إنّهما الخطبة الشقشقية وصنوها، ولا مشاحة في الاصطلاح لو سمينا النص الثاني بذلك لما مرّ من أوجه الشبه بينهما.
والآن إلى قراءة عابرة لهما:
أوّلاً: الخطبة الشقشقية:
ولمّا كانت شهرتها وفيما كتب عنها ما يغني عن الإفاضة في أدلة إثباتها(1) فلا نطيل الوقوف عند ذلك. إلاّ أنّا لا مناص لنا من التنبيه على أمور اقتضى المقام ذكرها:
1- إنّ المصادر الّتي روت الخطبة كلها تقريباً روت النص عن ابن عباس، اللّهمّ إلاّ ما وجدناه في سند واحد عند الشيخ الطوسي تنتهي روايته إلى الإمام الباقر (عليه السلام)، فقد روى الخطبة عن ابن عباس كما رواها عن أبيه عن جده ـ يعني الإمام الحسين (عليه السلام).
2- ممّا يثير الغرابة والتساؤل، كيف تكون خطبة على المنبر يسمعها من حضر، ولا شك بأنهم كانوا كثيرين وإن لم نعلم عددهم بالضبط، فلا تشتهر روايتها إلاّ عن ابن عباس فلماذا لم يروها الآخرون؟
ثمّ ما بال الرواة عن ابن عباس لهذه الخطبة لم نعرف منهم إلاّ الإمام الباقر الطاهر (عليه السلام)، وإلا عطاء بن أبي رباح وعكرمة الخارجي الخاسر مع كثرة الذين يروون عنه؟
____________
(1) راجع مصادر نهج البلاغة للمرحوم السيّد عبد الزهراء الخطيب 1/309 - 324 ط الأعلمي - بيروت.
لذلك قلّت الرواية عنه إلاّ من طريق ثلاثة فحسب، هم الإمام الباقر (عليه السلام)، وعطاء وعكرمة ولما كان الثالث هو مولى ابن عباس، فلعل روايته عنه ورواية عطاء كانتا حين سماعهما منه وهو يحدّث بها الإمام الباقر (عليه السلام)، لذلك قلّ رواتها عنه، وكانت سلسلة الرواة عن عكرمة تنتهي إلى أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام)، فقد رواها عنه أبان بن تغلب وعليّ بن خزيمة ـ كما في أسانيد الصدوق ـ فذلك يقرّب صحة ما احتملناه في سماع عكرمة لها، لذلك لم يتطرّق الريب إليه في روايته للخطبة على أنّه خارجي.
3- ورد في إرشاد الشيخ المفيد وشرح النهج للقطب الراوندي أنّ الخطبة كانت بالرحبة، ويبدو أنّ المكان كان منتدى القوم وقد ورد ذكر الرحبة في
وهذا أمر منه غريب فإنّ بيعة الإمام كانت بالمدينة، والخطبة تناولت ذكر الناكثين والقاسطين والمارقين فكيف يصح ما ذكره السبط؟ ولو أنّه ذكر لنا تمام سند شيخه النفيس لكان أولى.
والآن إلى رواية النص بأسانيد المشايخ الأعلام الثلاثة: الصدوق، والطوسي، والقطب الراوندي.
فقد رواه الصدوق فقال: «حدّثنا محمّد بن إبراهيم بن إسحاق الطالقاني (رضي الله عنه) قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى الجلودي قال: حدّثنا أبو عبد الله أحمد بن عمّار ابن خالد، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحمّاني، قال: حدّثنا عيسى بن راشد، عن عليّ بن خزيمة عن عكرمة عن ابن عباس»(2).
____________
(1) تذكرة الخواص /73 ط حجرية.
(2) معاني الأخبار /343 ط الحيدرية بتقديمنا، وعلل الشرائع 1/205 ط مكتبة الرضي بقم.
ورواه الطوسي فقال: «وبهذا الإسناد أخبرنا الحفّار قال حدّثنا أبو القاسم الدعبلي قال: حدّثنا أبي قال: حدّثني أخي دعبل، قال: حدّثنا محمّد بن سلامة الشامي عن زرارة بن أعين عن أبي جعفر محمّد بن عليّ (عليه السلام) عن ابن عباس.
ثمّ قال الطوسي: وعن محمّد عن أبيه عن جده»(1).
ورواه القطب الراوندي فقال: «وأمّا الرواية للخطبة فعن الشيخ أبي نصر الحسن بن محمّد بن إبراهيم ابن البونارتي عن الحاجب أبي الوفا محمّد بن بديع وأبي الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكواني عن الحافظ أبي بكر بن مردويه الاصبهاني عن سليمان بن أحمد الطبراني، أخبرنا أحمد بن عليّ الأبّار أخبرنا إسحاق بن سعيد أبو سلمة الدمشقي أخبرنا خليد بن دعلج عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس...»(2).
(النص) برواية الصدوق المتوفى سنة 381 في كتابيه وهما أقدم مصدر وصل إلينا. وإليك لفظه:
«عن ابن عباس قال: ذكرت الخلافة عند أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: (أمّا والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة أخو تيم وانّه ليعلم أنّ محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إليّ الطير،
____________
(1) الأمالي 1/382 مط النعمان في النجف.
(2) منهاج البراعة 1/131 - 133 ط قم منشورات مكتبة السيّد المرعشي.
____________
(1) القصص /83.
قال ـ ابن عباس: وناوله رجل من أهل السواد كتاباً فقطع كلامه وتناول الكتاب. فقلت: يا أمير المؤمنين لو اطّردت مقالتك إلى حيث بلغت، فقال: هيهات هيهات يا بن عباس، تلك شقشقة هدرت ثمّ قرّت.
قال ابن عباس: فما أسفي على كلام قط كأسفي على كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) إذ لم يبلغ به حيث أراد».
مطايبة ابن الخشاب لابن عباس:
قال ابن أبي الحديد بعد ذكره الخطبة: «حدثني شيخي أبو الخير مصدّق ابن شبيب الواسطي(1) في سنة ثلاث وستمائة قال: قرأت على الشيخ أبي محمّد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب(2) هذه الخطبة فلمّا انتهيت إلى هذا الموضع ـ يعني قول ابن عباس: ما أسفت الخ - قال لي: لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له: وهل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف أن لا يكون بلغ من كلامه ما أراد؟ والله ما رجع عن الأولين ولا عن
____________
(1) بغدادي المولد والوفاة، كان أعلم معاصريه بالعربية، وعالم بعلوم الدين وله المام بالفلسفة والحساب والهندسة وقف كتبه على أهل العلم قبل وفاته، توفي سنة 567 هـ (أعيان الشيعة 38/94 وروضات الجنات 5/22 والأعلام للزركلي 4/67).
(2) اللغوي النحوي الأديب المفسر الشاعر صاحب تاريخ مواليد ووفيات أهل بيت النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، كان من تلامذة الجواليقي وابن الشجري. وكان خطه في نهاية الحسن توفى ببغداد سنة 567 ودفن بقرب قبر بشر الحافي) الكنى والألقاب 1/272 ط الحيدرية سنة 1376هـ).
فقال: لا والله، وإنّي لأعلم أنّها كلامه كما أعلم أنّك مصدّق.
فقلت له: إنّ كثيراً من الناس يقولون: إنّها من كلام الرضي (رحمه الله) تعالى.
فقال: أنّى للرضي ولغير الرضي هذا النَفَس وهذا الأسلوب، فقد وقفنا على رسائل الرضي وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع في هذا الكلام في خل ولا خمر. ثمّ قال: والله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة، ولقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها، وأعرف خطوط مَن هو من العلماء وأهل الأدب، قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي».
وعقب ابن أبي الحديد على ذلك بقوله: «قلت: وقد وجدت أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي إمام البغداديين من المعتزلة. وكان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة...
ووجدت كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب (الإنصاف) وكان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي (رحمه الله) تعالى، ومات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي (رحمه الله) موجودا ً»(1).
والآن إلى النص الثاني وهو الّذي سميته:
____________
(1) شرح النهج لابن أبي الحديد 1/69.
ثانياً: الصنو:
لقد تيقظت في نفس الإمام ذكريات مريرة، فصار يستعرض صفحات من تاريخه البعيد والقريب، وفي استعادته ذكرياته الماضيات عاف النوم واستولى عليه الأرق، وهذا ما رواه السيّد ابن طاووس المتوفى سنة 664 في كتاب اليقين(1) ورواه المجلسي في البحار(2) وقد رمز له بعلامة (شف) ويعني ذلك الرمز كتاب (كشف اليقين للعلامة الحلي 726 هـ) وقد بحثت في نسخته المطبوعة قديماً على الحجر وحديثاً فلم أقف عليه، ولعل في المطبوع سقط لم يتنبّه له الطابعون، أو أنّ سهواً من النساخ وقع في الرمز. ومهما يكن فأنا أنقله عن السيّد ابن طاووس كما ذكره.
قال (فيما ذكره): «عن أحمد بن محمّد الطبري المعروف بالخليلي(3) المقدّم ذكره من كتابه المشار إليه من تسمية مولانا عليّ (عليه السلام) أمير المؤمنين في حياة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأمره بالتسليم عليه بذلك فقال: أخبرنا أحمد بن محمّد بن ثعلبة الحماني قال حدّثنا مخول بن إبراهيم النهدي قال حدّثنا عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب (عليهم السلام) قال: قال ابن عباس: كنت أتتبع غضب أمير المؤمنين (عليه السلام) إذا ذكر شيئاً أو هاجه خبر، فلمّا كان ذات يوم كتب إليه بعض شيعته من الشام يذكر في كتابه أنّ معاوية
____________
(1) اليقين في إمرة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الباب/122 ط الحيدرية سنة 369.
(2) بحار الأنوار 8/261 ط حجرية الكمباني.
(3) ويقال له غلام خليل أبو عبد الله محدث سكن بغداد وحدث بها من تصانيفه: الوصول إلى معرفة الأصول، الكشف وفضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) توفى سنة 275هـ (أعيان الشيعة 9/455).
فقال: ويحك يا بن عباس وكيف تنفس المصدر عينا قلبٍ مشغول؟
يا بن عباس مَلِكُ جوارحك قلبُك، فإذا أرهبه أمرٌ طار النوم عنه، ها أنذا كما ترى من أوّل الليل اعتراني الفكر والسهر لما تقدم من نقض عهد أوّل هذه الأمة، المقدّر عليها نقض عهدها، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أمر من أمر من أصحابه بالسلام عليَّ في حياته بإمرة المؤمنين، فكنت أوكد أن أكون كذلك بعد وفاته. يا بن عباس أنا أولى الناس بالناس بعده ولكن أمور اجتمعت على رغبة الناس في الدنيا وأمرها ونهيها وصرف قلوب أهلها عني، وأصل ذلك ما قال الله تعالى في كتابه: {أم يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إبراهيم الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}(1) فلو لم يكن ثواب ولا عقاب، لكان بتبليغ الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرضٌ على الناس اتباعه، والله (عزّ وجلّ) يقول: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
____________
(1) النساء /54.
ولقد طال ـ يا بن عباس ـ فكري وهمّي وتجرّعي غصة لأمر ورود أقوام على معاصي الله، وحاجتهم إليّ في حكم الحلال والحرام، حتى إذا أتاهم أمن الدنيا أظهروا الغنى عني، كأن لم يسمعوا الله (عزّ وجلّ) يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإلى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}(3) الآية، ولقد علموا أنّهم احتاجوا إليَّ ولقد غنيت عنهم {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}(4) فمضى من مضى قالٍ عليَّ بضغن القلوب، وأورثها الحقد عليَّ، وما ذاك إلاّ من أجل طاعته في قتل الأقارب مشركين، فامتلأ غيظاً واعتراضاً، ولو صبروا في ذات الله لكان خيراً لهم، قال الله (عزّ وجلّ): {لاَ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(5) الآية، فأبطنوا مَن ترك الرضا بأمر الله ما أورثهم النفاق، وألزمهم بقلة الرضا الشقاق، وقال الله (عزّ وجلّ): {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا}(6).
فالآن يا بن عباس قرنت بابن آكلة الأكباد وعمرو وعتبة والوليد ومروان وأتباعهم وصار معهم في حديث، فمتى اختلج في صدري وألقي في رُوعي أنّ
____________
(1) الحشر /7.
(2) الأحزاب /33.
(3) النساء /83.
(4) محمّد /24.
(5) المجادلة /22.
(6) مريم /84.
يا بن عباس ويل لمن ظلمني ودفع حقي، وأذهب عني عظيم منزلتي، أين كانوا أولئك وأنا أصلي مع رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صغيراً لم يكتب عليّ صلاة، وهم عبدة الأوثان وعصاة الرحمن، ولهم توقد النيران، فلمّا قرب إصعار الخدود وإتعاس الجدود أسلموا كرهاً، وأبطنوا طمعاً في أن يطفئوا نور الله، وتربّصوا انقضاء أمر الرسول وفناء مدته، لما أطمعوا أنفسهم في قتله، ومشورتهم في دار ندوتهم. قال الله (عزّ وجلّ): {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(1)، وقال: { يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}(2).
يا بن عباس ندبهم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في حياته بوحي من الله يأمرهم بموالاتي، فحمل القوم ما حملهم ممّا حقد على أبينا آدم من حسد اللعين له، فخرج من روح الله ورضوانه، وألزم اللعنة لحسده لولي الله. وما ذاك بضارّي إن شاء الله شيئاً.
يا بن عباس أراد كلّ أمرئ أن يكون رأساً مطاعاً تميل إليه الدنيا وإلى أقاربه، فحمله هواه ولذة دنياه، واتباع الناس إليه، أن نوزعت ما جُعل لي، ولولا
____________
(1) آل عمران /54.
(2) التوبة /32.
يا بن عباس إنّ الظلم يتسق لهذه الأمة ويطول ويظهر الفسق وتعلو كلمة الظالمين، ولقد أخذ الله على أولياء الدين ألاّ يقارّوا أعداءه، بذلك أمر الله في كتابه على لسان الصادق رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فقال: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(2) الآية.
يا بن عباس ذهب الأنبياء فلا ترى نبياً، والأوصياء ورثتهم، عنهم أخذوا علم الكتاب وتحقيق الأسباب قال الله (عزّ وجلّ): {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ}(3) فلا يزال الرسول باقياً ما نفذت أحكامه وعمل بسنته، وداروا حول أمره ونهيه.
وبالله أحلف يا بن عباس لقد نُبذ الكتاب، وترك قول الرسول إلاّ ما لا يطيقون تركه من حلال وحرام، ولم يصبروا على كلّ أمر بينهم {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ
____________
(1) التوبة /24.
(2) المائدة /2.
(3) التوبة /24.
يا بن عباس عامل الله في سره وعلانيته تكن من الفائزين، ودع من اتّبع هواه وكان أمره فُرطا، وبحسب معاوية ما عمل وما يعمل به مَن بعده، وليمدّه ابن العاص في غيّه فكأنّ عمره قد انقضى، وكيده قد هوى {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ}(4).
وأذّن المؤذّن فقال: الصلاة يا بن عباس لا تفت، استغفر الله لي ولك وحسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
قال ابن عباس: فغمّني انقطاع الليل وتلهفت على ذهابه»(5).
وإذا قارنا هذا النص بما مرّ من نص الشقشقية وجدنا وجه الشبه كبيراً وكثيراً كما قلنا آنفاً. فبداية كبداية ونهاية كنهاية، وما بين البداية والنهاية نفثات أحزان وأشجان متشابهة وحتى أسف ابن عباس في آخر الشقشقية يقابله تلهّف في آخر صنوها.
وإذا رجعنا إلى النصين نتعامل معهما كوثائق تاريخية تستشفّ منهما تحديد البُعد الزماني للحَدَث، وأنّهما معاً كانا بعد واقعة النهروان. ففي النص
____________
(1) آل عمران /101.
(2) العنكبوت /43.
(3) المؤمنون /115.
(4) الشعراء /227.
(5) كتاب اليقين في أمرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الباب /42 ط الحيدرية سنة 1369 هـ.
وفي النص الثاني قرأنا في مقدمته قول ابن عباس«وذلك لمّا أمر أصحابه بالانتظار له بالنخيلة، فدخلوا الكوفة وتركوه فغلظ ذلك عليه» وهذا إنّما كان بعد رجوعهم من النهروان وأرادهم (عليه السلام) على الخروج إلى أهل الشام إلاّ أنّ الأشعث الغادر الفاجر أبى عليه ذلك.
كما انّا عرفنا لولا حضور ابن عباس في كلا الموقفين وروايته لهما، لضاعت تلك النفثات الحارة الساعرة تحت وطأة الجليد الأموي الّذي جمّد الأفكار وكمّ الأفواه.
ومن خلالهما أيضاً أدركنا عمق الصلة بين الإمام ومأمومه، وأنّ لابن عباس مكانة عند الإمام سمت به إلى أوج الثقة فصار يبثّه شجونه وشؤونه. كما عرفنا صدق الموالاة والمواساة من ابن عباس المأموم لإمامه المهضوم المظلوم.
وثمة موقف آخر وليس أخيراً لابن عباس حضر فيه إلى الكوفة، ربّما أتحد مع أحد الموقفين السابقين زماناً، وربّما غايرهما.
ومهما كان زمانه، فإنّ أهميته البالغة خير شاهد على تبديد الضبابية الحالكة الّتي أحاطت بابن عباس من أجل تهمة خيانة بيت مال البصرة. ولما كنت قد جعلت الحلقة الرابعة من الموسوعة لبحث جميع ما وقفت عليه من شوائب ونوائب لحقت به وسميتها (ابن عباس في الميزان) فلا أفيض هنا بالحديث عنها، ولكني أذكر إجمالاً بعض النصوص لاقتضاء المقام ذكرها:
«سلام عليك أمّا بعد: فإنّ المرء يسوؤه فوت ما لم يكن ليدركه، ويسره درك ما لم يكن ليفوته، فليكن سرورك بما نلت من امر آخرتك، وليكن أسفك على ما فاتك منها، وما فاتك من الدنيا فلا تأسفنّ عليه، وليكن همك فيما بعد الموت».
وهذا ما رواه سبط ابن الجوزي بإسناد ينتهي إلى المأمون العباسي وهو يرويه عن آبائه الخالفين عن ابن عباس. وعقب السبط عليه بقوله: «وقد روى السدي هذا عن أشياخه وقال عقيبه: كان الشيطان قد نزغ بين ابن عباس وبين عليّ (عليه السلام) مدة ثمّ عاد الأمر إلى موالاته...»(1). ثمّ ذكر المراسلات الّتي خبط فيها الكثيرون ممّا سنذكرها في الحلقة الرابعة إن شاء الله.
ولعل هذا الّذي أشار إليه السدي إنّما أراد ما ذكره اليعقوبي في تاريخه، فقد قال: «وكتب أبو الأسود الدؤلي ـ وكان خليفة عبد الله بن عباس بالبصرة ـ إلى عليّ (عليه السلام) يعلمه أنّ عبد الله أخذ من بيت المال عشرة الاف درهم، فكتب
____________
(1) تذكرة الخواص /89 ط حجرية سنة 1285 هـ.
وأخيراً بعد ما ذكرناه من أمر الكتاب فلنقرأ ما وجدناه يتضمن حضوره بالكوفة، وقد أتى بما عليه من المال:
روى الطبرسي في مكارم الأخلاق خبراً له اتساق واتفاق مع ما مرّ: «عن عبد الله بن عباس لمّا رجع من البصرة وحمل المال ودخل الكوفة، وجد أمير المؤمنين (عليه السلام) قائماً في السوق وهو ينادي بنفسه: معاشر الناس من أصبناه بعد يومنا هذا يبيع الجرّي والطافي والمارماهي علوناه بدرّتنا هذه ـ وكان يقال لدرّته السبتية ـ.
قال ابن عباس: فسلّمت عليه فردّ عليَّ السلام ثمّ قال: يا بن عباس ما فعل المال؟
فقلت: ها هو يا أمير المؤمنين، وحملته إليه، فقرّبني ورحّب بي، ثمّ أتاه منادٍ ومعه سيفه ينادي عليه بسبعة دراهم. فقال: لو كان لي في بيت مال المسلمين ثمن سواك أراك ما بعته، فباعه واشترى قميصاً بأربعة دراهم، وتصدّق بدرهمين، وأضافني بدرهم ثلاثة أيام»(2).
____________
(1) تاريخ اليعقوبي 2/181 ط النجف.
(2) مكارم الأخلاق (آداب اللباس - ترقيع الثياب) /130 ط حجرية سنة 1376 و /48 ط مصر سنة 1369 و /112 ط الحيدرية بتقديمنا سنة 1391هـ.
ثمّ إنّ الخبر بكل مفرداته يتفق مع سيرة إمام عادل شديد في مراقبة ومحاسبة عمّاله القريب منهم والبعيد كلّهم سواسية أمام العدالة. ومع الأسف لم يفصح الخبر عن وجه الأخذ بأيّ اعتبار كان، فهل كان له على وجه الحقّ الشرعي فيما يراه؟ أو كان على سبيل القرض؟ ومهما كان وجه ذلك فقد ردّه فرضي عنه الإمام: فرواية اليعقوبي أولى بالقبول لأنّها ملتصقة بالمقبول وهو المعقول وهي أنسب بواقع الحدث كما حدث وتلمسنا صحتها بخبر مكارم الأخلاق، فهو رصين ومقبول أيضاً. كما إنّ الخبر أيضاً أوضح سيرة ذلك الإمام العادل في مراقبة ومعاقبة أصحاب المكاسب المحرّمة حتى الصيّادين فكان ينادي بنفسه. وأوضح جانباً من ورعه عن تناول ما يحتاج من بيت مال المسلمين، ولو كان له فيه ثمن سواك من أراك لما باع سيفه. ثمّ ها هو قد باعه بسبعة دراهم فأين صرفها؟ اشترى قميصاً بأربعة دراهم، وتصدّق بدرهمين وأضاف ابن عمه بدرهم ثلاثة أيام فدتك النفوس يا إمام العدالة في الأرض.
وثمة آخر موقف فيه حضور لابن عباس في الكوفة نجد في أخباره دلالات تبعد عنه الشكوك كما تدل على حسن السلوك. وهو آخر حضور له، ولعله أطول مكثاً في زمانه من غيره، فقد كان ذلك في شهر رمضان سنة 40 من الهجرة، وهو الشهر الّذي استشهد فيه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام).
1- كان الإمام (عليه السلام) يتناول عشاءه عنده مرة في إحدى ليال ثلاث أو أربع من شهر رمضان وأقدم من رواه لنا البسوي المتوفى سنة 277 هـ، كما روى ذلك أيضاً ثلاثة من الأحناف. وهم المؤيد الخوارزمي في مناقبه، وشيخ الإسلام الجويني في فرائد السمطين، وجمال الدين الزرندي في نظم درر السمطين، ورواه من الشافعية ابن عساكر في تاريخه ـ ترجمة الإمام ـ، ورواه من الزيدية محمّد بن سليمان الكوفي في كتابه مناقب أمير المؤمنين(1).
ومن أصحابنا الشيخ المفيد في إرشاده وكلّ هؤلاء يروونه عن أبي نعيم الفضل بن دكين عن عبد الجبار بن العباس الهمداني عن عثمان بن المغيرة وسيأتي مزيد بيان عن هذه الحضور في الحلقة الرابعة (ابن عباس في الميزان) إن شاء الله تعالى.
2- ولادة ابنه عليّ بالكوفة في شهر رمضان قبل مقتل الإمام (عليه السلام) بيوم أو ليلة، وهذا أمر ذكره جملة من المؤرخين في ترجمته.
فقد ذكر ابن سعد في الطبقات فقال: «ولد ليلة قتل عليّ بن أبي طالب رحمة الله عليه في شهر رمضان سنة أربعين فسُمّي باسمه وكنيته أبي الحسن، فقال له عبد الملك بن مروان لا والله لا احتمل لك الاسم والكنية جميعاً فغيّر أحدهما، فغيّر كنيته فغيّرها أبا محمّد. وحكى ذلك غير واحد نقلاً عنه وعن
____________
(1) مناقب أمير المؤمنين عليّ 2/71.