الصفحة 196
الحكم ـ بن أبي العاص ـ على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فعرف صوته فقال: ائذنوا له لعنة الله عليه وعلى من يخرج من صلبه إلاّ المؤمنين وقليل ما هم، ذوو مكر وخديعة، يُعطون الدنيا وما لهم في الآخرة من خلاق».

وذكره الدميري في حياة الحيوان(1)، وابن حجر في الصواعق(2) ونقله السيوطي ـ كما في كنز العمال(3) ـ عن أبي يعلى والطبراني والحاكم والبيهقي وابن عساكر.

وذكره ابن حجر في تطهير الجنان بلفظ: «ائذنوا له فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وما يخرج من صلبه، يشرفون في الدنيا، ويترذلون في الآخرة، ذوو مكر وخديعة، إلاّ الصالحين منهم وقليل ما هم»(4).

وقال ابن حجر أيضاً في تطهير الجنان وبسند رجال الصحيح عن عبد الله بن عمر (رضي الله عنه) أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «ليدخلن الساعة عليكم رجل لعين، فوالله ما زلت أتشوّف داخلاً وخارجاً حتى دخل فلان ـ يعني الحكم كما صرّحت به رواية أحمد.ـ»(5).

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أحياء من بني سليم:

قنت (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلعن أحياء من بني سليم قتلوا أصحاب بئر معونة، ومن ذلك كان مفتاح القنوت كما يقول عكرمة، فقد روى عن ابن عباس قال: «قنت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم شهراً متتابعاً في صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة

____________

(1) حياة الحيوان 2/299.

(2) الصواعق المحرقة /108.

(3) كنز العمال 6/90 ط الأولى.

(4) الصواعق المحرقة /147، وبهامشه تطهير الجنان.

(5) نفس المصدر /144.


الصفحة 197
الصبح في دبر كلّ صلاة إذا قال سمع الله لمن حمده من الركعة الآخرة يدعو على أحياء من بني سليم، على رعل وعلى ذكوان وعصية ويؤمّن مَن خلفه.

قال عكرمة: وهذا مفتاح القنوت»(1).

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبا الأعور السُلمي:

قنت (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلعن أولئك ولعن معهم أبا الأعور السُلمي كما في حديث سعيد ابن زيد قال: «قنت رسول الله صلّى الله عليه (وآله) وسلّم فقال: اللّهمّ العن رعلاً وذكوان وعصيّة عصت الله ورسوله، والعن أبا الأعور السلمي»(2).

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) المنافقين:

قنت (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بلعن أناس من المنافقين قد سمّاهم لولا تعتيم الرواة عليهم لعرفناهم.

فقد أخرج البخاري في صحيحه(3)، والنسائي في السنن(4)، والبيهقي في سننه الكبرى(5) بالإسناد عن الزهري عن سالم عن أبيه ـ عبد الله بن عمر ـ: «أنّه

____________

(1) أنظر صحيح ابن خزيمة 1/313 ط المكتب الإسلامي بيروت، مسند أحمد 1/301 ط مؤسسة قرطبة بمصر، المنتقى لابن الجارود 2/60 ط مؤسسة الكتاب الثقافية بيروت، سنن أبي داود 2/68 دار الفكر، سنن البيهقي الكبرى 2/200، تحفة المحتاج لابن الملقن 1/308 دار حراء بمكة المكرمة، نيل الاوطار للشوكاني 3/1 دار الجيل بيروت، تلخيص الجير لابن حجر 1/246 مختصر كتاب الوتر للمقريزي مكتبة المنار الزرقاء بالأردن.

(2) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2/108 ط مكتبة الرشد الرياض سنة 1409 هـ.

(3) صحيح البخاري 6 /99 باب غزوة أحد باب ليس لك من الأمر شيء... وكتاب الدعوات 8/83. وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة باب قول الله تعالى ليس لك من الأمر شيء 9/106.

(4) سنن النسائي 1/226 ط دار الكتب العلمية بيروت سنة 1411 هـ.

(5) السنن الكبرى للبيهقي 2/198و207 ط دار الفكر.


الصفحة 198
سمع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حين رفع رأسه في صلاة الصبح من الركعة الآخرة قال: اللّهمّ العن فلاناً وفلاناً، دعا على ناس من المنافقين».

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أبا موسى الأشعري وأصحاب العقبة:

لعن (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أصحاب العقبة، ومنهم أبو موسى الأشعري كما مرّ ذلك في حديث عمار وحذيفة وقد ذكرته في آثار خدعة التحكيم السيئة فراجع.

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستة أصناف من الناس:

ومن الموارد لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أناساً بأعيانهم سوى ما ورد عنه بطرق صحيحة من لعن أصناف تشمل أوصافُهم معاوية وأشياعه، روته عائشة بسند صحيح عنها أنّه قال (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «ستة لعنتهم ولعنهم الله وكلّ نبيّ مجاب:

(1) الزائد في كتاب الله.

(2) والمكذّب بقدر الله.

(3) والمتسلّط بالجبروت ليعزّ من أذلّه الله ويذلّ من أعزّه الله.

(4) والمستحل لحُرم الله.

(5) والمستحل من عترتي ما حرّم الله.

(6) والتارك لسنتي»(1).

____________

(1) أخرجه البغوي في المصابيح، والخطيب والتبريزي في مشكاة المصابيح 1/38 برقم/109 وقال: رواه البيهقي في المدخل ورزين في كتابه، وجاء في الهامش من الالباني محقق الكتاب: أخرجه الترمذي في القدر 2/22 ـ 23، والطبراني في المعجم الكبير 1/291 ق 1، والحاكم 1/36 وقال: صحيح الإسناد، ولا أعرف له علة، ووافقه الذهبي، وأعله الترمذي بالإرسال وقال: انّه أصح. ورواه النبهاني في الفتح الكبير 2/ 152 كذلك بلفظ ستة، ورواه أيضاً في/ 53 بلفظ سبعة فزاد فيهم: والمستأثر بالفيء.


الصفحة 199

لعنه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من تخلف عن جيش أسامة:

أخرج ابن سعد في الطبقات(1)، وابن عساكر في تاريخه(2)، وابن الأثير في تاريخه(3)، والمتقي في كنز العمال(4) أنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «أنفذوا بعث أسامة أو جهزوا جيش أسامة، وبتروا صيغة اللعن». إلاّ انّ الشهرستاني في الملل والنحل(5) ذكر لعن من تخلف عن جيش أسامة.

إلى غير ذلك من مواطن لعن فيها (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أناساً وأصنافاً يعسر حصرها.

وفيما ذكرناه كفاية لإثبات شرعية اللعن لمن يستحق اللعن ومنهم معاوية وأشياعه.

كما عرفنا أنّ لعن الإمام لمعاوية وبقية الذين لعنهم معه كان له ذلك بحق شرعي، لأنّهم أعداء لله ولرسوله ولأمير المؤمنين، وكانوا من الظالمين. وقد ورد عنه (عليه السلام) لعنهم بصيغ مختلفة، وأحسب إنّما ذلك لاختلاف مواردها.

فمنها: أخرج ابن أبي شيبة في المصنف بسنده عن عبد الرحمن بن معقل قال: «صليت مع عليّ صلاة الغداة، قال: فقنت فقال في قنوته: اللّهمّ عليك بمعاوية وأشياعه، وعمرو بن العاص وأشياعه، وأبا الأعور السلمي وأشياعه، وعبد الله بن قيس وأشياعه»(6).

____________

(1) الطبقات 2ق2/41.

(2) تاريخ مدينة دمشق 2/391.

(3) الكامل في التاريخ 2/129.

(4) كنز العمال 5/312.

(5) الملل والنحل 1/23 ط الثانية سنة 1395 هـ.

(6) المصنف لابن أبي شيبة 2/108 ط مكتبة الرشد الرياض سنة 1409.


الصفحة 200
وعبد الله بن قيس هذا هو أبو موسى الأشعري. وهؤلاء الأربعة هم أشد الناس عداوة للإمام لذلك لعنهم بأسمائهم.

ومنها: ما قاله ابن أبي الحديد في شرح النهج: «كان عليّ (عليه السلام) يقول: اللّهمّ العن معاوية أوّلاً، وعمراً ثانياً، وأبا الأعور السُلمي ثالثاً وأبا موسى الأشعري رابعاً»(1).

وحيث انتهينا إلى هنا وعرفنا شرعية اللعن من الكتاب والسنّة برواية أهل السنّة، يحسن بنا تنبيه القارئ إلى أنّ فعل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بلعن معاوية وأشياعه كما هو حجة لشيعته، فكذلك احتج به فقهاء أهل السنّة كما كانوا يحتجون بفعل النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وإلى القارئ بعض أقوالهم:

1- روى أبو حنيفة في مسنده عن حمّاد بن إبراهيم عن علقمة قال: «ما قنت أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا عليّ حتى حارب أهل الشام فكان يقنت»(2).

2- قال ابن قدامة المقدسي ـ من الحنابلة ـ: «...إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قنت شهراً يدعو على حي من أحياء العرب ثمّ تركه(3). وإنّ عليّاً قنت وقال: إنّما استنصرنا على عدونا»(4).

ولئن أخفى ابن قدامة ذكر المدعوّ عليهم في قنوت عليّ فقد تبع أسلافه في ذلك. فإنّ الشعبي ـ الناصبي ـ قال: «لمّا قنت عليّ في صلاة الصبح أنكر الناس ذلك قال فقال: إنّما استنصرنا على عدونا»(5).

____________

(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 3/288 ط الأولى بمصر.

(2) الجوهر النقي بهامش سنن البيهقي 2/204.

(3) قال البيهقي في سننه 2/213: وقد روينا عن عبد الرحمن بن مهدي انّه قال إنّما ترك اللعن.

(4) المغني 1/450.

(5) المصنف لابن أبي شيبة 2/103 ط مكتبة الرشد الرياض سنة 1409 هـ.


الصفحة 201
3- وذكر الطحاوي ـ وهو من الأحناف ـ باسناده عن إبراهيم ـ النخعي ـ قال: «كان عبد الله ـ يعني ابن مسعود ـ لا يقنت في الفجر، وأوّل من قنت فيها عليّ، وكانوا يرون إنّما فعل ذلك لأنّه كان محارباً.

وذكر أيضاً عن إبراهيم قال: إنّما كان عليّ (رضي الله عنه) يقنت فيها ـ الصلاة ـ ههنا بالكوفة ـ لأنّه كان محارباً فكان يدعو على أعدائه في القنوت في الفجر والمغرب».

ثمّ قال الطحاوي: «فثبت بما ذكرنا أنّ مذهب عليّ (رضي الله عنه) في القنوت هو مذهب عمر (رضي الله عنه) الّذي وصفنا، ولم يكن عليّ يقصد بذلك إلى الفجر خاصة، لأنّه قد كان يفعل ذلك في المغرب فيما ذكر إبراهيم»(1).

4- حكى الزيلعي عن إبراهيم النخعي قال: «وأهل الكوفة إنّما أخذوا القنوت عن عليّ، قنت يدعو على معاوية حين حاربه، وأهل الشام أخذوا القنوت عن معاوية قنت يدعو على عليّ»(2).

فتبيّن من جميع ما تقدم جواب السؤالين الأوّل والثاني (هل للإمام أن يلعن معاوية ومن معه)؟، و(ما الحجة في ذلك)؟.

أمّا جواب السؤال الثالث (لماذا أخّر اللعن حتى عاد ابن عباس ومن معه من مؤتمر التحكيم وأخبره بغدر عمرو بن العاص وأبي موسى الاشعري ونتيجة التحكيم المخزية والمحزنة)؟

فأرى ـ والله أعلم ـ أنّ الإمام (عليه السلام) كان قبل ذلك اليوم يرجو استصلاح أولئك المحاربين بما يرسل اليهم من كتب وعظية ورسل إصلاح لغرض إنابتهم

____________

(1) شرح معاني الآثار 1/251 ط دار الكتب العلمية سنة 1399 بيروت.

(2) نصب الراية 2/131.


الصفحة 202
إلى الحقّ والطريق المستقيم، وحتى بعد أن شبّت الحرب وقامت على ساق، لم يألو جهداً في سبيل ذلك، وتلك سيرته المثلى مع كلّ محاربيه من قبلُ ومن بعدُ، ولكن معاوية وأشياعه طُبع على قلوبهم فلم تنفع معهم نصائح الإمام ودعواته الإصلاحية، حتى إذا ألجأوه إلى التحكيم، وكانت خيانة الحكمَين اللذين حكما على الكتاب ولم يحكما به، وكانت جنايتهما على الأمة الإسلامية آخر ما تضاءل معه أمل الإمام في الاستصلاح، إن لم يكن هي الانقطاع التام، ولم يبق إلاّ إعلان الدعاء عليهم ليعلم المسلمون ضلالة الحكمَين وضلالة معاوية وأشياعه فدعا عليهم ولعنهم في صلواته، وكان في ذلك مع الحقّ والحقّ معه ـ كما في الحديث النبوي الشريف(1) لذا صار فعله حجة يحتج بها فقهاء المسلمين من شيعته وغيرهم.

وأمّا جواب السؤال الرابع (هل كان من حقّ معاوية أن يردّ بالمثل) لأنّ الإمام بدأ باللعن؟

فالجواب: ليس له ذلك، لأنّ بداية الظلم كانت منه حين عتا وتمرّد على الإمام فلم يبايعه مع أنّ بيعته لزمته منذ أوّل خلافته (عليه السلام)، ولمّا استمر

____________

(1) أخرج الخطيب في تاريخ بغداد 14/320، والحاكم في المستدرك 3/124 وصححه الذهبي في التلخيص وصدقه، بالاسناد عن أبي ثابت مولى أبي ذر قال: دخلت على ام سلمة فرايتها تبكي وتذكر عليّاً وقالت: سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي)ّ (عليّ مع القرآن والقرآن مع علي) ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة، ورواه ابن عساكر في ترجمة الإمام، وروى الهيثمي في مجمع الزوائد 7/235 عن سعد بن أبي وقاص ـ قال في حديث له مع معاوية ـ فإني سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ. وفي الحديث الثالث من مناقب عليّ في سنن الترمذي قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): رحم الله عليّاً اللّهم ادر الحقّ معه حيث دار، ورواه الحاكم في المستدرك 3/124.


الصفحة 203
في عدوانه بدءاً من ذلك اليوم وحتى ساعة التحكيم، كان هو الظالم في جميع مواقفه، فكيف يحقّ للظالم الدعاء على المظلوم، وقد مرّت بنا رواية عائشة الّتي فيها لعن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ستة أصناف، فكان منهم معاوية لدخوله في زمرة تلك الأصناف فإن لم يكن مع كلّهم فلا شكّ في دخوله تحت عناوين الخمسة الأخيرة: (المتسلّط بالجبروت ليعزّ من أذله الله ويذل من أعزه الله، والمستحل لحُرم الله، والمستحل من عترتي ما حرّم الله، والتارك لسنتي، والمستأثر بالفيء).

فبعد هذا هل يحق لمن لعنه الله ولعنه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يردّ اللعن على نفس رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وهو عليّ بنص آية المباهلة وأنفسنا؟!

وبدعة السبّ الّتي استحدثها معاوية، أثارت مشاعر المسلمين، وازداد عتواً حين خلا له الجوّ، فقد أمر ولاته على الأمصار أن يعلنوا بسب الإمام على منابر المسلمين تحدياً وتمادياً.

وما أكثر الشواهد على ذلك، سيأتي بعضها في صفحات احتجاج ابن عباس على معاوية لعنه الله.

وحسبنا في المقام ما رواه الديلمي في الفردوس(1)، والهيثمي في مجمع الزوائد(2) وقال: «رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من سبّ عليّاً فقد سبني ومن سبني فقد سبّ الله، ومن سبّ الله أدخله الله نار جهنم وله عذاب عظيم)».

____________

(1) الفردوس 4/189.

(2) مجمع الزوائد 9/130.


الصفحة 204
وما أخرجه الحاكم في المستدرك، وذكره الذهبي في تلخيصه وأقر تصحيحه عن أبي مليكة قال: «جاء رجل من أهل الشام فسبّ عليّاً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس وقال: يا عدو الله آذيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا}(1) لو كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) حياً لآذيته»(2).

وأخرج الحاكم أيضاً وصححه الذهبي في تلخيصه وصدّقه، والنسائي في الخصائص، وابن أبي شيبة في المصنف، والهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه الطبراني في الثلاثة ـ يعني معاجمه الكبير والأوسط والصغير ـ وأبو يعلى، ورجال الطبراني رجال الصحيح غير أبي عبد الله الجدلي وهو ثقة. والحديث بلفظ الأوّل بإسناده عن أبي عبد الله الجدلي: «قال: حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة، وإذا الناس عنق واحد، فاتبعتهم فدخلوا على أم سلمة زوج النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فسمعتها تقول: يا شبث بن ربعي، فأجابها ـ رجل جلف جاف: لبيك يا أمتاه، قالت: أيسبّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في ناديكم؟ قال: وأنّى ذلك؟ قالت: فعليّ بن أبي طالب؟ قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا، قالت: فإنّي سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: (من سبّ عليّاً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله تعالى)»(3).

ولأحمد بن حنبل ـ إمام الحنابلة ومنهم النابتة ـ مقال مع استدلال يقطع جهيزة كلّ قيل وقال. فقد روى ابن عساكر باسناده: «انّه سأل رجل أحمد بن حنبل عن قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (عليّ قسيم النار) فقال: هذا حديث يضطرب طريقه

____________

(1) الأحزاب /57.

(2) مستدرك الحاكم 3/121 وصححه.

(3) نفس المصدر 3/121.


الصفحة 205
عن الأعمش، ولكن الحديث الّذي ليس عليه لبس هو قول النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (يا عليّ لا يحبّك إلاّ مؤمن، ولا يبغضك إلاّ منافق) وقال الله (عزّ وجلّ): {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ}(1)»(2).

فمن أبغض عليّاً فهو في الدرك الأسفل من النار.

فلينظر المسلم المنصف إلى مقال أحمد واستدلاله! فهل ثمة عنده ريب في أنّ معاوية وأشياعه مشمولون لما قاله أحمد؟

أو ليس إنّما سبّه لأنّه كان يبغضه؟

أو ليس هو الّذي ابتدع تلك السنّة السيئة بدعة سبّ الإمام؟ فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة لقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم): (من سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة. ومن سنّ سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة)(3).

إذن فليتبوأ مقعده في الدرك الأسفل من النار.

ويعجبني ذكر ما قاله الخياط المتكلم رئيس الفرقة الخياطية من معتزلة بغداد قال: «ما قطعني إلاّ غلام قال لي: ما تقول في معاوية؟ قلت: إني أقف فيه.

قال: ما تقول في ابنه يزيد؟ قلت: ألعنه.

قال: فما تقول فيمن يحبّه؟ قلت: ألعنه.

قال: أفترى معاوية كان لا يحبّ ابنه؟!»(4).

____________

(1) النساء /145.

(2) تاريخ مدينة دمشق (ترجمة الإمام) 1/253.

(3) أُنظرعلى سبيل المثال مسند أحمد 4/359، وصحيح مسلم 3/87.

(4) ربيع الأبرار للزمخشري 1/680- 681- ط أوقاف بغداد.


الصفحة 206
وأحسب أنّي ذكرت فيما فيه كفاية في جواب النابتة الغاوية، الذين يرون من حقهم الدفاع عن خالهم معاوية.

وللمطارفة ما أدري وليتني كنت أدري لماذا يرون معاوية خالاً للمؤمنين لمكان اخته أم حبيبة احدى زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ولا يرون غيره من اخوان أمهات المؤمنين كذلك؟ فهلا رأوا خوؤلة محمّد بن أبي بكر وراعوا حرمته وحرمة أخته عائشة وهي عند أولئك النابتة أهم زوجات الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم)؟ أفهل من رعاية حقّها أن يقتلوا أخاها محمّد بن أبي بكر أشنع قتلة ثمّ يدخلوه جوف حمار ميت، ثمّ يحرقوه؟!

أيّ فظاظة وقسوة؟ أيّ همجية ووحشية؟ وقد روى المؤرخون كالطبري(1)، وابن الأثير(2)، وابن كثير(3)، وابن أبي الحديد(4)، والبلاذري(5): «انّ عائشة لمّا بلغها قتل محمّد بن أبي بكر جزعت عليه جزعاً شديداً، وجعلت تقنت وتدعو في دبر الصلاة على معاوية وعمرو بن العاص»، وقال البلاذري: «فلمّا بلغ ذلك عائشة (رضي الله عنه) جزعت عليه وقبضت عياله وولده إليها، ولم تأكل شواء حتى توفيت(6) ولم تعثر قط إلاّ قالت: تعس معاوية بن خديج ـ قاتل محمّد ـ».

____________

(1) جامع البيان 6/60 ط الحسينية و 5/105 ذخائر العرب.

(2) تاريخ ابن الأثير 3/155.

(3) البداية والنهاية 7/314.

(4) شرح النهج لابن أبي الحديد 2/33.

(5) أنساب الأشراف 2/403 تح ـ المحمودي.

(6) ذكر ابن الجوزي في المنتظم 5/151 بسنده عن يزيد بن أبي حبيب قال بعث معاوية بن خديج بمولى له يقال له سليم إلى المدينة بشيراً بقتل محمّد بن أبي بكر ومعه قميص محمّد بن أبي بكر ودخل به دار عثمان، فاجتمع إليه آل عثمان من رجال ونساء وأظهروا السرور بمقتله وأمرت ام حبيبة بنت أبي سفيان بكبش يشوى وبعثت بذلك إلى عائشة وقالت: هكذا يشوى أخوكِ، فلم تأكل عائشة شواء حتى لحقت بالله (عزّ وجلّ).


الصفحة 207
ودع عنك حديث محمّد بن أبي بكر وإعراضهم عنه لأنّه كان ربيب الإمام، فهلم إلى عبد الله بن عمر، فهذا ممّن لم يبايع الإمام، وقد شايع الأمويين وبايعهم، لماذا لم يمنحوه فخرية لقب الخوؤلة وهو ابن عمر بن الخطاب الخليفة واخته حفصة إحدى أمهات المؤمنين؟!

وأخيراً نودع أولئك النابتة الذين أغراهم الشيطان فأغواهم، وغلبهم الهوى فأرداهم، بآيات من الذكر الحكيم قال الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ}(1)، وقال تعالى في سورة المجادلة: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}(2)، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ}(3)، وقال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ}(4).

وأمّا جواب السؤال الخامس (هل أنّ ابن عباس في البصرة كان يفعل كما فعل أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكوفة فيقنت بلعن معاوية وأشياعه)؟

____________

(1) التوبة /63.

(2) المجادلة /5.

(3) المجادلة /20.

(4) المجادلة /22.


الصفحة 208
فالجواب: نعم كان يفعل ذلك.

فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف(1) بالإسناد عن أبي رجاء العطاردي قال: «صلّى بنا ابن عباس الفجر بالبصرة فقنت». وقال التركماني في الجوهر النقي بهامش سنن البيهقي: «وهذا سند صحيح»(2).

وعنه أيضاً قال: «رأيت ابن عباس يمدّ بضبعيه في قنوت صلاة الغداة إذا كان بالبصرة».

وعنه أيضاً قال: «صليت مع ابن عباس في مسجد البصرة صلاة الغداة فقنت بنا قبل الركوع».

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً ذلك عن أبي العالية.

وأخرج البيهقي في سننه بسنده عن أبي رجاء قال: «صلّى ابن عباس صلاة الصبح في هذا المسجد فقنت وقرأ هذه الآية {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(3)»(4).

وأخرج ابن أبي شيبة في مصنفه بسنده عن خلاس بن عمرو الهجري عن ابن عباس: «انّه صلّى فقنت بهم في الفجر بالبصرة فرفع يديه حتى مدّ ضبعيه»(5).

فهذه الآثار الّتي وقفت عليها في ان ابن عباس كان بالبصرة يصلي الغداة فيقنت قبل الركوع ويقرأ قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}(6) وهو يرفع يديه حتى يمدّ بضبعيه.

____________

(1) المصنف 2/312 ط باكستان إدارة القرآن.

(2) السنن الكبرى 2/205، وبهامشه الجوهر النقي.

(3) البقرة /238.

(4) السنن الكبرى 2/205.

(5) المصنف ابن أبي شيبة 2/316 ط باكستان إدارة القرآن.

(6) البقرة /238.