الصفحة 132
آلاف عام فلمّا خلق آدم قُسم ذلك النور جزئين فجزء أنا وجزء علي، وفي رواية خلقتُ أنا وعلي من نور واحد».

فإن قيل: فقد ضعفوا هذا الحديث، فالجواب [والكلام لابن الجوزي] أنّ الحديث الذي ضعفوه غير هذه الألفاظ وغير الإسناد، أما اللفظ [يعني لفظ الحديث الذي ضعفوه]: خلقتُ أنا وهارون بن عمران ويحيى بن زكريا وعلي بن أبي طالب من طينة واحدة، وفي رواية خلقتُ أنا وعلي من نور وكنا عن يمين العرش قبل أنْ يخلق الله آدم بألفي عام فجعلنا نتقلب في أصلاب الرجال إلى عبدالمطلب، وأما الإسناد [يعني إسناد الحديث الذي ضعفوه] فقالوا في إسناده محمد بن خلف المروزي وكان مغفلاً، وفيه أيضاً جعفر بن أحمد بن بيان وكان شيعياً. والحديث الذي رويناه يخالف هذا اللفظ والإسناد، رجاله ثقات فإن قيل فعبد الرزاق(1) كان يتشيع، قلنا: هو أكبر شيوخ أحمد بن حنبل ومشى إلى صنعاء من بغداد حتى سمع منه وقال: ما رأيت مثل عبد الرزاق ولو كان فيه بدعة لما روى عنه ومازال إلى أن مات يروي عنه ومعظم الأحاديث التي في «المسند» رواها من طريقه، وقد أخرج عنه أيضاً في الصحيح»(2).

5 ـ في أنّ من آذى علياً فقد آذى رسول الله (صلى الله عليه وآله):

أخرج أحمد في «مسنده» عن عمرو بن شاس الأسلمي وكان من

____________

(1) هو عبدا الرزاق الصنعاني صاحب «المصنف» من كبار محدثيهم.

(2) تذكرة الخواص لسبط ابن الجوزي: 50 ـ 51، مؤسسة أهل البيت، بيروت.


الصفحة 133
أصحاب الحديبية، قال: خرجتُ مع علي إلى اليمن فجفاني في سفري ذلك حتى وجدت في نفسي عليه، فلما قدمت، أظهرت شكايته في المسجد حتى بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت المسجد ذات غدوة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس من أصحابه، فلما رآني أبدني عينيه، يقول: حدد إلي النظر حتى إذا جلست قال: يا عمرو والله لقد آذيتني، قلتُ أعوذ بالله أن أوذيك يا رسول الله، قال بلى من آذى علياً فقد آذاني»(1).

أخرجه الحاكم في «المستدرك» وقال: «هذا حديث صحيح الإسناد». ووافقه الذهبي(2).

و أورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» وقال: «رواه أحمد والطبراني باختصار والبزار أخصر منه، ورجال أحمد ثقات»(3).

وفي «مجمع الزوائد» عن سعد بن أبي وقاص قال: «كنت جالساً في المسجد أنا ورجلين معي فنلنا من علي، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان يعرف في وجهه الغضب، فتعوذت بالله من غضبه، فقال: ما لكم ومالي من آذى علياً فقد آذاني».

رواه أبو يعلى والبزار باختصار ورجال أبي يعلى رجال الصحيح غير محمود بن خداش وقنان وهما ثقتان»(4).

____________

(1) مسند أحمد: 3 / 483، دار صادر.

(2) المستدرك على الصحيحين وبهامشه «تلخيص المستدرك» للذهبي: 3 / 122، دار المعرفة.

(3) مجمع الزوائد: 9 / 129، دار الكتب العلمية.

(4) مجمع الزوائد: 9 / 129، دار الكتب العلمية.


الصفحة 134

6 ـ حديث المؤاخاة:

عن ابن عمر قال: «آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه فجاء علي تدمع عيناه: يا رسول الله آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحد، فقال له رسول لله صلّى الله عليه وسلم: أنت أخي في الدنيا والآخرة». أخرجه الترمذي في «سننه» وحسّنه(1).

والحديث رواه جمع من الصحابة وعدّه ابن عبد البر في الاستيعاب من الآثار الثابتة عن رسول الله (صلى الله عليه وآله)(2).

وأرسله الحافظ ابن حجر في الإصابة إرسال المسلمات بقوله: «و كان اللواء بيده في أكثر المشاهد ولمّا آخى النبي صلّى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له أنت أخي»(3).

7 ـ في أنه باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله):

قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء»: «و أخرج البزار والطبراني في الأوسط عن جابر بن عبد الله وأخرج الترمذي والحاكم عن علي قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: أنا مدينة العلم وعلي بابها، هذا حديث حسن على الصواب، لا صحيح كما قال الحاكم ولا موضوع كما قاله جماعة منهم ابن الجوزي والنووي، وقد بيـّنت حاله في التعقبات على الموضوعات»(4)(5).

____________

(1) سنن الترمذي: 5 / 300، دار الفكر، بيروت.

(2) انظر «الاستيعاب في معرفة الأصحاب»: 3 / 1098 ـ 1100، دار الجيل، بيروت.

(3) الإصابة في معرفة الصحابة: 2 / 507 ترجمة رقم 5688، دار الفكر.

(4) تاريخ الخلفاء: 131، دار الكتاب العربي.

(5) وسيأتيك بعد قليل أن السيوطي صحح الحديث في كتاب آخر.


الصفحة 135
وقال السيد حسن السقاف في تحقيقه على كتابه «تناقضات الألباني الواضحات»: «صحّ عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» صحّحه الحافظ ابن معين كما في (تاريخ بغداد: 11 / 49)، والإمام الحافظ ابن جرير الطبري في «تهذيب الآثار» مسند سيدنا علي (ص 104 حديث 8) والحافظ العلائي في «النقد الصحيح»، والحافظ ابن حجر والحافظ السيوطي كما في «اللآلي المصنوعة»: 1 / 334، والحافظ السخاوي كما في «المقاصد الحسنة»(1).

كما ألّف العلاّمة أحمد بن الصديق المغربي كتاباً خاصاً في تصحيح الحديث المذكور أسماه «فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي».

وأخرج الحاكم بسنده إلى شريك بن عبد الله عن أبي إسحاق قال: سألت قثم بن العباس، كيف ورث علي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم دونكم، قال: لأنه أوّلنا به لحوقاً وأشدّنا به لزوقاً».

قال الحاكم: «هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه»، ووافقه الذهبي(2).

ثم قال: «سمعت قاضي القضاة أبا الحسن محمّد بن صالح الهاشمي يقول: سمعتُ أبا عمر القاضي يقول: سمعتُ إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول وذُكِرَ له قول قثم هذا فقال: إنما يرثُ الوارث بالنسب وبالولاء ولا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العم لا يرث مع العم فقد ظهر بهذا الإجماع أنّ علياً

____________

(1) تناقضات الألباني الواضحات للسيد السقاف: 3 / 82، دار الإمام النووي.

(2) المستدرك على الصحيحين وبهامشه «تلخيص الذهبي»: 3/125، دار المعرفة.


الصفحة 136
ورث العلم من النبي صلى الله عليه وسلّم دونهم» ثم خرّج حديثاً يدلل على صحة ذلك، أيضاً فقال: «وبصحة ما ذكره القاضي حدثنا محمّد بن صالح بن هاني، حدثنا أحمد بن نصر حدثنا عمرو بن طلحة القنّاد حدثنا إسباط بن نصر عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كان علي يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إن الله يقول: {أَفَئِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ} والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت والله إني لأخوه ووليـّه وابن عمّه ووارث علمه فمن أحقّ به مني» وقد وافق الذهبي الحاكم في ذلك(1).

فتنبين أن علياً (عليه السلام) هو باب مدينة علم النبي ووارث علمه.

نكتفي بهذا القدر، ونقول كما قال شمس الدين بن الجزري: «فهذا نزر من بحر وقل من كثر، بالنسبة إلى مناقبه الجليلة، ومحاسنه الجميلة، ولو ذهبنا لاستقصاء ذلك، لطال الكلام بالنسبة إلى هذا المقام، ولكن نرجو من الله تعالى أن ييسر إفراد ذلك بكتاب نستوعب فيه ما بلغنا من ذلك، والله الموفق للصواب»(2).

____________

(1) المصدر نفسه: 3/125 ـ 126 دار المعرفة.

(2) أسنى المطالب: 79.


الصفحة 137

الفصل الثاني



إماما الهدى وسيدا شباب أهل الجـنة
الحـسن والحـسين عليهما السلام





الصفحة 138

الصفحة 139

نافذةٌ إلى معرفتهما عليهما أفضل الصلاة والسلام

هما الإمامان الهمامان، والقمران النيّران، سبطا النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وريحانتاه من الدنيا، وسيدا شباب أهل الجنّة؛ الحسن والحسين عليهما السلام.

فضلهما وقدرهما لا يخفى على كل مسلم، وهو أكبر من أن تسطره الأقلام أو تمتلئ به الصحف، فلهما في وصف الله ورسوله غنًى عن وصف الواصفين، وثناء المادحين فهما من أصحاب الكساء، الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهما المدعوان في مباهلة نصارى نجران؛ ليمثلا جنبة الحق الإلهي المقدس؛ وليكونا ولدين للرسول بنص القرآن العظيم، وامتلأت بذكر فضائلهما الكتب، وعجتْ بها ألسنة المحدثين؛ لذا سنتناول في هذا الفصل مجموعة مما ورد من فضائلهما في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة كما أشرنا إلى ذلك في الفصل الأول.

وقبل الشروع في ذلك نقدّم للقارئ إلمامة سريعة بحياتهما عليهما السـلام:

ـ فالإمام الحسن، هو الإمام الثاني من أئمة أهل البيت (عليهم السلام).

ـ أبوه أمير المؤمنين، ومولى المتقين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

ـ وأمّه سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء بنت الرسول محمّد (صلى الله عليه وآله)، فضلها وشرفها أشهر من أنْ يذكر ويكفي أنّ النبي محمّداً (صلى الله عليه وآله) يغضب لغضبها.

فقد أخرج البخاري في «صحيحه» بسنده إلى المسور بن مخزمة، أن

الصفحة 140
رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «فاطمة بضعة منّي فمنْ أغضبها أغضبني»(1).

ـ ولد (عليه السلام) بالمدينة المنورة، ليلة النصف من شهر رمضان سنة ثلاث من الهجرة، (15/ رمضان / 3 هـ)(2).

ـ كنيته أبو محمّد لا غير(3).

ـ ألقابه كثيرة منها: التقي، الطيب، الزكي، السيد، السبط، الولي(4).

ـ كان شبيهاً بالنبي (صلى الله عليه وآله)، سمّاه النبي (صلى الله عليه وآله) الحسن، وعقّ عنه يوم سابعه، وحلق شعره، وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة، وهو خامس أهل الكساء(5) »(6).

كان عمر الحسن (عليه السلام) سبع سنين وأشهراً حين رحل الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وقيل: ثماني سنين، وقام بالأمر بعد أبيه (عليه السلام) وله سبع وثلاثون سنة(7). وأقام في خلافته بعد أن بايعه أهل الكوفة ستة أشهر وأياماً، فسار إليه معاوية وانتهى الأمر بالصلح والهدنة(8)، وشروط الصلح، وأسباب الهدنة تحتاج إلى بحث

____________

(1) صحيح البخاري، باب المهاجرين: 4/210، دار الفكر.

(2) انظر «الإرشاد» للمفيد: 2/6، مؤسسة آل البيت، و «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 144، دار الكتاب العربي.

(3) مطالب السؤول لمحمّد بن طلحة الشافعي: 2/9، مؤسسة أم القرى، و «الارشاد»: 2/5، مؤسسة آل البيت.

(4) انظر مثلاً «مطالب السؤول» لمحمّد بن طلحة الشافعي: 2/9، مؤسسة أم القرى.

(5) هكذا في المتن المطبوع، والصحيح هو رابع أهل الكساء، والحسين (عليه السلام) خامسهم.

(6) تاريخ الخلفاء للسيوطي: 114، دار الكتاب العربي.

(7) انظر «إعلام الورى» للطبرسي: 2/401، مؤسسة آل البيت.

(8) انظر «تاريخ الخلفاء» للسيوطي: 147، دار الكتاب العربي.


الصفحة 141
موسّع؛ مَنْ شاء الاطلاع، فليراجع كتاب «صلح الإمام الحسن» لآل ياسين.

ـ استشهد (عليه السلام) في شهر صفر سنة خمسين من الهجرة، مسموماً، سقته زوجته جعدة بنت الأشعث بأمر من معاوية بن أبي سفيان(1).

ـ دفن (عليه السلام) في مقبرة البقيع عند جدته فاطمة بنت أسد(2)، وقبره ومن معه من قبور أئمة الهدى، هناك مهدّمة، قامت بهدمها الفرقة الوهابية.

وأما الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو الإمام الثالث من أئمة أهـل البيت (عليهم السلام)، أبوه علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وأمّه فاطمة الزهراء، سلام الله عليها، فأكرم به وأنعم.

نسبٌ كأنّ عليه من شمس الضحى نـوراً ومـن فلـق الصـباح عموداً ـ ولد (عليه السلام) في الثالث من شهر شعبان المعظم وقيل في الخامس منه، سنة أربع من الهجرة(3). وجاءت به أمّه فاطمة عليها السلام إلى جدّه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فاستبشر به، وسمّاه حُسيناً وعقّ عنه كبشاً، وهو وأخوه بشهادة الرسول صلّى الله عليه وعليهما، سيدا شباب أهل الجنّة، وبالاتفاق الذي لا مرية فيه، سبطا نبي الرحمة(4).

ـ كنيته أبو عبد الله، وأما ألقابه، فكثيرة: الرشيد، والطيب، والوفي، والسيد، والزكي، والمبارك، والتابع لمرضاة الله، والسبط(5).

____________

(1) إعلام الورى للطبرسي: 1/403، مؤسسة آل البيت.

(2) المصدر نفسه: 1/403.

(3) انظر «إعلام الورى» للطبرسي: 1/420، مؤسسة آل البيت.

(4) الإرشاد للمفيد: 2/27، مؤسسة آل البيت.

(5) انظر «مطالب السؤول» 2/51، مؤسسة أمّ القرى.


الصفحة 142
ـ رفض بيعة يزيد بن معاوية وضحّى بنفسه الشريفة في سبيل إيقاظ شعور الأمة وإبقاء راية الإسلام خفاقة عالية.

ـ عاش سبعاً وخمسين سنة وخمسة أشهر، كان مع الرسول (صلى الله عليه وآله) سبع سنين، ومع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) سبعاً وثلاثين سنة، ومع أخيه الحسن سبعاً وأربعين سنة، وكانت مدة إمامته الشرعية للأمة الإسلامية عشر سنين وأشهراً(1).

ـ استشهد (عليه السلام) في يوم عاشوراء من شهر محرم الحرام سنة إحدى وستين من الهجرة (10 / محرم / 61 هـ)(2).

قال السيوطي في «تاريخ الخلفاء»: «ولما قتل الحسين مكثت الدنيا سبعة أيام والشمس على الحيطان كالملاحف المعصفرة، والكواكب يضرب بعضها بعضاً، وكان قتله يوم عاشوراء، وكسفت الشمس ذلك اليوم واحمرّت آفاق السماء ستة أشهر بعد قتله، ثم لا زالت الحمرة ترى فيها بعد ذلك ولم تكن ترى فيها قبله. وقيل: إنه لم يقلب حجر بيت المقدس يومئذ إلاّ وجد تحته دم عبيط، وصار الورس الذي في عسكرهم رماداً، ونحروا ناقة في عسكرهم فكانوا يرون في لحمها مثل النيران، وطبخوها فصارت مثل العلقم، وتكلّم رجل في الحسين بكلمة، فرماه الله بكوكبين من السماء فطمس بصره»(3).

ـ قبره في كربلاء المقدسة معروف مشهور يُزار يؤمّه الآلاف من

____________

(1) انظر «إعلام الورى» للطبرسي: 1/420، مؤسسة آل البيت.

(2) المصدر نفسه.

(3) تاريخ الخلفاء: 160، ترجمة يزيد بن معاوية، دار الكتاب العربي.


الصفحة 143
المسلمين من مختلف مناطق العالم الإسلامي.

فضائل الحسنين في القرآن الكريم

حيث أنّ غرض الكتاب لم يكن منصبـّاً على ذكر فضائل أهل البيت أو استقصائها لذا سنقتصر على نماذج مختصرة مما ورد في حقهما من الآيات القرآنية ونترك التفصيل لمظانّه:

الفضيلة الأولى:

قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}(1).

وهذهِ هي الآية الموسومة بآية التطهير، وتقدّم البحث عنها في الفصل الأول بما يناسب المقام، وعرفنا أنهّا شاملة للحسن والحسين، عليهما السلام فلا نعيد ولا نكرر الكلام.

الفضيلة الثانية:

قوله تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ}(2).

وهذه هي الآية الموسومة بآية المباهلة، وهي مثل أختها المتقدمة، سبرنا أغوارها، وأنهينا الكلام عن غاياتها، ومقاصدها في الفصل الأول بما يتناسب والمقام، وعرفنا هناك أنّ النبي محمّداً (صلى الله عليه وآله) خرج إلى مباهلة نصارى نجران بمعيـّة علي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام)، فهم صفوة الأمة وخلاصتها

____________

(1) الأحزاب: 33.

(2) آل عمران: 61.


الصفحة 144
ومدار رحاها، وأشرنا هناك إلى أنّ الحسنين بنص القرآن كانا ولدي رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فراجع.

الفضيلة الثالثة:

قوله تعالى: {قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}(1).

وهذه هي الآية الموسومة بآية المودة، وهي دالّة على وجوب محبة آل البيت (عليهم السلام)، وتقدّم ذكرها والكلام عنها في الفصل الأول، وعرفنا شمولها للحسن والحسين عليهما السلام فلا نعيد.

فهذهِ ثلاث آيات باهرات في فضل الحسنين عليهما السلام كلها تقدّم ذكرها، وبها غنًى وكفاية لمعرفة مقامهما وشرفهما عند الله سبحانه وتعالى، ولكن لا بأس أنْ نتبرك هنا بذكر آية رابعة، مشتملة على معانٍ عديدة من فضائل أهل البيت (عليهم السلام)؛ نوردها بعنوان الفضيلة الرابعة:

الفضيلة الرابعة:

قوله سبحانه وتعالى في سورة الإنسان: { إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء ولا شُكُورًا}(2)، الآيات.

جاءت الأخبار بأنّ هذهِ الآيات المباركة نزلت في علي، وفاطمة، والحسن

____________

(1) الشورى: 23.

(2) سورة الإنسان: 5 ـ 9.


الصفحة 145
والحسين (عليهم السلام) في قصة طويلة مجملها ما أورده الزمخشري في تفسيره عن ابن عباس قال: «إن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن، لو نذرت على ولدك، فنذر عليٌ وفاطمة وفضة جارية لهما إن برآ مما بهما أنْ يصوموا ثلاثة أيّام، فشفيا وما معهم شيء فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعاً واختبزت خمسة أقراص على عددهم فوضعوها بين أيديهم ليفطروا فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة، فآثروه، وباتوا لم يذوقوا إلاّ الماء، وأصبحوا صياماً، فلمّا أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك، فلمّا أصبحوا أخذ علي رضي الله عنه بيد الحسن والحسين، وأقبلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما أبصرهم، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشدّ ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها وغارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمّد، هنّأك الله في أهل بيتك فأقرأه السورة»(1).

وقد أخرج الخبر مفصلاً الثعلبي في تفسيره «الكشف والبيان»(2).

ومختصراً ابن الأثير الجزري في «أُسد الغابة»(3).

____________

(1) تفسير الكشاف: 4/670.

(2) الكشف والبيان: 10/98 ـ 101، تفسير سورة الإنسان.

(3) أُسد الغابة: 7/256، ترجمة فضة النوبية.


الصفحة 146
كما أخرج الخبر من طرق كثيرة الحاكم الحسكاني في «شواهد التنزيل» عن ثلاثة من الصحابة وهم علي بن أبي طالب (عليه السلام) وابن عباس وزيد بن أرقم(1)، وقال بعد ذلك: «قلتُ: اعترض بعض النواصب على هذهِ القصة بأنْ قال: اتفق أهل التفسير على أنّ هذه السورة مكيّة، وهذه القصة كانت بالمدينة ـ إنْ كانت ـ فكيف كانت سبب نزول السورة، وبان بهذا أنّها مخترعة!!

قلتُ: كيف يسوّغ له دعوى الإجماع مع قول الأكثر أنها مدنية!!» ثم شرع في إثبات كون هذه السورة مدنية(2).

وأخرج القصة مفصلة سبط ابن الجوزي في «تذكرة الخواص»، مصححاً لها رادّاً على جدّه أبي الفرج ابن الجوزي، مبيناً في أكثر من موضع، أنّ جدّه يرتضي هذه القصة أيضاً، فإليك قارئي الكريم، تمام ما قاله سبط ابن الجوزي:

«ذكر إيثارهم بالطعام:

قال علماء التأويل فيهم نزل قوله تعالى {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً} الآيات.

أنبأنا أبو المجد محمد بن أبي المكارم القزويني بدمشق سنة اثنتين وعشرين وستمائة قال أنبأنا أبو منصور محمد بن أسعد بن محمد العطاري أنبأنا الحسين بن مسعود البغوي أنبأنا أحمد بن إبراهيم الخوارزمي أنبأنا أبو

____________

(1) انظر «شواهد التنزيل»: 2/298 ـ 310، وستجد هناك القصة مفصلة تارة، ومختصرة أخرى وبطرق متكاثرة. والحسكاني كما قال الذهبي: «شيخ متقن ذو عناية تامة بعلم الحديث» انظر: «تذكرة الحفاظ»: 3/ 1200، مكتبة الحرم المكي.

(2) شواهد التنزيل: 2/310 ـ 315.


الصفحة 147
إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي أنبأنا عبد الله بن حامد أنبأنا أبو محمد أحمد بن عبد الله المزني حدثنا محمّد بن أحمد بن سهيل الباهلي حدثنا عبد الرحمان بن محمّد بن هلال حدثني القاسم بن يحيى عن أبي علي العزي عن محمّد بن السايب عن أبي صالح عن ابن عباس؛ ورواه أيضاً مجاهد عن ابن عباس قال في قوله تعالى { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} الآية، قال مرض الحسن والحسين عليهما السلام فعادهما رسول الله (ص) ومعه أبو بكر وعمر (رض) وعادهما عامة العرب فقالوا يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذراً فكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء فقال علي (ع) لله إن برأ ولداي مما بهما صمت لله ثلاثة أيام شكراً وقالت فاطمة كذلك وقالت الجارية يقال لها فضة كذلك فألبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير فانطلق علي (ع) إلى سمعون بن حانا اليهودي فاستقرض منه ثلاثة أصواع من شعير فجاء به إلى فاطمة فقامت إلى صاع فطحنته وخبزته خمسة أقراص لكل واحد منهم قرص وصلّى علي (ع) المغرب مع النبي (ص) ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين أيديهم فجاء سائل أو مسكين فوقف على الباب وقال السلام عليكم يا أهل بيت محمّد مسكين من المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنّة فسمعه علي (ع) فقال:


فاطم ذات المجد واليقينيا بنت خير الناس أجمعين
أما ترين البائس المسكينقد قـام بالبـاب له حنين
يـشكو إلى الله ويستكينيـشـكو إلينا جائع حزين
كـل امرئ بكسبه رهينوفـاعل الخيـرات يستبين