فهذه احدى مفردات مواقفه الحربية في صفين مضافاً لما قدّمنا ذكره من شواهد على مركزه القيادي ومنازلته الحربية.
والآن إلى لون آخر من تلك المواقف الّتي تتجلّى من خلالها رهبة العدوّ منه، فجهد محاولاً خداعه. وإليك:
حديث الخديعة:
قبل ذكر الحديث لابدّ من توثيقه لأنّ هشام بن عمّار الدمشقي كان يقول للبلاذري وهو من شيوخه: «هذا الحديث ممّا صنعه ابن دأبكم لأنّ البلاذري رواه عن المدائني عن عيسى بن يزيد»(1) ـ وهو ابن دأب ـ وإذا رجعنا إلى الجاحظ وجدناه يقول: «يزيد بن بكر بن دأب وكان عالماً ناسباً وراوية شاعراً وهو القائل:
الله يعلم في عليّ علمه | وكذاك علم الله في عثمان |
ثمّ قال: وولد يزيد بن يحيى وعيسى، فعيسى هو الّذي يعرف في العامة بابن دأب، وكان من أحسن الناس حديثاً وبياناً، وكان شاعراً راوية، وكان صاحب رسائل وخطب، وكان يجيدهما جداً.
ومن آل دأب حذيفة بن دأب وكان عالماً ناسباً. وفي الدأب علم بالنسب والخبر»(2).
____________
(1) أنساب الأشراف 2/310 تح ـ المحمودي.
(2) كتاب البيان والتبيين 1/323 ـ 324 تح ـ هارون.
ثمّ إنّ الحديث رواه غير ابن دأب فلاحظ سند نصر بن مزاحم فقد رواه عن محمّد بن اسحاق عن عبد الله بن أبي يحيى عن عبد الرحمن بن حاطب وهذا صحأبي مولود على عهده (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وتوفى سنة 68هـ وقيل قتل يوم الحرة كما في الإصابة.
ولاحظ سند الجاحظ فقد رواه(1) عن محمّد بن سعيد عن إبراهيم بن حويطب إلاّ أنّه ذكره مقالة قالها عمرو بن العاص لابن عباس، وليس ذلك بضائر.
وأمّا ابن أعثم فقد ذكر ما جرى من الكتب... لما عضّهم سلاح أهل العراق وبدأها بلفظ (قال): وإذا رجعنا نلتمس القائل نجد الرجل قد ذكر في ابتداء خبر وقعة صفين عدة أسانيد ليس بين أسماء رجالها عيسى بن دأب، وقال بعد ذكرهم وغير هؤلاء... وقد جمعت ما سمعت من رواياتهم على اختلاف لغاتهم فألّفته حديثاً واحداً على نسق واحد... فعرفنا أنّه هو القائل.
أ- بين عمرو بن العاص وابن عباس:
والآن إلى رواية الحديث بلفظ نصر واضافة ما عند البلاذري بين قوسين وكذا ما عند ابن اعثم من زيادة وقال: «وإنّ معاوية لمّا يئس من جهة الأشعث قال لعمرو بن العاص:
____________
(1) نفس المصدر 2/298 تح ـ هارون.
فقال له عمرو: إنّ ابن عباس (أريب) لا يُخدع، ولو طمعت فيه لطمعت في عليّ.
فقال معاوية: صدقت إنّه لأريب ولكن على ذلك فاكتب إليه (رقعة لطيفة وتنظر ما عنده فتعمل على حسب ذلك).
(قال) فكتب إليه عمرو: (من عمرو بن العاص إلى عبد الله بن العباس): أمّا بعد، فإن الّذي نحن وأنتم فيه ليس بأول أمر قاده البلاء، وساقه سفه العافية، وأنت رأس هذا الأمر بعد عليّ (ابن عمك)، فانظر فيما بقي ودع ما مضى، فوالله ما أبقت هذه الحرب لنا ولا لكم حياةً ولا صبراً، واعلم انّ الشام لا تملك إلاّ بهلاك العراق، وإنّ العراق لا تملك إلاّ بهلاك الشام، وما خيرنا بعد هلاك أعدادنا منكم، وما خيركم بعد هلاك أعدادكم منّا، ولسنا نقول ليت الحرب عادت، ولكنا نقول ليتها لم تكن، وإنّ فينا من يكره القتال، كما أنّ فيكم من يكرهه، وإنّما هو أمير مطاع (أو مأمور مطيع)، أو مؤتمن مشاور وهو أنت، وأمّا الأشتر الغليظ الطبع القاسي القلب فليس بأهل أن يُدعى في الشورى، ولا في خواص أهل النجوى (وقد طال هذا بيننا حتى لقد ظننا انّ فيه الفناء وفي ذلك أقول) وكتب في أسفل الكتاب:
طال البلاء وما يُرجى له آسى | بعد الإله سوى رفق ابن عباس(1) |
____________
(1) أسا الجرح أسواً وأساً: داواه، وأسا بينهم أصلح، والآسي: الطبيب.
قولاً له قول مَن يرضى بحظوته | لا تنس حظّك إن الخاسر الناسي(1) |
يا بن الّذي زمزم سقيا الحجيج له | أعظم بذلك من فخرٍ على الناس |
كلٌ لصاحبه قرنٌ يساوره | أسد العرين أسودٌ بين أخياس(2) |
لو قيس بينهم في الحرب لاعتدلوا | العجز بالعجز ثم الرأس بالرأس |
فانظر فدىً لك نفسي قبل قاصمة | للظهر ليس لها راق ولا آسي |
إنّ العراق وأهل الشام لن يجدوا | طعم الحياة مع المستغلق القاسي(3) |
بسرٌ وأصحاب بُسرٍ والذين هُم | داء العراق رجال أهل وسواس |
قوم عراة من الخيرات كلهمُ | فما يساوي به خلق من الناس(4) |
قالوا يرى الناس في ترك العراق لكم | واللّه يعلم ما بالسلم من باس |
إنّّي أرى الخير في سلم الشآم لكم | واللّه يعلم ما بالشام من ناس |
أنت الشجاء شجاها في حلوقهم | مثل اللجام شجاه موضع الفاس(5) |
(فاصدع بأمرك أمر القوم إنّهم) | خشاش طير رأت صقراً بحسحاس(6) |
____________
(1) الحُظُوة، بالضم والكسر، والحِظة كِعدة المكانة والحظ من الرزق، وفي نسخة: قول من يرجو مودته، وفي أنساب الأشراف والفتوح: قول مسرور بحظوته.
(2) في انساب الأشراف (قرنٌ يعادله) وفي المصدر: يساوره أي يواثبه، وهو أصح أيضاً ممّا يوجد في بعض المصادر: (يشاوره). والأخياس: جمع خيس - بالكسر - وهو الشجر الكثير الملتفّ. وفي أنساب الأشراف: (أسُدٌ تلاقي أسوداً بين أخياس).
(3) استغلقني في بيعته لم يجعل لي خياراً في رده واستغلقت عليّ بيعته صار كذلك (لقاموس) وفي أنساب الأشراف:
أهل العراق وأهل الشام لن يجدوا | طعم الحياة لحرب ذات أنفاس |
(4) في طبعة صفين بمصر /469: فما يُساوي به أصحابه كاسي.
(5) اللجام ككتاب للدابة ويكون في حلق الدابة لذلك فهو الشجا، وكلّ ما يعترض الحلق من عظم ونحوه فهو شجاً.
(6) كذا في أنساب الأشراف 2/308 (تلرجمة الإمام علي)، وخشاش الطير كالعصافير ونحوها، والحساس: السيف المبير.
فيها التقى وأمور ليس يجهلها | إلاّ الجهول وما النوكى كأكياس(1) |
قال: فلمّا فرغ من شعره عرضه على معاوية، فقال معاوية: لا أرى كتابك على رقة شعرك.
فلمّا قرأ ابن عباس الكتاب (والشعر) أتى به عليّاً فأقرأه شعره فضحك وقال: قاتل الله ابن العاص (ابن النابغة) ما أغراه بك يا بن عباس، أجبه وليردّ عليه شعره الفضل بن العبّاس فإنّه شاعر.
فكتب ابن عباس إلى عمرو: أمّا بعد فإني لا أعلم رجلاً من العرب أقلَّ حياء منك، إنّه مال بك معاوية إلى الهوى، وبعته دينك بالثمن اليسير، ثمّ خبطت بالناس في عشوة (عشواء طخياء) (مظلمة) طمعاً في الملك فلمّا لم تر شيئاً أعظمت الدنيا إعظام أهل الذنوب (الدين) وأظهرت فيها (زهادة) نزاهة أهل الورع، فإن كنت (أردت) (تريد أن) ترضي الله (عزّ وجلّ) بذلك فدع مصر وارجع إلى بيتك (أهل بيت نبيّك محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم»، (فإنّ) هذه الحرب ليس معاوية فيها كعليّ، ابتدأها عليّ بالحقّ وانتهى فيها إلى العذر، وبدأها معاوية بالبغي وانتهى فيها إلى السَرَف، وليس أهل العراق فيها كأهل الشام، بايع أهل العراق عليّاً وهو خير منهم، وبايع أهل الشام معاوية وهم خير منه، ولست أنا وأنت فيها بسواء، أردتُ الله وأردتَ أنت مصر وقد عرفتُ الشيء الّذي باعدك مني، ولا أرى الشيء الّذي قرّبك من معاوية، فإن ترد شراً لا نسبقك إليه، وإن ترد خيراً لا تسبقنا إليه والسلام.
____________
(1) النوكى: الحمقى، والكيّس خلاف الحُمقى.
فقال الفضل:
يا عمرو حسبك من خدع ووسواس | فاذهب فليس لداء الجهل من آسي(2) |
إلاّ تواتر طعن في نحوركم | يشجي النفوس ويشفي نخوة الرأس |
(بالسمهريّ وضرب في شواربكم | يردي الكماة ويذري قبة الرأس) |
هذا الدواء الّذي يشفي جماعتكم | حتى تطيعوا عليّاً وابن عباس |
أمّا عليّ فإنّ اللّه فضّله | بفضل ذي شرف عالٍ على الناس |
إن تعقلوا الحرب نعقلها مخيّسة | أو تبعثوها فإنا غير أنكاس(3) |
قد كان منّا ومنكم في عجاجتها | مالا يردّ وكلٌّ عرضة البأس(4) |
____________
(1) في قول ابن عباس يا ابن أم ـ على تقدير صحة النسخة ـ نحو تجوّز له ما يبرّره في الاستعمال والمخاطبات بين الناس لشدّ العزيمة وطلب المعونة. والا فمن المعلوم الثابت ان أخاه الفضل بن العباس بن عبد المطلب قد مات في طاعون عمواس سنة 17 ـ أو 18 ـ بالشام. وانما المخاطب في المقام هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، وهو ابن اخت عبد الله بن عباس، فان أمه آمنة بنت العباس، ويقال لها: أمينة ـ قال البلاذري: كانت عند العباس بن عتبة بن أبي لهب فولدت له الفضل الشاعر. ولما كان الاشتراك في الاسم واسم الأب بين الشاعر اللهبي وبين خاله، فظن من لا خبرة له أن الشاعر هو الفضل بن عباس بن عبد المطلب، غافلاً عن تقدم وفاته ومن تفطن إلى ذلك فقد احتمل تصحيف الندبة (يا بن ام) عن (يا بن عم) باعتبار الشاعر من ذرية أبي لهب وهو من أعمام عبد الله بن عباس، لكن الصواب في نظري (يا بن اختي) لأنّه هو ابن اخته كما تقدم.
(2) في الفتوح (فاذهب فما لك في ترك الهدى آسي).
(3) المخَيّسة من الإبل: ـ بالفتح ـ الّتي لم تسرح ولكنها حُبست للنحر أو للقسم فشبه الحرب بالابل في اعتقالها، وأنكاس جمع نِكس وهو المقصّر عن غاية الكرم.
(4) في الفتوح (من لا يفرّ وليس الليث كالجاسي كالخاسي).
قتلى العراق بقتلى الشام ذاهبة | هذا بهذا وما بالحق من باس |
لا با رك الله في مصر لقد جلبت | شراً وحظك منها حسوة الكأس |
يا عمرو إنك عارٍ من مغارمها | والراقصات لأثواب الخنا كاسي |
ان عادت الحرب عدنا فالتمس هرباً | فيالأرض أوسلماًفي الأفق ياقاسي)(1) |
ثمّ عرض الشعر والكتاب على عليّ فقال: (أحسنت) ولا أراه يجيبك بشيء بعدها إن كان يعقل، ولعله يعود فتعود عليه.
فلمّا انتهى الكتاب إلى عمرو أتى به معاوية فقال: أنت دعوتني إلى هذا، ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.
فقال: إنّ قلب ابن عباس وقلب عليّ قلب واحد، كلاهما ولد عبد المطلب، وإن كان قد خشن فلقد لان، وإن كان قد تعظّم أو عظّم صاحبه فلقد قارب وجنح إلى السلم».
قال ابن اعثم(2): «فلمّا وصل الكتاب والشعر إلى عمرو فأتى به معاوية فأقرأه إياه، ثمّ قال: ما كان أغناني وإياك عن بني عبد المطلب.
فقال معاوية: صدقت أبا عبد الله، ولكنك قد علمت ما مرّ علينا بالأمس من القتل والهلاك، وأظن عليّاً سيباكرنا الحرب غداً ويعمل على المناجزة، وقد رأيت أن أشغله أنا غداً عن الحرب بكتاب أكتبه إلى ابن عباس، فإن هو أجابني إلى ما أريد فذلك، وإلا كتبت إلى عليّ وتحمّلت عليه بجميع من في عسكره فإن أجاب، وإلا صادمته وجعلتها واحدة لي أم عليّ، فهذا رأيي وإنّما أريد بذلك
____________
(1) الأبيات المقوسة من الفتوح لابن أعثم 3/ 253 - 254.
(2) في الفتوح 3/254 ـ 255.
فقال عمرو: أمّا أنا فأقول إنّ رجاءك لا يقوم رجاءه، ولست بمثله، وهو رجل يقاتلك على أمر وأنت تقاتله على غيره، وهو يريد الفناء وأنت تريد البقاء، وليس يخاف أهل الشام من عليّ إن ظفر بهم ما يخاف أهل العراق إن ظفرت بهم، وأظنك تريد مخادعة عليّ، واين أنت من خديعته.
فقال معاوية: فكيف ذلك؟ ألسنا ببني عبد مناف؟
فضحك عمرو ثمّ قال: بلى لعمري أنت وهو من بني عبد مناف كما تقول ولكن لهم النبوة من دونك، فإن شئت فاكتب».
ب- بين معاوية وابن عباس:
قال نصر: «وإنّ معاوية كان يكاتب ابن عباس، وكان يجيبه بقول ليّن، وذلك قبل أن يعظم الحرب»(1).
أقول: ولم أقف على شيء من تلك المكاتبات سوى ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق ونقله المتقي الهندي قال: «عن عبد الملك بن حميد قال: كنّا مع عبد الملك بن صالح بدمشق فأصاب كتاباً في ديوان دمشق:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عباس إلى معاوية بن أبي سفيان، سلام عليك، فإنّي أحمد الله إليك الّذي لا إله إلاّ هو، عصمنا الله وإياك بالتقوى، أمّا بعد فقد جاءني كتابك فلم اسمع منه إلاّ خيراً، وذكرت شأن المودة بيننا،
____________
(1) وقعة صفين /471.
أمّا بعد فإنّك من ذوي النهى من قريش وأهل الحلم والخلق الجميل منها، فليصدر رأيك بما فيه النظر لنفسك والتقية (البقية ظ) على دينك، والشفقة على الإسلام وأهله، فإنّه خير لك وأوفر لحظك في دنياك وآخرتك، وقد سمعتك تذكر شأن عثمان بن عفان فاعلم إنّ انبعاثك في الطلب بدمه فرقة وسفك للدماء، وانتهاك للمحارم، وهذا لعمر الله ضرر على الإسلام وأهله، وإنّ الله سيكفيك أمر سافكي دم عثمان، فتأنّ في أمرك، واتق الله ربّك، فقد يقال لك: إنك تريد الإمارة، وتقول: إن معك وصية من النبيّ صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بذلك، فقول نبيّ الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم الحقّ فتأن في أمرك، ولقد سمعت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم يقول للعباس أنّ الله يستعمل من ولدك اثني عشر رجلاً منهم السفاح والمنصور والمهدي والأمين والمؤتمن وأمير العصب، أفتراني استعجل الوقت أو أنتظر قول رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم؟ وقوله الحقّ، وما يرد الله من أمر يكن ولو كره العالم ذلك، وأيم الله لو أشاء لوجدت متقدماً وأعواناً وأنصاراً ولكني أكره لنفسي ما أنهاك عنه فراقب الله ربّك، واخلف محمداً في أمته خلافة صالحة، فأمّا شأن ابن عمك عليّ بن أبي طالب فقد استقامت له عشيرته وله سابقته وحقه، وبحوله على الحقّ أعوان ونصحاء لك وله ولجماعة المسلمين.
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
فهذا الكتاب نموذج من تلك الأجوبة الليّنة والّتي لم تجد الأرض الصالحة لتثمر نفعاً وقد استمر معاوية في خداعه وهو الآخر لم يجد الأذن الصاغية لاستماعه، حتى إذا عظم الخطب، واشتعلت نار الحرب، تغيّرت اللهجة، وتقارعت الحجة بالحجة وصار إلى المخادعة والمخاتلة بطريقة ايقاع الفرقة بين الهاشميين، واغراء بعضهم على بعض، وليس ذلك ببدع منه فقد كان ـ على حدّ قول الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ: «يودّ ما ترك من بني هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه»(2).
وهل في الهاشميين بعد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) مثل ابن عباس في فهمه وعلمه، وعقله وفضله، فليجهد معاوية نفسه فيما يفرّق به بين المرء وإمامه، وذلك بخديعة ابن عباس وإنّه الرأس بعد الإمام.
وهذه الفكرة لم تبارح معاوية طيلة حكمه، فسيأتي من الشواهد عليها بعد موت الإمام الحسن (عليه السلام) وقوله لابن عباس: «أصبحت سيّد أهلك»، ولكن ابن عباس الذكي الألمعي لا ينخدع بزبرج الألفاظ فرد عليه قائلاً: «أمّا ما بقي أبو عبد الله الحسين بن عليّ فلا...».
والآن إلى حديثه في صفين برواية نصر بن مزاحم:
قال نصر بن مزاحم: «فلمّا قتل أهل الشام قال معاوية: إنّ ابن عباس رجل من قريش، وأنا كاتب إليه في عداوة بني هاشم لنا، وأخوّفه عواقب هذه الحرب لعله يكف عنّا. فكتب إليه:
____________
(1) كنز العمال 11/333 ـ 335 ط حيدر آباد الثانية برقم 1326.
(2) الفائق للزمخشري (نيط).
قال نصر في كلام كثير كتب إليه: «فلمّا انتهى الكتاب إلى ابن عباس (تبسم ضاحكاً) أسخطه ثمّ قال: حتى متى يخطب ابن هند إليّ عقلي؟ وحتى متى اجمجم على ما في نفسي؟ فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فقد أتاني كتابك وقرأته (وفهمت ما سطرت فيه)، فأمّا ما ذكرت من سُرعتنا اليك بالمساءة في أنصار ابن عفان،
____________
(1) وقعة صفين /471.
وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه وضيّقا خناقه، ثمّ خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك، فقاتلناهما على النكث، وقاتلناك على البغي، وأمّا قولك: إنّه لم يبق من قريش غير ستة، فما أكثر رجالها وأحسن بقيتها، وقد قاتلك من خيارها مَن قاتلك، ولم يخذلنا إلاّ من خذلك.
وأمّا إغراؤك إيانا بعديّ وتيم، فأبو بكر وعمر خير من عثمان، كما أنّ عثمان خير منك (وأمّا ذكرك الحرب) فقد بقي لك منا يوم ينسيك ما(كان) قبله، وتخاف ما (يكون) بعده.
وأمّا قولك: إنّه لو بايع الناس لي لاستقاموا لي (لأسرعت إلى طاعتي)، فقد بايع الناس عليّاً (وهو أخو رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وابن عمه ووصيه ووزيره) وهو خير مني فلم تستقيموا له، وإنّما الخلافة لمن كانت له في المشورة، (وأمّا أنت فليس لك فيها حق) وما أنت يا معاوية والخلافة، وأنت طليق وابن طليق (رأس الأحزاب وابن آكلة الأكباد)، والخلافة للمهاجرين الأولين، وليس الطلقاء منها في شيء»(1).
قال نصر في روايته: فلمّا انتهى الكتاب إلى معاوية قال: هذا عملي بنفسي، لا والله لا أكتب إليه كتاباً سنة كاملة. وقال معاوية في ذلك:
دعوت ابن عباس إلى حدّ خطة | وكان امرَأً أهدي إليه رسائلي |
____________
(1) نفس المصدر /272.