والآن إلى حديث مفارقة الخريّت في بني ناجية:
مفارقة الخريت بن راشد في بني ناجية:
روى الطبري بسنده عن أبي مخنف عن الحارث الأزدي عن عمه عبد الله ابن مُقَيم قال: «جاء الخريّت بن راشد إلى عليّ ـ وكان مع الخريّت ثلثمائة رجل من بني ناجية مقيمين مع عليّ بالكوفة، قدموا معه من البصرة، وكانوا قد خرجوا إليه يوم الجمل، وشهدوا معه صفين والنهروان ـ فجاء إلى عليّ في ثلاثين راكباً من أصحابه يسير بينهم حتى قام بين يدي عليّ فقال له: والله لا أطيع أمرك، ولا أصلّي خلفك، وإنّي غداً لمفارقك ـ وذلك بعد تحكيم الحكمين ـ.
فقال له عليّ: ثكلتك أمك إذا تعصي ربّك، وتنكث عهدك، ولا تضرّ إلاّ نفسك، خبّرني لم تفعل ذلك؟.
قال: لأنّك حكّمت في الكتاب، وضعفت عن الحقّ إذ جدّ الجدّ، وركنت إلى القوم الذين ظلموا أنفسهم، فأنا عليك زارٍ، وعليهم ناقم، ولكم جميعاً مباين. فقال له عليّ: هلمّ أدارسك الكتاب، وأناظرك في السنن، وأفاتحك أموراً من الحقّ أنا أعلم بها منك، فلعلك تعرف ما أنت له الآن منكر، وتستبصر ما أنت عليه الآن جاهل.
قال: فإنّي عائد اليك.
قال: لا يستهويّنك الشيطان، ولا يستخفنّك الجهل، ووالله لئن استرشدتني واستنصحتني وقبلتَ مني لأهدينّك سبيل الرشاد.
فقال له أكثر أصحابه: لا تفعل حتى تأتيه، فإن أتاك بأمر تعرفه قبلتَ منه، وإن كانت الأخرى فما أقدرك على فراقه.
فقال لهم: فنعم ما رأيتم...».
ثمّ ذكر الطبري مفارقته في أصحابه، وبلغ الإمام ذلك: «فقال: قد فعلوها، بعداً لهم كما بعدت ثمود، أمّا لو قد أشرعت لهم الأسنة، وصبّبت على هامهم السيوف لقد ندموا. إنّ الشيطان اليوم قد استهواهم وأضلّهم، وهو غداً متبرئ منهم ومخلّ عنهم.
قال: فقام إليه زياد بن خصفة فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه لو لم يكن من مضرّة هؤلاء إلاّ فراقهم إيّانا لم يعظم فقدُهم فنأسى عليهم، فإنّهم قلّما يزيدون في عددنا لو أقاموا معنا، وقلّما ينقصون من عددنا بخروجهم عنا، ولكنّا نخاف أن يفسدوا علينا جماعة كثيرة ممّن يقدمون عليه من أهل طاعتك، فإذن لي في إتّباعهم حتى أردّهم عليك إن شاء الله.
فقال له: أخرج رحمك الله حتى تنزل دير أبي موسى، ثمّ لا تتوجه حتى يأتيك أمري، فإنهم إن كانوا خرجوا ظاهرين للناس في جماعة، فإنّ عمّالي ستكتب إليَّ بذلك، وإن كانوا متفرقين مستخفين فذلك أخفى لهم. وسأكتب إلى عمّالي فيهم. فكتب نسخة واحدة فأخرجها إلى العمّال:
أمّا بعد، فإنّ رجالاً خرجوا هُرّابا ونظنّهم وجّهوا نحو بلاد البصرة، فسَل عنهم أهل بلادك واجعل عليهم العيون في كلّ ناحية من أرضك، واكتب إليّ بما ينتهي إليك عنهم، والسلام.
فخرج زياد بن خصفة وجمع أصحابه فخرجوا حتى نزل دير أبي موسى فأقام فيه بقية يومه ذلك ينتظر أمر أمير المؤمنين»(1).
وروى أبو مخنف بسنده عن عبد الله بن وال التيمي: «انّ رسول قرظة بن كعب الأنصاري ورد على الإمام بكتاب منه فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعد فإنّي أخبر أمير المؤمنين إنّ خيلاً مرّت بنا من قبل الكوفة متوجهة نحو نِفّر(2) وإنّ رجلاً من دهاقين أسفل الفرات قد صلّى يقال له زاذان فرّوخ أقبل من قبل أخواله بناحية نفرّ فعرضوا له فقالوا أمسلم أنت أم كافر؟ فقال: بل أنا مسلم، قالوا فما قولك في عليّ؟ قال: أقول فيه خيراً، أقول: إنّه أمير المؤمنين وسيّد البشر، فقالوا له: كفرت يا عدوّ الله.
____________
(1) تاريخ الطبري 5/113 ط دار المعارف.
(2) نفّر: بلدة أو قرية من نواحي بابل، وقيل من أعمال البصرة (مراصد الاطلاع).
وذكر أبو مخنف جواب الإمام وكتابه إلى زياد بن خصفة يأمره باتّباع إثرهم: «فسار زياد قاصداً نفّر فوصلها فلم يجدها ووجد خبرهم أنّهم ارتفعوا إلى جرجرايا(1) فتبعهم وسأل عنهم فقيل له إنّهم أخذوا نحو المذار(2) فلحقهم وأدركهم وقد مسّه وأصحابه التعب، وأضناهم النصب وهم سغب(3) لغب(4) فلمّا رأوا الخريت ومن معه واقفوه وجرى بينهما كلام لاينهم فيه زياد وطلب منهم النزول ثمّ الاجتماع والتفاهم حول ما حملهم على المجيء به، فقبل الخريّت ونزل الطرفان واستراح زياد وأصحابه، ثمّ تم الاجتماع بينه وبين الخريّت ومع كلّ واحد منهما خمسة من أصحابه، ولم يسفر الاجتماع إلاّ عن الحرب فقتل من أصحاب زياد إثنان هما مولاه سويد ورجل آخر، بينما قتل خمسة من أصحاب الخريّت وفشا الجراح في الطرفين وحجز بينهما الليل، وأدلج الخريّت بمن بقي معه فلمّا أصبح زياد فلم ير منهم أحداً، سار يطلبهم وأتاه الخبر بأنّهم
____________
(1) جرجرايا: بفتح الجيمين وتسكين الراء الأولى وفتح الثانية، بلد من أعمال النهروان الاسفل بين واسط وبغداد من الجانب الشرقي (مراصد الاطلاع).
(2) المذار: بالفتح وآخره راء بلدة في ميسان بين واسط والبصرة، وهي قصبة ميسان بينها وبين البصرة نحو من أربعة أيام (نفس المصدر).
(3) سغب: سغبا وسغوبا جاع فهو ساغب وهم سُغَب ولا يكون السغب إلاّ الجوع مع التعب وربّما سمي العطش سغبا (المصباح المنير).
(4) لغب: لغبا ولغوبا تعب وأعيا (نفس المصدر).
فندب ابن عباس الناس مع خالد بن معدان الطائي ـ وكان من ذوي البأس والنجدة والحزم والرأي ـ وأوصاه بطاعة معقل إذا لقيه، وأنّه الأمير عليه، وخرج خالد ومعه ألفان من مقاتلة البصرة، وأرسل ابن عباس بفيج(1) يشتد ليلحق معقل ومعه كتاب فيه:
أمّا بعد فإن أدركك رسولي بالمكان الّذي كنت فيه مقيماً، أو أدركك وقد شخصت منه فلا تبرح المكان الّذي ينتهي فيه إليك رسولي واثبت فيه حتى يقدم عليك بعثنا الّذي وجّهناه اليك. فإنّي قد بعثت إليك خالد بن معدان الطائي، وهو من أهل الإصلاح والدين والبأس والنجدة فاسمع منه واعرف ذلك والسلام.
فأدرك الفيج معقلاً وقد سار من الأهواز فلمّا قرأ الكتاب أقام حتى أتاه خالد ومن معه من مقاتلة البصرة، فسار يتتبع آثار الخريّت فبلغه أنّه وأصحابه
____________
(1) الفيج: هو رسول السلطان يسعى على قدمه (المصباح المنير).
فسار معقل يطلبه وقد بلغه انّه انتهى إلى أسياف البحر، وقد ردّ قومه عن طاعة الإمام، وأفسد مَن قِبَله من عبد القيس ومن والاهم من سائر العرب، وكان قومه قد منعوا الصدقة عام صفين ومنعوها في ذلك العام أيضاً، فكان عليهم عقالان، فسار إليهم معقل في ذلك الجيش من أهل الكوفة وأهل البصرة، فبلغ الخريّت خبره، فأقبل على من كان معه وهم فرق أشتات في آرائهم، منهم نصارى، ومنهم كانوا نصارى وأسلموا، ومنهم نصارى ارتدوا، ومنهم خوارج محكمة، وخوارج غير محكمة، ومنهم عثمانية، فأقبل على كلّ فرقة يوعدهم وإن حكم الإمام لضرب العنق ساعة يستمكن منهم، ولمّا وصل معقل رفع راية أمان وقال من أتاها فهو آمن إلاّ الخريت وأصحابه الذين حاربونا وبدأونا أوّل مرة، فانحاز إليها كثير، وتفرق عن الخريت جلّ من كان معه من غير قومه، ولم يبق معه غير قومه مسلموهم ونصاراهم ومانعة الصدقة منهم. فقاتلهم معقل فقتل الخريّت ومائة وسبعون من أصحابه، وذهب الباقون يميناً وشمالاً، فغنم معقل ما كان في رحالهم وسبى أناساً كانوا هناك، فنظر فيمن كان مسلماً جدّد البيعة عليه
____________
(1) رامهرمز: مدينة مشهورة بنواحي خوزستان (مراصد الاطلاع).
وعاد معقل بمن معه من أهل الكوفة إليها وأخبر الإمام بفعل مصقلة وأنه خلّى سبيل الأسارى ولم يسألهم أن يعينوه في فكاك أنفسهم بشيء، فقال الإمام: ما أظن مصقلة إلاّ قد تحمّل حَمالة، ولا أراكم إلاّ سترونه مبلّداً ـ المبلّد: ضعيف الرأي عاجز الهمّة ـ وكتب إليه يستعجله بإرسال المال، وإلاّ يقدم عليه بنفسه. وعاد خالد بن معدان بمن معه من أهل البصرة اليها، وبلغ ابن عباس خبر مصقلة، ولما كان تابعاً في عمالته إلى ولاية البصرة بقي ينتظر إرسال المال».
قال الطبري: «وكان عمّال البصرة يحملون ـ المال ـ من كور البصرة إلى ابن عباس، ويكون ابن عباس هو الّذي يبعث به إلى عليّ.
وأتى مصقلة بنفسه يريد الإمام، فنزل في طريقه بالبصرة فطالبه ابن عباس بالمال، فقال له: نعم أنظرني أياماً، ثمّ أتى الإمام بالكوفة فأقرّه أياماً ثمّ سأله المال
____________
(1) اردشير خرّة: من أجل كور فارس ومنها مدينة شيراز وجور وخبروميمند والخوار وسيراف وكازرونا وغيرها من اعيان مدن فارس وأكثرها ممتد على البحر قصبتها سيراف (مراصد الاطلاع).
وهنا لابدّ لي من وقفة مع الذين نقدوا سياسة الإمام في تلك الحالة. وإنّما هم على شاكلة مصقلة بن هبيرة الّذي كان يقول: «أما والله لو أنّ ابن هند أو ابن عفان لتركها لي.
ويقول لصديق له: ألم تر إلى ابن عفان حيث أطعم الأشعث من خراج أذربيجان مائة ألف في كلّ سنة. فقال له صاحبه وهو يحاوره: إنّ هذا لا يرى هذا الرأي، لا والله ما هو بباذل شيئاً كنت أخذته»(2).
قال الدكتور طه حسين: «وكان أمر مصقلة هذا من أوضح الأدلة وأقواها على طبيعة الطاعة الّتي كان كثيراً من أشراف أهل العراق يبذلونها لعليّ، فقد التوى بدَينه، وحُمل إلى ابن عباس، فلمّا طالبه ابن عباس بأداء الدين قال: لو قد طلبت أكثر من هذا إلى ابن عفان ما منعني إياه...
فلم تكن طاعة مصقلة إذا لعليّ طاعة الرجل الّذي يُصدر في كلّ ما يأتي عن معرفة الحقّ والإيمان به والقيام دونه والصبر على ما يكون من نتائج هذا كلّه، وإنّما كانت طاعته طاعة رجل من الناس لخليفة من الخلفاء، رجل يؤثر
____________
(1) تاريخ الطبري 6/65 - 75 ط الحسينية، و 5/113- 130 ط دار المعارف، وشرح النهج لابن أبي الحديد 1/264 - 271 ط مصر الأولى.
(2) تاريخ الطبري 5/130 ط دار المعارف.
ولم يكن مصقلة فَذّا في ذلك، وإنّما كان له أشباه من أشراف الناس فضلاً عن عامتهم في الكوفة والبصرة جميعاً، فهو يشتري الأسرى ويعتقهم لا يبتغي ثواب الله، ولا يبتغي حسن الأحدوثة، وإنّما يستجيب للعصبية وحدها، ويتخذ المكر بالسلطان وسيلة إلى إرضائها، فإذا علم السلطان مكره وطالبه بالحقّ لم يصطبر له، ولم يؤدّ منه ما لزمه، وإنّما فرّ إلى الذين يحاربون الخليفة، ويكيدون له، فأصبح عدواً بعد ان كان وليّاً. ولم يكن لقاء معاوية له وترحيبه به وإيثاره إياه بالمعروف خيراً من التوائه هو بالدَين وفراره هو إلى الشام، وإنّما كان كيداً من الكيد، ومكراً من المكر، ومكافأة على ما لا يحسُن أن يكافأ عليه المسلم الصدوق، إنّما كان ذلك يحسُن لو قد فرّ إلى معاوية رجل من الروم ليكيد معه لقيصر، ويُعينه على غزو العدو، فأمّا أن يؤوي مَن كاد معه لإمامه لا بشيء، ونكث عهده لا لشيء، إلاّ لأنّه قد يعينه على إفساد أمر العراق، فهذا هو الّذي يبيّن وجهاً خطيراً من وجوه السياسة الّتي أراد معاوية أن يقيم عليها أمر السلطان الجديد، سياسة الدنيا بأعراضها وأغراضها، وبمنافعها ومآربها، وباهوائها وشهواتها»(1).
وهنا يظهر الفرق واضحاً بين مذهب عليّ في السياسة الّتي تُخلص للدين، ومذهب معاوية في السياسة الّتي تخلص للدنيا.
____________
(1) عليّ وبنوه /127 ـ 128 ط دار المعارف.
بوائق معاوية:
لم يدع معاوية فرصة تمرّ به دون أن ينتهزها للكيد للإمام (عليه السلام)، من غارات على أطراف البلاد الّتي تتبع الإمام في حكومته، فشاع الخوف والرعب في نفوس الناس من جراء تلك الغارات، وقد ذكر المؤرخون كثيراً منها، وجمع منها بعضهم ما سمى بها كتاب الغارات وذلك هو محمّد بن إبراهيم الثقفي المتوفى سنة 283هـ، ولم يقصر عنه ابن أعثم المتوفى سنة 314هـ في كتابه الفتوح في ذكرها وكذلك الطبري المتوفى سنة 310هـ.
فذكروا أنّ معاوية وجّه النعمان بن بشير سنة تسع وثلاثين إلى عين التمر في ألفي رجل فأغاروا عليها، وكان بها مالك بن كعب مسلحة للإمام في مائة رجل فكتب مالك إلى عليّ يخبره بأمر النعمان ومن معه، فخطب عليّ الناس وأمرهم بالخروج فتثاقلوا، وواقع مالك النعمان، والنعمان في ألفي رجل ومالك في مائة رجل، وأمر مالك أصحابه أن يجعلوا جُدُر القرية في ظهورهم. وكتب
____________
(1) نفس المصدر /129.
وبلغ الخبر إلى الإمام فاستنهض الناس فتثاقلوا، فخطبهم وقال: (يا أهل الكوفة كلما سمعتم بمنسرٍ من مناسر أهل الشام أظلكم وأغلق بابه، انحجر كلّ امرئ منكم في بيته انحجار الضبّ في جحره والضبع في وجارها، المغرور من غررتموه، ولمن فاز بكم فاز بالسهم الأخيب، لا أحرارٌ عند النداء، ولا اخوان ثقة عند النجاء، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، ماذا مُنيت به منكم، عميٌ لا تبصرون، وبكمٌ لا تنطقون، وصمٌ لا تستمعون، إنّا لله وإنّا إليه راجعون)(1).
وإلى القارئ عرضاً سريعاً بأسماء من بعثهم معاوية في تلك الغارات انتقاءً من الجزء الرابع من كتاب الفتوح لابن أعثم ط دار الندوة الجديدة. بيروت:
1- غارة الضحاك بن قيس الفهري: نزل الثعلبية ثمّ سار إلى القطقطانة وهي على بعدٍ قريب من الكوفة.
فأرسل الإمام حجر بن عدي في ألف فارس فطاردهم وأدركهم في بلاد كلب فقاتلهم فقتل من أهل الكوفة ومن أهل الشام سبعة ورجع الضحاك إلى معاوية مفلولاً مهزوماً(2).
____________
(1) تاريخ الطبري 5/133- 134 ط دار المعارف باقتضاب.
(2) الفتوح 4/37 ـ 38.
3- غارة الحارث بن نمير التنوخي في الف على بلاد الجزيرة فأغاروا على قوم من بني تغلب ممّن كانوا في طاعة الإمام فأسروا منهم ثمانية وانصرفوا راجعين، فكتب الإمام إلى معاوية في شأن الأسارى، وتمّ إطلاق الأسارى من الطرفين(2).
4- غارة سفيان بن عوف الغامدي على أراضي العراق فبلغوا هيت والأنبار، فبلغ الإمام ذلك وهمّ أن يسير إليهم بنفسه ثمّ سيّر إليهم خيلاً بقيادة سعيد بن قيس الهمداني، وسار فلم يلحق به(3).
5- غارة عبد الرحمن بن أشيم على بلاد الجزيرة، فصدّه شبيب بن عامر ـ وكان مقيماً بنصيبين في ستمائة رجل ـ وكميل بن زياد ـ وكان مقيماً في هيت
____________
(1) نفس المصدر 4/38 - 45.
(2) نفس المصدر 4/45 ـ 47.
(3) نفس المصدر 4/47 ـ 50.
6- غارة بسر بن أبي أرطأة على الحجاز واليمن وأوصاه معاوية: واقتل كلّ من نابذك حتى تدخل أرض اليمن. فأتى المدينة فقتل بها خلقاً كثيراً وأمر بدور من الأنصار فحرقت وهدمت.
وسار إلى مكة فخافه أهلها فخرجوا هاربين. وسار إلى الطائف فلم يؤذ أهلها لشفاعة المغيرة بن شعبة، ولكنه أرسل إلى تبالة ـ وهي قرية ـ بها يومئذ قوم من شيعة الإمام فأمر بقتلهم جميعاً.
ثمّ سار إلى نجران فقتل من كان من شيعة الإمام، وسار إلى بلاد همدان وبها قوم من أرحب من شيعة الإمام فقتلهم عن آخرهم.
وسار إلى صنعاء وقد خرج منها عبيد الله بن العباس - وهو الوالي- هارباً واستخلف عمرو بن اراكه فقتله بسر صبرا وقتل كلّ من كان شيعة للإمام حتى لم يبق منهم أحداً - وفي الطبري: «ولقي بسر ثقل عبيد الله بن عباس وفيه ابنان له صغيران فذبحهما، وقد قال بعض الناس انّه وجد ابني عبد الله بن عباس عند رجل من كنانة من أهل البادية، فلمّا أراد قتلهما قال الكناني: علام تقتل هذين ولا ذنب لهما، فإن كنت قاتلهما فاقتلني قال: افعل فبدأ بالكناني فقتله ثمّ قتلهما»(2) - وفي قتلهما قالت أمهما أم حكيم بنت قارظ اشجى رثاء فقالت:
____________
(1) نفس المصدر 4/50.
(2) الطبري 5/140.
ها من أحسّ بابنيّ اللذَين هما | كالدرّتين تشظّى عنهما الصدف |
ها من أحسّ بابنَي اللذَين هما | سمعي وقلبي فقلبي اليوم مزدهف |
ها من أحسّ بابنَي اللذَين هما | مخ العظام فمخّي اليوم مختطف |
نبئت بسراً وما صدّقت ما زعموا | من قولهم ومن الإفك الّذي اقترفوا |
أنحى على ودجي ابنيّ مرهفة | مشحوذة وكذاك الإفك يُقترف |
حتى لقيت رجالاً من أرومته | شمّ الأنوف لهم في قومهم شرف |
فالآن ألعن بسراً حق لعنته | هذا لعمر أبي بسر هو السرف |
من دلّ والهةً حرّى مدّلهةً | على صبيَين ضلاّ إذ غدا السلف |
وكان اسم أحدهما عبد الرحمن والآخر قثم(1).
ولأمهما فيهما أشعار كثيرة(2) قال ابن الأثير(3): وهي أبيات مشهورة.
روى الذهبي: «إنّ معاوية لمّا بويع وبلغه قتال عليّ أهل النهر كاتب وجوه مَن معه مثل الأشعث، ومنّاهم وبذل لهم حتى مالوا إلى معاوية، وتثاقلوا عن المسير مع عليّ فكان يقول فلا يلتفت إلى قوله، وكان معاوية يقول: لقد حاربت عليّاً بعد صفين بغير جيش ولا عتاد»(4).
وهكذا حارب معاوية الإمام في بلاده التابعة لحكمه، حتى بان الخلل في الأطراف الشرقية منها، فقد أراد أهل فارس وكرمان أن يكسروا الخراج وطمعوا
____________
(1) الفتوح 4/59.
(2) دائرة المعارف للبستاني 1/383 ط بيروت.
(3) تاريخ ابن الأثير 3/167.
(4) سير أعلام النبلاء 44/302 ط دار الفكر بيروت (ترجمة معاوية).
وبقي عاملاً على فارس بقية خلافة الإمام وأيام خلافة الإمام الحسن السبط، واحتال عليه معاوية بعدُ حتى استلحقه، فصار عدواً بعد أن كان ولياً، كالّذي آتيناه آياتنا فاستهوته الشياطين فأنسلخ منها فأصبح من الغاوين.
وصار ابن عباس بعد ذلك إذا خرج إلى الكوفة استخلف على البصرة أبا الأسود الدؤلي.
ابن عباس في الكوفة:
لقد مرّت بنا بعض النصوص لها دلالتها على مدى ما اعتورت الإمام من محنٍ داخلية وخارجية حين صار أعداؤه يكيدونه بها، وصار هو يتميّز غيظاً، ويتفجر غضباً، فهو حين يخطب ـ ولا أبلغ منه خطيب ـ لا يلفي السامع المجيب، ولمّا استنهضهم وجدهم ثقالاً، هم سمّاعون للكذب، صمٌّ بكمٌ عن مواعظه، فزاد ذلك في ألمه وبرمه، وبلغ الحزن منه مبلغه. ومما جاوز الحد في ذلك دخول (عمرو بن الحمق وحجر بن عدي وحبّة العَرني والحارث الأعور وعبد الله بن سبأ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بعدما افتتحت مصر وهو مغموم حزين فقالوا له بيّن لنا ما قولك في أبي بكر وعمر؟ فقال لهم عليّ (عليه السلام): وهل فرغتم لهذا؟ وهذه مصر قد افتتحت وشيعتي بها قد قتلت. أنا مخرج إليكم كتاباً أخبركم فيه عمّا
ثمّ ذكر الرواة نسخة الكتاب، وأحسب أنّ أقدم نص في ذلك هو رواية ابن قتيبة المتوفى سنة 270هـ في الإمامة والسياسة(1)، ومن بعده رواية إبراهيم بن محمّد الثقفي المتوفى سنة 283هـ في الغارات(2)، وقد ذكر الشريف الرضي بعض الفقرات بعنوان (ومن خطبة له: أنّ الله بعث محمّداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم» وفقرات أخر متفرقة، وذكر الكتاب أيضاً ابن جرير الطبري الإمامي في المسترشد(3).
فمن شاء الكتاب فليرجع إلى المصادر المذكورة فإنّه يفيض ألما ويتفجّر سأماً وبرما، ولا شك أنّ ذلك الحال والمقال كلّه كان يبلغ ابن عباس وهو بالبصرة من خلال مراسلات الإمام إليه ورسله، فضلاً عمّا يتحدث به الناس ويتناقلونه من أخبار تخاذل المجتمع الكوفي، ومن الطبيعي كان لذلك تأثيره على المجتمع البصري الّذي لم يكن هو الآخر أحسن حالاً من المجتمع الكوفي إن لم يكن أسوأ لتركيبته السكانية، واتساع رقعة ولاياته التابعة لإمارته، وقد قرأنا أخبار ما جرى في بعض الولايات التابعة للبصرة في حكومتها نحو ما مرّ عن فارس وكور الأهواز، وخبر الخريّت بن راشد في سيف البحر من أطراف رامهرمز، وعامل أردشير خرّة. إلى غير ذلك ممّا لم نذكره ممّا دل على عُنف الزلزال الّذي بدأ يهزّ المجتمع الإسلامي الّذي يحكمه الإمام، وينخر بنية المجتمع في البصرة والكوفة بل واليمن وغيرها على حدٍّ سواء.
____________
(1) الإمامة والسياسة 1/129 ـ 133 ط سنة 1328 بمصر.
(2) الغارات 1/302 ـ 322 تح ـ السيّد جلال الدين الحسيني (محدّث).
(3) المسترشد /95 ـ 103 ط الحيدرية مع زيادات.
ولما لم تكن لدينا تواريخ محدّدة باليوم والشهر لذلك الحضور ولا غيره ممّا يشابهه، فصرنا نستعين في التحديد التقريبي بنصوص الوثائق الّتي يرد فيها ما يشير إجمالاً إلى حَدَث معيّن. ونحن من خلال تلك النصوص نستشفّ تاريخ الحضور.
ولدينا الآن نصّان لهما أهميتهما القصوى في تصوير الحزن الّذي أحاط بالإمام من ست جهاته ـ كما يقال في المثل ـ وهما متشابهان شبهاً كثيراً في المضمون ممّا جعلنا نذكرهما كصنوين. مضافاً إلى الزمان والمكان فكلّ منهما حَدَثَ في الكوفة، وكلّ منهما يرويه ابن عباس رواية حضور ولا يخفى أنّ عنصر المشاهدة أكثر ضبطاً للخصوصيات ويمتاز بها الراوي على غيره من رواة السماع.
كما أنّ كلاً منهما فيه لابن عباس أثر ذاتي يعكس مشاركته للإمام في أحزانه بوجدانه.
كما نرى فيهما الإمام يفضي إليه بما يعتلج بصدره ممّا لحقه من ظلم الأمة له وهضمها لحقوقه، ومن غريب الصدف أن نجدهما معاً ينتهيان بمفاجأة تعرض فينهي الإمام كلامه عندها.