الشيعة الإمامية عندهم الجواب واضح، وصريح وهو أنّ الائمة من أهل البيت اثنا عشر إماماً، أولهم علي بن أبي طالب ثم ولده الحسن، ثم الحسين، ثم علي بن الحسين، ثم محمد الباقر بن علي، ثم جعفر الصادق بن محمد، ثم موسى الكاظم بن جعفر، ثم علي الرضا بن موسى، ثم محمد الجواد بن علي، ثم علي الهادي بن محمد، ثم الحسن العسكري بن علي، ثم محمد بن الحسن المهدي، المنتظر، الموعود، الغائب عن الأنظار، وهو إمام العصر والزمان.
هذا جوابنا فأين جوابكم؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
ولحديث الثقلين دلالات ومعطيات أخرى كدلالته على أعلمية أهل البيت على غيرهم؛ إذ أمر غيرهم باتباعهم، ولم يأمرهم باتباع الغير، ودلالته على أفضليتهم وغير ذلك مما يفيده هذا الحديث الغني بالمعطيات، ولمن أراد الاطلاع على حديث الثقلين، وما حواه من كنوز، عليه بمراجعة الكتب المختصة بذلك من قبيل «خلاصة عبقات الأنوار»، الجزء الثاني، تلخيص السيد علي الميلاني، وغيرها.
وقبل أنْ نختم الكلام عن هذا الحديث نحاول أنْ نبيـّن، مختصراً، المراد من العترة التي يجب التمسك بها في الحديث الشريف في المبحث التالي:
من هم أهل البيت الذين أمرنا باتباعهم؟
اتضح مما سبق إن لحديث الثقلين دلالات عديدة: منها دلالته على أن أهل البيت هم خلفاء النبي والأئمة من بعده الذين ينجو المتمسك بهم من الضلال، ومنها عصمتهم من الخطأ والزلل، ومنها أعلميتهم على سائر من سواهم... لذا لا يمكن لأحد القول بأن أهل البيت هم كل من انتسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله)؛ لأنه من المقطوع والمجزوم به أنّ كثيراً ممن انتسب إليه، لا تتوفر فيهم تلك الشروط والصفات المعينة.
وكذا لا يمكن القول بأن منهم نساء النبي؛ لأنه عُلِم بعدم عصمتهن أولاً، ولأنّ منهن من قاتل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي السيدة عائشة فكيف يمكن أن تكون مأموراً باتباعها، والتمسك بها، وهي قاتلت علياً، وهو بلا كلام داخل ضمن أهل البيت، بل هو سيد العترة، أفهل يأمر النبي باتباع المتقاتلين معاً؟!
وكذا الكلام يرد على الصحابة فمنهم من خالف الرسول وعصاه، ومنهم من فرَّ من الزحف في أحُد، ومنهم من قاتل علي بن أبي طالب، مضافاً لما هو معلوم من اختلافات كثيرة بينهم أنفسهم، فكيف يكون التمسك بهم منجياً من الضلال؟! على أن غالبية الصحابة ليسوا من عترة النبي فلا يشملهم قوله بلا كلام.
إذن، لابد أنْ يكون المقصودون من أهل البيت مجموعة معـيّنة، تتوفر فيهم مواصفات خاصة معـيَّنة، وقد بـيّنهم الرسول بطرق عديدة، منها:
1 ـ أشار فيما صحّ من أقواله إلى أنّ عدد خلفائه اثنا عشر خليفة، وهذا الحديث رواه مسلم في «صحيحه» والبخاري وأحمد بن حنبل وغيرهم، وسيأتي الكلام عنه بعد حديث الثقلين.
فهذا التحديد يبين بوضوح أن لفظ أهل البيت ليس عاماً.
2 ـ ما مرّ سابقاً في آية التطهير من أن النبي (صلى الله عليه وآله) حدد المقصودين من أهل البيت، الموجودين في زمانه، وهم أصحاب الكساء، علي وفاطمة والحسن الحسين وقد مرّ تفصيل ذلك، فلا نعيد.
3 ـ ما مرّ أيضاً من اصطحاب النبي أصحاب الكساء معه إلى المباهلة، وقوله فيهم: «اللهم هؤلاء أهلي» وقد مرّ أيضاً في آية المباهلة، فراجع.
إلى غير ذلك من الإشارات العديدة، إلى المراد من أهل البيت في زمانه وقد تقدم بعضها وسيأتي في طيـّات البحث غيرها.
فهذه البيانات من الرسول (صلى الله عليه وآله) تحدد المراد من العترة، التي يجب التمسك بها؛ ولذا نرى العلامة المنّاوي من علماء أهل السنّة يقول في تفسيره للفظ (وعترتي أهل بيتي) من حديث الثقلين: «و هم أصحاب الكساء الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً»(1).
إذن، فالنبي (صلى الله عليه وآله) حدد رقمياً العترة التي يجب التمسك بها وهم اثنا عشر خليفة وأوضح الموجودين منهم في زمانه (صلى الله عليه وآله).
____________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 3 / 19، دار الكتب العلمية.
ومَنْ يتأمل، لا يجد أئمة اثنى عشر يمكن عدّهم المصداق الواقعي لهذا الحديث الشريف غير الذين ذكرهم الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، ابتداء من سيد العترة علي بن أبي طالب، وختاماً بالمهدي المنتظر.
وقد صرّح بعض علماء أهل السنة بأن أحق من يجب التمسك به من العترة هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
قال السمهودي: «وأحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في فضله ودقائق مستنبطاته وفهمه وحسن شيمه ورسوخ قدمه»(1).
وقال ابن حجر الهيتمي المكي: «ثم أحق من يتمسك به منهم إمامهم وعالمهم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، لما قدمناه من مزيد علمه ودقائق مستنبطاته»(2).
أقول: الحمد لله الذي جعلنا من المتمسكين بعلي بن أبي طالب (عليه السلام).
وإذ شارفنا على الانتهاء من حديث الثقلين يحسن بنا أنْ ننبه على أن الحديث الوارد بصيغة كتاب الله وسنتي بدل لفظ وعترتي إنما هو حديث موضوع مكذوب.
____________
(1) جواهر العقدين: 245، دار الكتب العلمية.
(2) الصواعق المحرقة: 232، دار الكتب العلمية.
ولو سلّمنا جدلاً وقلنا بصحة الحديث بلفظ «وسنتي» فلا يوجد هناك أي تعارض بين الحديثين؛ إذ أنّ من سنة النبي (صلى الله عليه وآله) هو قوله: «إني تارك فيكم الثقلين... كتاب الله وعترتي»، فيكون حديث «وسنتي» دالاً على وجوب الأخذ بحديث «وعترتي».
الحديث الثاني: حديث الاثني عشر خليفة
ورد هذا الحديث بصياغات مختلفة متقاربة نصّت على أنّ عدد الخلفاء بعد النبي اثنا عشر خليفة.
فقد أخرج مسلم في «صحيحه» في كتاب الإمارة، باب الناس تبع لقريش بسنده عن حصين عن جابر بن سمرة قال: «دخلت مع أبي على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة، قال: ثم تكلّم بكلام خفي عليّ، قال: فقلت لأبي ما قال؟ قال: كلّهم من قريش»(2).
____________
(1) صحيح شرح العقيدة الطحاوية: 178، دار الإمام النووي، الأردن.
(2) صحيح مسلم: 6/3، دار الفكر.
وأخرج البخاري في «صحيحه» في كتاب الأحكام بسنده عن جابر بن سمرة، قال: يكون اثنا عشر أميراً، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: كلهم من قريش»(2).
وأخرج أحمد في «مسنده» عن مسروق قال: «كنّا جلوساً عند عبد الله بن مسعود وهو يُقرئنا القرآن فقال له رجل يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول الله صلى الله عليه وسلّم كم تملك هذه الأمة من خليفة فقال عبد الله بن مسعود ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك ثم قال: نعم ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل»(3).
وأخرجه أبو يعلى في «مسنده»(4) والطبراني في «الكبير»(5).
قال أحمد محمد شاكر: «إسناده صحيح»(6).
____________
(1) المصدر نفسه: 6/4، دار الفكر.
(2) صحيح البخاري: 8/127، دار الفكر.
(3) مسند أحمد: 1/398، 406، دار صادر.
(4) مسند أبي يعلى: (8/444) و(9/222)، دار المأمون للتراث.
(5) المعجم الكبير: 10/158، مكتبة ابن تيمية، القاهرة.
(6) مسند أحمد بتحقيق أحمد محمد شاكر: 4/28، 62، حديث (3781) و(3859)، دار الحديث، القاهرة.
وحديث الاثني عشر خرّجه كبار أئمة الحديث وامتلأت الكتب بذكره ولا نرى حاجة لذكر مصادره بعد وجوده في البخاري ومسلم، إذ لا كلام ولا نقاش في صحته، بل يمكن القول أنه من المجمع على صحته لأنه في صحيح مسلم وقد صرّح بأنه لم يخرج في كتابه إلا ما أجمعوا عليه.
قال السيوطي في «تدريب الراوي»: «... وقال مسلم ليس كل شيء عندي صحيح وضعته ههنا، إنما وضعت ما أجمعوا عليه»(2).
فالحديث مجمع عليه، ودلالته على أن خلفاء النبي اثنا عشر خليفة جلية ظاهرة للعيان، وهذا العدد كما هو واضح ينطبق على ما تذهب إليه الشيعة الإمامية الاثنا عشرية، من وجود الاثني عشر إماماً من أهل البيت، أولهم علي وآخرهم المهدي.
أما أهل السنّة فبقوا في حيرة من أمر هذا الحديث ولم يجدوا له مخرجاً؛ لأنهم إنْ قالوا هم الخلفاء الأربعة نقص عددهم، وإن أدخلوا فيهم الخلفاء الأمويين أو العباسيين زاد عددهم، لذا راحوا ينتقون انتقاء حسب أهوائهم وكأنّ الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) ترك هذا الأمر المهم الخطير في مهبّ الريح.
ومن الغريب أنّ بعضهم أدخل ضمن انتقائه معاوية بن أبي سفيان وولده يزيد بن معاوية(3) مع أنّ معاوية خرج على خليفة زمانه علي بن أبي
____________
(1) تاريخ الخلفاء: 17، دار المعرفة، بيروت.
(2) تدريب الراوي: 1 / 98، مكتبة الرياض الحديثة.
(3) وهو الحافظ ابن حجر العسقلاني في «فتح الباري»: 13 / 184، دار المعرفة. وانظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 15، دار الكتاب العربي.
أولاً: لقول النبي لعلي (عليه السلام): «لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» فالمبغض لعلي منافق فما بالك بمن قاتله(1).
وثانياً: لقول النبي (صلى الله عليه وآله) بأن عماراً تقتله الفئة الباغية فقد أخرج البخاري في «صحيحه» عن أبي سعيد قال: «كنّا ننقل لبن المسجد لبنة لبنة وكان عمار ينقل لبنتين لبنتين فمرّ به النبي صلى الله عليه وسلم ومسح عن رأسه الغبار وقال ويح عمار تقتله الفئة الباغية، عمّار يدعوهم إلى الله ويدعونه إلى النار»(2).
وأخرج مسلم عن أمّ سلمة: إنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لعمار «تقتلك الفئة الباغية»(3).
قال المنّاوي في «فيض القدير»: «(فائدة) قال ابن حجر: «حديث تقتل عماراً الفئة الباغية، رواه جمع من الصحابة منهم قتادة وأمّ سلمة وأبو هريرة وابن عمر وعثمان وحذيفة وأبو أيوب وأبو رافع وخزيمة بن ثابت ومعاوية وعمرو بن العاص وأميّة وأبو اليسر، وغالب طرقه كلّها صحيحة أو حسنة وفيه علمٌ من أعلام النبوة وفضيلة ظاهرة لعلي وعمار ورَدّ على النواصب الزاعمين أنّ علياً لم يكن مصيباً في حروبه»(4).
____________
(1) تقدم الحديث في آخر البحث عن آية التطهير وهو موجود في صحيح مسلم وستأتي الإشارة إليه منفرداً إن شاء الله.
(2) صحيح البخاري: 3 / 207، كتاب الجهاد والسير، دار الفكر.
(3) صحيح مسلم: 8 / 186، كتاب الفتن وأشراط الساعة، دار الفكر.
(4) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 4 / 613، دار الكتب العلمية.
وأما يزيد بن معاوية فهو غني عن التعريف وأطبقت كتب التاريخ والسير على قبح وشناعة أفعاله فهو الذي قتل الحسين بن علي (عليه السلام) سيد شباب أهل الجنة وهو الذي استباح المدينة المنورة وهتك الأعراض والنواميس وهو الذي تجاسر على البيت الطاهر فضرب الكعبة بالمنجنيق(2)، فهل بعد هذا يكون خليفة رسول الله وإماماً من أئمة المسلمين؟!!.
و هذا التخبط في تشخيص الخلفاء هو نتيجة الابتعاد عن وصايا وتوجيهات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) فإن السنة النبوية يُفسِّر بعضها بعضاً فحيث أن الرسول (صلى الله عليه وآله) أوصى بالتمسك بأهل البيت في حديث الثقلين عُلِم من ذلك أن
____________
(1) تنبيه: صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «قاتل عمار وسالبه في النار».
أخرج الحاكم وصحّحه، ووافقه الذهبي، «المستدرك على الصحيحين» وبهامشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 387، دار المعرفة.
وأورده الهيثمي عن أحمد وقال: «ورجال أحمد ثقات»، انظر «مجمع الزوائد»: 7 / 244، كتاب الفتن، باب فيما كان بينهم يوم صفين، دار الكتب العلمية.
و معلوم أن الذي قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر في معركة صفين، هو صحابي آخر كان ضمن صفوف جيش معاوية يدعى أبو الغادية الجهني، «تعجيل المنفعة» لابن حجر العسقلاني: 509، دار الكتاب العربي.
فهذا الصحابي في النار بنصّ قول النبي فهل يمكن بعد هذا القول بأنّ كلّ الصحابة عدول؟ فهل يتصوّر أنّ من يكون في النار عادلاً وصحابياً جليلاً يجب احترامه؟!!
(2) انظر على سبيل المثال ترجمة يزيد في «تاريخ الخلفاة» للسيوطي: 182 ـ 186، دار المعرفة.
الحديث الثالث: حديث السفينة
و هو قول النبي (صلى الله عليه وآله): «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق».
و هذا الحديث رواه عدة من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، أبوذر الغفاري، أبو سعيد الخدري، ابن عباس، عبدالله بن الزبير، وأنس بن مالك، واستفاضت طرق نقل الحديث إليهم، ووقفنا على ستة طرق مختلفة في طبقاتها وعدة طرق أخرى تتداخل في بعض طبقاتها(1). وهذه الطرق بضم بعضها إلى بعض ترفع الحديث إلى درجة الصحة ومن دون حاجة إلى ملاحظة لآحاد رواة أسانيده؛ ولذا قال الحافظ السخاوي في «استجلاب ارتقاء الغرف» بعد أن ذكر طرقاً عديدة للحديث: وبعض هذه الطرق يقوي بعضاً(2). وقال ابن حجر الهيتمي في «صواعقه»: «وجاء من طرق كثيرة يقوي بعضها
____________
(1) انظر الحديث في: «فضائل الصحابة» لأحمد بن حنبل: 2 / 785، مؤسسة الرسالة و «المصنف» لابن أبي شيبة: 7 / 503، دار الفكر. و «المعجم الكبير» للطبراني: 3 / 44 ـ 45، دار إحياء التراث، و «المعجم الأوسط»: (4/10) و(5 / 306 ـ 355) و(6/85)، دار الحرمين. و «المعجم الصغير»: (1/193) و(2/22)، دار الكتب العلمية. و «المستدرك» للحاكم: (2/343) و(3/151)، دار المعرفة، وتاريخ بغداد: 12 / 91، دار الكتب العلمية. و «الحلية» لأبي نعيم: 4 / 306، دار الكتاب العربي، و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 209، دار الكتاب العربي. و «مجمع الزوائد» للهيثمي: 9 / 168، دار الكتب العلمية.
(2) استجلاب ارتقاء الغرف بحب أقرباء الرسول وذوي الشرف: 2 / 484، دار البشائر.
وعقد السمهودي في «جواهر العقدين» باباً أسماه «ذكر أنهم أمان الأمة وأنهم كسفينة نوح عليه الصلاة والسلام، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق»(2). وذكر طرقاً عديدة للحديث ثم قال: «وهذه الطرق يقوي بعضها بعضاً»(3).
فالحديث صحيح ولا غبار عليه، وقد صحّحه الحاكم في «المستدرك»، كما تتبع السيد الميلاني ـ وهو من علماء الشيعة الإمامية ـ أكثر من طريق للحديث وأثبت صحتها على مباني أهل السنّة(4).
ودلالة الحديث على وجوب التمسك بأهل البيت، وضلالة وهلاك المتخلّف عنهم أوضح من أنْ تُبيَّن، فالحديث يدل على إمامة أهل البيت كما يدل على عصمتهم من الزلل وإلا لو كانوا يخطئون لما قال الرسول بأن من ركب في سفينتهم نجا، فنجاة من يركب سفينة أهل البيت، تدل على أن المشار إليهم لا يفارقون الشريعة المقدسة في كل حركاتهم وسكناتهم، فهذا
____________
(1) الصواعق المحرقة: 352، دار الكتب العلمية.
(2) جواهر العقدين: 259، دار الكتب العلمية.
(3) المصدر نفسه: 261.
(4) انظر «دراسات في منهاج السنة لمعرفة ابن تيمية»: 299 ـ 303.
وأمير المؤمنين (عليه السلام) داخل فيمن يجب ركوب سفينتهم؛ لأنه سيد العترة بلا خلاف.
الحديث الرابع: قول النبي (صلى الله عليه وآله): «النجوم أمانٌ لأهل السماء وأهل بيتي أمانٌ لأمتي».
رُوي هذا الحديث بألفاظ متقاربة مع بعض الزيادات المتفاوتة عن جمع من الصحابة منهم: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وابن عباس وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله الأنصاري، وغيرهم.
وأخرجه الإمام أحمد بن حنبل في «فضائل الصحابة»(1) والطبراني في «المعجم الكبير»(2) والحاكم في «المستدرك» في مواضع ثلاثة(3). والروياني في «مسنده»(4)، وعزاه السخاوي أيضاً إلى مسدّد، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى في مسانيدهم(5).
والحديث مضافاً إلى اعتباره عند جمع من علمائهم؛ فإن له طرقاً عديدة يقوّي بعضها بعضاً.
____________
(1) فضائل الصحابة: 2 / 671، مؤسسة الرسالة.
(2) المعجم الكبير: 7 / 22، دار إحياء التراث.
(3) المستدرك على الصحيحين: (2 / 448) و(3 / 149) و(3 / 457)، دار المعرفة.
(4) مسند الروياني: 2 / 258، مؤسسة قرطبة.
(5) انظر «استجلاب ارتقاء الغرف» للسخاوي: 2 / 477، دار البشائر الإسلامية.
وعقد السخاوي في كتابه «استجلاب ارتقاء الغرف» باباً أسماه «باب الأمان ببقائهم والنجاة في اقتفائهم»(4)، وذكر فيه نحواً من طرق الحديث المتقدم مما يدل على اعتباره عنده وثبوته لديه، وكذا السمهودي في «جواهر العقدين» عقد باباً أسماه «ذكر أنهم أمان الأمة وأنهم كسفينة نوح عليه الصلاة والسلام من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق»(5) وذكر فيه جملة من الأحاديث الدالة على ذلك؛ مما يدل على اعتبار ذلك عنده أيضاً، خصوصاً أنه جزم فيما تقدم بأنهم أمان لأهل الأرض عند تعليقه على حديث الثقلين حيث قال: «إن ذلك يفهم وجود من يكون أهلاً للتمسك من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمان وجدوا فيه إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك به، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا ـ كما سيأتي ـ أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض»(6).
____________
(1) المستدرك على الصحيحين: (2 / 488) و(3 / 149)، دار المعرفة.
(2) الصواعق المحرقة: 351، دار الكتب العلمية.
(3) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 6 / 386، دار الكتب العلمية.
(4) استجلاب ارتقاء الغرف: 2 / 477، دار البشائر.
(5) جواهر العقدين: 259، دار الكتب العلمية.
(6) المصدر نفسه: 244.
ومن وجوب التمسك بهم والسير وفق منهجهم وكونهم أماناً لأهل الأرض يتضح أمر عصمتهم وعدم مخالفتهم للشريعة؛ إذ مع احتمال خطئهم ومخالفتهم للشريعة لا يتحقق الأمان معهم.
و الحديث له دلالات أخرى لا تخفى على النبيه، فهو يصبّ في مجرى واحد مع حديث السفينة وحديث الثقلين المتقدمين.
الحديث الخامس: قول النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي وفاطمة والحسن والحسين: «أنا حرب لمن حاربكم وسلمٌ لمن سالمكم».
أخرج هذا الحديث الإمام أحمد بن حنبل في «مسنده» من طريق أبي هريرة(2).
وأخرجه ابن ماجة في «سننه» من طريق زيد بن أرقم بلفظ: «أنا سلمٌ لمن سالمتم وحرب لمن حاربتم»(3). وأخرجه الترمذي في «سننه» بلفظ: «أنا
____________
(1) فيض القدير شرح الجامع الصغير: 6 / 386، دار الكتب العلمية.
(2) مسند أحمد: 2 / 442، دار صادر.
(3) سنن ابن ماجة: 1 / 52، دار الفكر.
وهو من الأحاديث المعتبرة عند أهل الفن، فقد أخرجه الحاكم من طريق أبي هريرة وقال: هذا «حديث حسن...» وذكر له شاهداً، وهو حديث زيد بن أبي أرقم المتقدم، ووافقه الذهبي في «التلخيص» على ذلك؛ إذ سكت عن تحسينه للحديث وذكر حديث زيد بن أبي أرقم بعنوان شاهد له أيضاً(9)، كما أخرج الحديث ابن حبان في «صحيحه» كما تقدم، ومعلوم من مقدمة ابن حبان في كتابه أنه لا يخرّج إلا الصحيح.
و الحديث أيضاً موجود في كتاب «مشكاة المصابيح»(10) للخطيب
____________
(1) سنن الترمذي: 5 / 360، ما جاء في فضل فاطمة، دار الفكر.
(2) المصنف: 7 / 512، دار الفكر.
(3) صحيح ابن حبان: 15 / 434، مؤسسة الرسالة.
(4) المعجم الكبير: (3 / 40، الأحاديث: 2619 ـ 2620 ـ 2621) و(5 / 184)، دار إحياء التراث.
(5) المعجم الأوسط: (3 / 179) و(5 / 182) و(7 / 197)، دار الحرمين.
(6) المعجم الصغير: 2 / 3، دار الكتب العلمية.
(7) تاريخ بغداد: 7 / 144، دار الكتب العلمية.
(8) تاريخ دمشق: (13 / 218 ـ 219) و(14 / 144 ـ 157 ـ 158)، دار الفكر.
(9) انظر «المستدرك على الصحيحين» وبهامشه تلخيص الذهبي: 3 / 149، دار المعرفة.
(10) مشكاة المصابيح: باب مناقب أهل بيت النبي، الفصل الثاني: 3 / 1735، المكتب الإسلامي.
مضافاً إلى أن الحديث روي بطريق ثالث، أيضاً بلفظ يقرب من ذلك وليس فيه الحسنان؛ لأنهما لم يولدا بعد، فقد أخرج الحافظ عمر بن شاهين المتوفى سنة (385هـ) في «فضائل سيدة النساء» بسنده إلى أبي سعيد الخدري قال: «لما دخل علي بفاطمة جاء النبي صلّى الله عليه وسلم أربعين صباحاً إلى بابها فيقول: أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم»(1).
فالنبي (صلى الله عليه وآله) إذن، كان يكرر هذه العبارة على هذا البيت الطاهر قبل ولادة الحسنين وبعد ولادتهما فماذا يعني ذلك؟ وماذا يريد الرسول أن يقول للأمة؟.
لا يشك أحدٌ بأن الحديث يدلّ صراحة على عظم مقام أبناء هذا البيت وعلوّ درجاتهم؛ بحيث صار المحارب لهم محارباً لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ومعلوم أن المحارب لرسول الله إنّما هو محارب للإسلام المحمدي ومحارب لله عزّ وجلّ.
فالرسول، إذن، جعلهم مداراً ومعياراً يُعرف من خلاله من حارب الإسلام ومن يكون معه في سلم، بل ويعرف من خلاله من يسير على خط الإسلام وينهج نهجه؛ فإنهم (عليهم السلام) الممثلون الحقيقيون للإسلام بعد النبي، فهم الثقل الأصغر، وعدل القرآن، وهم السفينة، وهم أمان هذه الأمة فكان طبيعياً ومن
____________
(1) فضائل سيدة النساء: 29، مكتبة التربية الإسلامية، القاهرة.