فبات الفريقان يكتّبون الكتائب، وقد أوقدوا النيران في العسكرين، فلمّا أصبحوا تزاحفوا»(1).
هذا ما ذكره الدينوري، ولم يبعد عن رواية نصر بن مزاحم في وقعة صفين كثيراً. إلاّ أنّ نصراً ذكر في موضع آخر فقال: «فلمّا انسلخ المحرم واستقبل صفر وذلك سنة تسع وثلاثين»(2)، وأحسب وهماً أو تصحيفاً جرى في تحديد السنة.
والصحيح فيما أراه كما بيّناه بين شارحتين عند ذكر رواية الدينوري أنّها سنة ثمان وثلاثين، لأنّه قد مرّ بنا قول ابن أبي الحديد في تاريخ وصول الإمام إلى صفين (لثمانٍ بقين من المحرم من سنة سبع وثلاثين)، ومرّ بنا عن نصر والدينوري ذكر المراسلة طيلة الأشهر ربيع الأوّل والثاني وجمادى الأولى والآخرة، ومرّ بنا ذكر الفزعات الّتي تخللت تلك الشهور، ثمّ ذكر الموادعة في رجب، ثمّ استمرت الحال على نحو ذلك اللون من الحرب إلى نهاية شهر ذي الحجة وهو نهاية سنة سبع وثلاثين فلابدّ أن يكون هذا المحرّم الّذي تمت فيه الموادعة وقد انسلخ هو بداية سنة ثمان وثلاثين، ولمزيد من الإيضاح ارجع إلى حلّ مشكلة في التاريخ ستجد مزيداً من التوضيح.
____________
(1) الأخبار الطوال /171.
(2) وقعة صفين /228.
وما رجعت الميمنة إلى مراكزها وانتظمت صفوفها إلاّ بعد أن اعترضهم الإمام وأرسل إليهم الأشتر فثابوا وتابوا، والميسرة مستمرة في قتالها، وقد ذكر نصر مشاهد قتالية دلت على بطولات نادرة، ومع ذلك فقد ذكر ريبة ناسٍ في أحد رؤوس الأخماس وذلك هو خالد بن المعمر السدوسي، واتهموه بأنّه كاتب معاوية وخافوا خيانته وهذا من ربيعة البصرة الذين جاؤا مع ابن عباس فأتوا الإمام وأخبروه بخشيتهم، واتخذ الإمام الإجراء المناسب والحيطة، ولم يذكر عن قبائل ربيعة أيّ شائبة في صدق القتال وبذل النصيحة، وما ذلك إلاّ بفضل القيادة الحكيمة الّتي كانت تحت إمرة ابن عباس.
ثانياً: منازلته الحربية
لم نجد ابن عباس يباشر الحرب بنفسه إلاّ في أيام معلومات، وهذا يفرض سؤالاً وجيهاً لماذا لم يباشر الحرب؟ مع أنّه بحكم مركزه القيادي يجب أن يكون مع المقاتلين في كلّ حملة فضلاً عن المبارزة الانفرادية.
فقد روى ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار قال: «قال أبو الأغر التميمي: بينا أنا واقف بصفين مرّ بي العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب، مكفّرا بالسلاح، وعيناه تبصّان من تحت المغفر كأنّهما عينا أرقم وبيده صفيحة يمانية يقلّبها وهو على فرس له صعب، فبينا هو يمغته ويلين من عريكته، هتف به هاتف من أهل الشام يعرف بعرار بن أدهم، يا عباس هلمّ إلى البراز، قال العباس: فالنزول إذا فإن أيأس من القفول، فنزل الشامي وهو يقول:
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا | أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزُل |
وثنى العباس رجله وهو يقول:
ويصد عنك مخيلة الرجل العريض موضحة عن العظم |
بحسام سيفك أو لسانك والكلم الأصيل كأرغب الكلم |
ثمّ عصّب فضلات درعه في حجزته، ودفع فرسه إلى غلام له أسود يقال له: أسلم، كأنّي والله انظر إلى فلافل شعره، ثمّ دلف كلّ واحد منهما إلى صاحبه فذكرت قول أبي ذؤيب:
فتنازلا وتواقفت خيلاهما | وكلاهما بطل اللقاء مخدّع |
وكفّت الناس أعنّة خيولهم ينظرون ما يكون من الرجلين، فتكافحا بسيفيهما مليّاً من نهارهما لا يصل واحد منهما إلى صاحبه لكمال لامته، إلى أن لحظ العباس وهناً في درع الشامي فأهوى إليه بيده فهتكه إلى ثندوته، ثمّ عاد لمجادلته وقد أصحر له مفتق الدرع فضربه العباس ضربة انتظم بها جوانح صدره،
قلت: هذا ابن أخيكم، هذا العباس بن ربيعة. فقال: وإنّه لهو، يا عباس ألم أنهك وابن عباس أن تخلاّ بمراكزكما وأن تباشرا حرباً؟ قال: انّ ذلك كان، قال: فما عدا ممّا بدا؟ قال: يا أمير المؤمنين أفادعى إلى البراز فلا أجيب؟ قال: نعم طاعة أمامك أولى من إجابة عدوك، ثمّ تغيّظ واستطار، حتى قلت: الساعة الساعة، ثمّ سكن وتطامن ورفع يديه مبتهلاً فقال: اللّهمّ اشكر للعباس مقامه واغفر ذنبه انّي قد غفرت له فاغفر له»(2).
فهذا الخبر فيه صراحة النهي لابن عباس أن يخلّ بمركزه ـ القيادي ـ وأن يباشر حرباً ـ بنفسه ـ ويبدو من الخبر الآتي أنّه قد علم بهذا النهي معاوية وخاصته، إلاّ أنّهم فسّروه حفاظاً من الإمام على سلامة ابن عباس والنفر الآخرين. وذلك فيما رواه لنا نصر بن مزاحم في كتابه قال: «وحدّثنا عمر بن سعد عن الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي جحيفة قال: ثمّ إنّ معاوية جمع كلّ قرشي بالشام فقال: العجب يا معشر قريش إنّه ليس لأحد منكم في هذه الحرب فعال يطول به لسانه غداً ما عدا عمراً، فما بالكم
____________
(1) التوبة /14- 15.
(2) عيون الأخبار 1/179.
فقال معاوية: بل إن أولئك قد وقوا عليّاً بأنفسهم.
قال الوليد: كلا بل وقاهم عليّ بنفسه.
قال: ويحكم أما منكم من يقوم لقرنه منهم مبارزة أو مفاخرة.
فقال مروان: أمّا البراز فإنّ عليّاً لا يأذن لحسن ولا لحسين ولا لمحمّد بنيه فيه، ولا لابن عباس وأخوته(1) ويصلى بالحرب دونهم، فلأيّهم نبارز؟
وأمّا المفاخرة فبماذا نفاخرهم أبالإسلام أم بالجاهلية؟ فإن كان بالإسلام فالفخر لهم بالنبوة، وإن كان بالجاهلية فالملك فيه لليمن، فإن قلنا قريش قالت العرب فأقروا لبني عبد المطلب...»(2).
فبدلالة هذين الخبرين عرفنا نهي الإمام لابن عباس عن مباشرة الحرب مبارزة، وإنّما كان النهي لئلا تخل المبارزة والمباشرة بالمركز الّذي منه تنطلق الأوامر إلى رؤساء الأخماس بالتوجيه بما تمليه الحرب في الساعة
____________
(1) لعل الصواب في العبارة أن تكون هكذا: ولا لابن عباس ولا بني اخوته. أي بني اخوة الإمام الذين كانوا معه بصفين من أبناء جعفر وعقيل. أمّا اخوة ابن عباس فلم يذكر في أسماء من حضر صفين اسم أحدٍ منهم إلاّ ان ابن عبد البر في الاستيعاب ذكر في آخر ترجمة الحبر ابن عباس فقال: شهد عبد الله بن عباس مع عليّ (رضي الله عنهما) الجمل وصفين والنهروان، وشهد معه الحسن والحسين ومحمّد بنوه وعبيد الله وقثم ابنا العباس ومحمّد وعبد الله وعون بنو جعفر بن أبي طالب والمغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب وعقيل بن أبي طالب وعبد الله بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب... اهـ.
أقول: وهذا لا يخلو من نظر، فان عبيد الله وقثم كانا واليين على اليمن ومكة، وعقيل لم يحضر أي من الحروب الثلاثة، نعم ورد ذكر مسلم بن عقيل في صفين وربّما كان معه بعض اخوته.
(2) وقعة صفين /527 ـ 528.
وأمّا تفسير مروان لذلك الموقف فهو خطأ محض، ولو كان لما ذكره وجه من الصحة لشمل الذكر بقية من حضر الحرب من بني هاشم كأبناء أخيه جعفر الطيار وهم محمّد وعبد الله وعون، وكالمغيرة بن نوفل بن الحارث وعمه عبد الله بن ربيعة أخ العباس بن ربيعة وبقية الهاشميين، فإنّ شفقة الإمام كانت على الجميع سواسية، مع أنّ أبناء الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) كانوا يخوضون الحرب معه ويحوطونه ويتقون النبال دونه، ولا يمنع ذلك من الشفقة عليهم، والتصدي بنفسه للعدو دونهم إذا خشي عليهم منه.
فقد روى نصر بسنده عن زيد بن وهب قال: «مرّ عليّ يومئذ ومعه بنوه نحو الميسرة ومعه ربيعة وحدها، وإني لأرى النبل بين عاتقه ومنكبيه، وما من بنيه أحد إلاّ يقيه بنفسه، فيكره عليّ ذلك، فيتقدم عليه ويحول بينه وبين أهل الشام، ويأخذ بيده إذا فعل ذلك فيلقيه بين يديه أو من ورائه...»(1).
ويبدو من خلال وقائع الحرب الّتي استدامت طويلاً، كانت لابن عباس بعض المنازلات الميدانية، ولابدّ أنّها كانت بإذن من الإمام (عليه السلام)، وقد وجدت له ثلاثة مواقف قتالية مع أقطاب قادة أهل الشام المميّزين: كعمرو بن العاص والوليد بن عقبة وعبيد الله بن عمر، وذي الكلاع الحميري.
____________
(1) وقعة صفين /280.
ثالثاً: موقف خطابي ومنازلة ميدانية مع عمرو بن العاص
روى نصر بسنده عمن سمع عمرو بن العاص قبل الوقعة العظمى بصفين وهو يحرّض أصحابه بصفين: «فقام محنيّاً على قوس، فقال - ثمّ ذكر الخطبة وجاء في آخرها: مع أنّ القوم ـ ويعني أهل العراق ـ قد وطِئوا بلادكم وبغوا عليكم، فجدّوا في قتال عدوكم، واستعينوا بالله ربكم، وحافظوا على حُرماتكم»(1).
وقال نصر: «ثمّ إنّه جلس فقام عبد الله بن العباس خطيباً فقال:
الحمد لله رب العالمين، الّذي دحا تحتنا سبعاً، وسمك فوقنا سبعاً، ثمّ خلق فيما بينهنّ خلقاً وأنزل لنا منهنّ رزقاً، ثمّ جعل كلّ شيء يبلى ويفنى غير وجهه الحي القيوم الّذي يحيا ويبقى.
ثمّ إنّ الله بعث أنبياء ورسلا فجعلهم حججاً على عباده، عُذراً أو نُذراً، لا يطاع إلاّ بعلمه وإذنه، يمنّ بالطاعة على من يشاء من عباده ثمّ يثيب عليها، ويعصى بعلم منه فيعفو ويغفر بحلمه، لا يقدر قدره، ولا يبلغ شيء مكانه، أحصى كلّ شيء عدداً، وأحاط بكل شيء علماً.
ثمّ إني أشهد أن لا اله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إمام الهدى والنبيّ المصطفى، وقد ساقنا قدر الله إلى ما قد ترون، حتى كان فيما اضطرب من حبل هذه الأمة، وانتشر من أمرها، أنّ ابن آكلة الأكباد قد وجد من طغام أهل الشام أعواناً على عليّ بن أبي طالب ابن عم رسول الله وصهره، وأول ذكرٍ صلّى معه، بدري قد شهد مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كلّ مشاهده الّتي فيها الفضل، ومعاوية وأبو سفيان مشركان يعبدان الأصنام.
____________
(1) نفس المصدر /358.
فما معاوية في هذه بأبّر ولا أتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في تلكم، فعليكم بتقوى الله والجد والحزم والصبر، والله إنّكم لعلى الحقّ وإنّ القوم لعلى الباطل، فلا يكوننّ أولى بالجدّ في باطلهم منكم في حقكم، أما والله إنّا لنعلم أنّ الله سيعذّبهم بأيديكم وبأيدي غيركم.
اللّهمّ ربّنا أعنّا ولا تخذلنا، وانصرنا على عدوّنا، ولا تَخلُّ عنا، وافتح بيننا وبين قومنا بالحقّ، وأنت خير الفاتحين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم»(1).
ثمّ جرت منازلة ميدانية واشتد القتال فيها، فقد قال ابن اعثم الكوفي: «خرج عمرو بن العاص في خيل عظيمة، فأخرج إليه عليّ (رضي الله عنه) عبد الله بن عباس في خيل مثلها، فانصرفوا عن قتلى وجرحى»(2).
رابعاً: يوم من أيام صفين مع الوليد بن عقبة
قال نصر في كتابه وقعة صفين: «فلمّا أن كان اليوم الخامس ـ من شهر صفر ـ خرج عبد الله بن العباس، والوليد بن عقبة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، ودنا ابن عباس من الوليد بن عقبة، فأخذ الوليد يسبّ بني عبد المطلب وأخذ يقول: يابن عباس قطعتم أرحامكم، وقتلتم إمامكم، فكيف رأيتم صنع الله بكم، لم تعطوا ما طلبتم، ولم تدركوا ما أمّلتم، والله ـ إن شاء الله ـ مهلككم وناصرنا عليكم.
____________
(1) نفس المصدر /359.
(2) كتاب الفتوح 3/30.
ثمّ قال نصر: «ثمّ انصرفوا عند الظهر وكلّ غير غالب وذلك يوم الأحد»(1).
هذا ما ذكره نصر من عدم الغلبة لأي من الطرفين ـ يخالفه ما رواه المسعودي فقد قال: «وأكثر الوليد من سب بني عبد المطلب بن هاشم، فقاتله ابن عباس قتالاً شديداً وناداه: ابرز إليَّ يا صفوان ـ وكان لقب الوليد ـ وكانت الغلبة لابن عباس، وكان يوماً صعباً»(2).
وقد ورد ذكر هذا اليوم عند الطبري(3)، وفي تاريخ ابن الأثير(4)، والبداية والنهاية لابن كثير(5)، وتاريخ ابن خلدون(6). وغيرها من المصادر، وجميعها متفقة على أنّ المنازلة كانت بين ابن عباس وبين الوليد. إلاّ أنّ البلاذري بعد أن روى ما هو المذكور عند المؤرخين عقب قائلاً: ومن قال: إنّ الوليد اعتزل القتال، قال: كان القتال في اليوم الخامس بين عبد الله بن عباس وملحان(7) بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي وهو من أهل الشام، وفيه يقول الشاعر:
____________
(1) وقعة صفين /249.
(2) مروج الذهب 2/389 تح ـ محمّد محي الدين عبد الحميد.
(3) تاريخ الطبري 5/13 ط دار المعارف.
(4) تاريخ ابن الأثير 3/127 ط بولاق.
(5) البداية والنهاية 7/261 ط السعادة.
(6) تاريخ ابن خلدون 1/1103 ط دار الكتاب اللبناني.
(7) هو ابن عم حاتم الطائي الجواد المشهور. فحاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، وهذا ملحان بن حارثة بن سعد بن الحشرج الطائي وله ذكر في اخبار حاتم في الاغاني 16/95 و 98 ط الساسي وفيها: وكان ـ حاتم ـ لا يسافر إلاّ وهو ـ يعني ملحان بن حارثة ـ معه.
ليبك على ملحان ضيف مدقّع | وأرملة تزجى مع الليل أرملا(1) |
خامساً: مع عبيد الله بن عمر وذي الكلاع الحميري في قتال شديد
قال أبو حنيفة في الأ خبار الطوال: «وخرج يوماً ذو الكلاع في أربعة آلاف فارسي من أهل الشام قد تبايعوا على الموت، فحملوا على ربيعة، وكانوا في ميسرة عليّ، وعليهم عبد الله بن عباس، فتصدعت جموع ربيعة، فناداهم خالد ابن المعمّر ـ وهو أحد رؤساء الأخماس من البصرة ـ: يا معشر ربيعة أسخطتم الله، فثابوا إليه فاشتد القتال حتى كثرت القتلى، ونادى عبيد الله بن عمر: انا الطيب ابن الطيب، فسمعه عمار فناداه: بل أنت الخبيث ابن الطيّب.
فاقتتلوا بين الصفين، وعبيد الله أمامهم يضرب بسيفه، فحمل عليه حُريث ابن جابر الحنفي فطعنه في لبّته فقتله»(2).
وقال أيضاً: «وخرج ذو الكلاع في كتيبة من أهل الشام من عك ولخم، فخرج إليه عبد الله بن عباس في ربيعة فالتقوا، ونادى رجل من مذحج العراق: يا آل مذحج خدّموا(3) فاعترضت مذحج عكاً يضربون سوقهم بالسيوف فيبركون، فنادى ذو الكلاع: يا آل عك بروكاً كبروك الإبل، وحمل رجل من بكر بن وائل يسمّى خندفا على ذي الكلاع فضربه بالسيف على عاتقه، فقدّ الدرع وفرى عاتقه
____________
(1) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/305.
(2) الأخبار الطوال /178.
(3) خدّموا أي اضربوا السُوق، والتخديم ضرب مكان الخلخال من الرجل. وقد وهم محقق كتاب الأخبار الطوال طبع وزارة الثقافة والارشاد القومي ـ الاقليم الجنوبي ـ الإدارة العامة. حيث ذكر النص (خذموا) بالذال المعجمة وعلق في الهامش بقوله: في الاصل خدموا والصواب: خذموا أي أسرعوا في السير. وهذا مبلغ علمه فلا غرابة لكن الأغرب مراجعة الدكتور جمال الدين الشيال للكتاب ولم يلتفت إلى خطأ ذلك.
هذه رواية الدينوري في الأخبار الطوال، لكن نصر بن مزاحم روى مقتل ذي الكلاع قبل مقتل عبيد الله بن عمر كما ذكر له مخاتلة فاشلة ولنذكر روايته باقتضاب. قال: «إنّ زياد بن خصفة أتى عبد القيس ـ وهم من ربيعة البصرة ـ يوم صفين، وقد عُبيّت قبائل حمير مع ذي الكلاع ـ وفيهم عبيد الله بن عمر ـ لبكر بن وائل، فقاتلوا قتالاً شديداً خافوا فيه الهلاك فقال زياد لعبد القيس: لا بكر بعد اليوم، إنّ ذا الكلاع وعبيد الله أبادا ربيعة، فانهضوا لهم وإلاّ هلكوا، فركبت عبد القيس وجاءت كأنها غمامة سوداء، فشدّت إزاء الميسرة فعظم القتال، فقتل ذو الكلاع الحميري قتله رجل من بكر بن وائل اسمه خندف، وتضعضعت أركان حمير، وثبتت بعد ذي الكلاع تحارب مع عبيد الله بن عمر وبعث عبيد الله بن عمر إلى الحسن بن عليّ فقال: إنّ لي اليك حاجة فالقني، فلقيه الحسن فقال له عبيد الله: إنّ أباك قد وتر قريشاً أوّلاً وآخراً، وقد شنئوه فهل لك أن تخلعه ونوليك هذا الأمر؟
قال: كلا والله لا يكون ذلك، ثمّ قال له الحسن: لكأنّي أنظر إليك مقتولاً في يومك أو غدك، أما إنّ الشيطان فقد زيّن لك وخدعك حتى أخرجك مخلّقاً بالخلوق تري نساء أهل الشام موقفك، وسيصرعك الله ويبطحك لوجهك قتيلاً.
قال: فوالله ما كان إلاّ كيومه أو كالغد وكان القتال، فخرج عبيد الله في كتيبة رقطاء ـ وهي الخضراء ـ كانوا أربعة آلاف عليهم ثياب خضر، ونظر
____________
(1) الأخبار الطوال /179.
____________
(1) وقعة صفين /334.
ولقد اختلف الرواة في قاتل عبيد الله بن عمر فقالوا من همدان وقالوا من حضرموت وقالوا من ربيعة وهذا هو الّذي استقر به ابن أبي الحديد في شرح النهج 140/499 مستدلاً بشعر كعب بن جعيل في رثائه حيث ذكر اسم اسماء وهي بنت عطارد إحدى زوجتي عبيد الله والأخرى بحرية بنت هاني الشيبانية، وكان عبيد الله أخرجهما معه إلى الحرب ذلك اليوم لينظرا إلى قتاله فوقفتا راجلتين. ويبدو من رواية المسعودي ان نساءه كانت أكثر من اثنتين.
قال المسعودي في مروج الذهب 2/395: وكان عبيد الله إذا خرج إلى القتال قام إليه نساؤه فشددن عليه سلاحه ما خلا الشيبانية بنت هاني بن قبيصة، فخرج في هذا اليوم ـ يوم مقتله ـ وأقبل على الشيبانية وقال لها: إني قد عبأت اليوم لقومكِ، وأيم الله إني لأرجو أن أربط بكل طنب من أطناب فُسطاطي سيداً منهم. فقالت له: ما أبغض إلاّ أن تقاتلهم، قال: ولم؟ قالت: لأنّه لم يتوجه اليهم صنديد في جاهلية ولا إسلام وفي رأسه صعر إلاّ أبادوه، وأخاف أن يقتلوك، وكأني بك قتيلاً وقد أتيتهم أسالهم أن يهبوا لي جيفتك، فرماها بقوس فشجها، وقال لها ستعلمين بمن آتيك من زعماء قومك، ثمّ توجه فحمل عليه حريث بن جابر الجعفي فطعنه فقتله، وقيل ان الاشتر النخعي هو الّذي قتله، وقيل ان عليّاً ضربه ضربة فقطع ما عليه من الحديد حتى خالط سيفه حُشوة جوفه، وان عليّاً قال حين هرب فطلبه ليقيد منه بالهرمزان: لئن فاتني في هذا اليوم لا يفوتني في غيره. وكلّم نساؤه معاوية في جيفته فأمر أن تأتين ربيعة فتبذلن في جيفته عشرة آلاف، ففعلن ذلك، فاستأمرت ربيعة عليّاً فقال لهم: إنّما جيفته جيفة كلب لا يحل بيعها، ولكن إذا أحببتم فاجعلوا جيفته لبنت هانئ بين قبيصة الشيباني زوجته، فقالوا لنسوة عبيد الله: إن شئتن شددنا، إلى ذنب بغل ثمّ ضربناه حتى يدخل إلى عسكر معاوية فصرخن وقلن: هذا أشدّ علينا، واخبرن معاوية بذلك فقال لهن: ائتوا الشيبانية فسلوها ان تكلّمهم في جيفته، ففعلن وأتت القوم وقالت: انا بنت هانئ بن قبيصة، وهذا زوجي القاطع الظالم وقد حذّرته ما صار إليه فهبوا لي جيفته ففعلوا، وألقت إليهم بمطرف خز فأدرجوه فيه ودفعوه اليها، فمضت به، وكان قد شد في رجله إلى طنب فُسطاط من فساطيطهم، قارن البلاذري في أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/326.
سادساً: مشهد من مشاهد صفين برواية ابن عباس
روى فرات بن إبراهيم بسنده عن ضرار بن الأزور(1): «أنّ رجلاً من الخوارج سأل ابن عباس عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فأعرض عنه ثمّ سأله فقال: كان والله عليّ أمير المؤمنين يشبه القمر الزاهر، والأسد الخادر، والفرات الزاخر، والربيع الباكر، فأشبه من القمر ضوؤه وبهاؤه، ومن الأسد شجاعته ومضاؤه، ومن الفرات جوده وسخاؤه، ومن الربيع خِصبه وحياؤه.
عقمت النساء أن يأتين بمثل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
تالله ما سمعت ولا رأيت إنساناً مثله، لقد رأيته يوم صفين وعليه عمامة بيضاء وكأن عينيه سراجان...»(2) إلى آخر ما سيأتي.
وروى هذا أبو جعفر محمّد بن محمّد بن عليّ الطبري بسنده عن عكرمة عن عبد الله بن عباس (رضي الله عنه) قال: «عقم النساء أن يأتين بمثل أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ما كشفت النساء ذيولهنّ عن مثله، لا والله ما رأيت فارساً محرباً يوزن به، لرأيته يوماً ونحن معه بصفين وعلى رأسه عمامة سوداء، وكأنّ عينيه سراجا سليط تتواقدان من تحتهما، يقف على شرذمة شرذمة يخطبهم حتى انتهى
____________
(1) هذا ليس هو المعدود في الصحابة والّذي قتل مالك بن نويرة فانّه قيل مات في أيام أبي بكر وقيل في أيام عمر راجع الإصابة في ترجمته وإنّما هذا رجل آخر غيره لم أقف على من ذكره في الرجال عندنا. فهو مجهول. ولكن اتفاق جمهرة من المؤرخين على رواية المشهد عن ابن عباس يجعلنا من المطمئنين برواية فرات بن إبراهيم.
(2) في تفسيره /163 ط الحيدرية.
ألا فاستشعروا الخشية، وتجلببوا بالسكينة، وادّرعوا الصبر، وغضّوا الأصوات، وقلقلوا الأسياف في الأغماد قبل السلّة، وانظروا الخزر، واطعنوا الشزر، وكافحوا بالظُبا، وصلوا السيوف بالخطّي والنبال بالرماح، وعاودوا الكر، واستحيوا من الفرّ، فإنه عار في الأعقاب، ونار يوم الحساب، فطيبوا عن أنفسكم نفساً، وامشوا إلى الموت مشياً سجحاً، فإنّكم بعين الله (عزّ وجلّ)، ومع أخ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وعليكم بهذا السرادق الأدلم، والرواق المظلم، فاضربوا ثبجه، فإنّ الشيطان راقد في كسره، نافش حضنيه، مفترش ذراعيه، قد قدّم للوثبة يداً، وأخرّ للنكوص رجلاً، فصمدا صمداً، ينجلي لكم عمود الحقّ وأنتم الأعلون {وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}(1) ها أنا شادّ فشدّوا باِسْمِ اللَّهِ حم لا ينصرون.
ثمّ حمل عليهم أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام حملة وتبعته خويلةٌ لم تبلغ المائة فارس، فأجالهم فيها جولان الرحى المسرحة بثقالها، فارتفعت عجاجة منعتني النظر، ثمّ انجلت فأثبتت النظر فإذا أمير المؤمنين قد أقبل وسيفه ينطف، ووجهه كشقة القمر وهو يقول: قاتلوا أئمّة الكفر إنّهم لا إيمان لهم.
____________
(1) محمّد /35.
أقول: لقد أخرج هذه الخطبة ـ كلاً أو بعضاً ـ كثير من الأعلام بدءاً من فرات ابن إبراهيم (المعاصر للإمام الرضا (عليه السلام) المتوفى سنة 203هـ) فقد رواها بسنده كما مر، ثمّ رواها نصر بن مزاحم المتوفى سنة 212 في كتابه وقعة صفين كما حكاها عنه ابن أبي الحديد(2) وإن خلت النسخة المطبوعة من كتاب صفين عن ذلك، ورواها الجاحظ المتوفى سنة 255هـ(3)، ورواها ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ(4)، والمسعودي المتوفى سنة 346هـ في مروج الذهب(5)، والشريف الرضي المتوفى سنة 406هـ(6)، والقاضي القضاعي المتوفى سنة 454هـ(7)، والبيهقي المتوفى سنة 458هـ(8)، والزمخشري المتوفى سنة 538هـ(9)، وابن عساكر المتوفى سنة 57هـ(10)، والطبري الإمامي من علماء القرن السادس(11)، والمتقي الهندي(12)، وغير هؤلاء من المتأخرين عنهم، فجميع الذين ذكروا الخطبة بتمامها مروية عن ابن عباس (رضي الله عنه) وروايته لها
____________
(1) بشارة المصطفى لشيعة المرتضى /172 ط الحيدرية.
(2) شرح النهج 1/483 ط مصر الأولى.
(3) البيان والتبيين 2/24.
(4) عيون الأخبار 1/110 ط.
(5) مروج الذهب 2/389.
(6) نهج البلاغة المختار /64.
(7) دستور معالم الحكم /124.
(8) المحاسن والمساوي /45.
(9) الفائق مادة (زنن) و (نتر) وغيرهما.
(10) تاريخ دمشق (ترجمة الإمام) 3/145 ـ 150.
(11) بشارة المصطفى /172.
(12) كنز العمال 11/338 ط حيدر آباد الثانية.