الباب الثالث
توضيحات.. حول النهروان
الفصل الأول
معالجة أخطاء فاحشة
بداية:
إننا سنتحدث في فصل مستقل عن شجاعة «الخوارج».. ولكننا نشير هنا إلى خصوص ما يدعى لهم من شجاعة في حرب النهروان..
ولكننا نشير أولاً: إلى أن هذا الكتاب قد تضمن في فصوله المختلفة حديثاً كثيراً عن أسباب انتشار دعوة «الخوارج»، وقلنا: إنه قد كان لشعاراتهم التي رفعوها، الدور الهام في ذلك..
بالإضافة إلى ما كانوا يتظاهرون به من زهد وتقوى، وكذلك ما كان يلاقيه الناس من بني أمية من ظلم وجور. إلى غير ذلك مما لا مجال لنا هنا لإعادته، أو للتذكير به..
غير أننا سنذكر: هنا بعض ما يرتبط بإسقاط دعوى تجعل من أحداث واقعة النهروان بالذات سبباً لذلك الانتشار أيضاً.. لندفع غائلة ما يمارسه الحاقدون من تزوير للحق وللتاريخ لأهداف بغيضة لا تخفى.
بالإضافة إلى أمور أخرى رأينا أنها بحاجة إلى بعض التوضيح أو
جبن «الخوارج» شجاعة!!
إن من الغريب حقاً: أننا نجد بعض من يتصدى للبحث التاريخي تبلغ به الغفلة أو التعصب حداً يجعله يصور ضعف «الخوارج» وجبنهم، وقلة تدبيرهم وهزيمتهم النكراء بطولة خارقة وصموداً، وإقداماً..
فهو يقول عنهم: «ويشهد المؤرخون بما أبدوه من شجاعة خارقة في معركة لم تكن متكافئة، انتهت بقتل «الخوارج» ربضة واحدة»(1).
وتستوقفنا هنا أمور عديدة:
فأولاً: لا ندري كيف عرف: أن المعركة لم تكن متكافئة؟! فهل يستطيع أن يبرز لنا جدولاً تاريخياً موثقاً، أو حتى غير موثق يؤكد عدم التكافؤ هذا، من خلال حجم ما حشده علي (عليه السلام) من قوى وعتاد عسكري، وما كانت تمتاز به مواقعه من الناحية العسكرية على مواقع «الخوارج». أو أي شيء آخر يدخل في دائرة التفوق العسكري لجيش علي (عليه السلام) على ما كان لدى «الخوارج» من حشود، وعتاد وسلاح؟!.
وقد تقدم: عن ابن حبان أنه نص على أن جيش علي (عليه السلام) كان قليلاً بالنسبة لجيش «الخوارج»، أو هو يساويه على الأقل. بل قد يكون عدد «الخوارج» أكثر من عدد جيش علي (عليه السلام) فإن جيش
____________
(1) قضايا في التاريخ الإسلامي ص 80 وأشار في الهامش إلى الأخبار الطوال ص 210 والعبر وديوان المبتدأ و الخبرج3 ص 142.
ومهما يكن من أمر فإن ابن أعثم يقول: بعد أن ذكر أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قد بذل محاولات جادة لجمع الناس لحرب «الخوارج»، وخطبهم عدة مرات، وبعد خطبته الثالثة:
أجابه الناس سراعاً، فاجتمع إليه أربعة آلاف رجل أو يزيدون، قال:
فخرج بهم من الكوفة، وبين يديه عدي بن حاتم الطائي، يرفع صوته، وهو يقول:
نسير إذا ما كاع قوم وبلدوا | برايات صدق كالنسور الخوافق |
إلى شر قوم من شراة تحزبوا | وعادوا إله الناس رب المشارق |
طغاةً عماةً مارقين عن الهدى | وكل لعين قوله غير صادق |
وفينا علي ذو المعالي يقودنا | إليهم جهاراً بالسيوف البوارق |
قال: وسار علي رضي الله عنه، حتى نزل على فرسخين من النهروان.
ثم دعا بغلامه، فقال: اركب إلى هؤلاء القوم، وقل لهم عني.. الخ..(1).
فيتضح من هذا النص: أن التاريخ ليس فقط يرفض أن تكون كفة جيش علي (عليه السلام) هي الراجحة، بل هو يثير احتمالات قوية وجادة
____________
(1) الفتوح لابن أعثم ج4 ص105 والبيت الثاني المتقدم ذكره المعتزلي في شرح النهج ج2 ص 29.
ثانياً: إننا مهما فرضنا من تفوق في العدد والعدة في جانب جيش علي (عليه السلام)، فان النتائج التي أسفرت عنها الحرب تبقى مذهلة وصاعقة.
فإنه إذا كان «الخوارج» مستميتين في هذه الحرب.. ولنفرض أن عددهم كان قليلاً جداً ولو مئة رجل مقاتل فقط، وكان في مقابلهم عدد هائل جداً ولو بنسبة مئة ألف مقاتل.. وكان الضعف في جانب تلك الفئة القليلة المستميتة وكان الفرسان الشجعان في جانب هذه الكثرة..
نعم.. إننا حتى لو فرضنا ذلك.. فإن ما نتوقعه من هؤلاء المستميتين هو أن يقتلوا من ذلك الجيش الذي ليس لديه رغبة كبيرة بالموت، بل جاء إلى الحرب بتثاقل و وهن وقد بُذل جهد كبير في استنفاره ودفعه إلى ساحة الجهاد ـ إننا نتوقع من هؤلاء المئة المستميتين ـ أن يقتلوا منه بعددهم على الأقل، وذلك في أسوأ الاحتمالات وأكثرها تشاؤماً..
فكيف إذا كان المستميتون ألوفاً مؤلفة، ويحتمل أن يكون عددهم ضعف عدد الجيش الذي يواجههم، والمتثاقل عن قتالهم؟!. وكيف إذا كانوا قد قتلوا بأجمعهم، ولم ينج منهم عشرة، ولم يقتلوا من جيش علي (عليه السلام) حتى عشرة؟!!
فهل ثمة من جبن وذهول، واستسلام، وخور أكثر من هذا؟! وكيف استطاع هذا الكاتب ان يعتبر ذلك شجاعة لهم، فضلاً عن أن يعتبره
إن هذا الأمر لا يمكن اعتباره حتى تهوراً ومجازفة.. فإن المجازف والمتهور يكون شرساً وجارحاً. وفاتكاً في من يعاديه، ويهاجمه.
ثالثاً: والأغرب من ذلك هو أن قتلهم قد كان في محل واحد وربضة واحدة. فأين هي مراوغتهم في الحرب، وأين هي جولات الفرسان، ومخاتلة الأقران، ومقارعة الشجعان؟!
وكيف يمكن لهذه الألوف المؤلفة أن تقتل بهذه الطريقة، إلا إذا كانت قد استسلمت لقاتليها كما يستسلم قطيع من الغنم لذابحه بكل بلادة ويسر وهوان؟!
وكيف يمكن لجيش حتى لو بلغ مئات الألوف أن يذبح ألوفاً من الناس ربضة واحدة، وأسلحتهم بأيديهم، وساحة الحرب مفتوحة أمامهم.
رابعاً: إذا كان قد نجا منهم أقل من عشرة، فلماذا لم يلحق بهؤلاء العشرة عشرات ومئات وألوف أمثالهم لينجوا بأنفسهم من قتل لا فائدة فيه ولا عائدة؟!!
دعاوى حول أسباب تجذر مذهب «الخوارج»:
ويدعي بعض الذين لا يمتلكون قدرة على التحليل الصحيح لأكثر من سبب:
«أن الموت الدرامي للخوارج في النهروان أضحى في نظر اللاحقين من «الخوارج» استشهاداً بطولياً من أجل المبدأ والعقيدة. لذلك أصبح
وانتشرت في العالم الإسلامي تعاليمه بما تنطوي عليه من ثورية وديمقراطية، ودعوة للمساواة، والعدالة الاجتماعية.
ولا غرو فقد لقي استحساناً عند الموالي، وخرج من دائرة العروبة إلى نطاق الإسلام»(1).
ونقول:
إن هذا الكلام لا يمكن قبوله لأكثر من سبب:
فأولاً: إن هذا القائل نفسه يقول بعد ذلك مباشرة وفي نفس الصفحة: «إن حركات الخوارج بعد النهروان برغم كثرتها لم تسفر عن نتائج ايجابية، ويعزى ذلك بالدرجة الاولى لافتقارها إلى التنظيم، واتسامها بالعفوية، والثورية المفرطة»(2).
فالذين يستندون إلى أساس قوي من الفكر، والنضج السياسي، كيف يغفلون أمر التنظيم؟ وكيف يتحركون بعفوية وثورية مفرطة، تكون سبباً في إزهاق الأرواح والنفوس، وفي إفساد حياة الناس، دون أن يكون لها أية فائدة أو عائدة في إسقاط نظام الجبارين، وتخليص الناس من المصائب والبلايا التي يعانون منها؟!.
ثانياً: لم نفهم ماذا يقصد بالموت الدرامي للخوارج، فإن من الواضح: أنه ما كان إلا موت الجبناء، الذين على كثرتهم لم يستطيعوا
____________
(1) قضايا في التاريخ الإسلامي ص 82 و83 تأليف الدكتور محمود إسماعيل.
(2) قضايا في التاريخ الإسلامي ص 83.
ثالثاً: حبذا لو ذكر لنا هذا الرجل مفردات ولو يسيرة جداً، بل ولو مفردة واحدة تدل على نضجهم السياسي.
بل إن النضج السياسي الذي يدعيه هذا الرجل لهم قد تجلى في انقساماتهم السريعة، التي كانت تحصل لأتفه الأسباب وأبعدها عن التعقل والاتزان، والتي لا تملك مبرراً يمكن تصنيفه في دائرة الوعي والنضج السياسي أبداً.
وعلي (عليه السلام) كان أعرف بهم من كل احد، وهو الذي يقول فيهم: بأن لهم حلوم الأطفال. وأنهم أخفاء الهام، سفهاء الأحلام.
ونظن أن الهدف من هذا الادعاء هو التشكيك بهذا القول وما يشبهه مما سيأتي شطر منه إن شاء الله.
رابعاً: لا ندري كيف نفسر قوله، إن المذهب الخارجي يستند إلى أساس قوي من الفكر.
فهل يستطيع أن يدلنا على مفكر واحد أنتجته الحركة الخارجية؟! وما هي معالم هذا الفكر، ومعاييره، وأصوله، ومناهجه؟!.
خامساً: فيما يرتبط بالأساس العقيدي القوي الذي ادعى أن مذهبهم يستند إليه نقول:
لقد كان النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) أعرف بهم منه، حين قال (صلى الله عليه وآله) عنهم إنهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، وان الدين لا يجاوز تراقيهم..
سادساً: إن غاية ما يمكن أن يتمسك به هؤلاء مما يمكن تصنيفه في دائرة النضج السياسي، هو تلك الشعارات التي كانوا يرفعونها، والتي كانت تستهوي الأحداث والجهلة، والتي كانوا يذكرون معها ما يشير إلى ظلم بني أمية وجورهم.
ولكن ماذا تنفع تلك الشعارات، إذا كانوا يستحلون هم معها قتل الأطفال، وبقر بطون النساء المسلمات؟!! ولا يجرؤون في المقابل على الإساءة إلى أحد من غير المسلمين، في تناقضات بديعة، وشنيعة، لا يستسيغها عقل، ولا يرضى بها ضمير، ولا يقرها وجدان..
سابعاً: ولا ندري ماذا يعني بانتشار تعاليم «الخوارج» في العالم الإسلامي، فهل انتشر ذلك في أوساط أهل الفكر والعلم؟! أم انتشر ذلك بين الجهال؟! أهل الطيش وأصحاب الأطماع، وطلاب اللبانات. ولماذا لم تستقر هذه التعاليم في الناس؟، بل سرعان ما انحسرت، ولم يبق لها أي أثر إلا بعد أن مستها يد التقليم والتطعيم، التي لم تنجح أيضاً في
هل يدافع علي (عليه السلام) عن حكمه؟!
وإذا أردنا أن نجيب على السؤال الذي يقول: لماذا كان علي (عليه السلام) شديداً في أمر «الخوارج» إلى هذا الحد، حيث قتلهم في النهروان، حتى لم يفلت منهم إلا أقل من عشرة.. وهم الذين كانوا إلى الأمس القريب معه، ومن جملة جيشه، الذي حارب معه معاوية. ومع أنه (عليه السلام) هو ذلك الرجل المعروف بأنه الرؤوف الرحيم. وهو الذي لم يزل يسعى لدرء الفتنة، وإخماد النائرة، بأقل قدر ممكن من الخسائر في الأرواح؟!
فهل كان يريد الانتقام لشخصه، من حيث إنه يرى في «الخوارج» خطراً متوجهاً إليه كشخص؟!.
إننا نجله كل الإجلال عن مثل ذلك. وهو الرجل الذي اثبت عملياً، ومن يوم وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، أنه أسمى من أن يفكر بغير الإسلام، وهو القائل: لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة(1).
____________
(1) ولأجل ذلك استمر (عليه السلام) بالمعارضة لكل حاكم اغتصب الخلافة، ولم يلتزم بحكم الله فيها.. لأن أمور المسلمين لا يمكن أن تسلم في ظل حكومة هذا النوع من الناس.. ولو كانت تسلم بذلك لم يصح فرض امامة وخلافة من الله ورسوله.. وقد نتج عن هذه المعارضة المستمرة إقصاؤه (عليه السلام) عن حقه طيلة خمس وعشرين سنة، ثم كان من نتيجة ذلك ما ابتلي به من حروب في أيام خلافته. تلك الحروب التي كان يمكنه تجنبها لو أنه قبل بالعمل بنهج غيره، وداهن في دين الله.. وقد طلب منه ذلك
=>
أم أن له ثارات عند هؤلاء القوم، أراد أن يستوفيها بهذه الطريقة الحازمة والحاسمة؟!
إن سيرة علي، وما بينه الله ورسوله في حقه ليكذب كل هذه الدعاوى.. ويبطلها ولسنا بحاجة إلىسوق الشواهد على ذلك.
وأما الحديث عن ان له ثارات على «الخوارج»، فهو اسخف من أن يرد عليه، مادام أن حياة علي (عليه السلام) كلها كانت جهاداً وتضحيات في سبيل حفظ دين الناس وكراماتهم..
ولا يمكن أن نجد في هذا التاريخ ما يشهد لوجود ثارات له عليهم أولهم عليه. وليس علي بالذي يستحل أمراً من هذا القبيل..
ولابد أن ننتظر الإجابة الصحيحة على السؤال من علي (عليه السلام) نفسه، الذي اعلن بها بكل صراحة ووضوح؛ حيث قال: «أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ»(1).
خوارج آخر الزمان:
وثمة كلام آخر يقوله بعض الناس عن قضية «الخوارج» مع أمير المؤمنين (عليه السلام)؛ وهو ما يلي:
____________
<=
أكثر من مرة ورفض. ورضى بمواجهة الأذى في ذات الله حتى مات شهيداً مظلوماً على يد أشقاها.
(1) نهج البلاغة، الخطبة رقم 122.
ولكن هذا يتناقض مع المنطق الصحيح، ذلك أن علياً حينما وقع مع معاوية أراد أن لا يفرق جماعته، فترك الحق الإلهي بلا ثمن. ذلك الحق الذي كان ضرورياً له في محاربته لخصومه، ومن أجل التمسك بالاتفاق أبعد حقه، وترك الأساس الذي يقوم عليه، والذي تتحقق به الخلافة.
أما هؤلاء الذين تمسكوا به، فقد تمسكوا بشخصه، ولم يسيروا معه في أمره على أنه أمر الله، بل على أنه أمر علي، كما فعل أهل الشام في أمر معاوية. ولم يكونوا على أساس قوي عندما ينتظرون التحكيم كأهل الشام.
وهكذا زهدوا في مبدأهم الديني السياسي، الذي كان لابد منه لكل مسلم.
ومن هنا تفتحت عيون «الخوارج» على الإمام علي وأصحابه. وعرفوا أن الحق الذي ينادون به ليس إلا حجة، وأنهم إنما يريدون السلطان. ورأى «الخوارج» أنه إن كان ذلك قد حصل أول الأمر، فلا يمكن أن يصير كذلك إلى آخر الأمر..»(1).
ونقول:
إن هذا البعض قد بذل قصارى جهده ليسجل إدانة لأمير المؤمنين في تعاطيه مع قضية التحكيم، فأدان نفسه من حيث قد أفهم الناس: انه
____________
(1) الدكتور علي حسن عبد القادر: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 170.
ولسنا هنا بصدد الدفاع عن علي فإنه (عليه السلام) غني عن دفاعنا فانه مع الحق، والحق معه، يدور حيثما دار ـ بشهادة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وسلم الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى. كما أننا لسنا بصدد الهجوم على سواه. بل نريد فقط لفت نظر القارئ إلى بديهة تاريخية تقول:
إن علياً (عليه السلام) حين قبل بالتحكيم، فإنه لم يترك الحق بلا ثمن كما زعم هذا القائل.. بل هو قد ألزم عدوه بما ألزم به نفسه. ولو أن «الخوارج» لم يفسدوا ذلك بتعنتهم وإصرارهم على جعل أبي موسى الأشعري، عدو أمير المؤمنين (عليه السلام)، فإنه ـ أعني ما ألزم به معاوية ـ لابد أن يسقط معاوية، ويؤكد حق علي (عليه الصلاة والسلام)..
لأن القرآن سوف يحكم له (عليه السلام) على معاوية لعنه الله، ولأجل ذلك طلب من الحكمين أن يحييا ما أحيا القرآن، ويميتا ما أمات القرآن.
وقال لهما أيضاً: أحكما بما في القرآن ولو في حز عنقي..
وقد كان حق علي (عليه السلام) ثابتاً قبل التحكيم بالنص الصريح عليه، فإنه كان هو الوصي لرسول الله (صلى الله عليه وآله).
وثابتا بالتحكيم لأن القرآن يحكم بالإمامة لعلي دون معاوية، فهو
وهو الذي نزلت فيه آيات الغدير..
ونزل فيه قوله: (أفمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله، والله رؤوف بالعباد)..
و(هو الذي عنده علم الكتاب)..
إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تُقدّر بالمئات. وتدل على إمامته وخلافته، وعلى أنه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
ومعاوية وأحزابه من الظالمين المحرومين من الكرامة الربانية، بمقتضى قوله تعالى: لا ينال عهدي الظالمين.
تماماً كما حرمت هذه الآية الذين ظلموا الزهراء (عليها السلام) فور وفاة الرسول (صلى الله عليه وآله)، من أن يكون لهم في هذا الأمر أي نصيب.
كما أن آية: (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) قد حرمتهم جميعاً ومعاوية منهم من الخلافة الربانية، لأن جهلهم بدين الله كالنار على المنار، وكالشمس في رابعة النهار.
إلى غير ذلك من آيات بينات تتحدث عن حرمان من يحمل صفات معاوية، ويفعل أفاعيله التي تتمثل بالخيانة، والكذب، والفسق،والقتل، والظلم، والفتنة والمكر السيء وما إلى ذلك، تحرمه من نيل مقام الخلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله) وسلم ومن مقام الولاية على
كما أن حقه (عليه السلام) ثابت بعد التحكيم، لأن احتيال عمرو بن العاص على أبي موسى، لا يلغي حق ذي الحق، ولا يجعل الحق باطلاً.. بل هو يدين من يمكر، ويوجب العقوبة لمن يحتال..
فما معنى قول هذا القائل إذن: إن علياً (عليه السلام) قد ترك الحق الإلهي بلا ثمن؟!
وهل يمكن ترك الحق الإلهي، مقابل أثمان؟ وما هو نوع تلك الأثمان التي تبرر ترك الحق الإلهي؟! وما هو ذلك الأساس الذي تقوم عليه، وتتحقق الخلافة به، وقد تركه علي بن أبي طالب (عليه السلام)؟!
إن ما ذكره هذا البعض هو صورة طبق الأصل لما يقوله «الخوارج» أنفسهم، ولا غرو، فإن هؤلاء في انحرافهم عن علي (عليه السلام) لا يختلفون عن أسلافهم من أهل النهروان، غير أن أولئك قد شهروا السيوف الهندية في وجه علي (عليه السلام) وشيعته الأبرار، وهؤلاء يشهرون أقلام الخيانة والتزوير، التي يغذوها حقد دفين، ومكر خفي. ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله.
«الخوارج» وحرية الرأي:
وغني عن البيان: أن «الخوارج» حين كانوا يقتلون من يخالفهم في الرأي، بعد أن يكفروه، إنما كانوا يسعون لفرض آرائهم على الناس بالقوة. وكان هذا النهج هو السبب في انقساماتهم السريعة، وتمزقهم المستمر، وتفرق كلمتهم باطراد.
واللافت أيضاً: أننا نجد منهم إصراراً لا مبرر له على آرائهم
الأول: أن يؤمنوا بالباطل ويتخذوه ديناً..
الثاني: أن يواجهوا الموت والهلاك بأبشع صوره، وأشدها ألماً وهولاً..
وهذا الأمر هو الذي جعل الناس سرعان ما يدركون خطرهم، ونفر العقلاء منهم، وجعلهم يندفعون إلى العمل على صيانة حرية الاعتقاد، وإلى دفع شرهم عن الناس الأبرياء..
هذا بالإضافة.. إلى أن إفساح المجال أمام دعوة «الخوارج»، إنما يعني القبول بسقوط النظام الاجتماعي العام، وجعل كل شيء في خطر دائم ومستمر. وهذا مما لا مجال لقبوله، ولا طريق للسكوت عنه.
هذا حقد أم جهل؟!
قال بعضهم: «قد كانت الثورة ضد عثمان ثورة ضد الخليفة في سبيل الله، ومن أجل الحق والعدل ضد الباطل والجور، ولم يكن هذا المبدأ ليستعمل ضد عثمان بشخصه. ولكنه كان ضد كل حاكم يحيد عن الطريق الصحيح.. وعلى هذا الأساس خرج «الخوارج» على الإمام، فهذه الثورة، التي جاءت به إلى الخلافة، ما كانت لتغمض عينها عن علي نفسه عندما يحيد عن الصواب»(1).
____________
(1) نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 170 تأليف الدكتور على حسن عبد القادر
إن هذا الرجل قد أخذ كلامه من مستشرق حاقد لئيم، وهو يوليوس فلهوزن، حيث يقول: «.. فالثورة التي أتت بعلي إلى الخلافة، لم تتعاون معه حينما ضل الطريق»(1).
وهو كلام لا يمكن قبوله، ولا السكوت عنه، وذلك:
أولاً: لا ندري إن كان فلهوزن ومن تبعه ممن ينعق مع الناعقين، يجهلون حقيقة: أن «الخوارج» لم يكن لهم أي دور في وصول علي (عليه السلام) إلى الخلافة، فإن هؤلاء الناس كانوا أعراباً جفاةً، يعيشون بذهنيتهم العشائرية في مناطق بعيدة عن مركز القرار، وهم عراقيون، وليسوا من أهل الحجاز، ولم يكن لهم ذكر ولا شأن، وإنما ظهر أمرهم، وطرأ ذكرهم بعصيانهم وتمردهم على أمير المؤمنين في صفين وبعدها..
ثانياً: إن هذا الخبيث يجعل نفسه في موقع العارف بالخطأ، والصواب، و الضلال، والهدى؛ فهو يوزع الأوسمة، ويعطي الشهادات بالهدى وبالضلال لمن أحب حتى تطاول ـ لعنه الله ـ على من هو مع الحق، والحق معه، وباب مدينة علم رسول الله، وسيد الخلق من بعده وصفوة الله، وخيرة الله. وسفينة نجاة هذه الأمة.
ثالثاً: إن علياً لم تأت به ثورة، وإنما هو وصي رسول رب العالمين، وقد نص الله ورسوله على إمامته وخلافته. وكانت عودة الناس إليه هي التصرف الطبيعي، والانصياع إلى الحكم الشرعي، والتكليف الإلهي. فهم قد اغتصبوا مقامه وموقعه؛ فلا غرو إذا أرغمتهم الوقائع على الاعتراف بخطأهم، وعلى التراجع عن هذا الخطأ، وإعادة الأمور إلى نصابها..
____________
(1) الخوارج والشيعة ص 39.
الفصل الثاني
عائشة.. والخوارج
«الخوارج» يسبون عائشة:
قد عرفنا.. أن هؤلاء، الذين أجبروا أمير المؤمنين (عليه السلام) على التحكيم، هم أنفسهم الذين عادوا وحكموا عليه بالكفر لقبوله بما أكرهوه عليه.. وحكموا على عثمان أيضاً بالكفر من أجل مخالفات صدرت منه في السنين الأخيرة..
وحكموا على عائشة كذلك بالكفر، بسبب ما أحدثته من أمور بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله). فقد ورد: أنها سألت أبا قتادة الأنصاري. ومن كان من الأنصار الستين أو السبعين رجلاً، بعد رجوعهم من قتال «الخوارج» مع أمير المؤمنين (عليه السلام) ـ سألتهم عما كان «الخوارج» يقولونه:
فقال لها أبو قتادة الأنصاري: «يسبون أمير المؤمنين، وعثمان، وأنت، ويكفرونكم، فلم نزل نقاتلهم، وعلي (عليه السلام) بين أيدينا، وتحته بغلة النبي الخ».
ثم تذكر الرواية: أن علياً (عليه السلام) قال لهم: لا تتبعوا مولياً.
ثم تذكر أيضاً: حديث ذي الثدية..
ثم رواية: عائشة لهم ما سمعته من النبي (صلى الله عليه وآله) في ذم «الخوارج»، وأنه «يقتلهم أحب الخلق إلى الله ورسوله. قال أبو قتادة: قلت: قد علمت
فقالت: وكان أمر الله قدراً مقدورا».
وفي نص آخر: أنها اعتذرت عن ذلك بأنها كانت قد وجدت عليه بسبب موقفه من قصة الإفك، فكان منها تجاهه ما كان، قالت: «وأنا الآن فاستغفر الله مما فعلته»(1).
وحسب نص الخطيب البغدادي:
لما فرغ علي بن أبي طالب من قتال أهل النهروان، قفل أبو قتادة الأنصاري، ومعه ستون أو سبعون من الأنصار. قال: فبدأ بعائشة. قال أبو قتادة: فلما دخلت عليها قالت: ما وراءك، فأخبرتها أنه لما تفرقت المحكمة من عسكر أمير المؤمنين لحقناهم فقتلناهم.
فقالت: ما كان معك من الوفد غيرك؟!
قال: بلى، ستون أو سبعون.
قالت: أفكلهم يقول مثل الذي تقول؟
قلت: نعم قالت: قص علي القصة.
فقلت: يا أم المؤمنين، تفرقت الفرقة، وهم نحو من اثني عشر ألفاً، ينادون لا حكم إلا لله.
فقال علي: كلمة حق يقال يراد بها باطل.
____________
(1) راجع فيما تقدم: تذكرة الخواص ص 104 و105 وبهج الصباغة ج7 ص 120 وتاريخ بغداد ج1 ص 160 وعنه في الغدير للأميني ج7 ص 154.