الصفحة 36

وقال (صلى الله عليه وآله) : "أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم ممشى" رواه البخاري ومسلم(1).

وقال رجل: ما يسرّني انّ منزلي إلى جنب المسجد، انّي أريد أن يكتب لي ممشاي إلى المسجد ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : "قد جمع الله لك ذلك كلّه" رواه مسلم.

وقال جابر: كانت ديارنا نائية عن المسجد، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد، فنهانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقال: "إنّ لكم بكلّ خطوة درجة" رواه مسلم.

وقال (صلى الله عليه وآله) : "من تطهّر في بيته، ثمّ مشى إلى بيت من بيوت الله، ليقضي فريضة من فرائض الله كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة والأُخرى ترفع درجة" رواه مسلم.

وقال (صلى الله عليه وآله) : "من غدا إلى المسجد أو راح أعدّ الله له نزلا كلّما غدا أو راح" رواه البخاري ومسلم والامام أحمد(2).

هذا كلّه ما ذكره السبكي في مقدّمة المستحب، وقال بالملازمة بين استحباب ذي المقدمة ومقدّمته.

ولو قلنا بعدم الملازمة بين الاستحبابين، ولكن لا محيص عن عدم التضاد بين الحكمين، إذ كيف يمكن أن تكون الزيارة مستحبّة للنائي ويكون السفر حراماً، فلا محيص عن كونه مباحاً لا حراماً.

____________

1- ورواه ابن ماجة.

2- السبكي، شفاء السقام، باب في كون السفر إليه قربة: 102، ولكلامه صلة فمن أراد فليراجع إليه فانّه مُمْتنع.


الصفحة 37
هذا كلّه حول دليل القائل بجواز شدّ الرحال.

دراسة دليل القائل بالتحريم

ليس للقائل بالتحريم إلاّ دليل واحد وهو ما عرفت من رواية أبي هريرة، وقد نقلت بصور مختلفة قد عرفتها، والمناسب لما يرومه المستدلّ الصورة التالية.

"لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" فتحليل الحديث يتوقّف على تعيين المستثنى منه، وهو لا يخلو من صورتين:

1 ـ لا تشدّ إلى مسجد من المساجد إلاّ إلى ثلاثة مساجد....

2 ـ لا تشدّ إلى مكان من الأمكنة إلاّ إلى ثلاثة مساجد....

فلو كانت الأُولى كما هو الظاهر، كان معنى الحديث عدم شدّ الرحال إلى أيّ مسجد من المساجد سوى المساجد الثلاثة، ولا يعني عدم شدّ الرحال إلى أيّ مكان من الأمكنة إذا لم يكن المقصود مسجداً. فالحديث يكون غير متعرّض لشدّ الرحال لزيارة الأنبياء والأئمة الطاهرين والصالحين، لأنّ موضوع الحديث إثباتاً ونفياً هو المساجد، وأمّا غير ذلك فليس داخلا فيه، فالاستدلال به على تحريم شدّ الرحال الى غير المساجد، باطل.

وأمّا الصورة الثانية، فلا يمكن الأخذ بها، إذ يلزم منها كون جميع السفرات محرّمة سواء كان السفر لأجل زيارة المسجد أو غيره من الأمكنة، وهذا لا يلتزم به أحد من الفقهاء.


الصفحة 38
ثمّ إنّ النهي عن شدّ الرحال إلى أيّ مسجد غير المساجد الثلاثة ليس نهياً تحريمياً، وانّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى في سفر كهذا، وذلك لأنّ المساجد الأُخرى لا تختلف من حيث الفضيلة، فالمساجد الجامعة كلّها متساوية في الفضيلة، فمن العبث ترك الصلاة في جامع هذا البلد والسفر إلى جامع بلد آخر مع أنّهما متماثلان.

وفي هذا الصدد يقول الغزالي: "القسم الثاني، وهو أن يسافر لأجل العبادة إمّا لحجّ أو جهاد.. ويدخل في جملته: زيارة قبور الأنبياء (عليهم السلام)وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء، وكلّ من يتبرّك بمشاهدته في حياته يتبرّك بزيارته بعد وفاته، ويجوز شدّ الرحال لهذا الغرض، ولا يمنع من هذا قوله (صلى الله عليه وآله) : "لا تشدّ الرحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى". لأنّ ذلك في المساجد، فانّها متماثلة (في الفضيلة) بعد هذه المساجد، وإلاّ فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل، وإن كان التفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند الله"(1).

يقول الدكتور عبد الملك السعدي: "انّ النهي عن شدّ الرحال إلى المساجد الأُخرى لأجل أنّ فيه إتعاب النفس دون جدوى أو زيادة ثواب، لأنّ في الثواب سواء بخلاف الثلاثة، لأنّ العبادة في مسجد الحرام بمائة ألف، وفي المسجد النبوي بألف، وفي مسجد الأقصى

____________

1- الغزالي، احياء علوم الدين 2: 247، كتاب آداب السفر، ط دار المعرفة بيروت.


الصفحة 39
بخمسمائة، فزيادة الثواب تحبب السفر إليها، وهي غير موجودة في بقية المساجد"(1).

والدليل على أنّ السفر لغير هذه المساجد ليس أمراً محرّماً ما رواه أصحاب الصحاح والسنن: "كان رسول الله يأتي مسجد قباء راكباً وماشياً فيصلّي فيه ركعتين"(2).

ولعلّ استمرار النبي على هذا العمل كان مقترناً لمصلحة تدفعه إلى السفر إلى قباء والصلاة فيه، مع كون الصلاة فيه أقلّ ثواباً من الثواب في مسجده.

دراسة النهي عن شدّ الرحال

إنّ لابن تيمية في المقام كلمة تنطوي على مغالطة واضحة، إذ مع أنّه قدّر المستثنى منه في الحديث لفظ المساجد إلاّ أنّه استدلّ على منع شدّ الرحال لزيارة قبور الأنبياء والصالحين بمدلوله، أي بالقياس الأولوي، فقال في الفتاوي:

"فإذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع باتّفاق الأئمة الأربعة بل قد نهى عنه الرسول (صلى الله عليه وآله) فكيف بالسفر إلى بيوت المخلوقين الذين تتخذ قبورهم مساجد، وأوثاناً وأعياداً، ويشرك بها، وتدعى من دون الله، حتى أنّ كثيراً من معظميها يُفضِّل الحجّ إليها على

____________

1- الدكتور عبد الملك السعدي، البدعة: 60.

2- مسلم، الصحيح 3: 184 ـ البخاري، الصحيح 2: 76 ـ النسائي، السنن المطبوع مع شرح السيوطي 2: 37.


الصفحة 40
الحج إلى بيت الله"(1).

ولو صحّ ذلك النقل من ابن تيمية ففي كلامه أوهام شتّى وإليك بيانها:

1 ـ قال: "إذا كان السفر إلى بيوت الله غير الثلاثة ليس بمشروع".

يلاحظ عليه: من أين وقف على أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة محرّم، وقد عرفت أنّ النهي ليس تحريمياً مولوياً وإنّما هو إرشاد إلى عدم الجدوى، ولأجل ذلك لو ترتبت على السفر مصلحة لجاز، كما عرفت من سفر النبي إلى مسجد قباء مراراً.

2 ـ نسب عدم المشروعية إلى الائمة الأربعة، إلاّ أنّنا لم نجد نصاً منهم على التحريم، ووجود الحديث في الصحاح لا يدلّ على أنّهم فسّروا الحديث بنفس ما فسّر به ابن تيمية، ولا يخفى على الأئمة ظهور الحديث في الدلالة على عدم الجدوى، لا كون العمل محرماً.

3 ـ إنّ عدم جواز السفر إلى غير المساجد الثلاثة لا يكون دليلا على عدم جوازه إلى "بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"(2)، إذ لا ملازمة بينهما، لأنّه لا يترتّب على السفر في غير مورد الثلاثة أيّة فائدة سوى تحمّل عناء السفر، وقد عرفت أنّ فضيلة أي جامع في بلد هي نفسها في البلد الآخر، وليس اكتساب الثواب متوقفاً على السفر، وهذا بخلاف المقام، فانّ درك فضيلة قبر النبي يتوقّف على السفر، ولا يدرك بدونه.

____________

1- ابن تيمية، الفتاوي كما في كتاب البدعة للدكتور عبد الملك السعدي.

2- مقتبس من سورة النور: الآية 36.


الصفحة 41
4 ـ يقول: "انّ المسلمين يتّخذون قبور الأنبياء أوثاناً وأعياداً ويشرك بها".. كبرت كلمة تخرج من أفواههم، أفمن يشهد كلّ يوم بأنّ محمداً عبده ورسوله، ويكرمه ويعظمه لأنّه سفير التوحيد ومبلغه، ـ أفهل ـ يمكن أن يتّخذ قبره وثناً.

5 ـ يقول: "تدعى من دون الله".. من المعلوم أنّ عبادة الغير حرام، لا مطلق دعوته، فعامّة المسلمين حتى ابن تيمية يقول في صلاته: "السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته". والمراد من قوله سبحانه: (وَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (الجن/18): لا تعبدوا مع الله أحداً. قال سبحانه: (اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ اِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر/60) فسمّى سبحانه دعوته: عبادة. فإذاً الدعوة على قسمين: دعوة عبادية إذا كان معتقداً بألوهية المدعو، بنحو من الأنحاء، ودعوة غير عبادية إذا دعاه على أنّه عبد من عباده الصالحين، يستجاب دعاؤه عند الله. والدعوة بهذا النوع تؤكده التوحيد.

6 ـ نقل: أنّ بعض المسلمين يفضّل السفر إلى تلك الأماكن على الحجّ إلى بيت الله، لكنّها فرية بلا مرية، وليس على وجه البسيطة مسلم واع يعتقد بهذا ويعمل به.

7 ـ لو كان السفر إلى زيارة القبور أمراً محرّماً فلماذا شدّ النبي الرحال لزيارة قبر أُمّه بالأبواء، وهي منطقة بين مكة والمدينة، أَفصار النبي بهذا ـ والعياذ بالله ـ مشركاً، أو أنّ الرواية التي أطبق المحدّثون على نقلها مكذوبة؟ والله لا هذا ولا ذاك دائماً.

8 ـ إنّ ما ذكره من أسباب المنع تتحقّق للمجاور للقبر بدون شدّ

الصفحة 42
الرحال، فاللازم منع ارتكاب المحرّمات عند قبره لا منع السفر إليه.

9 ـ إنّ احتمال أنَّ المراد من زيارة القبور هو زيارة جميع القبور بدون تخصيص لزيارة قبر مشخّص، احتمال ساقط، وذلك لأنّ "ال" "الجنسية" إذا دخلت على الجمع أبطلت جمعيّته وصار المراد بالمدخول أي فرد يتحقّق به جنس القبر، ويستوي في ذلك المفرد والجمع.

10 ـ كيف يقال ذلك مع أنّ السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت تزور قبر أخيها عبد الرحمن بخصوصه(1)، حتى أنّ النبيّ يخصّ بعض القبور بالزيارة، وقد وضع حجرات على قبر أخيه من الرضاعة عثمان بن مظعون، وقال: "لتعرف بها قبر أخي". ومعلوم أنّه لا تترتب على التعرّف فائدة سوى زيارته.

____________

1- ابن قدامى المغني 2: 270.


الصفحة 43

المسألة الثالثة
القبض بين البدعة والسنّة


إنّ قبض اليد اليسرى باليمنى ممّا اشتهر ندبه بين فقهاء أهل السنّة.

فقالت الحنفية: إنّ التكتّف مسنون وليس بواجب، والأفضل للرجل أن يضع باطن كفّه اليمنى على ظاهر كفّه اليسرى تحت سُرّته، وللمرأة أن تضع يديها على صدرها.

وقالت الشافعية: يُسنّ للرجل والمرأة، والأفضل وضع باطن يمناه على ظهر يسراه تحت الصدر وفوق السرّة ممّا يلي الجانب الأيسر.

وقالت الحنابلة: انّه سنّة، والأفضل أن يضع باطن يمناه على ظاهر يسراه، ويجعلها تحت السرّة.


الصفحة 44
وشذّت عنهم المالكية فقالوا: يُندَب إسدالُ اليدين في الصلاة الفرض، وقالت به جماعة أيضاً قبلهم، منهم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وعطاء، وابن جريج، والنخعي، والحسن البصري، وابن سيرين، وجماعة من الفقهاء.

والمنقول عن الإمام الأوزاعي التخيير بين القبض والسدل(1).

وأمّا الشيعة الإماميّة، فالمشهور أنّه حرام ومبطل، وشذّ منهم من قال بأنّه مكروه، كالحلبي في الكافي(2).

ومع أنّ غير المالكية من المذاهب الأربعة قد تصوبوا وتصعدوا في المسألة، لكن ليس لهم دليل مقنع على جوازه في الصلاة، فضلا عن كونه مندوباً، بل يمكن أن يقال: انّ الدليل على خلافهم، والروايات البيانية عن الفريقين التي تبيّن صلاة الرسول خالية عن القبض، ولا يمكن للنبي الأكرم أن يترك المندوب طيلة حياته أو أكثرها، واليك نموذجين من هذه الروايات: أحدهما من طريق أهل السنّة، والآخر من طريق الشيعة الإمامية، وكلاهما يُبيّنان كيفية صلاة النبي، وليست فيهما أيّة إشارة على القبض فضلا عن كيفيته.

أ ـ حديث أبي حميد الساعدي

روى حديث أبي حميد الساعدي غير واحد من المحدّثين،

____________

1- محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة: 110 ـ ولاحظ رسالة مختصرة في السدل للدكتور عبد الحميد: 5.

2- النجفي، جواهر الكلام 11: 15 ـ 16.


الصفحة 45
ونحن نذكرْ بنصّ البيهقي، قال: أخبرناه أبو علي عبد الله الحافظ:

فقال أبو حميد الساعدي: أنا أعملكم بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، قالوا: لِمَ، ما كنت أكثرنا له تبعاً، ولا أقدمنا له صحبة؟! قال: بلى، قالوا: فأعرض علينا، فقال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يحاذي بهما مَنْكَبيه، ثمّ يكبّر حتى يقرّ كل عضو منه في موضعه معتدلا، ثمّ يقرأ، ثمّ يكبّر ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثمّ يركع ويضع راحتيه على ركبتيه، ثمّ يعتدل ولا ينصب رأسه ولا يقنع، ثمّ يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثمّ يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، حتى يعود كلّ عظم منه إلى موضعه معتدلا، ثمّ يقول: الله أكبر، ثمّ يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثمّ يرفع رأسه فيثني رجله اليسرى فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ثمّ يعود، ثمّ يرفع فيقول: الله أكبر، ثمّ يثني برجله فيقعد عليها معتدلا حتى رجع أو يقرّ كلّ عظم موضعه معتدلا، ثمّ يصنع في الركعة الأُخرى مثل ذلك، ثمّ إذا قام من الركعتين كبّر ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، كما فعل أو كبّر عند افتتاح صلاته، ثمّ يصنع من ذلك في بقيّة صلاته، حتى إذا كان في السجدة التي فيها التسليم أخّر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقّه الأيسر، فقالوا جميعاً: صدق هكذا كان يصلّي رسول الله (صلى الله عليه وآله) (1).

والذي يوضح صحّة الاحتجاج الأُمور التالية:

____________

1- البيهقي، السنن 2: 72 - 73، 101 - 102 ـ أبو داود، باب افتتاح الصلاة، الحديث 730 ـ 736 ـ الترمذي 2: 98 باب صفة الصلاة.


الصفحة 46
1 ـ تصديق أكابر الصحابة(1) وبهذا العدد لأبي حميد يدلّ على قوّة الحديث، وترجيحه على غيره من الأدلّة.

2 ـ انّه وصف الفرائض والسنن والمندوبات ولم يذكر القبض، ولم ينكروا عليه، أو يذكروا خلافه، وكانوا حريصين على ذلك، لأنّهم لم يسلّموا له أوّل الأمر انّه أعلمهم بصلاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، بل قالوا جميعاً: صدقت هكذا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصلّي، ومن البعيد جداً نسيانهم وهم عشرة، وفي مجال المذاكرة.

3 ـ الأصل في وضع الدين هو الإرسال، لأنّه الطبيعي فدلّ الحديث عليه.

4 ـ لا يقال انّ هذا الحديث عامّ وقد خصّصته أحاديث القبض، لأنّه وصف وعدد جميع الفرائض والسنن والمندوبات وكامل هيئة الصلاة، وهو في معرض التعليم والبيان، والحذف فيه خيانة، وهذا بعيد عنه وعنهم.

5 ـ روى بعض من حضر من الصحابة أحاديث القبض، فلم يعترض، فدلّ على أنّ القبض منسوخ، أو على أقل أحواله بأنّه جائز للاعتماد لمن طول في صلاته، وليس من سنن الصلاة، ولا من مندوباتها، كما هو مذهب الليث بن سعد، والأوزاعي، ومالك(2).

هذا هو الحديث الذي قام ببيان كيفية صلاة النبي، وقد روي عن

____________

1- منهم أبو هريرة، وسهل الساعدي، وأبو أسيد الساعدي، وأبو قتادة الحارث بن ربعي، ومحمد بن مسلمة.

2- الدكتور عبد الحميد، رسالة مختصرة في السدل: 11.


الصفحة 47
طريق أهل السنّة، وقد عرفت وجه الدلالة، وإليك ما رواه الشيعة الإمامية.

ب ـ حديث حمّاد بن عيسى

روى حماد بن عيسى عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال، قال: "ما أقبح بالرجل أن يأتي عليه ستون سنة أو سبعون سنة فما يقيم صلاة واحدة بحدودها تامة؟"، قال حماد: فأصابني في نفسي الذل، فقلت: جعلت فداك فعلّمني الصلاة، فقام أبو عبد الله مستقبل القبلة منتصباً فأرسل يديه جميعاً على فخذيه، قد ضمّ أصابعه وقرّب بين قدميه حتى كان بينهما ثلاثة أصابع مفرجات، واستقبل بأصابع رجليه جميعاً لم يُحرفهما عن القبلة بخشوع واستكانة، فقال: الله أكبر، ثمّ قرأ الحمد بترتيل، وقل هو الله أحد، ثمّ صبر هنيئة بقدر ما تنفس وهو قائم، ثمّ قال: الله أكبر، وهو قائم، ثمّ ركع وملأ كفّيه من ركبتيه مفرجات، وردّ ركبتيه إلى خلفه حتى استوى ظهره، حتى لو صُبّ عليه قطرة ماء أو دهن لم تزل لاستواء ظهره وتردّد ركبتيه إلى خلفه، ونصب عنقه، وغمض عينيه ثمّ سبّح ثلاثاً بترتيل وقال: سبحان ربّي العظيم وبحمده، ثمّ استوى قائماً، فلما استمكن من القيام قال: سمع الله لمن حمده، ثمّ كبّر وهو قائم، ورفع يديه حيال وجهه، وسجد، ووضع يديه إلى الأرض قبل ركبتيه فقال: سبحان ربي الأعلى وبحمده ثلاث مرّات، ولم يضع شيئاً من بدنه على شيء منه، وسجد على ثمانية أعظم: الجبهة، والكفين، وعيني الركبتين، وأنامل إبهامي الرجلين، والأنف، فهذه السبعة فرض، ووضع الأنف

الصفحة 48
على الأرض سنّة، وهو الإرغام، ثمّ رفع رأسه من السجود فلمّا استوى جالساً قال: الله أكبر، ثمّ قعد على جانبه الأيسر، ووضع ظاهر قدمه اليمنى على باطن قدمه اليسرى، وقال: استغفر الله ربي وأتوب إليه، ثمّ كبّر وهو جالس وسجد الثانية وقال: كما قال في الأُولى ولم يستعن بشيء من بدنه على شيء منه في ركوع ولا سجود، وكان مجنّحاً، ولم يضع ذراعيه على الأرض، فصلّى ركعتين على هذا.

ثمّ قال: "يا حمّاد هكذا صلّ، ولا تلتفت، ولا تعبث بيدك وأصابعك، ولا تبزق عن يمينك ولا عن يسارك ولا بين يديك"(1).

ترى أنّ الروايتين بصدد بيان كيفية الصلاة المفروضة على الناس، وليست فيهما أيّة إشارة إلى القبض بأقسامه المختلفة، فلو كان سنّة لما تركه الإمام في بيانه، وهو بعمله يجسّد لنا صلاة الرسول، لأنّه أخذها عن أبيه الإمام الباقر، وهو عن أبيه عن آبائه، عن أمير المؤمنين، عن الرسول الأعظم ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ فيكون القبض بدعة، لأنّه إدخال شيء في الشريعة وهو ليس منه.

ثمّ إنّ للقائل بالقبض أدلّة نأتي على دراستها:

إنّ مجموع ما يمكن الاستدلال به على أنّ القبض سنّة في الصلاة لا يعدو عن مرويات ثلاثة:

1 ـ حديث سهل بن سعد. رواه البخاري.

2 ـ حديث وائل بن حجر. رواه مسلم ونقله البيهقي بأسانيد ثلاثة.

____________

1- الحرّ العاملي، الوسائل الجزء 4، الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة، الحديث 1 ـ ولاحظ الباب 17، الحديث 1 و 2.


الصفحة 49
3 ـ حديث عبد الله بن مسعود. رواه البيهقي في سننه.

وإليك دراسة كلّ حديث:

أ ـ حديث سهل بن سعد

روى البخاري عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، قال: "كان الناس يُؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة" قال أبو حازم: لا أعلمه إلاّ يَنمي ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله) (1).

قال إسماعيل(2): يُنمى ذلك ولم يقل يَنمي.

والرواية متكفّلة لبيان كيفية القبض إلاّ أنّ الكلام في دلالتها بعد تسليم سندها. لكنها لا تدلّ عليه بوجهين:

أولا: لو كان النبي الأكرم هو الآمر بالقبض فما معنى قوله: "كان الناس يؤمرون"؟ أوَما كان الصحيح عندئذ أن يقول: كان النبي يأمر؟ أوليس هذا دليلا على أنّ الحكم نجم بعد ارتحال النبي الأكرم، حيث إنّ الخلفاء وأُمراءهم كانوا يأمرون الناس بالقبض بتخيّل أنّه أقرب للخشوع؟ ولأجله عقد البخاري بعده باباً باسم باب الخشوع. قال ابن حجر: حكمه في هذه الهيئة أنّه صفة السائل الذليل، وهو أمنع عن العبث، وأقرب إلى الخشوع، كان البخاري قد لاحظ ذلك وعقّبه بباب الخشوع.

____________

1- ابن حجر، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 2: 224، باب وضع اليمنى على اليسرى ـ ورواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى في الصلاة.

2- المراد: إسماعيل بن أبي أويس شيخ البخاري كما جزم به الحميدي. لاحظ فتح الباري 5: 325.


الصفحة 50
وثانياً: إنّ في ذيل السند ما يؤيد أنّه كان من عمل الآمرين، لا الرسول الأكرم نفسه حيث قال: قال إسماعيل: "لا أعلمه إلاّ يُنمى ذلك إلى النبي" بناءً على قراءة الفعل بصيغة المجهول.

ومعناه أنّه لا يعلم كونه أمراً مسنوناً في الصلاة، غير أنّه يُعزى وينسب إلى النبي، فيكون ما يرويه سهل بن سعد مرفوعاً.

قال ابن حجر: ومن اصطلاح أهل الحديث إذا قال الراوي يُنميه، فمراده: يرفع ذلك إلى النبي(1).

هذا كلّه إذا قرأناه بصيغة المجهول، وأمّا إذا قرأناه بصيغة المعلوم، فمعناه أنّ سهلا ينسب ذلك إلى النبي، فعلى فرض صحّة القراءة وخروجه بذلك من الإرسال والرفع، يكون قوله: "لا أعلمه إلاّ..." معرباً عن ضعف النسبة، وأنّه سمعه عن رجل آخر ولم يسم.

ب ـ حديث وائل بن حجر

وقد روي هذا الحديث بصور:

1 ـ روى مسلم، عن وائل بن حُجر: انّه رأى النبي رفع يديه حين دخل في الصلاة كبّر، ثمّ التحف بثوبه، ثمّ وضع يده اليمنى على اليسرى، فلمّا أراد أن يركع أخرج يديه من الثوب، ثمّ رفعهما، ثمّ كبّر فركع...(2).

____________

1- المصدر السابق، هامش رقم 1.

2- مسلم، الصحيح 1: 382، الباب 15 من كتاب الصلاة، باب وضع يده اليمنى على اليسرى، وفي سند الحديث "همام" ولو كان المقصود، هو همام بن يحيى فقد قال ابن عمار فيه: كان يحيى القطّان لا يعبأ بـ "همام " وقال عمر بن شيبة: حدّثنا عفان قال: كان يحيى بن سعيد يعترض على همام في كثير من حديثه. وقال أبو حاتم: ثقة في حفظه. لاحظ هدى الساري 1: 449.


الصفحة 51
والاحتجاج بالحديث احتجاج بفعل النبي وهو متوقف على تمام دلالته على ذلك، لأنّ ظاهر الحديث أنّ النبي جمع أطراف ثوبه فغطّى صدره به، ووضع يده اليمنى على اليسرى، أمّا هل فعل ذلك لكونه أمراً مسنوناً في الصلاة، أو فعله لئلاّ يسترخي الثوب بل يلصق بالبدن ليقي به نفسه من البرد؟ والفعل أمر مجهول العنوان، لا يكون حجّة إلاّ إذا علم أنّه فعل به لكونه مسنوناً. ثمّ انّ النبيّ الأكرم صلّى مع المهاجرين والأنصار أزيد من عشر سنوات، فلو كان ذلك ثابتاً من النبيّ لكثر النقل وذاع، ولما انحصر نقله بوائل بن حجر، مع ما في نقله من الاحتمالين.

نعم روي بصورة أُخرى ليس فيه قوله: "ثمّ التحف بثوبه" وإليك صورته:

2 ـ روى البيهقي بسنده عن موسى بن عمير: حدّثني علقمة بن وائل، عن أبيه: انّ النبي (صلى الله عليه وآله) كان إذا قام في الصلاة قبض على شماله بيمينه، ورأيت علقمة يفعله(1).

وبما أنّه إذا دار الأمر بين الزيادة والنقيصة فالثانية هي المتعيّنة، فيلاحظ على الرواية بما لوحظ على الأُولى، وهو أنّ وجه الفعل غير معلوم فيها. فلو كان النبي مقيماً على هذا العمل، لاشتهر بين الناس، مع أنّ قوله: "ورأيتُ علقمة يفعله" يعرب عن أنّ الراوي تعرّف على السنّة من طريقه.

____________

1- سنن البيهقي 2: 28، وفي سند الحديث عبد الله بن جعفر، فلو كان هو ابن نجيح قال ابن معين: ليس بشيء، وقال النسائي: متروك، وكان وكيع إذا أتى على حديثه جزّ عليه، متّفق على ضعفه. لاحظ دلائل الصدق للشيخ محمد حسن المظفر 1: 87.


الصفحة 52
3 ـ رواه البيهقي أيضاً بسند آخر عن وائل بن حجر(1) ويظهر الإشكال فيه بنفس ما ذكرناه في السابق.

ج ـ حديث عبد الله بن مسعود

روى البيهقي مسنداً عن ابن مسعود (رضي الله عنه) انّه كان يصلّي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي (صلى الله عليه وآله) فوضع يده اليمنى على اليسرى(2).

يلاحظ عليه: مضافاً إلى أنّه من البعيد أن لا يعرف مثل عبد الله بن مسعود ذلك الصحابي الجليل ما هو المسنون في الصلاة مع أنّه من السابقين في الإسلام: أنّ في السند هشيم بن بشير وهو مشهور بالتدليس(3).

ولأجل ذلك نرى أنّ أئمة أهل البيت كانوا يتحرّزون عنه، ويرونه أنّه من صنع المجوس أمام الملك.

روى محمد بن مسلم عن الصادق أو الباقر (عليه السلام) قال: قلت له: الرجل يضع يده في الصلاة ـ وحكى ـ اليمنى على اليسرى؟ فقال: ذلك التكفير، لا يُفعل.

وروى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) انّه قال: وعليك بالإقبال على صلاتك، ولا تكفّر، فإنّما يصنع ذلك المجوس.

وروى الصدوق باسناده عن عليّ (عليه السلام) انّه قال: وعليك بالإقبال

____________

1- المصدر نفسه وفي سنده عبد الله بن رجاء. قال عمرو بن علي الفلاس: كان كثير الخلط والتصحيف، ليس بحجّة. لاحظ هدى الساري 1: 437.

2- سنن البيهقي 2: 28، باب وضع اليد اليمنى على اليسرى.

3- هدى الساري 1: 449.


الصفحة 53
على صلاتك، ولا تكفّر فإنّما يصنع ذلك المجوس.

وروى الصدوق باسناده عن عليّ (عليه السلام) انّه قال: لا يجمع المسلم يديه في صلاته، وهو قائم بين يدي الله عزّوجلّ، يتشبّه بأهل الكفر ـ يعني المجوس ـ(1).

وفي الختام نلفت نظر القارئ إلى كلمة صدرت من الدكتور علي السالوس: فهو بعدما نقل آراء فقهاء الفريقين، وصف القائلين بالتحريم والإبطال بقوله: "وأُولئك الذين ذهبوا إلى التحريم والإبطال، أو التحريم فقط، يمثّلون التعصّب المذهبي وحبّ الخلاف، تفريقاً بين المسلمين"(2).

ما ذنب الشيعة إذا هداهم الاجتهاد والفحص في الكتاب والسنّة إلى أنّ القبض أمر حدث بعد النبي الأكرم، وكان النّاس يؤمرون بذلك أيام الخلفاء، فمن زعم أنّه جزء من الصلاة فرضاً أو استحباباً، فقد أحدث في الدين ما ليس منه، أفهل جزاء من اجتهد أن يُرمى بالتعصّب المذهبي وحبّ الخلاف؟!

ولو صحّ ذلك، فهل يمكن توصيف الإمام مالك به؟ لأنّه كان يكره القبض مطلقاً، أو في الفرض، أَفهل يصحّ رمي إمام دار الهجرة بأنّه كان يحبّ الخلاف؟

أجل، لماذا يا ترى لا يكون عدم الإرسال ممثلا للتعصب المذهبي وحبّ الخلاف بين المسلمين؟!

____________

1- الحر العاملي، الوسائل 4: الباب 15 من أبواب قواطع الصلاة، الحديث 1 و 2 و 7.

2- فقه الشيعة الإمامية ومواضع الخلاف بينه وبين المذاهب الأربعة: 183.