباً فقال: أيّها الناس نحن سائرون غداً في آثار مقدمتنا، فإيّاكم والتخلّف، فقد خلّفت مالك بن حبيب اليربوعي، وجعلته على الساقة، وأمرته ألاّ يدع أحداً إلاّ ألحقه بنا.

____________

(1) وقعة صفين /130- 131.

(2) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/295ـ296.


الصفحة 91
فلمّا أصبح نادى في الناس بالرحيل، وسار ـ ثمّ ذكر منازله الّتي مرّ بها من رسوم بابل إلى ساباط المدائن وقد هيئت له فيه الأنَزال، ثمّ إلى الأنبار وهكذا قطع المنازل حتى وصل إلى صفين فوجد معاوية قد نزل على شريعتها الوحيدة الّتي لم يصلح غيرها للرواء، لأن ما عداها أخراق عالية وأماكن وعرة، وغياض ملتفّة، فيها نزور طولها نحو من فرسخين، وليس في ذينك الفرسخين طريق إلى الفرات إلاّ طريق واحد مفروش بالحجارة، وسائر ذلك خِلاف وغرب ملتف لا يسلك، وجميع الغيضة نزور ووحل»(1). هكذا وصفها الدينوري.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج: «وكان وصول عليّ (عليه السلام) إلى صفين لثمان بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين»(2).

وذكر نصر بن مزاحم في وقعة صفين القتال على شريعة الماء حتى ملكها العراقيون: وأرادوا منع أهل الشام منه فيموتوا عطشا، لكن الإمام منعهم من ذلك وأبت نفسه الشريفة إلاّ تكرّما، وأباح الماء للواردين منهم أسوة بجنده، فالناس فيه شرع سواء(3).

وقال نصر: «ومكث عليّ يومين لا يرسل إلى معاوية ولا يأتيه من قبل معاوية أحد»(4).

وقال أبو حنيفة في الأخبار الطوال: «ثمّ توادع الناس وكفّ بعضهم عن بعض، وأمر على ألاّ يُمنع أهل الشام من الماء فكان يسقون جميعاً، ويختلط

____________

(1) الأخبار الطوال /166.

(2) شرح النهج 1/292.

(3) وقعة صفين /185 ـ 208.

(4) المصدر السابق /209.


الصفحة 92
بعضهم ببعض، ويدخل بعضهم في معسكر بعض، فلا يعرض أحد من الفريقين لصاحبه إلاّ بخير، ورجوا أن يقع الصلح... فلم يزالوا يتراسلون شهر ربيع ـ الأوّل والثاني ـ وجمادى الأولى»(1).

وقال نصر: «فتراسلوا ثلاثة أشهر ربيع الآخر وجمادين، فيفزعون الفزعة فيما بين ذلك»(2).

وقال أبو حنيفة: «ويفزعون فيما بين ذلك يزحف بعضهم إلى بعض، فيحجز بينهم القراء والصالحون، فيفترقون من غير حرب، حتى فزعوا في هذه الثلاثة أشهر خمساً وثمانين فزعة، كلّ ذلك يحجز بينهم القرّاء. فلمّا انقضت جمادى الأولى بات عليّ (رضي الله عنه) يعبيء أصحابه ويكتّب كتابه، وبعث إلى معاوية يؤذنه بحرب، فعَبى معاوية أيضاً أصحابه وكتّب كتابه، فلمّا أصبحوا تزاحفوا وتواقفوا تحت راياتهم في صفوفهم، ثمّ تحاجزوا فلم تكن حرب، وكانوا يكرهون أن يلتقوا بجميع الفيلقين مخافة الاستئصال غير أنّه يخرج الجماعة من هؤلاء إلى الجماعة من أولئك، فيقتتلون بين العسكرين، فكانوا كذلك حتى أهلّ هلال رجب، فأمسك الفريقان»(3).

وقال نصر: «حتى إذا كان رجب وخشي معاوية أن يبايع القرّاء عليّاً على القتال، أخذ في المكر، وأخذ يحتال للقرّاء لكيما يحجموا عنه، ويكفّوا حتى ينظروا ـ وان معاوية كتب في سهم: من عبد الله الناصح فإنّي أخبركم أنّ معاوية يريد أن يفجّر عليكم الفرات فيغرقكم فخذوا حذركم.

____________

(1) الأخبار الطوال /169.

(2) وقعة صفين /213.

(3) الأخبار الطوال /169.


الصفحة 93
ثمّ رمى معاوية بالسهم في عسكر عليّ (عليه السلام) فوقع في يدي رجل من أهل الكوفة فقرأه ثمّ أقرأه صاحبه، فلمّا قرأه وأقرأه الناس... فلم يزل حتى رفع إلى أمير المؤمنين. فقال: ويحكم إنّ الّذي يعالج معاوية لا يستقيم له ولا يقوى عليه، وإنّما يريد أن يزيلكم عن مكانكم، فالهوا عن ذلك ودَعَوه».

ثمّ ذكر نصر عدم طاعتهم وخلافهم ونجاح معاوية بمكره حتى اضطروا إلى القتال مرة ثانية على الماء، فاسترجعوا الشريعة وأرادوا منع الماء على معاوية وجنده، فمنعهم الإمام وقال: «أيّها الناس انّ الخطب أعظم من منع الماء...»(1).

والآن فلنقرأ:

ماذا عن ابن عباس في صفين؟

لقد مرّ بنا قول المؤرخين: إنّ الإمام لم يبرح النخيلة حتى وافاه ابن عباس. ومرّ بنا قولهم: إنّه أتاه من البصرة ومعه أجناده ورؤوس الأخماس. وفارقناه منذ النخيلة وحتى صفين فلم نقف له على ذكر في تلك المنازل الّتي قطعها مع الإمام، ولمّا كان هو مع الإمام لم يفارقه في حلّه وترحاله، ولم يزل معه من بدء الحرب وحتى نهايتها المحزنة بخدعة التحكيم، ثمّ لم يفارقه حتى عاد معه إلى الكوفة، فلا شك أنّه كانت له في خلال تلك المدة الّتي استدامت شهوراً طويلة مواقف كثيرة، وإذا كنا لا نحصيها عدداً، لأنّا لم نحط بتفاصيلها خبراً، لكن ما ظهر منها أثرى الموضوع دلالة وأصالة، حيث وجدناه رأساً منظوراً في موقفه القيادي، وقائداً عسكرياً في قتاله الميداني، ومناوراً بارعاً صلباً مع المخادعين، وخطيباً بليغاً في تعبئة أجناده.

____________

(1) وقعة صفين /213.


الصفحة 94
وما علينا الآن إلاّ أن نلمّ ببعض النصوص التاريخية لنستعلم منها صفحات جهاده في صفين، لتبدو مواقفه الناصعة النيّرة المشرقة.

أوّلاً: مركزه القيادي

قال نصر وأبو حنيفة الدينوري: «وقد استعمل على الميسرة عبد الله بن عباس... وجعل في الميسرة ربيعة... وجعل على قريش وأسد وكنانة عبد الله بن عباس...»(1)، وهذا الّذي تكاد تتفق عليه المصادر الأولى التاريخية، وفي بعضها نجد: «وعبّأ عليّ بن أبي طالب أصحابه... وجعل على خيل القلب عبد الله بن عباس والعباس بن ربيعة بن الحارث»(2)، ويصح جميع ذلك إذا عرفنا أنّ الحرب استدامت شهوراً وشهورا، فلا مانع من تغيير مكان القيادة تبعاً لما تمليه حالة الحرب وتعبئة العدوّ.

فقد قال نصر: «فمكثوا على ذلك حتى كان ذو الحجة فجعل عليّ يأمر هذا الرجل الشريف فيخرج معه جماعة فيقاتل، ويخرج إليه من أصحاب معاوية رجل معه آخر... فاقتتل الناس ذا الحجة كلّه، فلمّا مضى ذو الحجة تداعى الناس أن يكفّ بعضهم عن بعض إلى ان ينقضي المحرم، لعل الله أن يجري صلحاً واجتماعاً، فكفّ الناس بعضهم عن بعض»(3).

ثمّ ذكر نصرَ وغيره أيضاً ـ تبادل الرسل بالمساعي الحميدة لكن معاوية بعناده لم يرضخ لقبول الحقّ.

____________

(1) وقعة صفين /213، الأخبار الطوال /171.

(2) تاريخ الفتوح لابن اعثم الكوفي 3/32.

(3) وقعة صفين /219 ـ 221.