التشريع مختصّ بالله سبحانه
إنّ هؤلاء الأكابر مع اعترافهم بأنّ النبي لم يسنّ الاجتماع، برّروا إقامتها جماعة بعمل الخليفة، ومعنا ذلك انّ له حقّ التسنين والتشريع، وهذا يضاد اجماع الأمة، إذ لا حقّ لإنسان أن يتدخّل في أمر الشريعة بعد إكمالها لقوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِْسْلاَمَ دِيناً) (المائدة/3) وكلامه يخالف الكتاب والسنّة، فانّ التشريع حقّ الله سبحانه لم يفوضه لأحد، والنبي الأكرم مبلغ عنه.
أضف إلى ذلك لو انّ الخليفة قد تلقى ضوءاً أخضراً في مجال التشريع والتسنين، فلم لا يكون لسائر الصحابة ذلك، مع كون بعضهم أقرأ منه، كأبي بن كعب، وأفرض، كزيد بن ثابت، وأعلم وأقضى منه، كعليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ؟ فلو كان للجميع ذلك لانتشر الفساد وعمّت الفوضى أمر الدين، ويكون اُلعوبة بأيدي غير المعصومين.
وأمّا التمسّك بالحديثين، فلو صحّ سندهما فانّهما لا يهدفان إلى انّ لهما حقّ التشريع، بل يفيد لزوم الاقتداء بهما، لأنهما يعتمدان على سنّة النبيّ الأكرم، لا انّ لهما حقّ التسنين.
____________
1- ابن الأثير، النهاية 1: 79.
وعلى كلّ تقدير نحن لسنا بمؤمنين بأنّه سبحانه فوّض أمر دينه في التشريع والتقنين إلى غير الوحي، وفي ذلك يقول الشوكاني: "والحقّ انّ قول الصحابي ليس بحجّة، فانّ الله سبحانه وتعالى لم يبعث إلى هذه الأمة إلاّ نبيّنا محمداً (صلى الله عليه وآله) وليس لنا إلاّ رسول واحد، والصحابة ومن بعدهم مكلّفون على السواء باتّباع شرعه والكتاب والسنة، فمن قال انّه تقوم الحجة في دين الله بغيرهما، فقد قال في دين الله بما لا يثبت، وأثبت شرعاً لم يأمر به الله(2).
نعم نقل القسطلاني عن ابن التين وغيره: انّ عمر استنبط ذلك من تقرير النبي (صلى الله عليه وآله) من صلّى معه في تلك الليالي وان كان كره لهم خشية أن يفرض عليهم. فلمّا غاب النبي حصل الأمن من ذلك، ورجح عند عمر ذلك لما في الاختلاف من افتراق الكلمة، ولأنّ الاجتماع على واحد أنشط لكثير من المصلّين(3).
يلاحظ عليه أولا: أنّ ما ذكره في آخر كلامه ليبرّر جمع الناس
____________
1- أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية ـ كما في بحوث أهل السنّة: 235.
2- أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية.
3- العسقلاني، فتح الباري 4: 204.
وثانياً: انّ معنى كلامه انّ هناك أحكاماً لم تسنّ مادام النبيّ حيّاً لمانع خاص، كخشية الفرض، ولكن في وسع آحاد الأمة تشريعها بعد موته (صلى الله عليه وآله) ومفاده فتح باب التشريع بملاكات خاصّة في وجه الأمة إلى يوم القيامة، وهذه رزيّة ليست بعدها رزية، وتلاعب بالدين واستئصاله.
ثمّ انّ لسيّدنا شرف الدين العاملي هناك كلاماً نافعاً نورده بنصّه، قال: كان هؤلاء عفا الله عنهم وعنّا، رأوه (رضي الله عنه) قد استدرك (بتراويحه) على الله ورسوله حكمة كانا عنها غافلين.
بل هم بالغفلة ـ عن حكمة الله في شرائعه ونظمه ـ أحرى، وحسبنا في عدم تشريع الجماعة في سنن شهر رمضان وغيرها، انفراد مؤديها ـ جوف الليل في بيته ـ بربّه عزّ وعلا يشكو إليه بثّه وحزنه ويناجيه بمهمّاته مهمّة مهمّة حتى يأتي على آخرها ملحاً عليه، متوسلا بسعة رحمته إليه، راجياً لاجئاً، راهباً راغباً، منيباً تائباً، معترفاً لائذاً عائذاً، لا يجد ملجأ من الله تعالى إلاّ إليه، ولا منجى منه إلاّ به.
لهذا ترك الله السنن حرّة من قيد الجماعة، ليتزوّدوا فيها من الانفراد بالله ما أقبلت قلوبهم عليه، ونشطت أعضاؤهم له، يستقلّ منهم من يستقل، ويستكثر من يستكثر، فانها خير موضوع، كما جاء في الأثر عن سيّد البشر.
أما ربطها بالجماعة فيحدّ من هذا النفع، ويقلّل من جدواه.
وعن زيد بن ثابت انّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال: "صلوا أيّها الناس في بيوتكم فانّ أفضل صلاة المرء في بيته إلاّ الصلاة المكتوبة"، رواه النسائي وابن خزيمة في صحيحه.
وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : "أكرموا بيوتكم ببعض صلاتكم".
وعنه (صلى الله عليه وآله) قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحيّ والميّت" وأخرجه البخاري ومسلم.
وعن جابر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : "إذا قضى أحدكم الصلاة في مسجده فليجعل لبيته نصيباً من صلاته، وانّ الله جاعل في بيته من صلاته خيراً"، رواه مسلم وغيره ورواه ابن خزيمة في صحيحه بالاسناد إلى أبي
لكن الخليفة (رضي الله عنه) رجل تنظيم وحزم، وقد راقه من صلاة الجماعة ما يتجلّى فيها من الشعائر بأجلى المظاهر إلى ما لا يحصى من فوائدها الاجتماعية التي أشبع القول علماؤنا الأعلام ممن عالجوا هذه الأمور بوعي المسلم الحكيم، وأنت تعلم انّ الشرع الإسلامي لم يهمل هذه الناحية، بل اختصّ الواجبات من الصلوات بها، وترك النوافل للنواحي الأخر من مصالح البشر: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون لهم الخيرة من أمرهم"(1).
خاتمة المطاف
إنّ عمل الخليفة، لم يكن إلاّ من قبيل تقديم المصلحة على النصّ وليس المورد أمراً وحيداً في حياته، بل له نظائر في عهده نذكر منها ما يلي:
1 ـ تنفيذ الطلاق الثلاث، بعدما كان في عهد الرسول وبعده طلاقاً واحداً.
2 ـ النهي عن متعة الحج.
____________
1- النص والاجتهاد: 151 ـ 152.
المسألة السادسة
الطلاق ثلاثاً دفعة أو دفعات
في مجلس واحد
من المسائل التي أدّت إلى تعقيد الحياة الزوجيّة، ومزّقت وقطّعت صلات الأرحام في كثير من البلاد، هي مسألة تصحيح الطلاق ثلاثاً دفعة واحدة، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثاً، أو يكرّره ثلاث دفعات ويقول في مجلس واحد: أنتِ طالق، أنتِ طالق، أنتِ طالق. فتحسب ثلاث تطليقات حقيقةً، وتحرم المطلّقة على زوجها حتى تنكح زوجاً غيره.
إنّ الطلاق عند أكثر أهل السنّة غير مشروط بشروط يحول عدمها دون إيقاعه، ككون المرأة غير حائض، أو وقوع الطلاق في غير طهر المواقعة، أو لزوم حضور العدلين. فربّما يتغلّب الغيظ على الزوج
نحن نعلم علماً قاطعاً بأنّ الإسلام دين سهل وسمح، وليس فيه حرج، وهذا يدفع الدعاة المخلصين إلى إعادة دراسة المسألة من جديد دراسة حرّة بعيدة عن الأبحاث الجامدة، التي أفرزها غلق باب الاجتهاد في الأحكام الشرعية وأن يبحثوا المسألة في ضوء الكتاب والسنّة، بعد التجرّد عن خلفية الفتاوى السابقة.
أما أهم تلك الأقوال فهي:
قال ابن رشد: "جمهور فقهاء الأمصار على أنّ الطلاق بلفظ الثلاث حكمه حكم الطلقة الثالثة، وقال أهل الظاهر وجماعة: حكمه حكم الواحدة ولا تأثير للفظ في ذلك"(1).
قال الشيخ الطوسي: "إذا طلّقها ثلاثاً بلفظ واحد، كان مبدعاً ووقعت واحدة عند تكامل الشروط عند أكثر أصحابنا، وفيهم من قال: لا يقع شيء أصلا، وبه قال عليّ (عليه السلام) وأهل الظاهر، وحكى الطحاوي عن محمد بن إسحاق أنّه تقع واحدة كما قلناه، وروي أنّ ابن عباس وطاوساً كانا يذهبان إلى ما يقوله الإمامية.
وقال الشافعي: فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثاً في طهر لم يجامعها فيه،
____________
1- ابن رشد، بداية المجتهد 2: 62 ط بيروت.
وقال قوم: إذا طلّقها في طهر واحد ثنتين أو ثلاثاً دفعة واحدة، أو متفرّقة، فعل محرّماً وعصى وأثم. ذهب إليه في الصحابة عليّ (عليه السلام) وعمر، وابن عمر، وابن مسعود، وابن عباس. وفي الفقهاء أبو حنيفة وأصحابه ومالك، قالوا: إلاّ أنّ ذلك واقع(1).
قال أبو القاسم الخرقي في مختصره: وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق، أنت طالق، لزمه تطليقتان إلاّ أن يكون أراد بالثانية إفهامها أن قد وقعت بها الأولى فتلزمه واحدة. وإن كانت غير مدخول بها بانت بالأولى ولم يلزمها ما بعدها لأنّه ابتداء كلام.
وقال ابن قدامة في شرحه على مختصر الخرقي: "إذا قال لامرأته المدخول بها: أنت طالق مرّتين ونوى بالثانية إيقاع طلقة ثانية، وقعت لها طلقتان بلا خلاف، وإن نوى بها إفهامها أنّ الأُولى قدوقعت بها أو التأكّد لم تُطلّق إلاّ مرّة واحدة، وإن لم تكن له نيّة وقع طلقتان، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهو الصحيح من قولي الشافعي. وقال في الآخر: تطلّق واحدة".
وقال الخرقي أيضاً في مختصره: "ويقع بالمدخول بها ثلاثاً إذا أوقعها، مثل قوله: أنت طالق، فطالق فطالق، أو أنت طالق ثمّ طالق، ثمّ
____________
1- الشيخ الطوسي، الخلاف، 2 كتاب الطلاق، المسألة 3. وعلى ما ذكره، نقل عن الامام عليّ رأيان متناقضان، عدم الوقوع والوقوع مع الاثم.
وقال ابن قدامة في شرحه: "إذا أوقع ثلاث طلقات بلفظ يقتضي وقوعهنّ معاً، فوقعن كلّهنّ، كما لو قال: أنت طالق ثلاثاً"(1).
وقال عبد الرحمن الجزيري: "يملك الرجل الحرّ ثلاث طلقات، فاذا طلّق الرجل زوجته ثلاثاً دفعة واحدة، بأن قال لها: أنت طالق ثلاثاً، لزمه ما نطق به من العدد في المذاهب الأربعة وهو رأي الجمهور، وخالفهم في ذلك بعض المجتهدين: كطاوس وعكرمة وابن اسحاق وعلى رأسهم ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ"(2).
الى غير ذلك من نظائر تلك الكلمات التي تعرب عن اتّفاق جمهور الفقهاء بعد عصر التابعين على نفوذ ذلك الطلاق، ورائدهم في ذلك تنفيذ عمر بن الخطاب، الطلاق الثلاث بمرأى ومسمع من الصحابة. ولكن لو دلّ الكتاب والسنّة على خلافه فالأخذ بهما متعيّن.
دراسة الآيات الواردة في المقام
قال سبحانه:
(وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ اِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاَحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (البقرة/228).
____________
1- ابن قدامة، المغني 7: 416.
2- عبد الرحمن الجزيري، الفقه على المذاهب الأربعة 4: 341.
(فَاِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإنْ طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْم يَعْلَمُونَ) (البقرة/230).
(وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...)(البقرة/231).
جئنا بمجموع الآيات الأربع ـ مع أنّ موضع الاستدلال هو الآية الثانية ـ للاستشهاد بها في ثنايا البحث. وقبل الخوض في الاستدلال نشير إلى نكات في الآيات:
1 ـ قوله سبحانه: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) كلمة جامعة لا يؤدّى حقّها إلاّ بمقال مسهب، وهي تفيد أنّ الحقوق بينهما متبادلة، فما من عمل تعمله المرأة للرجل إلاّ وعلى الرجل عمل يقابله، فهما ـ في حقل المعاشرة ـ متماثلان في الحقوق والأعمال، فلا تسعد الحياة إلاّ بالاحترام المتبادل بين الزوجين، وقيام كلّ بوظيفته تجاه الآخر، فعلى المرأة القيام بتدبير المنزل وإنجاز ما به من أعمال.
وعلى الرجل السعي والكسب خارجه، هذا هو الأصل الأصيل في حياة الزوجين الذي تؤيدها الفطرة، وقد قسّم النبيّ الأمور بين ابنته
2 ـ "المرّة" بمعنى الدفعة للدلالة على الواحد في الفعل، و "الإمساك" خلاف الإطلاق، و "التسريح" مأخوذ من السرح وهو الإطلاق يقال: سرح الماشية في المرعى: إذا أطلقها لترعى. والمراد من الإمساك هو إرجاعها إلى عصمة الزوجية. كما أنّ المقصود من "التسريح" عدم التعرّض لها، لتنقضي عدّتها في كلّ طلاق، أو الطلاق الثالث الذي هو أيضاً نوع من التسريح. على اختلاف في معنى الجملة. وإن كان الأقوى هو الثاني وسيوافيك توضيحه ودفع ما أثار الجصاص من الإشكالين حول هذا التفسير بإذن الله سبحانه.
3 ـ قيّد الإمساك بالمعروف، والتسريح بإحسان، مشعراً بأنّه يكفي في الإمساك قصد عدم الاضرار بالرجوع، وأمّا الاضرار فكما إذا طلّقها حتى تبلغ أجلها فيرجع إليها ثمّ يطلّق كذلك، يريد بها الاضرار والإيذاء، وعلى ذلك يجب أن يكون الإمساك مقرناً بالمعروف، وعندئذ لو طلب بعد الرجوع ما آتاها من قبل، لا يعدّ أمراً منكراً غير معروف، إذ ليس اضراراً.
وهذا بخلاف التسريح، فلا يكفي ذلك بل يلزم أن يكون مقروناً بالإحسان إليها، فلا يطلب منها ما آتاها من الأموال. ولأجل ذلك يقول تعالى: (وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أي لا يحلّ للمطلق استرداد ما آتاها من المهر، إلاّ إذا كان الطلاق خلعاً فعندئذ لا جناح عليها فيما اقتدت به نفسها من زوجها.
4 ـ لم يكن في الجاهلية للطلاق ولا للمراجعة في العدة، حدّ ولا عدّ، فكان الأزواج يتلاعبون بزوجاتهم يضارّوهنّ بالطلاق والرجوع ما شاءوا، فجاء الإسلام بنظام دقيق وحدّد الطلاق بمرّتين، فإذا تجاوز عنه وبلغ الثالث تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره.
روى الترمذي: كان الناس، والرجل يُطلِّق امرأته ما شاء أن يطلّقها، وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدّة، وإن طلّقها مائة مرة أو أكثر، حتى قال رجل لامرأته: والله لا أُطلّقك فتبيني منّي، ولا آويك أبداً قالت: وكيف ذلك؟ قال: أُطلّقك فكلّما همَّت عدَّتك أن تنقضي راجعتك، فذهبت المرأة فأخبرت النبي فسكت حتى نزل القرآن: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ...)(1).
5 ـ اختلفوا في تفسير قوله سبحانه: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) إلى قولين:
أ ـ إنّ الطلاق يكون مرّتين، وفي كلّ مرّة إمّا إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، والرجل مخيّر بعد إيقاع الطلقة الأُولى بين أن يرجع فيما اختار من الفراق فيمسك زوجته ويعاشرها بإحسان، وبين أن يدع زوجته في عدّتها من غير رجعة حتى تبلغ أجلها وتنقضي عدّتها.
وهذا القول هو الذي نقله الطبري عن السدي والضحاك فذهبا
____________
1- الترمذي، الصحيح، 3 كتاب الطلاق، الباب 16، الحديث 1192.
يلاحظ عليه: أنّ هذا التفسير ينافيه تخلّل الفاء بين قوله: (مَرَّتَانِ)وقوله (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف) فهو يفيد أنّ القيام بأحد الأمرين بعد تحقّق المرّتين، لا في أثنائهما. وعليه لابدّ أن يكون كلّ من الإمساك والتسريح أمراً متحقّقاً بعد المرّتين، ومشيراً إلى أمر وراء التطليقتين.
نعم يستفاد لزوم القيام بأحد الأمرين بعد كلّ تطليقة، من آية أخرى أعني قوله سبحانه: (وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا)(2).
ولأجل الحذر عن تكرار المعنى الواحد في المقام يفسّر قوله: (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) بوجه آخر سيوافيك.
ب ـ ينبغي على الزوج بعدما طلّق زوجته مرّتين، أن يفكّر في أمر زوجته أكثر ممّا مضى، فليس له بعد التطليقتين إلاّ أحد أمرين: إمّا الإمساك بمعروف وإدامة العيش معها، أو التسريح باحسان بالتطليق الثالث الذي لا رجوع بعده أبداً، إلاّ في ظرف خاص. فيكون قوله تعالى: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) إشارة إلى التطليق الثالث الذي لا رجوع فيه ويكون التسريح متحقّقاً به.
____________
1- الطبري، التفسير 2: 278 وسيوافيك خبر أبي رزين.
2- البقرة: 231. وأيضاً في سورة الطلاق: " فإذا بلغن أجلهنّ فأمسكوهنّ بمعروف أو فارقوهنّ بمعروف " (الطلاق/2).
1 ـ كيف يفسّر قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) بالتطليق الثالث، مع أنّ المراد من قوله في الآية المتأخّرة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِإحْسَان) هو ترك الرجعة، وهكذا المراد من قوله: (فَإذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوف أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف) (الطلاق/2) هو تركها حتى ينتهي أجلها، ومعلوم أنّه لم يرد من قوله: (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوف) أو قوله: (أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوف): طلّقوهنّ واحدة أُخرى(1).
ويلاحظ عليه: أنّ السؤال والإشكال الناشئ من خلط المفهوم بالمصداق، فاللفظ في كلا الموردين مستعمل في التسريح والطلاق، غير أنّه يتحقّق في مورد بالطلاق، وفي آخر بترك الرجعة، وهذا لا يعدّ تفكيكاً في معنى لفظ واحد في موردين، ومصداقه في الآية 229، هو الطلاق، وفي الآية 231، هو ترك الرجعة، والاختلاف في المصداق لا يوجب اختلافاً في المفهوم.
2 ـ إنّ التطليقة الثالثة مذكورة في نسق الخطاب بعده في قوله تعالى: (فَاِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وعندئذ يجب حمل قوله تعالى: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) المتقدم عليه على فائدة مجدّدة وهي وقوع البينونة بالاثنين(2) بعد انقضاء العدّة.
وأيضاً لو كان التسريح بإحسان هو الثالثة لوجب أن يكون قوله تعالى: (فَإنْ طَلَّقَهَا) عقيب ذلك هي الرابعة، لأنّ الفاء للتعقيب قد اقتضى
____________
1- الجصاص، التفسير 2: 389.
2- الأولى أن يقول: بكل طلاق.
والإجابة عنه واضحة، لأنّه لا مانع من الاجمال أولا ثمّ التفصيل ثانياً، فقوله تعالى: (فَإنْ طَلَّقَهَا) بيان تفصيلي للتسريح بعد البيان الإجمالي، والتفصيل مشتمل على ما لم يشتمل عليه الاجمال من تحريمها عليه حتى تنكح زوجاً غيره. فلو طلّقها الزوج الثاني عن اختياره فلا جناح عليهما أن يتراجعا بالعقد الجديد إن ظنّا أن يُقيما حدود الله، فأين هذه التفاصيل من قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان).
وبذلك يعلم أنّه لا يلزم أن يكون قوله: (فَإنْ طَلَّقَهَا) طلاقاً رابعاً.
وقد روى الطبري عن أبي رزين أنّه قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله) رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) فأين الثالثة؟ قال رسول الله: (إمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان)هي الثالثة(2).
نعم الخبر مرسل وليس أبو رزين الأسدي صحابياً بل تابعي.
وقد تضافرت الروايات عن أئمة أهل البيت أنّ المراد من قوله: (أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان) هي التطليقة الثالثة(3).
إلى هنا تمّ تفسير الآية وظهر أنّ المعنى الثاني لتخلّل لفظ "الفاء" أظهر بل هو المتعيّن بالنظر إلى روايات أئمّة أهل البيت (عليهم السلام).
بقي الكلام في دلالة الآية على بطلان الطلاق ثلاثاً بمعنى عدم
____________
1- الجصاص، التفسير 1: 389.
2- الطبري، التفسير 2: 278.
3- البحراني، البرهان 1: 221. وقد نقل روايات ست في ذيل الآية.
الاستدلال على بطلان الطلاق ثلاثاً
إذا عرفت مفاد الآية، فاعلم أنّ الكتاب والسنّة يدلاّن على بطلان الطلاق ثلاثاً، وأنّه يجب أن يكون الطلاق واحدة بعد الأُخرى، يتخلّل بينهما رجوع أو نكاح، فلو طلّق ثلاثاً مرّة واحدة. أو كرّر الصيغة فلا تقع الثلاث. وأمّا احتسابها طلاقاً واحداً، فهو وإن كان حقاً، لكنّه خارج عن موضوع بحثنا، واليك الاستدلال بالكتاب أوّلا والسنّة ثانياً.
أوّلا: الاستدلال بالكتاب
1 ـ قوله سبحانه: (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان).
تقدّم أنّ في تفسير هذه الفقرة من الآية قولين مختلفين، والمفسّرون بين من يجعلها ناظرة إلى الفقرة المتقدّمة أعني قوله: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ...) ومن يجعلونها ناظرة إلى التطليق الثالث الذي جاء في الآية التالية، وقد عرفت ما هو الحق، فتلك الفقرة تدلّ على بطلان الطلاق ثلاثاً على كلا التقديرين.
أمّا على التقدير الأوّل، فواضح; لأنّ معناها أنّ كلّ مرّة من المرّتين يجب أن يتبعها أحد أمرين: إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
قال ابن كثير: أي إذا طلّقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخيّر فيها ما دامت عدّتها باقية، بين أن تردّها إليك ناوياً الإصلاح والإحسان وبين أن تتركها حتى تنقضي عدّتها، فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا
وأمّا على التقدير الثاني، فإنّ تلك الفقرة وإن كانت ناظرة لحال الطلاق الثالث، وساكتة عن حال الطلاقين الأولين، لكن قلنا إنّ بعض الآيات، تدلّ على أنّ مضمونه من خصيصة مطلق الطلاق، من غير فرق بين الأولين والثالث فالمطلق يجب أن يُتبعَ طلاقه بأحد أمرين:
1 ـ الإمساك بمعروف.
2 ـ التسريح بإحسان.
فعدم دلالة الآية الأُولى على خصيصة الطلاقين الأولين، لا ينافي استفادتها من الآيتين الماضيتين(2). ولعلّهما تصلحان قرينة لإلقاء الخصوصية من ظاهر الفقرة (فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوف أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَان)وإرجاع مضمونها إلى مطلق الطلاق، ولأجل ذلك قلنا بدلالة الفقرة على لزوم إتباع الطلاق بأحد الأمرين على كلا التقديرين. وعلى أيّ حال فسواء كان عنصر الدلالة نفس الفقرة أو غيرها ـ كما ذكرنا ـ فالمحصّل من المجموع هو كون اتباع الطلاق بأحد أمرين من لوازم طبيعة الطلاق الذي يصلح للرجوع.
ويظهر ذلك بوضوح إذا وقفنا على أنّ قوله: (فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) من القيود الغالبية، وإلاّ فالواجب منذ أن يطلّق زوجته، هو القيام بأحد
____________
1- ابن كثير، التفسير 1: 53.
2- الآية 231 من سورة البقرة والآية 2 من سورة الطلاق.
وعلى ضوء ما ذكرنا تدلّ الفقرة على بطلان الطلاق الثلاث وأنّه يخالف الكيفية المشروعة في الطلاق، غير أنّ دلالتها على القول الأوّل بنفسها، وعلى القول الثاني بمعونة الآيات الأُخر.
2 ـ قوله سبحانه: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ)
إنّ قوله سبحانه: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ) ظاهر في لزوم وقوعه مرّة بعد أُخرى لا دفعة واحدة وإلاّ يصير مرّة ودفعة، ولأجل ذلك عبّر سبحانه بلفظ "المرّة" ليدلّ على كيفية الفعل وأنّه الواحد منه، كما أنّ الدفعة والكرّة والنزلة، مثل المرّة، وزناً ومعنىً واعتباراً.
وعلى ما ذكرنا فلو قال المطِّق: أنت طالق ثلاثاً، لم يطلِّق زوجته مرّة بعد أُخرى، ولم يطلّق مرّتين، بل هو طلاق واحد، وأمّا قوله "ثلاثاً" فلا يصير سبباً لتكرّره، وتشهد بذلك فروع فقهية لم يقل أحد من الفقهاء فيها بالتكرار بضمّ عدد فوق الواحد. مثلا اعتبر في اللعان شهادات أربع، فلا تجزي عنها شهادة واحدة مشفوعة بقوله "أربعاً". وفصول الأذان المأخوذة فيها التثنية، لا يتأتّى التكرار فيها بقراءة واحدة وإردافها بقوله "مرّتين". ولو حلف في القسامة وقال: "أُقسم بالله خمسين يمنياً أنّ هذا
قال الجصاص: (الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ)، وذلك يقتضي التفريق لا محالة، لأنّه لو طلّق اثنتين معاً لما جاز أن يقال: طلّقها مرّتين، وكذلك لو دفع رجل إلى آخر درهمين لم يجز أن يقال: أعطاه مرّتين، حتى يفرق الدفع، فحينئذ يطلق عليه، وإذا كان هذا هكذا، فلو كان الحكم المقصود باللفظ هو ما تعلّق بالتطليقتين من بقاء الرجعة لأدّى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المرّتين، إذ كان هذا الحكم ثابتاً في المرة الواحدة إذا طلّق اثنتين، فثبت بذلك أنّ ذكر المرّتين إنّما هو أمر بايقاعه مرّتين، ونهى عن الجمع بينهما في مرّة واحدة(1).
هذا كلّه إذا عبّر عن التطليق ثلاثاً بصيغة واحدة، أمّا إذا كرّر الصيغة كما عرفت فربّما يغترّ به البسطاء ويزعمون أنّ تكرار الصيغة ينطبق على الآية، لكنّه مردود من جهة أُخرى وهي:
أنّ الصيغة الثانية والثالثة تقعان باطلتين لعدم الموضوع للطلاق، فإنّ الطلاق إنّما هو لقطع علقة الزوجيّة، فلا زوجية بعد الصيغة الأولى حتى تقطع، ولا رابطة قانونية حتى تصرم.
وبعبارة واضحة: إنّ الطلاق هو أن يقطع الزوج علقة الزوجيّة بينه وبين امرأته ويطلق سراحها من قيدها، وهو لا يتحقّق بدون وجود تلك
____________
1- الجصاص، أحكام القرآن 1: 378.