الصفحة 111

قصّة اليهودي وافتقاده حميره

وبالاسناد إلى أبي حمزة الثمالي، عن أبي اسحاق السبيعي قال: دخلت المسجد الأعظم بالكوفة فإذا أنا بشيخ أبيض الرأس واللحية لا أعرفه، مستنداً إلى اُسطوانة وهو يبكي ودموعه تسيل على خدّيه، فقلت له: يا شيخ ما يبكيك؟ فقال: انّه أتت عليّ نيف ومائة سنة لم أر فيها عدلا ولا حقّاً ولا علماً ظاهراً إلاّ ساعتين من نهار، وأنا أبكي لذلك.

فقلت: وما تلك الساعة والليلة واليوم الذي رأيت فيه العدل؟ فقال: إنّي رجل من اليهود، وكان لي ضيعة بناحية سوراء(1)، وكان لنا جار في الضيعة من أهل الكوفة يقال له: الحارث الأعور الهمداني، وكان رجلا مصاب العين، وكان لي صديقاً وخليطاً، وإنّي دخلت الكوفة يوماً من الأيّام ومعي طعام على احمرة لي اُريد بيعه بالكوفة.

فبينما أنا أسوق الأحمرة وقد صرت في سبخة الكوفة، وذلك بعد عشاء الآخرة، فافتقدت حميري، فكأنّ الأرض ابتلعتها أو السماء تناولتها، أو كأنّ الجنّ اختطفتها، وطلبتها يميناً وشمالا فلم أجدها، فأتيت منزل الحارث الهمداني من ساعتي أشكو إليه ما أصابني وأخبرته الخبر، فقال: انطلق بنا إلى أمير المؤمنين عليه السلام حتّى نخبره.

فانطلقنا إليه فأخبرته(2) الخبر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام للحارث: انصرف إلى منزلك وخلّني واليهودي، فأنا ضامن لحميره وطعامه حتّى أردّها له، فمضى الحارث إلى منزله وأخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيدي حتّى أتينا الموضع الذي افتقدت فيه حميري وطعامي، فحوّل وجهه عنّي وحرّك شفتيه ولسانه بكلام

____________

1- سوراء ـ بضمّ أوّله وسكون ثانيه ثمّ راء وألف ممدودة ـ: موضع يقال هو إلى جانب بغداد، وقيل: هو بغداد نفسها، ويُروى بالقصر. (معجم البلدان 3: 278)

2- في "ج": فأخبرناه.


الصفحة 112
لم أفهمه، ثمّ رفع رأسه فسمعته يقول: والله ما على هذا بايعتموني وعاهدتموني يا معشر الجنّ، وأيم الله لئن لم تردّوا على اليهودي حميره وطعامه لأنقضنّ عهدكم ولاُجاهدنّكم في الله حقّ جهاده.

قال: فوالله ما فرغ أمير المؤمنين عليه السلام من كلامه حتّى رأيت حميري وطعامي بين يديّ، ثمّ قال أمير المؤمنين عليه السلام: اختر يا يهودي احدى خصلتين، امّا أن تسوق حميرك وأحثّها عليك، أو أسوقها(1) أنا وتحثّها عليّ.

قال: قلت: بل أسوقها(2) وأنا أقوى على حثّها، وتقدّم أنت يا أمير المؤمنين أمامها، واتّبعته بالحمير حتّى انتهى بنا إلى الرحبة، فقال: يا يهودي إنّ عليك بقية الليل فأحْفِظُ حميرك حتّى تصبح وحط أنت عنها، أو أحط عنها وتحفظ أنت حتّى تصبح، فقلت: يا أمير المؤمنين أنا أقوى على حطّها وأنت على حفظها حتّى يطلع الفجر، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: خلّني وإيّاها ونم أنت حتّى يطلع الفجر.

فلمّا طلع الفجر انتبهت وقال: قم قد طلع الفجر فاحفظ حميرك وليس عليك بأس، ولا تغفل عنها حتّى أعود إليك إن شاء الله تعالى، ثمّ انطلق أمير المؤمنين عليه السلام فصلّى بالناس الصبح، فلمّا طلعت الشمس أتاني وقال: افتح برّك على بركة الله وسعّر طعامك، ففعلت.

ثمّ قال: اختر منّي خصلة من خصلتين، امّا أن أبيع أنا وتستوفي أنت الثمن، أو تبيع أنت وأستوفي أنا لك الثمن؟ فقلت: بل أبيع أنا وتستوفي أنت الثمن، فقال: أفعل، فلمّا فرغت من بيعي سلّم إليّ الثمن وقال: ألك حاجة؟ فقلت: نعم، اُريد أدخل في شراء حوائج لي، قال: فانطلق حتّى اُعينك فإنّك ذمّي.

فلم يزل معي حتّى فرغت من حوائجي، ثمّ ودّعني، فقلت له عند الفراق:

____________

1- في "ب": أسبقها أنا.

2- في "ب": بل أسبقها وأنا أقوى.


الصفحة 113
أشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأنّ محمداً رسول الله صلّى الله عليه وآله عبده ورسوله، وأشهد أنّك عالم هذه الاُمّة، وخليفة رسول الله صلّى الله عليه وآله على الجنّ والانس، فجزاك الله عن الإسلام خيراً.

ثمّ انطلقت إلى ضيعتي، فأقمت بها شهوراً ونحو ذلك، فاشتقت إلى رؤية أمير المؤمنين عليه السلام، فقدمت وسألت عنه، فقيل لي: قد قُتل أمير المؤمنين عليه السلام، فاسترجعت وصلّيت صلاة كثيرة وقلت عند فراغي: ذهب العلم، وكان أوّل عدل رأيت منه تلك الليلة، وآخر عدل رأيته منه في ذلك اليوم، فما لي لاأبكي؟ وكان هذا من دلائله عليه السلام(1).

[خبر الذين بايعوا الضبّ]

روي مرفوعاً إلى أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: لما أراد أمير المؤمنين عليه السلام يسير إلى الخوارج بالنهروان، واستنفر أهل الكوفة وأمرهم أن يعسكروا بالمدائن، فتخلّف عنه شبث بن ربعي، والأشعث بن قيس الكندي، وجرير بن عبد الله البجلي، وعمرو بن حريث.

فقالوا: يا أمير المؤمنين تأذن لنا أيّاماً نقضي حوائجنا، ونصنع ما نريد ثمّ نلحق بك، فقال لهم: فعلتموها سوءة لكم من مشايخ، والله ما لكم حاجة تتخلّفون عليها ولكنّكم تتّخذون سفرة، وتخرجون إلى النزهة، وتجلسون وتنظرون في منظر تتنحّون عن الجادة، وتبسط سفرتكم بين أيديكم، فتأكلون من طعامكم، ويمرّ ضبّ فتأمرون غلمانكم فيصطادوه لكم ويأتوكم به فتخلعوني وتبايعون الضبّ وتجعلونه إمامكم.

____________

1- عنه البحار 39: 189 ح26; وفي هداية الحضيني: 126.


الصفحة 114
وتعلموا انّ أخي(1) رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: إذا كان يوم القيامة نادى مناد: ليخلوا كلّ قوم بما كانوا يأتمّون به في الحياة الدنيا، فمن أقبح وجوهاً منكم وأنتم تخلعون أخا رسول الله صلّى الله عليه وآله وابن عمّه وصهره، وتنقضون ميثاقه الذي أخذه الله ورسوله عليكم، وتحشرون يوم القيامة وإمامكم ضبّ، وهو قول الله عزوجل: {يوم ندعوا كلّ اُناس بإمامهم}(2).

فقالوا: والله يا أمير المؤمنين ما نريد إلاّ أن نقضي حوائجنا ونلحق بك، فولّى عنهم وهو يقول: عليكم الدمار [والبوار](3)، والله ما يكون إلاّ ما قلت لكم وما قلت إلاّ حقّاً، ومضى أمير المؤمنين عليه السلام حتّى إذا صار بالمدائن خرج القوم إلى الخورنق، وهيّأوا طعاماً في سفرة وبسطوها في الموضع، وجلسوا يأكلون ويشربون الخمر.

فمرّ بهم ضبّ فأمروا غلمانهم فصادوه وأتوهم به، فخلعوا أمير المؤمنين عليه السلام وبايعوا له، وبسط لهم الضبّ يده فقالوا: أنت والله إمامنا ما بيعتنا لك ولعليّ بن أبي طالب إلاّ واحدة، وانّك لأحبّ إلينا منه، فكان كما قال أمير المؤمنين عليه السلام، وكان القوم كما قال الله عزوجل: {بئس للظالمين بدلا}(4).

ثمّ لحقوا به فقال لهم لما وردوا عليه: فعلتم يا أعداء الله وأعداء رسوله وأعداء أمير المؤمنين ما أخبرتكم به، فقالوا: لا يا أمير المؤمنين ما فعلنا، فقال: والله ليبعثنّكم الله مع إمامكم، فقالوا: قد فلحنا يا أمير المؤمنين إذا بعثنا الله معك، قال: كيف تكونون معي وقد خلعتموني وبايعتم الضبّ؟ والله لكأنّي أنظر إليكم يوم القيامة والضبّ يسوقكم إلى النار.

____________

1- في "ج": اعلموا انّي سمعت أخي.

2- الاسراء: 71.

3- أثبتناه من "ب" و "ج".

4- الكهف: 50.


الصفحة 115
فحلفوا له بالله إنّا ما فعلنا ولا خلعناك ولا بايعنا الضبّ، فلمّا رأوه يكذّبهم ولا يقبل منهم أقرّوا له وقالوا: اغفر لنا ذنوبنا، قال: والله لا غفرت لكم ذنوبكم قد اخترتم مسخاً مسخه الله وجعله آية للظالمين(1)، وكذبتم رسول الله صلّى الله عليه وآله، وحدّثني بحديثكم عن جبرئيل عن الله سبحانه، فبُعداً لكم وسحقاً.

ثمّ قال: لئن كان مع رسول الله صلّى الله عليه وآله منافقون فإنّ معي منافقون وأنتم هم، أما والله يا شبث بن ربعي، وأنت يا عمرو بن حريث ومحمد ابنك، وأنت يا أشعث بن قيس لتقتلنّ ابني الحسين، هكذا حدّثني حبيبي رسول الله صلّى الله عليه وآله، فالويل لمن رسول الله صلّى الله عليه وآله خصمه، وفاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وآله.

فلمّا قتل الحسين عليه السلام كان شبث بن ربعي، وعمرو بن حريث، ومحمد بن الأشعث فيمن سار إليه من الكوفة وقاتلوه بكربلاء حتّى قتلوه، وكان هذا من دلائله عليه السلام(2).

[في اعطائه عليه السلام الأمان لمروان، وتكلّمه مع الأسد والأفعى]

وروي باسناده إلى حنان بن سدير الصيرفي، عن رجل من مراد يقال له: رباب بن رياح، قال: كنت قائماً على رأس أمير المؤمنين عليه السلام بالبصرة بعد الفراغ من أصحاب الجمل إذ أتى عبد الله بن عباس فقال: يا أمير المؤمنين لي إليك حاجة، فقال عليه السلام: ما أعرفني بحاجتك قبل أن تذكرها، جئت تطلب منّي الأمان لمروان بن الحكم.

____________

1- في "ج": للعالمين.

2- راجع مدينة المعاجز 3: 168 ح815; عن الهداية للحضيني: 134; ونحوه في الخرائج 1: 225 ح70; عنه البحار 33: 384 ح614.


الصفحة 116
فقال: يا أمير المؤمنين أحب أن تؤمنه، فقال: قد آمنته(1)، لكن اذهب فجئني به يبايعني ولا تجئني به إلاّ رديفاً صاغراً، قال: فما لبثت إلاّ قليلا حتّى أقبل ابن عباس وخلفه مروان بن الحكم رديفاً، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: هلمّ اُبايعك.

قال مروان: على انّ النفس فيها ما فيها، قال أمير المؤمنين عليه السلام: لست اُبايعك على ما في نفسك، إنّما أنا اُبايعك على الظاهر، قال: فمدّ يده فبايع أمير المؤمنين عليه السلام، فلمّا بايعه قال: هبه يا ابن الحكم فلكنت تخاف أن يقع رأسك في هذه البقعة، كلاّ أبى الله أن يكون ذلك حتّى يخرج من صلبك طواغيت يملكون هذه الرعية، يسومونهم خسفاً(2) وظلماً وجوراً، يسقونهم كأساً مرّاً.

قال مروان لمن يثق به: والله ما كان منّي إلاّ ما أخبرني به عليّ عليه السلام، ثمّ هرب فلحق بمعاوية فكان ما قال أمير المؤمنين عليه السلام حقّاً، فكان هذا من دلائله عليه السلام(3).

وروي باسناده إلى الحارث الأعور الهمداني قال: كنّا مع أمير المؤمنين عليه السلام بالكناس إذ أقبل أسد يهوي من البر، فتضعضعنا له وانتهى إلى أمير المؤمنين عليه السلام وطرح نفسه بين يديه خاضعاً ذليلا، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: ارجع ولا تدخلنّ دار هجرتي وبلّغ ذلك عنّي جميع السباع ما أطاعوني، فإذا عصوا الله فيّ وخلعوا طاعتي فقد حكمتكم(4) فيهم.

قال: فلم تزل جميع السباع تتجافى الكوفة وجميع ما حولها إلى أن قُبض أمير المؤمنين عليه السلام وتقلّدها زياد بن أبيه دعيّ أبا سفيان، فلمّا دخلها سلّطت

____________

1- في "ج": قد آمنته لك.

2- في "ب": عسفاً.

3- نحوه باختلاف في الخرائج 1: 197 ح35; عنه البحار 41: 298 ح26; والهداية: 161.

4- حكمتك (خ ل).


الصفحة 117
السباع على الكوفة وما حولها حتّى أفنت أكثر الناس، فكان هذا من دلائله عليه السلام(1).

وعن الحارث الأعور الهمداني قال: بينما أمير المؤمنين عليّ عليه السلام يخطب للناس يوم الجمعة في مسجد الكوفة إذ أقبل أفعى من ناحية باب الفيل، رأسه أعظم من رأس البعير، يهوي نحو المنبر، فانفرق الناس فرقتين في جانب المسجد خوفاً.

فجاء حتّى صعد المنبر، ثمّ تطاول إلى اُذن أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فأصغى إليه باذنه وأقبل عليه يسارّه مليّاً ثمّ نزل، فلمّا بلغ باب أمير المؤمنين الذي يسمّونه "باب الفيل" انقطع أثره وغاب، فلم يبق مؤمن ولا مؤمنة إلاّ قال: هذا من عجائب أمير المؤمنين عليه السلام، ولم يبق منافق إلاّ قال: هذا من سحره.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: أيّها الناس لست بساحر، وهذا الذي رأيتموه وصيّ محمد صلّى الله عليه وآله على الجنّ وأنا وصيّه على الجنّ والانس، وهذا يطيعني أكثر ممّا تطيعوني، وهو خليفتي فيهم، وقد وقع بين الجنّ ملحمة تهادروا فيها الدماء، لا يعلمون ما الخروج عنها ولا ما الحكم فيها، وقد أتاني سائلا عن الجواب في ذلك، فأجبته عنه بالحق، وهذا المثال الذي تمثّل لكم به أراد أن يريكم فضلي عليكم الذي هو أعلم به منكم، وكان هذا من دلائله عليه السلام(2).

وعنه بهذا الاسناد قال: خرجنا مع أمير المؤمنين عليه السلام حتّى انتهينا إلى العاقول بالكوفة على شاطئ الفرات، فإذا نحن بأصل شجرة وقد وقع أوراقها وبقي عودها يابساً، فضربها بيده المباركة وقال لها: ارجعي باذن الله خضراء ذات

____________

1- الثاقب في المناقب: 250 ح1; والخرائج 1: 191 ح27; عنه البحار 41: 231 ح2; والهداية: 28 (الحجرية).

2- مدينة المعاجز 3: 171 ح816; عن الهداية للحضيني: 152; وفي الثاقب: 248 ح213.


الصفحة 118
ثمر، فإذا هي تهتزّ(1) بأغصانها مثمرة مورقة وحملها الكمّثرى الذي لم يُر مثله في فواكه الدنيا، وطعمنا منها وتزوّدنا وحملنا، فلمّا كان بعد أيّام عُدنا إليها فإذا بها خضراء وفيها الكمّثرى، وكان هذا من دلائله عليه السلام(2).

[في قضاء ديون النبي صلّى الله عليه وآله وقصّة الأعرابي]

وروي مرفوعاً إلى جابر الجعفي عن الباقر عليه السلام قال: لمّا أراد أمير المؤمنين عليه السلام قضاء ديون النبي صلّى الله عليه وآله وانجاز عداته أمر منادياً ينادي: من كان له على رسول الله صلّى الله عليه وآله دين أو عدة فليقل إلينا(3).

وكان يأتي(4) الرجل وأمير المؤمنين عليه السلام كان لا يملك شيئاً، فقال: اللّهمّ اقض عن نبيّك صلوات الله عليه، فيصيب ما وعد النبي صلّى الله عليه وآله تحت البساط لا يزيد درهماً ولا ينقص درهماً.

فقال أبو بكر لعمر: هذا يصيب ما وعد النبي تحت البساط ونخشى أن تميل الناس إليه، فقال: ينادي مناديك أيضاً فإنّك ستقضي كما قضى، فنادى مناديه: ألا من كان له عند رسول الله صلّى الله عليه وآله دين أو عدة فليقل(5)، فسلّط الله عليه أعرابياً، فقال: إنّ لي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله عدة ثمانون ناقة حمراء(6)سود المقل بأزمتها ورحالها.

____________

1- في "ج": تخضرّ.

2- مدينة المعاجز 3: 175 ح818; عن الهداية للحضيني: 28 (الحجرية); وفي الثاقب: 246 ح211; والبحار 41: 248 ح1.

3- في "ج": فليأت إلينا.

4- في "ج": يُقبل.

5- في "ج": فليُقبل.

6- في "ج": حمر الوبر.


الصفحة 119
فقال أبو بكر: يا أعرابي تحضر عندنا في غد، فمضى الأعرابي، فقال أبو بكر لعمر: ألا ترى إلى هذا الأمر؟ إنّك لتلقيني في كلّ أذيّة، ويحك من أين في الدنيا عشرون ناقة بهذه الصفة، ما تريد إلاّ أن تجعلنا كذّابين عند الناس، فقال عمر: يا أبابكر انّ هنا حيلة تخلّصك منه، فقال: وما هي؟ فقال: تقول: احضرنا(1) بيّنتك على رسول الله بهذا الذي ذكرته حتّى نوفّيك إيّاه، فإنّ رسول الله لا تقوم عليه بيّنة في دين ولا عدة.

فلمّا كان من الغد حضر الأعرابي فقال: قد جئت للوعد، فقال له أبو بكر وعمر: يا أعرابي أحضرنا بيّنتك على رسول الله حتّى نوفيك، فقال الأعرابي: أترك رجلا يعطيني بلا بيّنة وأجيء إلى قوم لا يعطوني إلاّ ببيّنة، وما أرى إلاّ وقد انقطعت بكم الأسباب، أو تزعمون أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان كذّاباً، لآتينّ أبا الحسن علياً فإن قال لي مثل ما قلتم لأرتدّنّ عن الإسلام.

فجاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: إنّ لي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله عدة ثمانون ناقة حمراء(2) سود المقل، فقال أمير المؤمنين عليه السلام: اجلس يا أعرابي فإنّ الله تعالى سيقضي عن نبيّه صلّى الله عليه وآله، ثمّ قال عليه السلام: يا حسن يا حسين تعاليا فاذهبا إلى وادي فلان، وناديا عند شفير الوادي بأنّا رسولا وصيّ رسول الله صلى الله عليه وآله إليكم وحبيباه، وانّ لأعرابي عند رسول الله صلّى الله عليه وآله ثمانون ناقة حمراء(3) سود المقل [فمضيا وناديا](4).

فأجابهما مجيب من الوادي: نشهد أنّكما حبيبا رسول الله صلّى الله عليه وآله

____________

1- في "ب": احضر لنا.

2- في "ج": حمر الوبر.

3- في "ج": حمر الوبر.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 120
ووصيّاه، فانتظرا حتّى نجمعها بيننا، فما جلسا إلاّ قليلا فظهرت ثمانون ناقة حمراء سود المقل، وانّ الحسن والحسين عليهما السلام ساقاهما إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فدفعها إلى الأعرابي، وكان هذا من دلائله عليه السلام(1).

[في بيان أحوال عمرو بن الحمق الخزاعي]

وباسناده إلى أبي حمزة الثمالي، عن جابر بن عبد الله بن عمر بن حزام(2)الأنصاري قال: أرسل رسول الله صلّى الله عليه وآله سرية فقال: انّكم تصلون ساعة كذا وكذا من الليل أرضاً لا تهتدون فيها مسيراً، فإذا وصلتم إليها فخذوا ذات الشمال، فإنّكم تمرّون برجل فاضل خير في شأنه، فاسترشدوه فيأبى أن يرشدكم حتّى تأكلوا من طعامه، ويذبح لكم كبشاً فيطعمكم، ثمّ يقوم معكم فيرشدكم الطريق، فاقرؤوه منّي السلام وأعلموه انّي قد ظهرت بالمدينة.

فمضوا فلمّا وصلوا في ذلك الوقت إلى الموضع المسمّى ضلّوا، قال قائل منهم: ألم يقل لكم رسول الله صلّى الله عليه وآله خذوا بذات الشمال؟ [فأخذوا ذات الشمال](3) فمرّوا بالرجل الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وآله لهم، فاسترشدوه الطريق، فقال: لا أرشدكم حتّى تأكلوا من طعامي، وذبح لهم كبشاً، فأكلوا من طعامه وقام معهم فأرشدهم الطريق وقال لهم: أَظَهَرَ النبي صلّى الله عليه وآله بالمدينة؟ قالوا: نعم، وأبلغوه سلامه.

____________

1- مدينة المعاجز 3: 175 ح815; عن الهداية للحضيني: 153; وفي الخرائج 1: 175 ح8; عنه البحار 41: 192 ح4; ونحوه الثاقب في المناقب: 127 ح4; والخصائص للرضي: 49.

2- في بعض المصادر: حرام.

3- أثبتناه من "ج".


الصفحة 121
فخلّف في شأنه(1) من خلّف ومضى إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله، وهو عمرو بن الحمق الخزاعي بن الكاهن بن حبيب بن عمرو بن القين بن درّاج بن عمرو بن سعد بن كعب(2).

فلبث معه صلّى الله عليه وآله ما شاء الله، ثمّ قال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: ارجع إلى الموضع الذي هاجرت إليّ منه، فإذا جاء أخي عليّ بن أبي طالب عليه السلام الكوفة وجعلها دار هجرته فآته(3)، فانصرف عمرو بن الحمق إلى شأنه حتّى إذا نزل أمير المؤمنين عليه السلام الكوفة أتاه فأقام معه [بالكوفة](4)، فبينما أمير المؤمنين عليه السلام جالس وعمرو بين يديه فقال له: يا عمرو ألك دار؟ قال: نعم.

قال: بعها واجعلها في الأزد، فإنّي في غد لو غبت عنكم لطلبت فتتبعك الأزد(5) حتّى تخرج من الكوفة متوجّهاً نحو الموصل، فتمرّ برجل نصرانيّ فتقعد عنده وتستسقيه الماء، فيسقيك ويسألك عن شأنك فتخبره فتصادفه مقعداً، فادعه إلى الإسلام فإنّه يسلم، فإذا أسلم فمر يدك على ركبتيه فإنّه ينهض صحيحاً سليماً ويتبعك.

____________

1- في "ب": في بستانه.

2- قال الشيخ عباس القمي رحمه الله في منتهى الآمال 1: 400: عمرو بن الحمق الخزاعي، العبد الصالح الإلهي، من حواري باب علم النبي صلّى الله عليه وآله، ولقد وصل إلى المقام الأسنى بخدمته لأمير المؤمنين عليه السلام وأدرك حضوره، وقد شارك في جميع حروبه (الجمل وصفين والنهروان) وسكن الكوفة، وساعد حجر بن عديّ بعد استشهاد عليّ عليه السلام في منع بني اُمية عن سبّه، وكتب الإمام الحسين عليه السلام في رسالته إلى معاوية:

"أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلّى الله عليه وآله، العبد الصالح الذي أَبْلَتْهُ العبادة فنحل جسمه، وصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو أعطيته طائراً نزل عليك من رأس الجبل، ثمّ قتلته جرأةً على ربّك واستخفافاً بذلك العهد..." (البحار 44: 213).

3- في "ج": تنزل معه.

4- أثبتناه من "ج".

5- في "ج": لطلبت منك الأزد.


الصفحة 122
وتمرّ برجل محجوب جالس على الجادة، فتستسقيه الماء فيسقيك ويسألك عن قضيّتك(1) وما الذي أخافك وممّ تتوقّى، فحدّثه بأنّ معاوية طلبك ليقتلك ويمثّل بك بايمانك بالله ورسوله صلّى الله عليه وآله، وطاعتك واخلاصك في ولايتي، ونصحك لله تعالى في دينك، وادعه إلى الإسلام فإنّه يسلم، ومرّ يدك على عينيه فإنّه يرجع بصيراً باذن الله تعالى، فيتابعك ويكونان معك، وهما اللذان يواريان جسدك في الأرض.

ثمّ تصير إلى دير على نهر يُدعى بالدجلة فإنّ فيه صدّيقاً عنده من علم المسيح عليه السلام، فاتّخذه لك أعون الأعوان على سرّك، وما ذاك إلاّ ليهديه الله بك، فإذا أحسّ بك شرطة ابن اُمّ حكم ـ وهو خليفة معاوية بالجزيرة، ويكون مسكنه بالموصل ـ فاقصد إلى الصدّيق الذي في الدير في أعلى الموصل.

فناده فإنّه يمتنع عليك، فاذكر اسم الله الذي علّمتك إيّاه فإنّ الدير يتواضع لك حتّى تصير في ذروته، فإذا رآك ذاك الراهب الصدّيق قال لتلميذ معه: ليس هذا من أوان المسيح، هذا شخص كريم، ومحمد صلّى الله عليه وآله قد توفّاه الله ووصيّه قد استشهد بالكوفة، وهذا من حواريه.

ثمّ يأتيك ذليلا خاشعاً فيقول لك: أيّها الشخص العظيم لقد أهلتني بما لم أستحقّه، فبم تأمرني؟ فتقول له: استر تلميذي هذين عندك، وتشرف على ديرك هذا فانظر ماذا ترى، فإذا قال لك: إنّي أرى خيلا عابرة نحونا، فخلّف تلميذيك عنده وانزل واركب فرسك، واقصد نحو غار على شاطئ الدجلة فاستتر فيه، فإنّه لابد أن يسترك، وفيه فسقة من الجنّ والانس.

فإذا استترت فيه عرفك فاسق من مردة الجنّ، يظهر لك بصورة تنين أسود،

____________

1- في "ب" و "ج": قصّتك.


الصفحة 123
فينهشك نهشاً يبالغ في اضعافك ويفرّ فرسك، فيبتدر بك الخيل فيقولون: هذا فرس عمرو ويقصون أثره، فإذا أحسست بهم دون الغار فابرز إليهم بين الدجلة والجادة، فقف لهم في تلك البقعة فإنّ الله تعالى جعلها حفرتك وحرمك، فألقهم بسيفك فاقتل منهم من استطعت حتّى يأتيك أمر الله، فإذا غلبوك جزّوا رأسك وشهروه على قناة إلى معاوية، ورأسك أوّل رأس يُشهر في الإسلام من بلد إلى بلد.

وبكى أمير المؤمنين عليه السلام وقال: بنفسي ريحانة رسول الله صلّى الله عليه وآله وثمرة فؤاده وقرّة عينه ولدي الحسين، فإنّي رأيته يسير وذراريه(1) بعدك يا عمرو من كربلاء بغربيّ(2) الفرات إلى يزيد بن معاوية.

ثمّ ينزل صاحبك المحجوب والمقعد فيواريان جسدك في موضع مصرعك، وهو من الدير والموصل على مائة وخمسين خطوة، فكان كما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام، وكان هذا من دلائله عليه السلام(3).

[في خبر رميلة، وانّهم عليهم السلام يمرضون لمرض شيعتهم ويحزنون لحزنهم]

وروي مرفوعاً إلى حمران بن أعين، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن رميلة ـ وكان رجلا من خواص أمير المؤمنين عليه السلام ـ قال رميلة: وعكت وعكاً شديداً في زمان أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ وجدت منه خفّاً في نفسي في يوم الجمعة، فقلت: لا أعمل شيئاً أفضل من أن أفيض عليّ الماء وآتي المسجد واُصلّي خلف أمير المؤمنين عليه السلام.

____________

1- في "ب": يسيّروا ذراريه.

2- في "ج": بقرب.

3- مدينة المعاجز 3: 179 ح820; عن الهداية للحضيني: 154.


الصفحة 124
ففعلت ذلك فلمّا علا المنبر في جامع الكوفة عاودني الوعك، فلمّا خرج أمير المؤمنين عليه السلام من المسجد تبعته، فالتفت إليّ وقال: ما أراك إلاّ مشتكياً(1)بعضك في بعض، قد علمت ما بك من الوعك، وما قلت إنّك لا تعمل شيئاً أفضل من غسلك لصلاة الجمعة خلفي، وانّك كنت وجدت خفّاً فلمّا صلّيت وعلوتُ المنبر عاد عليك الوعك [ثانياً](2).

قال رميلة: فقلت: والله يا أمير المؤمنين ما زدت في قصّتي ولا نقصت حرفاً، فقال لي: يا رميلة ما من مؤمن ولا مؤمنة يمرض مرضاً إلاّ مرضنا لمرضه، ولا يحزن حزناً إلاّ حزنّا لحزنه، ولا دعا إلاّ أمّنّا على دعائه، ولا يسكت إلاّ دعونا له.

فقلت: هذا يا أمير المؤمنين لمن كان معك في هذا المصر، فمن كان في أطراف الأرض منزله فكيف؟ فقال: يا رميلة ليس يغيب عنّا مؤمن ولا مؤمنة في مشارق الأرض ومغاربها إلاّ وهو معنا ونحن معه، وكان هذا من دلائله عليه السلام(3).

[في انطاق المسوخ له عليه السلام]

وروي مرفوعاً إلى الأصبغ بن نباتة قال: جاء نفر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقالوا له: انّ المعتمد يزعم انّك تقول هذا الجري مسخ، فقال: مكانكم حتّى أخرج إليكم، فتناول ثوبه ثمّ خرج إليهم، فمضى حتّى انتهى إلى الفرات بالكوفة، فصاح: يا جري، فأجابه: لبّيك لبّيك.

قال: من أنا؟ قال: أنت إمام المتّقين، وأمير المؤمنين، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: فمن أنت؟ قال: أنا ممّن عرضت عليه ولايتك فجحدتها ولم أقبلها

____________

1- في "ج": مشتبكاً.

2- أثبتناه من "ب" و "ج".

3- نحوه بصائر الدرجات: 279 ح1 باب16; عنه البحار 26: 140 ح11; ومدينة المعاجز 2: 175 ح479; واختيار معرفة الرجال 1: 319 ح162; والهداية: 156.


الصفحة 125
فَمُسِخْتُ جرياً، وبعض هؤلاء الذين معك يمسخون جرياً، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: فبيّن قصّتك وممّن كنت، ومن مُسِخَ معك.

قال: نعم يا أمير المؤمنين، كنّا أربعاً وعشرين طائفة من بني اسرائيل قد تمرّدنا وطغينا واستكبرنا وتركنا المدن لا نسكنها أبداً، وسكنّا المفاوز رغبة منّا في البُعد عن المياه فأتانا آت ـ أنت والله أعرف به منّا ـ في ضحى النهار، فصرخ صرخة فجعلنا في مجمع واحد، وكنّا منبثّين(1) في تلك المفاوز والقفار، فقال لنا: ما لكم هربتم من المدن والأنهار والمياه وسكنتم هذه المفاوز؟

فأردنا أن نقول لأنّا فوق العالم ـ تعزّزاً وتكبّراً ـ فقال: قد علمت ما في أنفسكم، فعلى الله تتعزّزون وتتكبّرون؟ فقلنا له: لا، فقال: أليس قد أخذ عليكم العهد أن تؤمنوا بمحمد بن عبد الله المكّي؟ فقلنا: بلى، قال: وأخذ عليكم العهد بولاية وصيّه وخليفته من بعده أمير المؤمنين [عليّ بن أبي طالب](2)؟

فسكتنا، فلم نجب إلاّ بألسنتنا، وقلوبنا ونيّاتنا لم تقبلها ولا تقرّ بها، فقال: أو تقولون بألسنتكم خاصّة؟ ثمّ صاح بنا صيحة وقال لنا: كونوا باذن الله مسوخاً كلّ طائفة جنساً، ثمّ قال: أيّتها القفار كوني باذن الله أنهاراً تسكنك هذه المسوخ، واتّصلي ببحار الدنيا وبأنهارها حتّى لا يكون ماء إلاّ كانوا فيه.

فمسخنا ونحن أربعة وعشرون طائفة، فمنّا من قال: أيّها المقتدر علينا بقدرة الله تعالى فبحقّه عليك إلاّ ما أغنيتنا عن الماء، واجعلنا(3) على وجه الأرض كيف شئت، قال: قد فعلت، قال أمير المؤمنين عليه السلام: يا جري فبيّن لنا ما كانت أجناس المسوخ البريّة والبحريّة.

____________

1- في "ج": مقيمين.

2- أثبتناه من "ب" و "ج".

3- في "ج": وجعلتنا.


الصفحة 126
فقال: أمّا البحريّة فنحن الجري، والرق(1)، والسلاحف، والمارماهي(2)، والزمار(3)، والسراطين، وكلاب الماء، والضفادع، وبنت هرس، والعرصان(4)، والكوسج، والتمساح.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: وأمّا البريّة؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، الوزغ، والخفاش، والكلب، والدب، والقرد، والخنازير، والضبّ، والحرباء، والأوز، والخنافس، والأرنب، والضبع، قال أمير المؤمنين عليه السلام: صدقت أيّها الجري، فما فيكم من طبع الانسانية وخلقها؟

قال الجري: أفواهنا والبعض لكلّ صورة، وكلّنا تحيض منّا الاناث، قال أمير المؤمنين عليه السلام: صدقت أيّها الجري، فقال الجري: يا أمير المؤمنين فهل من توبة؟ فقال عليه السلام: الأجل هو يوم القيامة وهو اليوم المعلوم، والله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.

قال الأصبغ: فسمعنا والله ما قال ذلك الجري ووعيناه، وكتبناه وعرضناه على أمير المؤمنين عليه السلام(5).

[في إحياء ميّت]

وباسناده إلى الصادق عليه السلام قال: انّ أمير المؤمنين عليه السلام كانت له خؤولة من جهة الاُبوّة في بني مخزوم، وانّ شابّاً منهم أتاه فقال له: يا خالي انّ

____________

1- الرق: نوع من دواب الماء شبه التمساح، وقيل: هو العظيم من السلاحف. (لسان العرب)

2- المارماهي: معرب أصله حيّة السمك. (مجمع البحرين)

3- الزمار: سمكة جسمها ممدود شديد الانضغاط من الجانبين، مقدمها طويل أحدب، وجسمها أملس لا تغطّيه الشعور.

4- في "ب": صرصاف.

5- مدينة المعاجز 3: 183 ح821; ومستدرك الوسائل 16: 170 ح19480; عن الهداية للحضيني: 157; وباختصار في البحار 27: 271 ح24.