الصفحة 137

آثار خدعة التحكيم السيئة:

1- قال الذهبي: «روى أبو عبيد القاسم بن سلام عمّن حدثه عن أبي سنان العجمي قال قال ابن عباس لعليّ: ابعثني إلى معاوية فوالله لأفتلنّ له حبلاً لا ينقطع وسطه، قال: لست من مكرك ومكره في شيء، لا أعطيه إلاّ السيف، حتى يغلب الحقُ الباطلَ.

فقال ابن عباس: أو غير هذا؟ قال: كيف؟ قال: لأنّه يطاع ولا يُعصى، وأنت عن قليل تعصى ولا تطاع.

قال: فلمّا جعل أهل العراق يختلفون على عليّ (رضي الله عنه) قال: لله درّ ابن عباس إنّه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق»(1).

فهذا الخبر وإن اشتمل على جهالة في السند فلا يجوز الإعتماد عليه فيما انفرد، لكن مرّ بنا ما يشبهه في أوّل خلافة الإمام وأحسب أنّ هذا هو ذاك حين قال لابن عباس: (دعني من هنيّاتك وهنيّّّات معاوية في شيء)، كما ورد في حديث عند البلاذري(2) قول الإمام في ابن عباس: (لله در ابن عباس إن كان لينظر إلى الغيب من ستر رقيق)، والسند عنده ينتهي إلى محمّد بن السائب والشرقي بن القطامي، قال: سمعنا الناس يتحدثون.

إذن فالخبر قد شاع وذاع حتى صار يتحدث الناس به ومهما يكن مدى صحته، فالذي لا شك فيه أنّ ابن عباس كان مستشاراً أميناً عند الإمام، وكان هو أيضاً مشيراً صادقا، فلا غضاضة لو أختلفا في الرأي كلّ حسب نظره وتكليفه،

____________

(1) تاريخ الإسلام 2/167ط مكتبة القدسي.

(2) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/347 تح ـ المحمودي.


الصفحة 138
كما لا غضاضة لو قرّظ الإمام ابن عمه عندما تتكشّف الحقيقة للناس كما رآها ابن عباس، وإن كان هو تلميذه ومن بحره ينزف وهو القائل ما علمي وعلم أصحاب محمّد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في علم عليّ إلاّ كقطرة في سبعة أبحر. وقد دلّت الأحداث الآتية على صحة مضمون الخبر.

قال الدينوري: «وقال الأشعث ومَن كان معه من قرّاء أهل العراق: (قد رضينا نحن بأبي موسى) فقال لهم عليّ: (لست أثق برأي أبي موسى ولا بحزمه، ولكن أجعل ذلك لعبد الله بن عباس).

قالوا: والله ما نفرّق بينك وبين ابن عباس، وكأنك تريد أن تكون الحاكم، بل اجعله رجلاً هو منك ومن معاوية سواء، ليس إلى أحدٍ منكما بأدنى منه إلى الآخر.

قال عليّ (رضي الله عنه): (فلم تَرضَون لأهل الشام بابن العاص وليس كذلك؟).

قالوا: أولئك أعلم، إنّما علينا أنفسنا...»(1).

وفي حديث نصر وقد ذكر رجوع الأشتر عن القتال وكلامه مع القرّاء والأشعث ـ إلى أن قال: «فسبّهم وسبّوه وضربوا بسياطهم وجه دابته وضرب بسوطه وجوه دوابّهم، فصاح بهم عليّ فكفّوا.

فتصايحوا: إنّ عليّاً أمير المؤمنين قد قبل الحكومة ورضي بحكم القرآن ولم يسعه إلاّ ذلك... فأقبل الناس يقولون قد رضي أمير المؤمنين، وهو ساكت لا يبضّ بكلمة ـ (أي لا يتكلم) ـ مطرق إلى الأرض»(2).

____________

(1) الأخبار الطوال /192 ط تراثنا.

(2) وقعة صفين /563.


الصفحة 139
قال السيّد أمير عليّ الهندي: «ووقع الخيار لسوء الطالع على رجل كبير السن ضعيف الرأي اسمه أبو موسى الأشعري»(1).

نعم والله، هو من سوء الطالع عند العراقيين الذين اختاروه حَكَماً وهو من المنافقين الذين اتخذوا القرآن عضين.

2- قال ابن اعثم الكوفي في الفتوح في ذكر الحكمين: «ثمّ اجتمع قرّّاء أهل العراق وقرّاء أهل الشام بين العسكرين ومعهم المصحف فنظروا فيه وتدارسوه واجتمعوا على ما فيه أن يحيوا ما أحيى القرآن، وأن يميتوا ما أمات القرآن قال: فرضي الفريقان جميعاً بالحكمين، وجعلوا المدة فيما بين ذلك إلى سنة كاملة.

فقال أهل الشام: قد رضينا بعمرو بن العاص.

وقال الأشعث بن قيس والذين صاروا خوارج بعد ذلك، فإننا قد رضينا بأبي موسى الأشعري، فإنّه وافد رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إلى اليمن، وصاحب مقاسم أبي بكر، وعامل عمر بن الخطاب.

فقال عليّ (رضي الله عنه): ولكني لا أرضى أبا موسى ولا أوليه هذا الأمر.

فقال الأشعث بن قيس وزيد بن حصن ومسعر بن فدكي وعبد الله بن الكوّاء: فإنّنا لا نرضى إلاّ به، لأنّه قد كان حذّرنا ما وقعنا فيه.

فقال عليّ (رضي الله عنه): فإنّه ليس لي برضاً، وقد كان فارقني وخذّل الناس عني، ثمّ هرب حتى آمنته بعد ستة أشهر، ولكن هذا عبد الله بن عباس قد جعلته حكماً لي.

____________

(1) مختصر تاريخ العرب والتمدن الإسلامي /45.


الصفحة 140
فقال القوم: والله لا نبالي أنت كنت أو ابن عباس، ألا إنّنا لا نريد رجلاً هو منك وأنت منه.

فقال عليّ (رضي الله عنه): فأنا أجعل الأشتر حَكَماً.

فقال الأشعث: وهل سعّر الأرض علينا إلاّ الأشتر؟ وهل نحن إلاّ في حكم الأشتر؟

قال عليّ: وما حكمه؟

فقال الأشعث: حكمه أن يضرب الناس بعضهم بعضاً بالسيوف حتى يكون ما أردتَ وما أراد.

فقال له الأشتر: أنت إنّما تقول هذا القول لأنّ أمير المؤمنين عزلك عن الرئاسة ولم يرك أهلاً لها.

فقال الأشعث: والله ما فرحت بتلك الرئاسة، ولا حزنت لذلك العزل.

فقال عليّ (رضي الله عنه): ويحكم إنّ معاوية لم يكن ليختار لهذا الأمر أحداً هو أوثق برأيه ونظره إلاّ عمرو بن العاص وانّه لا يصلح للقرشي إلاّ مثله، وهذا عبد الله بن عباس فارموه به، فان عمراً لا يعقد عقدة إلاّ حلّها، ولا يبرم أمراًً إلاّ نقضه، ولا ينقض أمراً إلاّ أبرمه.

فقال الأشعث ومن معه: لا والله لا يحكم فينا مضريّان أبداً حتى تقوم الساعة، ولكن يكون رجل من مضر ورجل من اليمن.

فقال عليّ (رضي الله عنه): إنّي أخاف أن يخدع يمانيكم، فإنّ عمرو بن العاص ليس من الله في شيء.


الصفحة 141
فقال الأشعث: والله لأن يحكما ببعض ما نكره وأحدهما من اليمن أحبّ الينا من أن يكون ما نحب وهما مضريان.

فقال عليّ (رضي الله عنه): وقد أبيتم إلاّ أبا موسى؟

قالوا: نعم.

قال: فاصنعوا ما أردتم، اللّهمّ إنّي أبرأ اليك من صنيعهم»(1).

وفي مناقب ابن شهر اشوب: «قال الأعمش: حدّثني من رأى عليّاً (عليه السلام) يوم صفين يصفق بيديه ويقول: يا عجباً أعصى ويطاع معاوية؟ وقال: قد أبيتم إلاّ أبا موسى قالوا: نعم قال: فاصنعوا ما بدا لكم، اللّهمّ إنّي أبرأ إليك من صنيعهم»(2).

3- روى البلاذري عن المدائني بسنده عن علقمة بن قيس قال: «قلت لعليّ: أتقاضي معاوية على أن يحكم حكمان؟

فقال: ما أصنع أنا مضطهد»(3).

4- روى البلاذري عن المدائني بسنده عن داود بن الحصين قال: «قيل لابن عباس: ما دعا عليّاً إلى الحكمين؟

فقال: انّ أهل العراق ملّوا السيف، وجزعوا منه جزعاً لم يجزعه أهل الشام، واختلفوا بينهم، فخاف عليّ لمّا رأى من وهنهم أن ينكشفوا منه ويتفرّقوا عنه، فمال إلى القضية مع انّه أخذ بكتاب الله حين أمر بالحكمين في الصيد والشقاق، ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً»(4).

____________

(1) الفتوح 4/1 ـ 4.

(2) مناقب ابن شهر آشوب 2/365 ط الحيدرية.

(3) أنساب الأشراف (ترجمة الإمام) 2/337.

(4) نفس المصدر 2/337.


الصفحة 142
وإلى هنا فقد لاحظنا اتفاق المؤرخين الأوائل لحديث مأساة التحكيم على الدور الفاعل والمؤثر للأشعث بن قيس ونشاطه المحموم هو والقرّاء معه في ترجيح كفّة معاوية على كفّة عليّ، بدءاً من رفع المصاحف وانتهاءً بسكوت الإمام على مضض لما يريدون، حتى أنّ بعض المؤرخين نمّ على نفسه في حديثه عن تلك المأساة باقتضابه بعد حديثهما.

ولقد مرت بنا كلمة اليعقوبي: «فتنازع الأشتر والأشعث في هذا كلاماً عظيماً حتى كاد أن يكون الحرب بينهم».

ومرّ بنا قول المسعودي: «وجرى له ـ للإمام ـ مع القوم خطب طويل قد أتينا ببعضه».

فيا ترى ما ذلك الخطب الطويل؟ ولماذا كتمه المسعودي؟

ومهما يكن فإنّ الإمام ـ كما مرّ ـ كان مضطهداً، وكما قال ابن عباس: «فخاف أن ينكشفوا منه ويتفرقوا عنه... ولو كان معه من يصبر على السيف لكان الفتح قريباً».

5- قال نصر: «وذكروا أنّ ابن الكوّاء قام إلى عليّ فقال: هذا عبد الله بن قيس وافد أهل اليمن إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وصاحب مقاسم أبي بكر، وعامل عمر، وقد رضي به القوم، وعرضنا على القوم عبد الله بن عباس فزعموا أنّه قريب القرابة منك ظَنون في أمرك... اهـ»(1).

ولم يذكر لنا نصر ما ردّ به الإمام على ابن الكوّاء؟ إلاّ أنّه قال: «فبلغ ذلك أهلَ الشام، فبعث أيمن بن خُريم الأسدي ـ وهو معتزل لمعاوية ـ هذه الأبيات، وكان هواه أن يكون هذا الأمر لأهل العراق فقال:

____________

(1) وقعة صفين /575 ط مصر سنة 1365.


الصفحة 143

لو كان للقوم رأي يعصمون بهمن الضَلال رموكم بابن عباس
لله درّ أبيه أيُّماً رجلٍما مثله لفصال الخطب في الناس
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمنلم يدر ما ضرب أخماس لأسداس
إن يخل عمروٌ به يقذفه في لججيهوي به النجم تيساً بين أتياس
أبلغ لديك عليّاً غير عائبهقول امرئ لا يرى بالحق من بأس
ما الأشعري بمأمون أبا حسنفاعلم هديت وليس العجز كالرأس
فاصدم بصاحبك الأدنى زعيمهمانّ ابن عمك عباس هو الآسي(1)

قال: فلمّا بلغ الناس قول أيمن طارت أهواء قوم من أولياء عليّ (عليه السلام) وشيعته إلى عبد الله بن عباس وأبت القرّاء إلاّ أبا موسى»(2).

ومهما قيل من شعر أو نثر في تجدّد الوعي ويقظة الضمير عند البعض من أولياء الإمام وشيعته حتى طارت أهواؤهم إلى ابن عباس، فإن القرّاء والأشعث ابن قيس أبوا إلاّ أبا موسى الأشعري وهذا الإصرار في تحكيمه هو جزء من المؤامرة الّتي أشار إليها طه حسين كما تقدم.

وإنّها لمحنة الإمام، وإنّها لمحنة أولياء الإمام، وكيف لا تكون المحنة، والأشعث بن قيس ذي السابقة السيئة في الإسلام يملي إرادته بكل صَلَف وتكون له الكلمة النافذة. ويُعصى الإمام وهو الخليفة وأمير المؤمنين، إنّها لقاصمة الظهر. ولله صبر الإمام ومَن معه على تلك المحنة.

____________

(1) لقد ورد البيتان الأولان في الأخبار الطوال للدينوري /193، ومروج الذهب 2/410، وكذا في البدء والتاريخ 2/221 إلاّ انّه لم يسم القائل، وفي سمط النجوم العوالي للعصامي المكي 2/459 نسب الشعر لخزيمة بن مالك الأسدي.

(2) وقعة صفين /576.


الصفحة 144
ولتنوير القارئ بشيء من سابقتي الرجلين الأشعث وأبي موسى نذكرهما بما قيل فيهما بشهادة سادة الصحابة:

أمّا الأشعث فقد كان ذا سابقة سيئة في الإسلام، فقد أسلم أيام النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ثمّ ارتدّ بعد وفاته، وألّب قومه حتى ورّطهم الحرب، ثمّ أسلمهم وأسرع إلى المدينة إلى أبي بكر ليعصم دمه بالتوبة، ولم يكتف حتى أصهر إلى أبي بكر على اخته أم فروة، وخمل أيام عمر إلاّ أنّ عثمان في أيامه ولاه اذربيجان، ولمّا تولى الإمام الخلافة عزله لخيانته، وقد وصفه (عليه السلام) وصفاً رائعاً ودقيقاً فقال: (أمّا هذا الأعور ـ يعني الأشعث ـ فإنّ الله لم يرفع شرفاً إلاّ حسده، ولا أظهر فضلاً إلاّ عابه، وهو يمنّي نفسه ويخدعها، يخاف ويرجو فهو بينهما لا يثق بواحد منهما، وقد منّ الله عليه بأن جعله جباناً، ولو كان شجاعاً لقتله الحقّ)(1).

قال ابن أبي الحديد: «كلّ فساد كان في خلافة عليّ (عليه السلام)، وكلّ اضطراب حدث فأصله الأشعث، ولولا محاقة أمير المؤمنين (عليه السلام) في معنى الحكومة في هذه المرّة لم يكن حرب النهروان، ولكان أمير المؤمنين (عليه السلام) ينهض بهم إلى معاوية ويملك الشام، فإنّه صلوات الله عليه حاول أن يسلك معهم مسلك التعريض والمواربة، وفي المثل النبوي صلوات الله على قائله: الحرب خدعة، وذاك إنّهم قالوا له تب إلى الله ممّا فعلت كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام، فقال لهم كلمة مجملة مرسلة يقولها الأنبياء والمعصومون وهي قوله: استغفر الله من كلّ ذنب، فرضوا بها وعدّوها إجابة لهم إلى سؤالهم، وصفت له (عليه السلام) نيّاتهم واستخلص بها ضمائرهم من غير أن تتضمن تلك الكلمة اعترافاً

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 4/545 في الحكم المنثورة برقم 478.


الصفحة 145
بكفر أو ذنب، فلم يتركه الأشعث وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً عن الحال وهاتكاً ستر التورية والكناية، ومخرجاً لها من مظلة الإجمال وستر الحيلة إلى تفسيرها بما يفسد التدبير ويوغر الصدور إلى المقال»(1).

وهكذا الدول الّتي تظهر فيها إمارات الانقضاء والزوال يتاح لها أمثال الأشعث من أولى الفساد في الأرض {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا}(2).

أقول: ومن قرأ مثلثات أبي بكر عند موته يجد ندمه على عدم قتله الأشعث يوم أتي به أسيراً. فقد قال: «وأمّا الثلاث الّتي تركتهن فوددت أنّي كنت فعلتهنّ فوددت أنّي يوم أتيت بالأشعث بن قيس أسيراً كنت ضربت عنقه ولم أستحيه، فإنّه تخيّل إليَّ أنّه لا يرى شرّاً إلاّ أعان عليه»(3).

فمثل هكذا إنسان حسود وحقود وتافه تكون له الكلمة النافذة،إنّها لإحدى الكبر!

وأمّا أبو موسى الأشعري فهو أخزى، فقد كان من المنافقين الذين لعنهم الله ورسوله بشهادة الصحابيين الجليلين عمّار بن ياسر وحذيفة بن اليمان الّذي كان عارفاً بالمنافقين وقد أسرّ إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرهم وأعلمه أسماءهم.

أمّا شهادة عمّار بن ياسر: فقد أخرج ابن عدي في الكامل وابن عساكر في التاريخ عن أبي نجا حكيم قال: «كنت جالساً مع عمّار فجاء أبو موسى فقال: ما

____________

(1) نفس المصدر 1/216 ط مصر (الأولى).

(2) الاحزاب /62.

(3) راجع تاريخ الطبري 4/52 ط الحسينية، ومروج الذهب 1/408 تح ـ محمّد محي الدين، والإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/19 ط سنة 328، والعقد الفريد 3/68.


الصفحة 146
لي ولك؟ ألستُ أخاك؟ قال: ما أدري ولكن سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يلعنك ليلة الجبل.

قال: انّه استغفر لي. قال عمّار: قد شهدت اللعن فلم أشهد الاستغفار»(1).

وأمّا شهادة حذيفة: فقد ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب في ترجمة أبي موسى قال: «فلمّا قتل عثمان عزله عليّ (عليه السلام) عنها ـ الكوفة ـ فلم يزل واجداً لذلك على عليّ (عليه السلام) حتى جاء منه ما قال حذيفة فيه، فقد روى حذيفة فيه كلاماً كرهت ذكره والله يغفر له...اهـ»(2)ـ قال ابن أبي الحديد بعد نقل ذلك: «قلت: الكلام الّذي أشار إليه أبو عمر ابن عبد البرّ ولم يذكره قوله فيه وقد ذكر عنده بالدين: أمّا أنتم فتقولون ذلك، وأمّا أنا فأشهد أنّه عدوّ لله ولرسوله وحربٌ لهما في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم ولهم اللعنة ولهم سوء الدار. وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين أسرّ إليه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمرهم وأعلمه أسماءهم»(3).

وذكر الفسوي في المعرفة والتاريخ: «حدّثني ابن نمير قال حدّثني أبي عن الأعمش عن شقيق قال: كنا مع حذيفة جلوساً فدخل عبد الله (يعني ابن مسعود)

____________

(1) أنظر كنز العمال 16/219 ط حيدر آباد الثانية، ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5/234.

(2) نقلاً عن شرح الصمدية 3/288 وما في الاستيعاب بهامش الإصابة 4/174 ط مصفى محمّد بمصر: (فلم يزل على الكوفة حتى قتل عثمان ثمّّ كان منه الصفين وفي التحكيم ما كان، وكان منحرفاً عن علي رضي الله عنه لأنّه عزله ولم يستعمله، وغلبه أهل اليمن في إرساله في التحكيم فلم يجزه، وكان لحذيفة قبل ذلك فيه كلام رحمة الله عليهم أجمعين).

(3) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/288.


الصفحة 147
وأبو موسى (يعني الأشعري) المسجد فقال (حذيفة): أحدهما منافق ثمّ قال: إن أشبه الناس هدياً ودلاًّ وسناً برسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عبد الله... اهـ»(1).

فهذا نص له قيمته الدلالية في أنّ أبا موسى هو المنافق الّذي أشار إليه حذيفة بقوله: أحدهما منافق.

وقال ابن أبي الحديد: «وروى أنّ عمّاراً سئل عن أبي موسى فقال: لقد سمعت فيه من حذيفة قولاً عظيماً سمعته يقول: صاحب البرنس الأسود، ثمّ كلح كلوحاً، علمت منه انّه كان ليلة العقبة بين ذلك الرهط»(2).

فبعد هذا العرض الموجز تبيّن للقارئ أنّ الأشعث وأبا موسى لم يكونا من الصحابة المؤمنين الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان، بل كانا من المنافقين الذين لعنهم الله ورسوله.

وحسبنا بما قدمنا دلالة لمن يريد أن يتعرّف دخيلة الرجلين الأشعث وأبا موسى تحت المجهر، ولعل من السخرية بعقول الناس أن يكون أبو موسى هو الراوي لقول الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يكون في هذه الأمة حكَمان ضالان ضالٍ من تبعهما، فقال له سويد بن غفلة: يا أبا موسى انظر لا تكن أحدهما.

ثمّ ينبري علماء التبرير لتضعيف الحديث حفاظاً على أبي موسى(3). ثمّ هم يروون: كان أبو موسى يحدّث قبل وقعة صفين ويقول: انّ الفتن لم تزل في بني اسرائيل ترفعهم وتخفضهم حتى بعثوا الحكمينَ يحكمان بحكم لا يرضى به من

____________

(1) المعرفة والتاريخ 2/771.

(2) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/288.

(3) مجمع الزوائد 7/245- 246 ط القدسي قال الهيثمي رواه الطبري وقال: هذا عندي باطل لأن جعفر بن عليّ شيخ مجهول لا يُعرف؟ قلت ـ والقائل هو الهيثمي ـ إنّما ضعفه من عليّ بن عابس الأسدي فإنه متروك.


الصفحة 148
اتبّعهما، وانّ هذه الأمة لا تزال بها الفتن ترفعها وتخفضها حتى يبعثوا حكمينَ يحكمان بما لا يرضى به من اتبعهما.

فقال له سويد بن غفلة: إياك إن ادركتَ ذلك الزمان أن تكون أحد الحكمينَ.

قال: أنا؟! قال: نعم أنت.

قال: فكان يخلع قميصه ويقول: لا جعل الله لي إذاً في السماء مَصعَداً، ولا في الأرض مَقعَداً.

فلقيه سويد بن غفلة بعد ذلك فقال: يا أبا موسى أتذكر مقالتك؟ قال: سل ربّك العافية(1).

وهنا أيضاً ينبري علماء التبرير بالتزوير فيرووا لنا حديث سويد بن غفلة أنّه قال: «إنّي لأمشي مع عليّ بشط الفرات فقال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنّ بني اسرائيل اختلفوا فلم يزل اختلافهم بينهم حتى بعثوا حكَمَينَ فضلاّ وأضلاّ، وإنّ هذه الأمة ستختلف فلا يزال اختلافهم بينهم حتى يبعثوا حكمَينَ فيَضِلاّن ويُضِلاّن من اتبعهما». وهذا قد رواه البيهقي في الدلائل وحكاه عنه ابن كثير ولم يرق له ذلك فتعقّبه بقوله: «فإنّه حديث منكر، ورفعه موضوع والله أعلم. إذ لو كان هذا معلوماً عند عليّ لم يوافق على تحكيم الحكمين حتى لا يكون سبباً لإضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث، وآفة هذا الحديث هو زكريا بن يحيى وهو الكندي الحميري الأعمى قال ابن معين: ليس بشيء»(2).

____________

(1) مروج الذهب 2/403، ومناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب 2/363 ط الحيدرية نقلاً عن ابن مردويه.

(2) البداية والنهاية 7/283 ـ 284.


الصفحة 149
أرأيت كيف كان دفاع ابن كثير المستميت حفاظاً على كرامة الحكَمين(؟). وتلبيساً منه على القارئ باسم الدفاع عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

وما أدري كيف يكون دفاعه عمّا رواه ياقوت؟!

قال ياقوت في معجمه: «وقرأت في كتاب الخوارج قال: حدّثنا محمّد بن قلابة بن إسماعيل عن محمّد بن زياد قال حدّثنا محمّد بن عون قال حدّثنا عبد الله بن عيسى بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: مررت مع أبي موسى بدومة الجندل فقال: حدّثني حبيبي أنّه حكَمَ في بني إسرائيل في هذا الموضع حَكَمان بالجور، وأنّه يحكم في أمتي في هذا المكان حكَمان بالجور. قال: فما ذهبت إلاّ أيام حتى حكم هو وعمرو بن العاص بما حَكَما. قال: فلقيته فقلت له: يا أبا موسى قد حدّثتني عن رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم بما حدّثتني؟ فقال: والله المستعان»(1).

6- روى المدائني في كتاب صفين قال: «لمّا أجمع أهل العراق على طلب أبي موسى وأحضروه للتحكيم على كُره من عليّ (عليه السلام) أتاه عبد الله بن العباس وعنده وجوه الناس وأشرافهم. فقال له: يا أبا موسى إن الناس لم يرضوا بك ولم يجتمعوا عليك لفضل لا تشارك فيه، وما أكثر أشباهك من المهاجرين والأنصار والمتقدمين قبلك، ولكن أهل العراق أبوا إلاّ أن يكون الحَكَم يمانياً، ورأوا أنّ معظم أهل الشام يمان، وأيم الله إنّي لأظن ذلك شرّاً لك ولنا، فإنّه قد ضُمّ اليك داهية العرب، وليس في معاوية خلّة يستحق بها الخلافة، فإن تقذف بحقك على باطله تدرك حاجتك منه، وإن يطمع باطله في حقك يدرك حاجته منك. واعلم

____________

(1) معجم البلدان 2/488 ـ 489.


الصفحة 150
يا أبا موسى إن معاوية طليق الإسلام، وأنّ أباه رأس الأحزاب، وأنّه يدعي الخلافة من غير مشورة ولا بيعة، فإن زعم لك انّ عمر وعثمان استعملاه، فلقد صدق استعمله عمر وهو الوالي عليه، بمنزلة الطبيب يحميه ما يشتهي ويوجره ما يكره، ثمّ استعمله عثمان برأي عمر، وما أكثر ما استعملا ممّن لم يدع الخلافة.

واعلم أنّ لعمرو مع كلّ شيء يسرّك خبأ يسؤك، ومهما نسيت فلا تنس أنّ عليّاً بايعه القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان، وانّها بيعة هدىً، وانّه لم يقاتل إلاّ العاصين والناكثين.

فقال أبو موسى: رحمك الله والله ما لي إمام غير عليّ، وإنّي لواقف عندما أرى، وانّ حقّ الله أحبّ إليَّ من رضا معاوية وأهل الشام، وما أنت وأنا إلاّ بالله»(1).

قال ابن أبي الحديد: وروى في الموفقيات أيضاً الخبر الّذي رواه المدائني وقد ذكرناه آنفاً من كلام ابن عباس لأبي موسى وقوله: انّ الناس لم يرضوا بك لفضل عندك لم تشارك فيه، وذكر في آخره: فقال بعض شعراء قريش:


والله ما كلّم الأقوام من بشربعد الوصي عليّ كابن عباس
أوصى ابن قيس بأمر فيه عصمتهلو كان فيها أبو موسى من الناس
إنّي أخاف عليه مكرَ صاحبهأرجو رجاء مخوف شيب بالياس(2)

7- قال المسعودي في مروج الذهب: «ولمّا وقع التحكيم تباغض القوم جميعاً، وأقبل بعضهم يتبرأ من بعض، يتبرأ الأخ من أخيه، والابن من أبيه، وأمر

____________

(1) أنظر شرح النهج لابن أبي الحديد 1/195.

(2) نفس المصدر 1/201.