[في قول رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبي بكر في مسجد قبا]
وروي عن الصادق عليه السلام: انّ أبا بكر لقى أمير المؤمنين عليه السلام في سكة [من سكك](1) بني النجار، فسلّم عليه وصافحه وقال له: يا أبا الحسن أفي نفسك شيء من استخلاف الناس إيّاي، وما كان من يوم السقيفة وكراهيتك للبيعة، والله ما كان ذلك من ارادتي إلاّ انّ المسلمين أجمعوا على أمر لم يكن لي أن اُخالف عليهم فيه، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: لا تجتمع اُمّتي على الضلال.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر اُمّته الذين أطاعوه في عهده من بعده، وأخذوا بهداه، وأوفوا بما عاهدوا الله عليه، ولم يبدّلوا ولم يغيّروا، قال له أبوبكر: والله يا عليّ لو شهد عندي الساعة من أثق به إنّك أحق بهذا الأمر سلّمته إليك رضى من رضى، وسخط من سخط.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر فهل تعلم أحداً أوثق من رسول الله صلّى الله عليه وآله، وقد أخذ بيعتي عليك في أربعة مواطن، وعلى جماعة معك وفيهم عمر وعثمان، في يوم الدار، وفي بيعة الرضوان تحت الشجرة، ويوم جلوسه في بيت اُمّ سلمة، ويوم الغدير بعد رجوعه من حجة الوداع، فقلتم بأجمعكم: سمعنا وأطعنا لله ولرسوله.
فقال لكم: الله ورسوله عليكم من الشاهدين؟ فقلتم بأجمعكم: الله ورسوله علينا من الشاهدين، فقال لكم: فليشهد بعضكم على بعض وليبلغ شاهدكم غائبكم، ومن سمع منكم فليسمع من لم يسمع، فقلتم: نعم يا رسول الله، وقمتم بأجمعكم تهنّون رسول الله صلّى الله عليه وآله وتهنّوني بكرامة الله لنا، فدنى عمر وضرب على كتفي وقال بحضرتكم: بخ بخ يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي(2)
____________
1- أثبتناه من "ج".
2- في "الف": مولانا.
فقال أبو بكر: لقد ذكّرتني أمراً يا أبا الحسن لو يكون رسول الله صلّى الله عليه وآله شاهداً فأسمع منه، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: الله ورسوله عليك من الشاهدين يا أبا بكر إن رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله حيّاً يقول لك إنّك ظالم لي في أخذ حقّي الذي جعله الله ورسوله لي دونك ودون المسلمين، أن تسلّم هذا الأمر لي، وتخلع نفسك منه؟.
فقال أبو بكر: يا أبا الحسن وهذا يكون أن أرى رسول الله صلّى الله عليه وآله حيّاً بعد موته ويقول لي ذلك؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: نعم يا أبابكر، قال: فأرني ذلك إن كان حقّاً، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: والله ورسوله عليك من الشاهدين إنّك تفي بما قلت؟ قال أبو بكر: نعم.
فضرب أمير المؤمنين عليه السلام على يده وقال: تسعى معي نحو قبا، فلمّا ورداه تقدّم أمير المؤمنين عليه السلام فدخل المسجد وأبو بكر من ورائه، فإذا هم برسول الله صلّى الله عليه وآله جالس في قبلة المسجد، فلمّا رآه أبو بكر سقط لوجهه كالمغشيّ عليه، فناداه رسول الله صلّى الله عليه وآله: ارفع رأسك أيّها الضليل المفتون، فرفع أبو بكر رأسه وقال: لبيك يا رسول الله، أحياة بعد الموت يا رسول الله؟.
فقال له: ويلك يا أبا بكر إنّ الذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير، قال: فسكت أبو بكر وشخصت عيناه نحو رسول الله صلّى الله عليه وآله، فقال: ويلك يا أبا بكر أنسيت ما عاهدت الله ورسوله عليه في المواطن الأربعة لعليّ عليه السلام؟ فقال: ما أنساها(1) يا رسول الله.
فقال: ما بالك اليوم تناشد عليّاً فيها ويذكرك فتقول: نسيت، وقصّ عليه
____________
1- في "ج": ما نسيتها.
قال: وغاب رسول الله صلّى الله عليه وآله عنهما، فتشبّث أبو بكر بأمير المؤمنين عليه السلام وقال: الله الله فيّ يا عليّ، سر معي إلى منبر رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى أعلو المنبر فأقص على الناس ما شاهدت ورأيت من أمر رسول الله، وما قال لي وما قلت له وما أمرني به، وأخلع نفسي من هذا الأمر واُسلّمه إليك.
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: أنا معك إن تركك شيطانك، فقال أبوبكر: إن لم يتركني تركته وعصيته، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: إذن تطيعه ولا تعصيه، وإنّما رأيت ما رأيت لتأكيد الحجة عليك.
وأخذ بيده وخرجا من مسجد قبا يريدان مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، وأبو بكر يخفق بعضه بعضاً ويتلوّن ألواناً، والناس ينظرون إليه ولا يدرون ما الذي كان حتّى لقيه عمر، فقال له: يا خليفة رسول الله ما شأنك، وما الذي دهاك؟ فقال أبو بكر: خلّ عنّي يا عمر، فوالله لا سمعت لك قولا، فقال له عمر: وأين تريد يا خليفة رسول الله؟ فقال أبو بكر: اُريد المسجد والمنبر.
فقال: هذا ليس وقت صلاة ومنبر، قال: خلّ عنّي فلا حاجة لي في كلامك، فقال عمر: يا خليفة رسول الله أفلا تدخل قبل المسجد منزلك فتسبغ الوضوء؟ قال: بلى، ثمّ التفت أبو بكر إلى عليّ عليه السلام فقال: يا أبا الحسن تجلس إلى جانب المنبر حتّى أخرج إليك، فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام ثمّ قال له: يا أبابكر قد قلت لك انّ شيطانك لا يدعك أو يرديك، ومضى أمير المؤمنين عليه السلام وجلس بجانب المنبر.
فلم يزل يرقبه(1) إلى أن حدّثه بحديثه كلّه، فقال له: يا أبا بكر أنسيت شعرك من أوّل شهر رمضان فرض علينا صيامه، حيث جاءك حذيفة بن اليمان، وسهل بن حنيف، ونعمان الأزدي، وخزيمة بن ثابت في يوم جمعة إلى دارك ليقضيك(2) ديناً عليك، فلمّا انتهوا إلى باب الدار سمعوا لك صلصلة في الدار، فوقفوا بالباب ولم يستأذنوا عليك، فسمعوا اُمّ بكر زوجتك تناشدك وتقول: قد عمل حرّ الشمس بين كتفيك، قم إلى داخل البيت وأبعد عن الباب لا يسمعك بعض أصحاب محمد فيهدر دمك، فقد علمت انّ محمداً قد أهدر دم من أفطر يوماً من شهر رمضان من غير سفر ولا مرض خلافاً على الله وعلى محمد.
فقلت لها: هات لا اُمّ لك فضل طعامي من الليل، وأترعي(3) الكأس من الخمر، وحذيفة ومن معه بالباب يسمعون محاورتكما، فجاءت بصحفة(4) فيها طعام من الليل وقعب مملوء خمراً، فأكلتَ من الصحفة وكرعتَ الخمر في ضحى النهار وقلتَ لزوجتك هذا الشعر:
____________
1- رقبه: انتظره. (القاموس)
2- في "ج": ليتقاضونك.
3- أترعه: ملأه. (القاموس)
4- في "الف" و "ب": صحيفة.
ذريني أصطبح(1) يا اُمّ بكر | فإنّ الموت نقب عن هشام |
إلى أن انتهيت في شعرك:
يقول لنا ابن كبشة سوف نُحيى | وكيف حياة أشلاء(2) وهام |
ولكن باطل قد قال هذا | وإفك من زخاريف الكلام |
ألا هل مبلغ الرحمن عنّي | بانّي تارك شهر الصيام |
وتارك كلّما أوحى إلينا | محمد من أساطير الكلام |
فقل لله يمنعني شرابي | وقل لله يمنعني طعامي |
ولكن الحكيم رأى حميراً | فألجمها فتاهت في اللجام |
فلمّا سمعك حذيفة ومن معه تهجو محمداً قمحوا عليك في دارك، فوجدوك وقعب الخمر في يدك وأنت تكرعها، فقالوا لك: يا عدوّ الله خالفت الله ورسوله، وحملوك كهيأتك إلى مجمع الناس بباب رسول الله، وقصّوا عليه قصّتك، وأعادوا شعرك.
فدنوت منك وشاورتك وقلت لك في ضجيج الناس: قل إنّي شربت الخمر ليلا فثملتُ(3) فزال عقلي فأتيت ما أتيته نهاراً ولا علم لي بذلك، فعسى أن يدرأ عنك الحدّ، وخرج محمد فنظر إليك فقال: استيقضوه، فقلت: رأيناه وهو ثمل يا رسول الله لا يعقل، فقال: ويحكم الخمر يزيل العقل، تعلمون هذا من أنفسكم فأنتم تشربونها، فقلنا: نعم يا رسول الله، وقد قال فيها امرء القيس الشاعر:
شربت الخمر حتّى زال عقلي | كذاك الاثم(4) يفعل بالعقول |
____________
1- اصطَبَحَ: أسرج وشرب الصبوح. (القاموس)
2- أشلاء الإنسان: أعضاؤه بعد البلى والتفرّق.
3- الثمل: السكر. (القاموس)
4- في "ب" و "ج": الخمر.
فقال: ويحك(1) يا أبا حفص لا شكّ عندي فيما قصصته عليّ، فاخرج إلى ابن أبي طالب فاصرفه عن المنبر.
قال: فخرج عمر وأمير المؤمنين عليه السلام جالس بجنب المنبر، فقال: ما بالك يا عليّ قد تصدّيت لها، هيهات هيهات دون والله ما تروم من علوّ هذا المنبر خرط القتاد، فتبسّم أمير المؤمنين عليه السلام حتّى بدت نواجذه ثمّ قال: ويلك منها والله يا عمر إذا أفضت إليك، والويل للاُمّة من بلائك.
فقال عمر: هذه بشرى يا ابن أبي طالب صدقت ظنونك وحقّ قولك، وانصرف أمير المؤمنين عليه السلام إلى منزله وكان هذا من دلائله عليه السلام(2).
[في حديث البساط وأصحاب الكهف]
روي عن سلمان الفارسي رحمه الله قال: دخل أبو بكر وعمر وعثمان على رسول الله صلّى الله عليه وآله فقالوا: ما بالك يا رسول الله تفضّل علينا عليّاً في كلّ حال؟ فقال: ما أنا فضّلته بل الله تعالى فضّله، فقالوا: وما الدليل؟ فقال صلّى الله عليه وآله: إذا لم تقبلوا منّي فليس من الموتى عندكم أصدق من أهل الكهف، وأنا
____________
1- في "ج": ويلك.
2- عنه البحار 29: 35 ح18; ومدينة المعاجز 3: 14 ح693; وفي هداية الحضيني: 102; وقال العلاّمة المجلسي ذيل الحديث: أقول: أوردت هذا الخبر ـ ولا أعتمد عليه كلّ الاعتماد ـ لموافقته في بعض المضامين لسائر الآثار، والله أعلم بحقائق الاُمور.
فأمر فبسط بساطاً له ودعا بعليّ عليه السلام فأجلسه وسط البساط، وأجلس كلّ واحد منهم على قرنة من البساط، وأجلس سلماناً على القرنة الرابعة، ثمّ قال: يا ريح أحمليهم إلى أصحاب الكهف وردّيهم إليّ.
قال سلمان: فدخلت الريح تحت البساط وسارت بنا وإذا نحن بكهف عظيم، فحطتنا عليه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا سلمان هذا الكهف والرقيم، فقل للقوم يتقدّمون أو نتقدّم، فقالوا: نحن نتقدّم، فقام كلّ واحد منهم فصلّى ودعا وقال: السلام عليكم يا أصحاب الكهف، فلم يجبهم أحد.
فقام أمير المؤمنين عليه السلام بعدهم فصلّى ركعتين ودعا ونادى: (يا أصحاب الكهف)، فصاح الكهف وصاح القوم من داخله بالتلبية، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: السلام عليكم أيّها الفتية الذين آمنوا بربّهم فزادهم(1)هدى، فقالوا: وعليك السلام يا أخا رسول الله ووصيّه وأمير المؤمنين، لقد أخذ الله علينا العهد بايماننا(2) بالله وبرسوله محمد صلّى الله عليه وآله وبالولاية بأمير المؤمنين عليه السلام(3) إلى يوم القيامة يوم الدين.
فسقط القوم على وجوههم وقالوا لسلمان: يا أبا عبد الله ردّنا، فقال: ما ذاك إليّ، فقالوا: يا أبا الحسن ردّنا، فقال عليه السلام: يا ريح ردّينا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، فحملتنا فإذا نحن بين يديه، فقصّ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وآله كلّما جرى وقال: هذا حبيبي جبرئيل عليه السلام أخبرني به، فقالوا: الآن
____________
1- في "ج": فزدناهم.
2- في "ج": بعد ايماننا.
3- في "ج": لك يا أمير المؤمنين بالولاء.
[في نزول سورة والنجم وتكلّم الشمس معه]
وروى باسناده إلى الباقر عليه السلام قال: لمّا كثر قول المنافقين وحسّاد أمير المؤمنين صلوات الله عليه فيما يظهره رسول الله صلّى الله عليه وآله من فضل عليّ عليه السلام وينصّ عليه ويأمر بطاعته، ويأخذ البيعة له على كبرائهم ومن لا يؤمن غدره، ويأمرهم بالتسليم عليه بامرة المؤمنين ويقول لهم: انّه وصيّي وخليفتي وقاضي ديني ومنجز عداتي والحجة لله على خلقه من بعدي، من أطاعه سعد ومن خالفه ضلّ وشقى.
قال المنافقون: لقد ضلّ محمد في ابن عمّه عليّ وغوى وجنّ والله، وما أفتنه فيه وحبّبه إليه إلاّ قتل الشجعان والأقران والفرسان يوم بدر وغيرها من قريش وسائر العرب واليهود، وإنّ كلّما يأتينا به ويظهر في عليّ من هواه.
وكلّ ذلك يبلغ رسول الله صلّى الله عليه وآله حتّى اجتمعت التسعة المفسدون في الأرض في دار الأقرع بن حابس التميمي، وكان يسكنها في ذلك الوقت صهيب الرومي، وهم التسعة الذين إذا عُدّ أمير المؤمنين عليه السلام معهم كان عدّتهم عشرة، وهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد، وسعيد، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وأبو عبيدة بن الجراح.
فقالوا: لقد أكثر محمد في حق عليّ(2) حتّى لو أمكنه يقول لنا: اعبدوه لقال، فقال سعد بن أبي وقاص: ليت محمداً أتانا فيه بآية من السماء كما آتاه الله في نفسه
____________
1- عنه البحار 39: 144 ح10; وفي مدينة المعاجز 3: 159 ح813; عن الهداية للحضيني: 111.
2- في "ج": في حق عليّ حبّاً.
وباتوا ليلتهم تلك، فنزل نجم من السماء حتّى صار في ذروة جدار أمير المؤمنين عليه السلام متعلّقاً، يضيء في سائر المدينة حتّى دخل ضياؤه في البيوتات وفي الآبار(1) وفي المفازات(2) وفي المواضع المظلمة من بيوت الناس، فذعر أهل المدينة ذعراً شديداً، وخرجوا وهم لا يعلمون ذلك النجم على دار من نزل، ولا أين هو متعلّق لكن يروه على بعض منازل رسول الله صلّى الله عليه وآله.
فلمّا سمع رسول الله صلّى الله عليه وآله ضجيج الناس خرج إلى المسجد ونادى في الناس: ما الذي أرعبكم وأخافكم، هذا النجم على دار عليّ بن أبي طالب؟ فقالوا: نعم يا رسول الله، قال: أفلا تقولون لمنافقيكم التسعة الذين اجتمعوا في أمسكم في دار صهيب الرومي، فقالوا فيّ وفي أخي عليّ ما قالوه: وقال قائل منهم: ليت محمداً أتانا بآية من السماء [في عليّ](3) كما آتى بآية في نفسه من شقّ القمر وغيره، فأنزل الله عزوجل هذا النجم متعلّقاً على مشربة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام، وبقي إلى أن غاب كلّ نجم من السماء.
وصلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة الفجر مغلساً، وأقبل الناس يقولون: ما بقي نجم في السماء وهذا النجم معلّق، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله: هذا حبيبي جبرئيل عليه السلام قد أنزل على هذا النجم قرآناً تسمعونه، ثمّ قرأ صلّى الله عليه وآله:
{والنجم إذا هوى * ما ضلّ صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلاّ وحيٌ يوحى * علّمه شديد القوى}(4).
____________
1- في "ج": الآثار.
2- في "ج": المغارات.
3- أثبتناه من "ب".
4- النجم: 1-5.
فقال له: يا أبا الحسن انّ قوماً من منافقي اُمّتي ما قنعوا بآية النجم حتّى قالوا: لو شاء محمد لأمر الشمس أن تنادي باسم عليّ وتقول: هذا ربّكم فاعبدوه، فإنّك يا عليّ في غد بعد صلاتك ـ صلاة الفجر ـ تخرج معي إلى بقيع الغرقد، فقف نحو مطلع الشمس فإذا بزغت الشمس فادع بدعوات أنا اُلقّنك إيّاها، وقل للشمس: السلام عليك يا خلق الله الجديد، واسمع ماتقول لك وما ترد عليك وانصرف إليّ به.
فسمع الناس ما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسمع التسعة المفسدون في الأرض، فقال بعضهم لبعض: لا تزالون تغرون محمداً بأن يظهر في ابن عمّه عليّ كلّ آية، وليس(1) مثل ما قال محمد في هذا اليوم، فقال اثنان منهم، وأقسما بالله جهد أيمانهما ـ وهما أبو بكر وعمر ـ انّهما لابد أن يحضرا البقيع حتّى ينظرا أو يسمعا(2) ما يكون من عليّ والشمس.
فلمّا صلّى رسول الله صلّى الله عليه وآله صلاة الفجر وأمير المؤمنين عليه السلام معه في الصلاة، أقبل عليه وقال: قم يا أبا الحسن إلى ما أمرك الله به ورسوله، فأت البقيع حتّى تقول للشمس ما قلت لك، وأسرّ إليه سرّاً كان فيه الدعوات التي علّمه إيّاها.
فخرج أمير المؤمنين عليه السلام يسعى إلى البقيع حتّى بزغت الشمس،
____________
1- في "ج": لبئس ما قال.
2- في "ج": أن نحضر البقيع حتّى ننظر ونسمع.
فأرعدوا(1) واختلطت عقولهم وانكفّوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله مسودّة وجوههم تغيظ أنفسهم، فقالوا: يا رسول الله ما هذا العجب العجيب الذي لم نسمع من النبيّين ولا من المرسلين ولا من الاُمم الغابرة القديمة، كنت تقول لنا: انّ علياً ليس ببشر وهو ربّكم فاعبدوه، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله بمحضر من الناس في مسجده: تقولون بما قالت الشمس وتشهدون بما سمعتم.
فقالوا: يحضر عليّ فيقول فنسمع ونشهد بما قال للشمس وقالت له الشمس، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله: لا بل تقولون، فقالوا: قال عليّ للشمس: السلام عليك يا خلق الله الجديد بعد أن همهم همهمة تزلزل منها البقيع، فأجابته الشمس: وعليك السلام يا أخا رسول الله ووصيّه، اشهد أنّك الأوّل والآخر والظاهر والباطن، وانّك عبد الله وأخو رسوله حقّاً.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله: الحمد لله الذي خصّنا بما تجهلون، وأعطانا ما لا تعلمون، قال: قد تعلمون(2) انّي آخيت علياً دونكم، وأشهدتكم انّه وصيّي فماذا أنكرتم؟ عساكم تقولون(3) ما قالت له الشمس: انّك الأوّل والآخر والظاهر والباطن، قالوا: نعم يا رسول الله لأنّك أخبرتنا بأنّ الله هو الأوّل والآخر في كتابه المنزل عليك.
____________
1- في "ب" و "ج": فارتعدوا.
2- في "ج": علمتم.
3- في "ج": فماذا أنكرتم عليه لم تقولوا ما قالت.
وأمّا قولها: "الظاهر" فإنّه ظهر على كلّ ما أعطاني الله من عَلِمَهُ، فما علمه معي غيره ولا يعلمه بعدي سواه، ومن ارتضاه بسرّه من ولده، وأمّا قولها: "الباطن" فهو والله باطن علم الأوّلين والآخرين وسائر الكتب المنزلة على النبيّين والمرسلين، وما زادني الله تعالى به من علم ما لم تعلموه وفضل ما لم تعطوه، فماذا تنكرون؟
فقالوا بأجمعهم: نحن نستغفر الله يا رسول الله، لو علمنا ما تعلم لسقط الاقرار بالفضل لك ولعليّ، فاستغفر الله لنا، فأنزل الله سبحانه: {سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم انّ الله لا يهدي القوم الفاسقين}(2) وهذا في سورة المنافقين، فهذه من دلائله عليه السلام(3).
[في قوله عليه السلام لرجل إخسأ]
وباسناده إلى أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: بينما أمير المؤمنين يتجهّز إلى معاوية ويحرّض الناس على قتاله إذ اختصم إليه رجلان في فعل، فعجّل أحدهما في الكلام وزاد فيه، فالتفت إليه أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: إخسأ، فإذا رأسه رأس كلب، فبهت مَنْ حوله وأقبل الرجل باصبعه المسبّحة يتضرّع إلى أمير
____________
1- في "ج": آخر.
2- المنافقون: 6.
3- عنه البحار 35: 276 ح5; ومدينة المعاجز 3: 161 ح814; عن الهداية للحضيني: 116.
فنظر إليه وحرّك شفتيه، فعاد كما كان خلقاً سويّاً، فوثب إليه بعض أصحابه فقال له: يا أمير المؤمنين هذه القدرة لك كما رأينا، وأنت تجهز إلى معاوية، فما لك لا تكفيناه ببعض ما أعطاك الله من هذه القدرة؟
فأطرق قليلا ورفع رأسه إليهم فقال: والذي فلق الحبّة وبرئ النسمة لو شئت أن أضرب برجلي هذه القصيرة في طول هذه الفيافي والفلوات والجبال والأودية حتّى أضرب صدر معاوية على سريره، فأقلبه على رأسه لفعلت، ولو أقسمت على الله عزوجل أن اُوتي به قبل أن أقوم من مجلسي هذا، وقبل أن يرتد إلى أحد منكم طرفه لفعلت، ولكنّها كما وصف الله عزوجل في قوله: {عباد مكرمون * لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون}(1) فكان هذا من دلائله عليه السلام(2).
[اغارة خيل معاوية على الشيعة وضربه عليه السلام معاوية برجله]
وروى باسناده إلى ميثم التمّار قال: خطبنا(3) أمير المؤمنين عليه السلام في جامع الكوفة، فأطال خطبته وأعجب الناس تطويلها وحسن وعظها وترغيبها وترهيبها، إذ دخل نذير(4) من ناحية الأنبار مستغيثاً يقول: الله الله يا أمير المؤمنين في رعيّتك وشيعتك، هذه خيل معاوية قد شنّت علينا الغارة في سواد الفرات ما بين
____________
1- الأنبياء: 26 و 27.
2- عنه البحار 33: 280 ح545; ونحو الثاقب في المناقب: 242 ح206; عنه مدينة المعاجز 2: 297 ح560; وأيضاً في 3: 173 ح817; عن الهداية للحضيني: 124.
3- في "ب" و "ج": خطب لنا.
4- في "ج": بريده.
فقطع أمير المؤمنين عليه السلام الخطبة وقال: ويحك بعض خيل معاوية قد دخل الدسكرة(3) التي تلي جدران الأنبار، فقتلوا فيها سبع نسوة وسبعة من الأطفال ذكراناً وسبعة اُناثاً، وشهروا بهم ووطؤوهم بحوافر خيلهم، وقالوا: هذه مراغمة أبي تراب، فقام ابراهيم بن الحسن الأزدي بين يدي المنبر فقال: يا أمير المؤمنين هذه القدرة التي رأيت بها وأنت على منبرك انّ في دارك خيل معاوية ابن آكلة الأكباد، وما فعل بشيعتك ولم يعلم بها هذا، فلم تقصر(4) عن معاوية؟
فقال له: ويحك يا ابراهيم {ليهلك من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة}(5)، فصاح الناس من جوانب المسجد: يا أمير المؤمنين فإلى متى يهلك(6) من هلك عن بيّنة ويحيى من حيّ عن بيّنة وشيعتك تهلك؟ قال لهم عليه السلام: {ليقضي الله أمراً كان مفعولا}(7).
فصاح زيد بن كثير المرادي وقال: يا أمير المؤمنين تقول بالأمس وأنت متجهّز إلى معاوية وتحرّضنا على قتاله، ويحتكم إليك الرجلان في الفعل فيعجل
____________
1- هِيت ـ بالكسر وآخره تاء مثناة ـ: قال ابن السكّيت: سميت هيتُ هيتَ لأنّها في هوّة من الأرض،... وهي بلدة على الفرات من نواحي بغداد فوق الأنبار، ذات نخل كثير وخيرات واسعة وهي مجاورة للبريّة، طولها من جهة المغرب تسع وتسعون درجة، وعرضها اثنتان وثلاثون درجة ونصف ربع، وهي في الاقليم الثالث. (معجم البلدان 5: 420)
2- الأنبار: مدينة على الفرات في غربي بغداد بينهما عشرة فراسخ،... قال أبو القاسم: الأنبار حدّ بابل، سمّيت به لأنّه كان يُجمع بها أنابير الحنطة والشعير والقتّ والتبن، وكانت الأكاسرة ترزق أصحابها منها، وكان يقال لها: الأهراء، فلمّا دخلتها العرب عرّبتها فقالت: الأنبار. (معجم البلدان 1: 257)
3- الدسكرة ـ فتح أوّله وسكون ثانيه وفتح كافه ـ: قرية كبيرة ذات منبر بنواحي نهر الملك من غربي بغداد، والدسكرة في اللغة: الأرض المستوية. (معجم البلدان 2: 455)
4- في "ج": تقصيرك.
5- الأنفال: 42.
6- في "ج": فإلى متى تمثلك ليهلك.
7- في "ج": فإلى متى تمثلك ليهلك.
فقال أمير المؤمنين عليه السلام: لأفعلنّ ذلك ولأعجلنّه على ابن هند، فمدّ رجله على منبره فخرجت عن أبواب المسجد وردّها إلى فخذه، وقال: معاشر الناس أقيموا تاريخ الوقت واعلموه، فقد ضربت برجلي هذه الساعة صدر معاوية فقلبته عن سريره على اُمّ رأسه، فظنّ انّه قد اُحيط به، فصاح: يا أمير المؤمنين فأين النظرة، فرددت رجلي عنه.
وتوقّع الناس ورود الخبر من الشام وعلموا انّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه لا يقول إلاّ حقّاً، فوردت الأخبار والكتب بتاريخ تلك الساعة بعينها [من ذلك اليوم](3) انّ رِجْلا جاءت من ناحية الكوفة ممدودة متّصلة، فدخلت من ديوان معاوية والناس ينظرون حتّى ضربت صدره، فقلبته عن سريره على اُمّ رأسه، فصاح: يا أمير المؤمنين فأين النظرة؟ وردّت تلك الرجل عنه، وعلم الناس ما قال أمير المؤمنين عليه السلام حقّاً، فكان هذا من دلائله عليه السلام(4).
____________
1- في "ج": ويقول لك بعض أصحابك.
2- في "ب": نفوسنا.
3- أثبتناه من "ب" و "ج".
4- عنه البحار 33: 281 ح546; وهداية الحضيني: 125.