وقال القسطلاني: "ولا زال أهل الإسلام يحتفلون بشهر مولده (عليه السلام) ، ويعملون الولائم، ويتصدّقون في لياله بأنواع الصدقات، ويظهرون السرور، ويزيدون في المبرّات، ويعتنون بقراءة مولده الكريم، ويظهر عليهم من بركاته كلّ فضل عظيم.. فرحم الله امرئاً اتّخذ ليالي شهر مولده المبارك أعياداً، ليكون أشدّ علّة على من في قلبه مرض وأعيا داء"(1).
إذا عرفت ما ذكرناه فلا نظنّ أن يشكّ أحد في جواز الاحتفال بمولد النبي الأكرم، احتفالا دينياً فيه رضا الله ورسوله، ولا تصحّ تسميته بدعة، إذ البدعة هي التي ليس لها أصل في الكتاب والسنّة، وليس المراد من الأصل; الدليل الخاص، بل يكفي الدليل العام في ذلك.
ويرشدك إلى أنّ هذه الاحتفالات تجسيد لتكريم النبي، وجدانك الحرّ، فانّه يقضي بلا مرية على أنّها إعلاء لمقام النبي وإشادة بكرامته وعظمته، يتلقاها كلّ من شاهدها عن كثب، على أنّ المحتفلين يعزّرون نبيّهم ويكرمونه ويرفعون مقامه اقتداء بقوله سبحانه: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (الانشراح/4).
السنّة النبويّة وكرامة يوم مولده
1 ـ أخرج مسلم في صحيحه عن أبي قتادة انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "ذاك يوم ولدت فيه، وفيه أُنزل عليّ"(2).
____________
1- المواهب اللدنية 1: 148.
2- مسلم 2: 819.
2 ـ روى مسلم في صحيحه عن ابن عباس (رضي الله عنه) قال: قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) المدينة فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فسألوا عن ذلك؟ فقالوا: هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى وبني إسرائيل على فرعون، ونحن نصومه تعظيماً له، فقال النبيّ (صلى الله عليه وآله) : "نحن أولى بموسى منكم" فأمر بصومه(2).
وقد استدلّ ابن حجر العسقلاني بهذا الحديث على مشروعيّة الاحتفال بالمولد النبوي على ما نقله الحافظ السيوطي، فقال: "فيستفاد فعل الشكر لله على ما منّ به في يوم معين من إسداء نعمة، أو دفع نقمة ويعاد ذلك، نظر ذلك اليوم من كلّ سنة. والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة، وأي نعمة أعظم من النعمة ببروز هذا النبي نبيّ الرحمة في ذلك اليوم"(3).
3 ـ وللسيوطي أيضاً كلام آخر نأتي بنصّه، يقول: "وقد ظهر لي
____________
1- ابن رجب الحنبلي، لطائف المعارف: 98.
2- مسلم، الصحيح: 1130 ـ وأخرجه البخاري 7: 215.
3- السيوطي، الحاوي للفتاوي 1: 196.
4 ـ أخرج البخاري عن عمر بن الخطاب انّ رجلا من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتّخذنا ذلك اليوم عيداً؟ فقال: أي آية؟ قال: (اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلامَ دِيناً) (المائدة/3).
فقال عمر: إنّي لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) قائم بعرفة يوم الجمعة(2).
وأخرج الترمذي عن ابن عباس نحوه وقال: فيه نزلت في يوم عيد من يوم جمعة ويوم عرفة، وقال الترمذي: وهو صحيح(3).
"وفي هذا الأثر موافقة سيدنا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) على اتخاذ اليوم الذي حدثت فيه نعمة عظيمة عيداً لأنّ الزمان ظرف للحدث العظيم، فعند عود اليوم الذي وقعت فيه الحادثة كان موسماً لشكر تلك
____________
1- السيوطي، الحاوي للفتاوي 1: 196.
2 و 3- البخاري 8: 270 ـ وكما أخرجه الترمذي في 5: 250 وفي الروايات المتضافرة انّها نزلت في الثامن عشر من ذي الحجة في حجّة الوداع.
نرى أنّ المسيح عندما دعا ربّه أن ينزل مائدة عليه وعلى حواريه قال: (اَللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لاَِوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (المائدة/114). فقد اتّخذ يوم نزول النعمة المادية التي تشبع البطون عيداً، والرسول الأكرم نعمة عظيمة منّ بها الله على المسلمين بميلاده، فلم لا نتّخذه يوم فرح وسرور؟
الإستدلال بالإجماع
ذكروا أنّ أوّل من أقام المولد هو الملك المظفر صاحب اربل، وقد توفي عام 306 هـ، وربما يقال أوّل من أحدثه بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، أوّلهم المعجز لدين الله، توجه من المغرب إلى مصر في شوال 163 هـ، وقيل في ذلك غيره، وعلى أيّ تقدير فقد احتفل المسلمون حقباً وأعواماً من دون أن يعترض عليهم أحد، وعلى أيّ حال فقد تحقّق الإجماع على جوازه وتسويغه واستحبابه قبل أن يولد باذر هذه الشكوك، فلماذا لم يكن هذا الإجماع حجّة؟ مع أنّ اتّفاق الأُمّة بنفسه أحد الأدلّة، وكانت السيرة على تبجيل مولد النبيّ إلى أن جاء ابن تيمية، والعزّ بن عبد السلام(2)، والشاطبي فناقشوا فيه ووصفوه بالبدعة، مع أنّ الإجماع انعقد قبل هؤلاء بقرنين أو قرون، أو ليس انعقاد الإجماع
____________
1- عيسى الحميري، بلوغ المأمول: 29.
2- هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي (577 ـ 660 هـ) فقيه شافعي، له من الكتب "التفسيرالكبير" و "مسائل الطريقة" وغيرها (أعلام الزرگلي 4:21 ط دار الملايين، بيروت.
أوهام وتشكيكات
إنّ للقائلين بالمنع تشكيكات وشبه كلّها سراب، نذكرها بنصوصها:
أ ـ الاحتفال نوع من العبادة
قال محمد حامد الفقي: "والمواليد والذكريات التي ملأت البلاد باسم الأولياء هي نوع من العبادة لهم وتعظيمهم"(1).
يلاحظ عليه: أنّ العنصر المقوّم لصدق العبادة على العمل هو الاعتقاد بإلوهية المعظّم له أو ربوبيّته، أو كونه مالك لمصير المعظِّم المحتفل، وأنّ بيده عاجله وآجله، ومنافعه ومضارّه ولا أقل، بيده مفاتيح المغفرة والشفاعة.
وأمّا إذا خلا التعظيم عن هذه العناصر، واحتفل بذكرى رجل ضحّى بنفسه ونفيسه في طريق هداية المحتفلين، فلا يعدّ ذلك عبادة له، وإن أُقيمت له عشرات الاحتفالات، وأُلقيت فيها القصائد والخطب.
ومن المعلوم أنّ المحتفلين المسلمين يعتقدون أنّ النبيّ الأكرم عبد من عباد الله الصالحين، وفي الوقت نفسه هو أفضل الخليقة، ونعمة من الله إليهم، فلأجل تكريمه يقيمون الاحتفال أداءً لشكر النعمة.
____________
1- محمد حامد الفقي في تعليقه على فتح المجيد: 154.
ب ـ لم يحتفل السلف بمولد النبي
قال ابن تيمية: إنّ هذا لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف ـ رضي الله عنهم ـ أحقّ به منّا، فانّهم كانوا أشدّ محبّة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وتعظيماً له منّا، وهم على الخير أحرص(1).
يلاحظ عليه: بما تعرّفت عليه في الفصل الرابع من أنّ المقياس في السنّة والبدعة هو الكتاب والسنّة وإجماع المسلمين أو السيرة العملية المتّصلة بعصر النبيّ، وأمّا غير ذلك فليس له وزن ولا قيمة ما لم يعتمد على هذه الأُصول الأربعة، ولم يكن السلف أنبياءً ولا رسلا، وليس الخلف بأقلّ منهم، بل الجميع أمام الكتاب وأمام السنّة سواسية، فلو كان هناك دليل من الكتاب والسنّة على جواز الاحتفال; فترك السلف لا يكون مانعاً، على أنّ ترك السلف لم يكن مقارناً بتحريم الاحتفال أو كراهيّته فغاية ما هناك أنّهم لم يفعلوا، وقد أمر الله بما في هذه الآية: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر/7) ولم يقل في حقّ النبي "وما تركه فانتهوا عنه" فكيف الحال في حقّ السلف؟!
ج ـ إنّها مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح
يقول ابن تيمية: وكذلك ما يحدثه بعض الناس إمّا مضاهاة للنصارى في ميلاد المسيح (عليه السلام) ، وإمّا محبّة للنبي وتعظيماً له والله قد يثيبهم على هذه المحبّة والاجتهاد لا على البدع(2).
يلاحظ عليه: أنّ ابن تيمية ليس على يقين بأنّ المسلمين يقيمون
____________
1- اقتضاء الصراط المستقيم: 293 ـ 294.
2- ابن تيمية، اقتضاء الصراط المستقيم: 293.
تخصيص المولد بيوم للاحتفال به بدعة
إنّ عموم الدليل يقتضي أن تكون جميع الأيام بالنسبة للاحتفال سواسية، فتخصيص يوم واحد في جميع البلاد بالاحتفال بدعة، وإن لم يكن أصل العمل بدعة(1).
هذا هو الدليل الهام للقائلين بالمنع، ولكن الجواب عنه واضح، وذلك لأنّ جميع الأيام بالنسبة إلى الاحتفال وإن كانت سواسية إلاّ أنّ تخصيص يوم واحد للاحتفال به، لأجل خصوصيات في ذلك اليوم، وليست في غيره إلاّ ما شذّ، وهو أنّ ذلك اليوم تشرّف بولادته، فهو من أفضل الأيام، كما أنّ البقعة التي ضمّت جسده الشريف هي من أفضل البقاع، ومن ثمّ خصّ النبيّ الأكرم يوم الاثنين بفضيلة الصوم، وبيّن أنّ سبب التخصيص هو أنّه (صلى الله عليه وآله) ولد فيه، فصار كلّ ذلك سبباً لاختيار هذا اليوم دون سائر الأيام، نعم في وسعهم الاحتفال في غير هذا اليوم أيضاً، بل كلّ يوم أرادوا تكريم النبي والاحتفال به.
ثمّ إنّ الذي نلفت نظر القائل بالمنع إليه، هو أنّه لم يقترن ولن
____________
1- صالح الفوزان، البدعة: 17.
نعم من احتفل في مولد النبي وادّعى ورود الشرع به، أو حثّه على هذا التخصيص فهو مبتدع، ولا أظن على أديم الأرض رجلا يدّعي ذلك.
وبعبارة موجزة; فانّ كون الاحتفال بدعة رهن أمرين; وكلاهما منتفيان:
1 ـ عدم الدليل العام على الاحتفال.
2 ـ ادّعاء ورود الشرع بذلك اليوم الخاص وحثّه عليه.
فعندئذ فلا معنى لادّعاء البدعة.
هـ ـ الاحتفالات تشتمل على أُمور محرّمة
إنّ هذه الاحتفالات مشتملة على أُمور محرّمة في الغالب، كاختلاط النساء بالرجال، وقراءة المدائح مع الموسيقى والغناء(1).
يلاحظ عليه: أنّ هذا النوع من الاستدلال ينمّ عن قصور باع المستدل، وهذا يدلّ على أنّه قد أعوزه الدليل، فأخذ يتمسّك بالطحلب شأن الغريق المتمسّك به.
فإنّ البحث في نفس مشروعية العمل بحد ذاتها، وأمّا الأُمور الجانبية العارضة عليه فلا تكون مانعاً من الحكم بالجواز، وما ذكره لا
____________
1- ابن الحاج، المدخل 2: 2.
وفي الختام نركز على أمر وهو، أنّ الاستدلال على الجواز أو المنع بالأُمور الجانبية خروج عن الاستدلال الفقهي، فانّ الحكم بالجواز والمنع ذاتاً يتوقّف على كون الشيء بما هو هو جائزاً أو ممنوعاً، وأمّا الاستدلال على أحدهما بالأُمور الطارئة فليس استدلالا صحيحاً.
وهناك نكتة أُخرى، وهي أنّ الاستدلال على الجواز بما جرت عليه سيرة العقلاء من إقامة الاحتفالات على عظمائهم قياس مع الفارق، لأنّ الاحتفالات الرائجة بين العقلاء من الأُمور العادية، والأصل فيها هو الحلّية، وأمّا الاحتفال بمولد النبي فإنّما هو احتفال ديني، وعمل شرعي، فلا يقاس بتلك الاحتفالات، بل لابدّ من طلب دليل شرعي على جوازه، وبذلك تقدر على القضاء بين أدلّة الطرفين.
نعم لا يمكن أن ننكر أنّ ما يقيمه العقلاء من احتفال يؤثر في نفوسنا ويحفزنا للإقبال على الاحتفال بمولد النبي، وفي هذا الصدد يقول العلاّمة الأميني:
"لعلّ تجديد الذكرى بالمواليد والوفيات، والجري على مراسم النهضات الدينية، أو الشعبية العامة، والحوادث العالمية الاجتماعية، وما يقع من الطوارق المهمّة في الطوائف والأحياء، بعدِّ سنيها، واتّخاذ رأس كلّ سنة بتلكم المناسبات أعياداً وأفراحاً، أو مآتماً وأحزاناً، وإقامة الحفل السارّ، أو التأبين، من الشعائر المطردة، والعادات الجارية منذ القدم، ودعمتها الطبيعة البشرية، وأسّستها الفكرة الصالحة لدى الأُمم
هذه مراسم اليهود، والنصارى، والعرب، في أمسها ويومها، وفي الإسلام وقبله، سجّلها التاريخ في صفحاته.
وكأنَّ هذه السُنّة نزعة إنسانية، تنبعث من عوامل الحبّ والعاطفة، وتسقى من منابع الحياة، وتتفرع على أُصول التبجيل والتجليل، والتقدير والإعجاب، لرجال الدين والدنيا، وأفذاذ الملأ، وعُظماء الأُمة إحياءً لذكراهم، وتخليداً لأسمائهم، وفيها فوائد تاريخية اجتماعية، ودروس أخلاقية ضافية راقية، لمستقبل الأجيال، وعظات وعبر، ودستور عملي ناجح للناشئة الجديدة، وتجارب واختبارات تولد حنكة الشعب، ولا تختص بجيل دون جيل، ولا بفئة دون فئة.
وانّما الأيام تقتبس نوراً وازدهاراً، وتتوسّم بالكرامة والعظمة، وتكتسب سعداً ونحساً، وتتخد صيغة مما وقع فيها من الحوادث الهامّة وقوارع الدهر ونوازله..."(1).
____________
1- الأميني، سيرتنا وسنّتنا: 38 ـ 39 ط الثانية.
المسألة الثانية
شدّ الرحال لزيارة قبر النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)
اتّفق المسلمون على جواز زيارة القبور، وخاصّة زيارة قبور الأنبياء والصالحين، إلاّ ما حكي عن ابن سيرين والنخعي والشعبي، والنسبة إليهم غير ثابتة، وقد تضافرت الروايات على هذا الجواز وإنّ النبيّ زار قبر أُمّه فبكى وأبكى مَنْ حوله وقال: "استأذنتُ ربّي في أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فانّها تذكّركم الموت"(1).
وقال: "كنت نهيتُكم عن زيارة القبور فزوروها... فانّها وتذكّر الآخرة"(2).
____________
1- مسلم، الصحيح 3: 65 باب استئذان النبي ربه في زيارة قبر أمّه.
2- الترمذي، الصحيح، باب الجنائز 4: 274 المطبوع مع شرح ابن العربي المالكي. وقال بعد نقل هذا الحديث عن بريدة " حديث بريدة صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم، لا يرون بزيارة القبور بأساً، وهو قول ابن المبارك والشافعي وأحمد واسحاق ".
وقد روى أصحاب السنن كيفية زيارة النبي الأكرم لقبور البقيع، فلاحظ المصدر(2).
وأمّا زيارة قبر النبي الأكرم فليس هناك أيّ خلاف بين المسلمين في استحباب زيارته، وهذا محمد بن عبد الوهاب يقول: تَسنُّ زيارة النبي (صلى الله عليه وآله) إلاّ أنّه لا يشدّ الرحال إلاّ لزيارة المسجد والصلاة فيه(3).
نعم ينسب إلى ابن تيمية التشكيك في مندوبية زيارة النبي الأكرم، ولكن كلامه في كتاب الرد على الاخنائي على خلاف ذلك(4). حتى أنّ المقدسي(5) صرّح بأنّه كان معتقداً بزيارة النبي الأكرم وقال: قال(رحمه الله) (يعني ابن تيمية) في بعض مناسكه: "باب زيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) ":
إذا أشرف على مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدّم، فإذا دخل استحبّ له أن يغتسل، ـ نصّ عليه الإمام أحمد ـ، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى وقال: بسم الله والصلاة على رسول الله، اللّهمّ اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، ثمّ يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلّي بها ويدعو بما شاء، ثمّ يأتي قبر النبي (صلى الله عليه وآله) فيستقبل جدار
____________
1- تحسن مراجعة المصادر الآتية: ابن ماجة، السنن 1: 114 ط الهندي، باب ما جاء في زيارة القبور ـ أبو داود، الصحيح 2: 195 كتاب الجنائز، باب زيارة القبور ـ مسلم، الصحيح 4: 73 كتاب الجنائز، باب زيارة القبور، إلى غيرها من المصادر.
2- النسائي، السنن 4: 76 ـ 77 مضافاً إلى المصادر المتقدمة.
3- الهدية السنيّة، الرسالة الثانية.
4- لاحظ ابن تيمية، الرد على الاخنائي: 13.
5- أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي.
ولذلك لا نطيل الكلام في إثبات استحباب زيارة قبر النبيّ الأكرم، ولعلنا نخصص بحثاً لبيان حكم مطلق الزيارة وبالأخصّ زيارة قبور الأنبياء والأولياء في المستقبل، إنّما كلامنا هنا هو التركيز على حكم شدّ الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، فقد رآه ابن تيمية ومن لفَّ لفَّه أمراً حراماً، مستدِلا بحديث أبي هريرة، أنّه (صلى الله عليه وآله) قال:
"لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى".
وروي هذا الحديث بصورة أُخرى وهي:
"إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد: مسجد الكعبة ومسجدي ومسجد
____________
1- الصارم المنكي في الرد على السبكي، لأبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الحنبلي المقدسي: 7، ط 1 القاهرة، المطبعة الخيرية.
وروي أيضاً بصورة ثالثة وهي:
"تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد..."(1).
أقول: إنّ رفع القناع عن وجه الحقيقة يتوقّف على دراسة أمرين:
الأوّل: ما يدل على استحباب السفر لزيارة قبره (صلى الله عليه وآله) .
الثاني: دراسة وتحليل الحديث الذي تمسك به ابن تيمية على تحريم السفر.
وإليك الكلام حولهما واحداً تلو الآخر:
ما يدلّ على استحباب السفر
يمكن الاستدلال على استحباب السفر بوجوه كثيرة لكنّنا نقتصر على وجهين:
الأوّل: إطباق السلف والخلف على جواز السفر للزيارة، وهذا لا يمكن لأحد إنكاره، وقد استمرّت السيرة قروناً عديدة، وممّن أوضح تلك السيرة، الفقيه السبكي بقوله:
"إنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضُوا الحج يتوجّهون إلى زيارته (صلى الله عليه وآله) ، ومنهم من يفعل ذلك قبل الحج، هكذا شاهدناه وشاهده من قبلنا، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة، كما ذكرناه في الباب الثالث، وذلك أمر لا يرتاب فيه، وكلّهم يقصدون ذلك ويعرجون إليه، وإن لم
____________
1- مسلم، الصحيح 4: 126 كتاب الحج، باب لا تشدّ الرحال ـ أبو داود، السنن 1: 469 كتاب الحج ـ النسائي، السنن 2: 37 ـ 38 المطبوع مع شرح السيوطي.
إنّ جريان السيرة على السفر في القرون الماضية بلغ في الوضوح ما لم يستطيع أحد أن ينكره، حتى أنّ الحنبلي المقدسي الذي أفرد كتاباً في الردّ على السبكي لم يتعرّض للسيرة وما تحدّث عنها بكلمة، مع أنّه كان بصدد نقد الكتاب. ولكي تتضح حال السيرة نذكر نصوصاً عن بعض العلماء:
1 ـ قال أبو الحسن الماوردي (ت/045): "فإذا عاد (ولي الحاج) سار به على طريق المدينة، لزيارة قبر رسول الله، ليجمع لهم بين حجّ بيت الله عزّوجلّ وزيارة قبر رسول الله، رعاية لحرمته وقياماً بحقوق طاعته، وذلك وإن لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات الشرع المستحبّة وعبادات الحجيج المستحبّة"(2).
2 ـ قال ابن الحاج محمد بن محمد العبدري القيرواني المالكي (ت/737): "وأمّا عظيم جناب الأنبياء والرسل، صلوات الله وسلامه
____________
1- الامام تقي الدين السبكي، شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 100.
2- أبو الحسن الماوردي، الأحكام السلطانية: 105.
3 ـ قال شيخ الإسلام أبو يحيى زكريا الأنصاري الشافعي (ت/592) في ما يستحبّ لمن حج: "ثمّ يزور قبر النبي ويسلّم عليه وعلى صاحبيه بالمدينة المشرفة"(2).
إلى غير ذلك من النصوص الواردة حول استحباب السفر لزيارة قبر النبي (صلى الله عليه وآله) الحاكية عن تطابق الأُمة على السفر.
4 ـ قال الشيخ علاء الدين الحصكفي الحنفي في آخر كتاب الحج: "وزيارة قبره (صلى الله عليه وآله) مندوبة بل قيل واجبة لمن له سعة، ويبدأ بالحج لو كان فرضاً، ويُخيَّر لو كان نفلا، ما لم يمرّ به فيبدأ بزيارته لا محالة، ولينوي معه زيارة مسجده"(3).
5 ـ وقد نقل أنّه لما صالح عمر بن الخطاب أهل بيت المقدس جاءه كعب الأحبار فأسلم ففرح به فقال عمر له: هل لك أن تسير معي إلى المدينة. وتزور قبره وتتمتّع بزيارته؟ قال: نعم(4).
6 ـ وقد تضافر النقل على أنّ بلالا بعد ما نزل الشام وأقام بها، شدّ الرحال لزيارة قبر النبي الأكرم، قال جمال الدين المزي: أنّه لم يؤذن
____________
1- ابن الحاج، المدخل 1: 257 فصل زيارة القبور.
2- اسنى المطالب في شرح روض الطالب 1: 501.
3- الحنفي المفتي بدمشق (ت/1088)، الدر المختار في شرح تنوير الأبصار، آخر كتاب الحج.
4- الزرقاني المالكي المصري، شرح المواهب 8: 299.
الثاني: انّ مقدمة المستحبّ مستحبّة
إذا كانت زيارة النبي الأكرم أمراً مندوباً ولم تخصّص الزيارة لمن كان مقيماً في المدينة ونزيلا فيها، فلم لا تكون مقدّمتها مستحبّة، إذ من القواعد: انّ وسيلة القربة قربة، وقد وردت روايات على مشروعية تلك القاعدة.
يقول السبكي في هذا الصدد:
قال (صلى الله عليه وآله) : ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط فذلكن الربا" رواه مسلم(2).
والخطى إلى المساجد انما شرفت لكونها وسيلة إلى عبادة.
وقال (صلى الله عليه وآله) : "إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء، ثمّ خرج إلى المسجد، لا تخرجه إلاّ الصلاة، لم يخط خطوة إلاّ رفعت له بها درجة وحُطّ عنه بها خطيئة"، رواه البخاري ومسلم(3).
____________
1- جمال الدين المزي، تهذيب الكمال 4: 286 ـ ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق 5: 365.
2- ورواه الامام مالك، وأحمد، والترمذي، والنسائي.
3- ورواه أبو داود البيهقي، وفيه زيادات، وكذلك الطبراني، والحاكم.