وقال (عليه السلام) : "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، فانّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً" رواها مسلم. وعن زيد بن ثابت انّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلاّ المكتوبة" رواه ابو داود، ولأنّ الصلاة في البيت أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء وهو من عمل السرّ، والسرّ أفضل من العلانية(1).
قالت الإمامية: تشرع الجماعة في الصلوات الواجبة، ولا تشرع في المستحبّة، إلاّ في الاستسقاء والعيدين مع فقد الشروط(2). وقالت المذاهب الأربعة: تشرع مطلقاً في الواجبة والمستحبّة(3).
2 ـ التراويح لغةً واصطلاحاً
التراويح: جمع ترويحة، وهي في الأصل اسم للجلسة مطلقاً، ثمّ سميت بها الجلسة بعد أربع ركعات في ليالي رمضان، لاستراحة الناس بها، ثمّ سُمي كلّ أربع ركعات ترويحة، وهي أيضاً اسم لعشرين ركعة في الليالي نفسها.
قال ابن منظور: والترويحة في شهر رمضان: سميت بذلك لاستراحة القوم بعد كلّ أربع ركعات. وفي الحديث: صلاة التراويح، لأنّهم كانوا يستريحون بين كلّ تسليمتين. والتراويح جمع ترويحة،
____________
1- المغني والشرح 1: 771، دار الكتاب العربي ط أفست 1403/1983.
2- إذ عند اجتماع الشروط، تكون واجبة.
3- محمد جواد مغنية، الفقه على المذاهب الخمسة 1: 133.
عدد ركعاتها عند الفريقين
اختلف الفقهاء في عدد صلاة نوافل شهر رمضان، أمّا الشيعة فقد ذهبت إلى نوافل ليالي شهر رمضان، ألف ركعة في تمام الشهر.
قال الامام الصادق (عليه السلام) : ممّا كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يصنع في شهر رمضان، كان يتنفل في كلّ ليلة ويزيد على صلاته التي كان يصلّيها قبل ذلك منذ أوّل ليلة إلى تمام عشرين ليلة، في كلّ ليلة عشرين ركعة، ثماني ركعات منها بعد المغرب، واثنتي عشرة بعد العشاء الآخرة، ويصلّي في العشر الأواخر في كلّ ليلة: ثلاثين ركعة، اثنتي عشرة منها بعد المغرب، وثماني عشرة بعد العشاء الآخرة ويدعو ويجتهد اجتهاداً شديداً، وكان يصلّي في ليلة إحدى وعشرين: مائة ركعة ويصلّي في ليلة ثلاث وعشرين: مائة ركعة ويجتهد فيهما(2).
وأما غيرهم فقد قال الخرقي في مختصره: وقيام شهر رمضان عشرون ركعة، يعني صلاة التراويح(3).
وقال ابن قدامة في شرحه: والمختار عن أبي عبد الله "الامام أحمد" عشرون ركعة، وبهذا قال الثوري، وأبو حنيفة والشافعي، وقال مالك: ستّة وثلاثون، وزعم أنّه الأمر القديم، وتعلّق بفعل أهل المدينة(4).
____________
1- لسان العرب، ج 2 مادة "روح".
2- الطوسي، التهذيب 3: 62 رقم 213.
3 و 4- المغني 2: 137 ـ 138.
وقد فصّل القول في ذلك عبد الرحمن الجزيري في "الفقه على المذاهب الأربعة" وقال:
روى الشيخان أنّه (صلى الله عليه وآله) خرج من جوف الليل ليالي من رمضان، وهي ثلاث متفرقة: ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين، وصلّى في المسجد، وصلّى الناس بصلاته فيها، وكان يصلّي بهم ثماني ركعات، ويُكْملون باقيها في بيوتهم، فكان يسمع لهم أزيز، كأزيز النحل... وقال: ومن هذا يتبيّن انّ النبي (صلى الله عليه وآله) سنّ لهم التراويح والجماعة، ولكن لم يصلّ بهم عشرين ركعة، كما جرى عليه العمل من عهد الصحابة ومن بعدهم الى الآن، ولم يخرج إليهم بعد ذلك، خشية أن تُفْرض عليهم، كما صرّح به في بعض الروايات، ويُتَبيّنُ أنّ عددها ليس قاصراً على الثماني ركعات التي صلاّها بهم، بدليل أنّهم كانوا يكملونها في بيوتهم، وقد بيّن فعل عمر (رضي الله عنه) انّ عددها عشرون، حيث انّه جمع الناس أخيراً على هذا العدد في المسجد، ووافقه الصحابة على ذلك. نعم زيد فيها في عهد عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) وجعلت ستاً وثلاثين ركعة. ولكن كان القصد من هذه الزيادة مساواة أهل مكة في الفضل، لأنّهم كانوا يطوفون بالبيت بعد كلّ أربع ركعات مرّة، فرأى (رضي الله عنه) أن يصلّي بدل كلّ طواف،
هذا وقد بسط شراح البخاري وغيرهم القول في عدد ركعاتها إلى حدٍّ قلّ نظيره في أبواب العبادات، فمن قائل انَّ عدد ركعاتها 13 ركعة، الى آخر أنها 20 ركعة، إلى ثالث انَّها 42 ركعة، إلى رابع انها 28 ركعة، إلى خامس 63 ركعة، إلى سادس انها 38 ركعة، إلى سابع انها 39 ركعة، إلى ثامن أنها 14 ركعة، إلى تاسع أنها 74 ركعة، وهلمّ جراً(2).
والأغرب من هذا تدخل عمر بن عبد العزيز في أمر الشريعة، فأدخل فيها ما ليس منها ليتساوى ـ في رأيه ـ أهل المدينة وأهل مكة، في الفضل والثواب، فانّ فسح المجال لهذا النوع من التدخّل يجعل الشريعة أُلعوبة بيد الحكام، يحكمون فيها بآرائهم.
حكم إقامتها جماعة
إنّ الشيعة الامامية ـ تبعاً للامام عليّ وأهل بيته (عليهم السلام) ـ يقيمون نوافل شهر رمضان بلا جماعة ويرون اقامتها جماعة بدعة حقيقية،
____________
1- الفقه على المذاهب الأربعة 1: 251، كتاب الصلاة، مبحث صلاة التراويح. ولا يخفى انّه لو كان المقياس في الزيادة، هو عدد الطواف بعد كلّ أربع ركعات فعندئذ يصل عددها إلى أربعين ركعة في كلّ ليلة لأنهم إذا كانوا يطوفون بعد كلّ أربع ركعات مرّة واحدة، يكون عددها خمس مرّات، فاذا كان مقابل كلّ مرّة منه أربع ركعات، يبلغ عددها عشرين ركعة (5×4=20) فتضاف إلى العشرين ركعة الأصلية فيصير المجموع 40 ركعة. نعم ذلك يصحّ على ما نقله ابن قدامة المقدسي من أنّ الطواف كان بين كلّ ترويحة. (لاحظ 1: 749) 2- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري 4: 204 ـ شهاب الدين القسطلاني، ارشاد الساري 3: 426 ـ العيني، عمدة القاري 11: 126، وقد تكلفوا في الجمع بين هذه الأقوال المتشتتة، فلاحظ.
قال الشيخ الطوسي: نوافل شهر رمضان تصلّى انفراداً، والجماعة فيها بدعة، وقال الشافعي: صلاة المنفرد أحبّ إليَّ منه، وشنع ابن داود على الشافعي في هذه المسألة، فقال: خالف فيها السنّة والاجماع.
واختلف أصحاب الشافعي في ذلك على قولين، فقال أبو العباس وأبو إسحاق وعامة أصحابه: صلاة التراويح في الجماعة أفضل بكلّ حال، وتأوّلوا قول الشافعي فقالوا: انّما قال: النافلة ضربان، نافلة سُنَّ لها الجماعة، وهي العيدان، والخسوف، والاستسقاء ونافلة لم تُسنَّ لها الجماعة، مثل ركعتي الفجر والوتر، وما سنّ له الجماعة أو كد مما لم تُسَّنَّ له الجماعة، ثمّ قال: فأمّا قيام شهر رمضان فصلاة المنفرد أحبّ إليّ منها يعني ركعات الفجر والوتر، التي تفعل على الانفراد أوكد من قيام شهر رمضان.
والقول الثاني: منهم من قال بظاهر كلامه، فقال: صلاة التراويح على الانفراد أفضل منها في الجماعة، بشرطين، أحدهما: أن لا تختلّ الجماعةُ بتأخرهِ عن المسجد، والثاني: أن يطيل القيام والقراءة فيصلّي منفرداً، أو يقرأ أكثر ممّا يقرأ امامه.
وقد نصّ في القديم على أنّه إن صلّى في بيته في شهر رمضان فهو أحبّ إليّ، وإن صلاّها في جماعة فهو حسن، واختار أصحابه مذهب أبي العباس وأبي اسحاق.
____________
1- العسقلاني، فتح الباري 4: 204، ذكره لجمع الناس على امام واحد.
وإذا وقفت على آراء الفقهاء فإليك دراسة الأدلة:
أمّا أئمة أهل البيت فقد اتّفقت كلمتهم على أنّ الجماعة في النوافل مطلقاً بدعة، من غير فرق بين صلاة التراويح وغيرها، وهناك صنفان من الروايات.
أحدهما: يدلّ على عدم تشريع الجماعة في مطلق النوافل.
ثانيهما: ما يدلّ على عدم تشريعها في صلاة التراويح.
أمّا الصنف الأوّل فنذكر منه روايتين.
1 ـ قال الامام الباقر (عليه السلام) : "ولا يُصلّى التطوعُ في جماعة، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار"(3).
2 ـ قال الامام عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) في كتابه إلى المأمون: "ولا يجوز أن يصلّى تطوّع في جماعة، لأنّ ذلك بدعة"(4).
وأما الصنف الثاني، فقد تحدّث عنه الإمام الصادق (عليه السلام) وقال: لمّا قدم أمير المؤمنين (عليه السلام) الكوفة أمر الحسن بن عليّ أن ينادي في الناس: لا صلاة في شهر رمضان في المساجد جماعة، فنادى في الناس الحسنُ بن
____________
1- أبو داود، السنن 2: 69.
2- الطوسي، الخلاف، كتاب الصلاة، المسألة 268.
3- الصدوق، الخصال 2: 152.
4- الصدوق، عيون أخبار الرضا: 266.
وربما يتعجّب القارئ من قول الامام "قل لهم: صلوا" حيث تركهم يستمرّون في الايتان بهذا الأمر المبتدع، ولكن إذا رجع إلى سائر كلماته يتجلّى له سرّ تركهم على ما كانوا عليه.
قال الشيخ الطوسي: إنّ أمير المؤمنين لمّا أنكر، أنكر الاجتماع، ولم يُنكر نفس الصلاة، فلمّا رأى أنّ الأمر يَفسُد عليه ويفتتن الناس، أجاز أمرهم بالصلاة على عادتهم(2).
ويدلّ عليه:
ما رواه سليم بن قيس، قال: خطب أمير المؤمنين فحمد الله وأثنى عليه ثمّ صلّى على النبيّ ثمّ قال: ألا إنّ أخوف ما أخاف عليكم خلّتان: اتّباع الهوى، وطول الأمل ـ ثمّ ذكر أحداثاً ظهرت بعد رسول الله ـ وقال: ولو حملتُ الناسَ على تركها... لتفرق عنّي جندي حتى أبقى وحدي أو قليل من شيعتي... والله لقد أمرتُ الناس أن لا يجتمعوا في شهر رمضان إلاّ في فريضة وأعلمتهم أنّ اجتماعهم في النوافل بدعة، فتنادى بعض أهل عسكري ممّن يقاتل معي: يا أهل الإسلام غُيِّرتْ سنّة عمر ينهانا عن الصلاة في شهر رمضان تطوّعاً، وقد خفت أن يثوروا في ناحية جانب
____________
1- الطوسي، التهذيب 2: ح 227.
2- المصدر نفسه.
تسنّم الامام منصة الخلافة بطوع ورغبة من جماهير المسلمين، وواجه أحداثاً ظهرت بعد رسول الله، وأراد إرجاع المجتمع الإسلامي الى عهد رسول الله في مجالات مختلفة، ولكن حالت العوائق دون نيّته، فترك بعض الأمور بحالها، حتى يشتغل بالأهم فالأهم، فلأجله أمر ابنه الحسن أن يتركهم بحالهم حتى لا يختلّ نظام البلاد، ولا يثور الجيش ضدّه.
روى أبو القاسم ابن قولويه (ت/963) عن الإمامين الباقر والصادق قالا: كان أمر أمير المؤمنين بالكوفة إذا أتاه الناس فقالوا له: إجعل لنا إماماً يؤمّنا في رمضان، فقال لهم: لا، ونهاهم أن يجتمعوا فيه، فلمّا أحسّوا، جعلوا يقولون أبكوا رمضانَ وارمضاناه، فأتى الحارث الأعور في أُناس فقال: يا أمير المؤمنين ضجّ الناس وكرهوا قولك، قال: فقال عند ذلك: دعوهم وما يريدون، يُصلّ بهم من شاءُوا(2).
هذه الروايات تدلّنا إلى موقف أئمة أهل البيت في إقامة نوافل شهر رمضان بالجماعة.
صلاة التراويح في حديث الرسول (صلى الله عليه وآله)
تختلف روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن بعض ما رواه أصحاب السنن، فرواياتهم (عليهم السلام) صريحة في أنّ النبيّ الأكرم كان ينهى عن إقامة
____________
1- الكليني، الكافي 8: 58.
2- محمد بن ادريس، السرائر 3: 638.
سئل زرارة ومحمد بن مسلم، والفضيلُ الباقر والصادق (عليهما السلام) عن الصلاة في شهر رمضان نافلة بالليل جماعة فقالا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) كان إذا صلّى العشاء الآخرة انصرف إلى منزله، ثمّ يخرج من آخر الليل إلى المسجد فيقوم فيصلّي، فخرج في أوّل ليلة من شهر رمضان ليصلّي، كما كان يصلّي، فاصطفّ الناس خلفه، فهرب منهم إلى بيته وتركهم، ففعلوا ذلك ثلاث ليال، فقام في اليوم الرابع على منبره فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس، إنّ الصلاة بالليل في شهر رمضان من النافلة في جماعة بدعة، وصلاة الضحى بدعة، ألا فلا تجتمعوا ليلا في شهر رمضان لصلاة الليل، ولا تصلّوا صلاة الضحى، فانّ تلك معصية، ألا وانّ كلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة سبيلها إلى النار ثمّ نزل وهو يقول: قليل في سنّة خير من كثير في بدعة(1).
روى عبيد بن زرارة عن الامام الصادق (عليه السلام) قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يزيد في صلاته في رمضان، إذا صلّى العتمة صلّى بعدها، فيقوم الناس خلفه فيدخل ويدعهم، ثمّ يخرج أيضاً فيجيئون ويقومون خلفه فيدعهم ويدخل مراراً(2).
____________
1- الصدوق، الفقيه، كتاب الصوم: 87.
2- الكليني، الكافي 4: 154.
لكن المروي عن طريق أهل السنّة يخالف ذلك واليك نصّ الشيخين البخاري ومسلم:
روى الأوّل وقال: حدّثني يحيى بن بكير: حدّثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب: أخبرني عروة انّ عائشة ـ رضي الله عنها ـ أخبرته أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج ليلة من جوف الليل فصلّى في المسجد، وصلّى رجال بصلاته فأصبح الناس فتحدّثوا، فاجتمع أكثر منهم، فصلّى فصلّوا معه، فأصبح الناس فتحدّثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) فصلّى بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد ثمّ قال: "أما بعد فانّه لم يخفَ علىّ مكانكم. ولكنّي خشيتُ أن تُفرض عليكم فتعجزوا عنها. فتوفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأمر على ذلك"(1).
وروى أيضاً في باب التهجد: "انّ رسول الله صلّى ذات ليلة في المسجد فصلّى بصلاته ناس، ثمّ صلّى من القابلة فكثر النّاس ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم رسول الله فلمّا أصبح قال: قد رأيتُ الذي صنعتم ولم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ أني
____________
1- أي على ترك الجماعة في صلاة التراويح. لاحظ البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: 61 رقم 2012.
روى مسلم قال: حدّثنا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) صلّى في المسجد ذات ليلة فصلّى بصلاته ناس، ثمّ صلّى من القابلة فكثر الناس، ثمّ اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة(2) فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، فلمّا أصبح قال: قد رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلاّ انّي خشيت أن تفرض عليكم. قال: وذلك في رمضان.
وحدّثني حرملة بن يحيى: أخبرنا عبد الله بن وهب: أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني عروة بن الزبير انّ عائشة أخبرته أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) خرج من جوف الليل فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته، فأصبح الناس يتحدّثون بذلك فاجتمع أكثر منهم، فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الليلة الثانية فصلّوا بصلاته، فأصبح الناس يذكرون ذلك، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج فصلّوا بصلاته، فلمّا كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فطفق رجال منهم يقولون: الصلاة فلم يخرج إليهم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى خرج لصلاة الفجر فلمّا قضى الفجر أقبل على الناس ثمّ تشهّد فقال: "أمّا بعد فانّه لم يخف على شأنكم الليلة، ولكنّي
____________
1- البخاري، الصحيح 2: 63 باب التهجد بالليل، وبين الروايتين اختلاف فيما خرج (صلى الله عليه وآله) فيها من الليالي، فعلى الاُولى خرج ثلاث ليال، وعلى الثانية خرج ليلتين.
2- مسلم، الصحيح 6: 41 وغيره، والظاهر وحدة الرواية الثانية للبخاري مع هذه الرواية لاتّحاد الراوي والمروي عنه والمضمون.
والاختلاف بين ما رواه أصحابنا عن أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) وما رواه الشيخان واضح. فعلى الأوّل، نهى النبي (صلى الله عليه وآله) عن اقامتها جماعة، وأسماها بدعة، وعلى الثاني، ترك النبي (صلى الله عليه وآله) الاقامة جماعة خشية أن تُفرض عليهم، مع كونها موافقةً للدين والشريعة، إذاً فأي القولين أحقّ أن يتّبع، يعلم ذلك بالبحث التالي:
إنّ في حديث الشيخين مشاكل جديرة بالوقوف عليها:
الأولى: ما معنى قوله: "خشيتُ أن تفرض عليكم، فتعجزوا عنها"؟
فهل مفاده: أن ملاك التشريع هو إقبال الناس وإدبارهم، فان كان هناك اهتمام ظاهر من قبل الناس، يفرض عليهم وإلاّ فلا يفرض. مع انّ الملاك في الفرض هو وجود مصالح واقعية في المتعلّق، سواء أكان هناك اهتمام ظاهر أم لا. فإنّ تشريعه سبحانه ليس تابعاً لرغبة الناس أو إعراضهم، وانّما يتّبع لملاكات هو أعلم بها سواء أكان هناك إقبال أم إدبار.
الثانية: لو افترضنا انّ الصحابة أظهرت اهتمامها بصلاة التراويح باقامتها جماعة أفيكون ذلك ملاكاً للفرض، فانّ مسجد النبيّ (صلى الله عليه وآله) يومذاك كان مكاناً محدوداً لا يسع إلاّ ستّة آلاف نفر أو أقل، فقد جاء في الفقه على المذاهب الخمسة: "كان مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله) 53 متراً في 30 متراً ثمّ زاده الرسول وجعله 75 متراً في 05 متراً"(2).
____________
1- مسلم، الصحيح 6: 41.
2- الفقه على المذاهب الخمسة: 2850.
الثالثة: وجود الاختلاف في عدد الليالي التي أقام النبي فيهما نوافل رمضان جماعة. فعلى ما نقله البخاري في كتاب الصوم انّ النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) صلّى التراويح مع الناس أربعة ليال، وعلى ما نقله في باب التحريص على قيام الليل، انّه صلاها ليلتين، ووافقه مسلم على النقل الثاني، ويظهر ممّا ذكره غيرهما ـ كما مرّ في صدر المقال ـ انّه (صلى الله عليه وآله) أقامها في ليال متفرّقة (ليلة الثالث، والخامس، والسابع والعشرين). وهذا يعرب عن عدم الإهتمام بنقل فعل الرسول على ما عليه، فمن أين تطمئن على سائر ما جاء فيه من أنّ النبي استحسن عملهم.
الرابعة: انّ الثابت من فعل النبي، انّه صلاها ليلتين، أو أربع في آخر الليل، وهي لا تزيد ثماني ركعات. فلو كان النبي أسوة فعلينا الاقتداء به فيما ثبت. لا فيما لم يثبت بل ثبت عدمه بما صرّح القسطلاني ووصف ما زاد عليه بالبدعة وذلك:
1 ـ انّ النبي لم يسنّ لهم الاجتماع لها.
2 ـ ولا كانت في زمن الصديق.
3 ـ ولا أوّل الليل.
4 ـ ولا كلّ ليلة.
5 ـ ولا هذا العدد(1).
____________
1- القسطلاني، ارشاد الساري 3: 426.
وقال العيني: إنّ رسول الله لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر. ثمّ اعتمد في شرعيّته إلى اجتهاد عمر واستنباطه من إقرار الشارع الناس يصلّون خلفه ليلتين(1). وسيوافيك الكلام فيه:
الخامسة: انّه إذا أخذنا برواية أحد الثقلين، (أهل بيت النبي) تُصبح إقامة النوافل جماعة بدعة على الاطلاق، وإن أخذنا برواية الشيخين، فالمقدار الثابت ما جاء في كلام القسطلاني، والزائد عنه يصحّ بدعة إضافية، حسب مصطلح الإمام الشاطبي، والمقصود منها ما يكون العمل بذاته مشروعاً، والكيفية التي يقام بها، غير مشروعة.
ولم يبق ما يحتج به على المشروعية إلاّ جمع الخليفة الناس على إمام واحد وهو ما سنشرحه في البحث التالي:
جمع الناس على امام واحد في عصر عمر
روى البخاري: توفي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس على ذلك (يعني ترك إقامة التراويح بالجماعة) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، وصدراً من خلافة عمر(2).
وروى أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنّه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ليلة في رمضان إلى المسجد، فاذا الناس أوزاع
____________
1- العيني، عمدة القارئ 11: 126.
2- البخاري، الصحيح، باب فضل من قام رمضان: الحديث 2010.
فقال عمر: إنّي أرى لو جمعتُ هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل. ثمّ عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب، ثمّ خرجت معه ليلة أُخرى والناس يُصلّون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه. والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون ـ يريد آخر الليل ـ وكان الناس يقومون أوّله.
ولكن الظاهر من شراح الصحيح أنّ الإتيان جماعة لم تكن مشروعة وإنّما قام التشريع لعمله. وإليك بيانه في ضمن أمرين:
1 ـ قوله: "فتوفى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والناس على ذلك، ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر" فقد فسّره الشراح بقولهم: أي على ترك الجماعة في التراويح، ولم يكن رسول الله (صلى الله عليه وآله) جمع الناس على القيام(2).
وقال بدر الدين العيني: والناس على ذلك (أي على ترك الجماعة) ثمّ قال: فإن قلت: روى ابن وهب عن أبي هريرة خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) وإذا الناس في رمضان يصلّون في ناحية المسجد، فقال: "ما هذا؟" فقيل: ناس يصلّي بهم أبي بن كعب، فقال: "أصابوا ونعم ما صنعوا"، ذكره ابن عبد البر. ثمّ أجاب بقوله: قلت: فيه مسلم بن خالد وهو ضعيف، والمحفوظ أنّ عمر (رضي الله عنه) هو الذي جمع الناس على أُبي بن
____________
1- الرهط: بين الثلاثة إلى العشرة.
2- فتح الباري، لابن حجر العسقلاني 4: 203.
وقال القسطلاني: "والأمر على ذلك (أي على ترك الجماعة في التراويح) ثمّ كان الأمر على ذلك في خلافة أبي بكر، إلى آخر ما ذكره"(2).
2 ـ قوله نعم البدعة; انّ الظاهر من قوله: "نعم البدعة هذه" انّها من سُنن نفس الخليفة ولا صلة لها بالشرع، وقد صرّح بذلك لفيف من العلماء.
قال القسطلاني: سماها (عمر) بدعة لأنّه (صلى الله عليه وآله) لم يسنّ لهم الاجتماع لها، ولا كانت في زمن الصديق، ولا أوّل الليل، ولا كلّ ليلة ولا هذا العدد ـ إلى أن قال: ـ وقيام رمضان ليس بدعة، لأنّ (صلى الله عليه وآله) قال: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وإذا أجمع الصحابة مع عمر على ذلك زال عنه اسم البدعة".
وقال العيني: "وانّما دعاها بدعة، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسنّها لهم، ولا كانت في زمن أبي بكر (رضي الله عنه) ولا رغب رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيها"(3).
وهناك من نقل أنّ عمر أوّل من سنّ الجماعة، ونذكر منهم ما يلي:
1 ـ قال ابن سعد في ترجمة عمر: "هو أوّل من سنّ قيام شهر رمضان بالتراويح، وجمع الناس على ذلك، وكتب به إلى البلدان وذلك
____________
1- عمدة القارئ في شرح صحيح البخاري 6: 125، وجاء نفس السؤال والجواب في فتح الباري.
2- ارشاد الساري 3: 425.
3- عمدة القاري 6: 126 وقد سقط لفظة لا من قوله و "رغب" كما انّ كلمة بقوله ـ بعده هذه الجملة ـ في النسخة مصحف "قوله"، فلاحظ.
2 ـ وقال ابن عبد البر في ترجمة عمر: "وهو الذي نور شهر الصوم بصلاة الاشفاع فيه"(2).
قال الوليد بن الشحنة عند ذكر وفاة عمر في حوادث سنة 23 هـ: "وهو أوّل من نهى عن بيع أمهات الأولاد... أوّل من جمع الناس على امام يصلّي بهم التراويح"(3).
فاذا كان المفروض انّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يسنّ الجماعة فيها، وانّما سنّها عمر، فهل هذا يكفي في كونها مشروعة؟ مع انّه ليس لإنسان حتى الرسول حق التسنين والتشريع، وانّما هو (صلى الله عليه وآله) مبلّغ عن الله سبحانه.
إنّ الوحي يحمل التشريع إلى النبيّ الأكرم وهو (صلى الله عليه وآله) الموحي إليه، وبموته انقطع الوحي، وسدّ باب التشريع والتسنين، فليس للأُمّة إلاّ الاجتهاد في ضوء الكتاب والسنّة، لا التشريع ولا التسنين، ومن رأى انّ لغير الله سبحانه حقّ التسنين فمعنى ذلك عدم انقطاع الوحي.
قال ابن الأثير في نهايته قال: ومن هذا النوع قول عمر (رضي الله عنه): "نعم البدعة هذه (التراويح) لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح سماها بدعة ومدحها، إلاّ انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) لم يسنّها لهم، وإنّما صلاّها ليالي ثمّ تركها، ولم يحافظ عليها، ولا جمع الناس لها، ولا كانت في زمن أبي بكر، وانّما عمر (رضي الله عنه) جمع الناس عليها، وندبهم إليها، فبهذا سمّاها بدعة،
____________
1- ابن سعد، الطبقات الكبرى 3: 281.
2- الاستيعاب 3: 1145.
3- روضة المناظر كما في النص والاجتهاد: 150.