الصفحة 415

خاتمة الكتاب


وفيها أمران:

اتضح من البحوث السابقة أن الأمة الإسلامية أجمعت بأسرها على جلالة وعظمة أهل البيت (عليهم السلام)، وقد عرفنا أنّ الآيات والروايات دلّت على وجوب اتباعهم والتمسك بمنهجهم والانتهال من معين نبعهم الثر، كما عرفنا أن كتب أهل السنة قد تناولتهم بالمدح والثناء، بل قرأنا أنّ جملة من علماء أهل السنة فضلاً عن عوامهم كانوا يزورون مراقد أئمة أهل البيت ويتوسلون بهم إلى الله في قضاء حوائجهم(1)، ومن هنا يتبين أنّ لأهل هذا البيت عليهم السلام محورية مميزة في حياة الأمة الإسلامية، وأنّ لهم دوراً مركزياً في إحياء شرعة الحق التي جاء بها النبي محمّد (صلى الله عليه وآله)، ولذا يجدر بنا التنبيه إلى أمرين:

الأمر الأول:

عند مراجعة ما تقدم يتضح جلياً أن لأهل البيت (عليهم السلام) تراثاً علمياً ضخماً ملأ آفاق الدنيا، فقد عرفنا أنّ علياً (عليه السلام) كان باب مدينة علم رسول الله، ووارث علمه(2)، ولا يخفى على القارئ مكانة علي (عليه السلام) العلمية بين الصحابة. قال ابن عباس: «قال عمر: عليٌ أقضانا»، وقال ابن مسعود: «كنّا نتحدث أن أقضى أهل المدينة علي»، وقال ابن المسيّب: «قال عمر: أعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن».

وقال ابن عباس: «إذا حدثنا ثقة بفتيا عن علي لم نتجاوزها»(3).

____________

(1) انظر مثلاً ما تقدم من: قول الشافعي ص271 وأبي علي الخلال ص271 والسمعاني ص273 وابن حبان ص293 والذهبي ص299.

(2) انظر آخر الفصل الأول.

(3) هذهِ الأقوال أرسلها الذهبي إرسال المسلّمات في «تاريخ الإسلام»: وفيات: (11 ـ 40هـ)، ص 638.


الصفحة 416
فعلي (عليه السلام) كان مرجعاً في الفتيا والقضاء وكل ما يتعلق بأمور الدين والدنيا حتى أن سعيد بن المسيّب قال: «لم يكن أحدٌ من الصحابة يقول: «سلوني» إلاّ علي»(1).

لذا فإن الصحابة نهلوا منه الكثير الكثير، قال ابن الأثير ـ بعد أن تحدث عن علم علي (عليه السلام)ـ: «ولو ذكرنا ما سأله الصحابة ـ مثل عمر وغيره رضي الله عنهم ـ لأطلنا»(2).

إذن، فعلم علي (عليه السلام) لا يخفى على أحد، وكذا أولاده الطاهرين من أهل البيت، كلّهم كانوا من أكابر العلماء وأجلتهم، كما عرفت من الكلمات السابقة في حقهم (عليهم السلام)؛ أمّا الحسن والحسين فلا يخفى جلالة قدرهما وعظيم علمهما عند كافة المسلمين، وزين العابدين كان أفضل وأفقه أهل المدينة، والباقر سمي بذلك لأنه بقر العلم بقراً، والصادق كان من أعاظم العلماء، حتى أن أبا حنيفة لم يرَ من هو أفقه منه، وقد نُقل عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان وهكذا الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكري كلّهم كانوا من أجلة العلماء وأكابرهم، وكان بعضهم يفتي في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأما المهدي المنتظر فهو وارث علم النبي والذي سيحكم ويقيم العدل في الأرض، بعد ما ملأها الظلم والجور.

إذن، فأينما تضع يدك فإنك تضعها على كنز من كنوز العلم والمعرفة، فأهل البيت (عليهم السلام) كانوا يحملون العلوم المحمدية المباركة ويفيضون بها على الملأ الإسلامي.

____________

(1) المصدر نفسه: 638.

(2) أُسدُ الغابة: 4/110، دار إحياء التراث العربي.


الصفحة 417
والتساؤل الذي يتأرجح في ذهن كل قارئ هو أينَ تراث أهل البيت في كتب أهل السنة؟! وأينَ فقههم بالذات؟! وهل عملوا به وأخذوا منه؟!

إنّ مراجعة بسيطة لكتبهم الحديثية والفقهية وغيرها تعطيك جواباً جلياً واضحاً وهو: إنّ الأخوة من أهل السنة لم ينهلوا من هذا المنبع العذب الذي أمرنا الرسول بالتمسك به، فلا تجد في طيّات كتبهم إلاّ النزر اليسير مما نسبوه إلى أهل البيت (عليهم السلام)، بل تجد في كلمات بعض علمائهم تحاملاً واضحاً على أهل هذا البيت المبارك، وكأنّ الرسول الأعظم محمداً (صلى الله عليه وآله) لم يوصِ الأمة بهم خيراً.

فها هو القاضي المعروف بابن خلدون المالكي صاحب كتاب التاريخ المعروف بـ «تاريخ ابن خلدون» يتهجم على هذا المذهب المحمدي الأصيل ويصفه بالشذوذ فيقول في تاريخه: «وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقهٍ انفردوا به...»(1).

فما أمر به الرسول يكون شذوذاً عند ابن خلدون؟!!

وما ورثه علي من النبي يكون بدعة؟!!

وفي نفس المضمار تجد ابن تيمية «شيخ الإسلام» يجهد نفسه في سبيل إثبات أنّ الأئمة الأربعة، وسائر فقهاء أهل السنة لم يأخذوا من علي (عليه السلام)، ولا من أولاده الطاهرين، فيقول: «فليس في الأئمة الأربعة ـ ولا غيرهم من أئمة الفقهاء ـ من يرجع إليه [إلى علي] في فقهه؛ أما مالك، فإن علمه عن أهل المدينة، وأهل المدينة لا يكادون يأخذون بقول علي، بل أخذوا فقههم عن

____________

(1) تاريخ ابن خلدون: 1/446.


الصفحة 418
الفقهاء السبعة، عن زيد، وعمر، وابن عمر ونحوهم، أما الشافعي، فإنه تفقه أولاً على المكيين أصحاب ابن جريج كسعيد بن سالم القدّاح، ومسلم بن خالد الزنجي، وابن جريج أخذ ذلك عن أصحاب ابن عباس، كعطاء وغيره، وابن عباس كان مجتهداً مستقلاً، وكان إذا أفتى بقول الصحابة أفتى بقول أبي بكر وعمر، لا بقول علي، وكان ينكر على علي أشياء.

ثم إنّ الشافعي أخذ عن مالك، ثم كتب كُتب أهل العراق، وأخذ مذاهب أهل الحديث، واختار لنفسه.

وأما أبو حنيفة، فشيخه الذي اختص به حمّاد بن أبي سليمان وحمّاد عن إبراهيم، وإبراهيم عن علقمة، وعلقمة عن ابن مسعود، وقد أخذ أبو حنيفة عن عطاء وغيره.

وأما الإمام أحمد فكان على مذهب أهل الحديث، أخذ عن ابن عيينة، وابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس وابن عمر، وأخذ عن هشام بن بشير وهشام عن أصحاب الحسن وإبراهيم النخعي وأخذ عن عبد الرحمان بن مهدي ووكيع بن الجراح وأمثالهما، وجالس الشافعي، وأخذ عن أبي يوسف واختار لنفسه قولاً، وكذلك إسحاق بن راهويه وأبو عبيد ونحوهم، والأوزاعي والليث أكثر فقههما عن أهل المدينة وأمثالهم لا عن الكوفيين».

وأضاف بعد أسطر قليلة: «فهذا موطأ مالك ليس فيه عنه ولا عن أحد أولاده إلا قليل جداً، وجمهور ما فيه عن غيرهم، فيه عن جعفر تسعة أحاديث، ولم يرو مالك عن أحد من ذريته إلا عن جعفر، وكذلك الأحاديث التي في الصحاح والسنن والمسانيد منها قليل عن ولده وجمهور ما فيها عن

الصفحة 419
غيرهم»(1).

هكذا أنهك شيخ الإسلام نفسه في إثبات أنّ أهل السنّة لم يأخذوا من أئمة أهل البيت، وغفل ابن تيمية عن أنّ ذاك لا يُعدّ منقصة على أهل البيت، بل هو منقصة عظيمة على أولئك الفقهاء الذين خلّفوا وصية رسول الله وراء ظهورهم، فإن كلام ابن تيمية يعني أن جمهرة الفقهاء خالفوا وصية الرسول الأكرم في التمسك بالثقلين الكتاب والعترة، ولم يدخلوا إلى مدينة علم النبي من بابها الذي وضعه الله لها، ولم يرتضعوا علماً ورثه علي (عليه السلام) من الرسول الأكرم محمّد (صلى الله عليه وآله).

إذن، فعلماء أهل السنّة لم يتمسكوا بأهلِ البيت (عليهم السلام)، ولم يضموا بين دفات كتبهم إلا النزر اليسير من تراثهم!!

بل إنّ الإمام البخاري احتج في كتبه بالخوارج والنواصب المبغضين لعلي بن أبي طالب؛ أمثال عمران بن حطان السدوسي، الذي كان من رؤوس الخوارج(2)، وهو المادح عبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله:


يا ضربة من تقي ما أراد بهاإلا ليبلُغ من ذي العرش رضوانا
إنّي لأذكـره حـيناً فأحسبُهُأوفــى البرية عند الله ميزانا(3)

!!!!

____________

(1) منهاج السنة: 7/529 ـ 531، بتحقيق الدكتور محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى.

(2) سير أعلام النبلاء: 4/214، مؤسسة الرسالة.

(3) المصدر نفسه: 4/215.


الصفحة 420
وأمثال حريز بن عثمان الرحبي الناصبي(1)، المشهور الذي كان يلعن علي بن أبي طالب بالغداة سبعين مرة وبالعشي سبعين مرة، كما نقل ذلك ابن حبان(2).

وهكذا فالبخاري يروي عن الكثير من أمثال هؤلاء، لكنه أبى أنْ يُخرّج عن الإمام الصادق في صحيحه(3)، مع أن الصادق من أكابر علماء أهل البيت، ومجمع على جلالة قدره!!!

هذا هو التنبيه الأول الذي أحببنا التنويه إليه، فعلى كلّ طالب للحقيقة الالتفات إلى هذا الأمر المهم، والنظر إليه بعين الإنصاف، بعيداً عن قيود الموروث الذي كبّل الأفكار عن الانطلاق في عالم النور.

الأمر الثاني:

إنّ السيرة العملية للكثير من علماء أهل السنة تتسم بالابتعاد عن أهل البيت (عليهم السلام)، فمضافاً إلى أنّهم لم ينهلوا من علوم أهل البيت عليهم السلام تلاحظهم ينأون بأنفسهم بعيداً عنهم، حتى ولو استلزم ذلك مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله)!!!

فقد صحّت الروايات في كتبهم الحديثية أنّ كيفية الصلاة الصحيحة على النبي التي علّمها النبي أصحابه هي بضميمة الصلاة على الآل(4)، لكنك ترى

____________

(1) الناصبي هو المبغض والمعادي لعلي، وأهل البيت (عليهم السلام) وهو منافق بنص قول النبي (صلى الله عليه وآله) المتفق على صحته بين الشيعة والسنة وهو: «يا علي لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» وقد تقدم ذكره، انظر للاطلاع: «صحيح مسلم»: 1/61، دار الفكر.

(2) انظر «تهذيب التهذيب»: 2/222، دار الفكر.

(3) انظر «سير أعلام النبلاء»: 6/269، مؤسسة الرسالة.

(4) انظر «صحيح مسلم»: 1/305، دار الفكر، وقد تقدم ذكر بعض مصادر الحديث في الفصل الأول عند ذكر فضائل علي الخاصة «الحديث السادس».


الصفحة 421
أنّ السواد الأعظم من علمائهم لا يقرن الصلاة على النبي بالصلاة على الآل، وهذهِ كتب أهل السنّة في متناول الأيدي، وكل قارئ يمكنه المراجعة ليرى ذلك بوضوح، فلماذا تترك الصلاة على الآل؟! وهل هناك ما يبرر مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله)؟!

أضف إلى ذلك التغييب المتعمّد لأهل البيت (عليهم السلام) في الحياة العملية، فلا تجد في خطبهم، ومحاضراتهم، ومواعظهم ما يتعلق بأهل البيت (عليهم السلام) حتى أدّى ذلك إلى غياب هذهِ النخبة الطاهرة عن أذهان مثقفي الأمة الإسلامية، من الطلبة والأساتذة وأصحاب الشهادات، فإنه من المؤسف أنهم لا يعرفون من هو زين العابدين ومن هو الباقر ومن هو الصادق وهكذا؛ لأنهم لم يعتادوا من علمائهم سماع هذهِ الأسماء المباركة، مع ادّعاء علمائهم محبة آل البيت (عليهم السلام)؟!!.

يقول العلاّمة السقاف أحد علماء أهل السنّة المعاصرين: «وقد نصّ على محبة العترة جمهور أهل السنة والجماعة، لكنّها بقيت مسألة نظرية لم يطبقها كثيرون، فهي مفقودة حقيقة في أرض الواقع، وهذا مما يؤسف له جدُّ الأسف. وقد حاول النواصب وهم المبغضون لسيدنا علي رضوان الله عليه ولذريته ـ وهم عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم الأطهار ـ أنْ يصرفوا الناس عن محبة آل البيت التي هي قربة من القرب، فوضعوا أحاديث في ذلك وبنوا عليها أقوالاً فاسدة منها: أنهم وضعوا حديث «آل محمد كل تقي» و «أنا جد كل تقي» ونحو هذه الأحاديث التي هي كذب من موضوعات أعداء

الصفحة 422
أهل البيت النبوي»(1).

كما أنهم يكتمون ما أمر الله به أن يعلم، فيذكرون من على منابرهم حديث الثقلين بلفظ وسنتي، ولا يتطرقون إلى حديث الثقلين بلفظ وعترتي مع أن هذا الأخير حديث صحيح السند، تقدمت منّا بعض طرقه، أما حديث وسنتي فهو ضعيف السند، بل موضوع، وقد تقدم كلام السقاف حوله.

وحول كتمان علماء أهل السنة لحديث الثقلين بلفظ وعترتي يقول العالم الوهابي المعروف محمد علي البار في كتابه «الإمام علي الرضا ورسالته الطبية» تحت عنوان (حديث الثقلين) بعد ذكر حديث الثقلين بلفظ وعترتي: «والغريب حقاً أن حديث الثقلين هذا، رغم وروده في صحيح مسلم، وفي سنن الترمذي و... إلاّ أن معظم المعاصرين من العلماء والخطباء يجهله، أو يتجاهله ويوردون بدلاً عنه حديث: «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي»، وهي في موطأ الإمام مالك، وفي سنده ضعف وانقطاع وإن كان متنه ومعناه صحيحاً، وكان من الواجب إيراد الحديثين كلاهما معاً لأهميتهما في الباب، أما كتمان هذا الحديث الشريف الصحيح فهو من كتمان العلم الذي هدد الله ورسوله فاعله...».

وليت الأمر وقف عند ذلك بل تعدّاه إلى محاربة فضائلهم وتضعيفها والعمل على الحدّ منها بمختلف الأساليب، ومنها إغراء ناشريها بالأموال، أو تهديدهم بالقتل وما شابهه، وفي ذلك يقول العالم السني السعودي حسن بن

____________

(1) صحيح شرح العقيدة الطحاوية: 656، دار الإمام النووي.


الصفحة 423
فرحان المالكي: «ولكن الذي يهمنا هنا أنْ نبيّن بانصاف أنّ فضائل علي حوربت من بعده وطورد ناشروها، وقتل بعضهم وكان لعلماء الشام والبصرة نفور من الشيعة بمباركة من السلطة الأموية ثم العباسية»(1)، ويذكر في محل ثانٍ كلمات ابن حجر في الرد على ابن تيمية الذي كان يجهد نفسه في تضعيف فضائل علي (عليه السلام) ويعلّق عليها فيقول: «يقول ابن حجر العسقلاني: (طالعتُ كتاب ابن تيمية في الرد على الرافضي فوجدته شديد التحامل في رد أحاديث جياد...) وهي تلك الأحاديث التي في فضل علي!! فقد كان متحاملاً عليها كثيراً، وقد بيـّن ذلك الألباني أفضل بيان في السلسلة الصحيحة(2)، وذكر ابن حجر في لسان الميزان أنه: (كم من موطن بالغ ابن تيمية فيه في الردّ على الرافضي أدته إلى تنقص علي رضي الله عنه!!) فلذلك نشأنا هنا في الخليج عامة وفي المملكة خاصة على أنّ الشيعة فيهم معظم صفات اليهود والنصارى وأنهم أسوأ من اليهود والنصارى بخصلتين!! حتى طبعت في ذلك الكتب ونوقشت الرسائل العلمية!! مع أنّ كل هذا أخذناه من ابن تيمية في مقدمة منهاج السنة معتمداً على رواية مكذوبة من رواية أحد الكذابين واسمه عبد الرحمن بن مالك بن مغول رواها عن والده عن الشعبي وهما بريئان من تلك الرواية»(3).

ومن أمثلة محاربة فضائل علي (عليه السلام)، أيضاً ما قام به الليث بن سعد عالم

____________

(1) قراءة في كتب العقائد: المذهب الحنبلي نموذجاً: 81، مركز الدراسات التاريخية، عمّان الأردن.

(2) انظر كلامه على حديث الموالاة، وقد تقدّم منا عند ذكر الحديث.

(3) قراءة في كتب العقائد: المذهب الحنبلي نموذجاً: 177.


الصفحة 424
مصر وفقيهها، حيثُ كان معاصراً لعبد الله بن لهيعة وعبد الله هذا من بحور العلم؛ إلا أنه كان يكثر من فضائل علي (عليه السلام) فكان هذا جرماً له ليُضعف على أساسه ويكون من الضعفاء أو ممن يروي المناكير!!

يقول الذهبي في ترجمة عبد الله: «عبد الله بن لهيعة بن عقبة بن فرعان بن ربيعة بن ثوبان، القاضي الإمام العلاّمة محدّث ديار مصر مع الليث،...» إلى أن يقول: «كان من بحور العلم على لين في حديثه»، ويقول أيضاً «قال أحمد بن حنبل: من كان مثل ابن لهيعة بمصر، في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه»... «وقال أبو داود: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: ما كان محدّث مصر إلا ابن لهيعة، وقال أحمد بن صالح: كان ابن لهيعة صحيح الكتاب طلاّباً للعلم، وقال زيد بن الحباب: قال سفيان الثوري: عند ابن لهيعة الأصول وعندنا الفروع.

وقال عثمان بن صالح السهمي: احترقت دار ابن لهيعة، وكتبه وسلمت أصوله، كتبتُ كتاب عمارة بن غزية من أصله. ولمّا مات ابن لهيعة قال الليث: ما خُلّف مثله».

ثم أضاف الذهبي قائلاً: «لا ريب أنّ ابن لهيعة كان عالم الديار المصرية، هو والليث معاً، كما كان الإمام مالك في ذلك العصر عالم المدينة، والأوزاعي عالم الشام، ومعمر عالم اليمن، وشعبة والثوري عالما العراق، وإبراهيم بن طهمان عالم خراسان»، وكما قلنا فإن ابن لهيعة كان يكثر من فضائل علي، فكتب على نفسه أن يكون من الضعفاء، أو ممن يروي المناكير؛ لذا أضاف الذهبي قائلاً: «ولكنّ ابن لهيعة تهاون بالاتقان، وروى مناكير فانحط عن رتبة الاحتجاج عندهم»(1)!! لكن المتتبع يعرف أنّ ابن لهيعة لم يحتج به لأنه يروي

____________

(1) سير أعلام النبلاء: 8/ 11 ـ 14، مؤسسة الرسالة.


الصفحة 425
فضائل علي (عليه السلام)، وفعل الليث الذي سنذكره شاهد على ذلك.

فإن الليث بن سعد(1)، لم يحتمل كثرة الرواية من عبد الله بن لهيعة في فضل علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلمّا احترقت دار عبد الله بعث إليه بألف دينار طالباً منه ترك الرواية في فضائل علي (عليه السلام)!!، فقد قال ابن زولاق في «فضائل مصر»: «كان الليث بن سعد فقيه مصر، لمّا أحرقت دار عبد الله بن لهيعة، أرسل إليه الليث بألف دينار وقال: استعن بهذهِ واعفنا من فضائل علي بن أبي طالب، فأخذها عبد الله بن لهيعة وانفذ إليه حديثاً من فضائل علي رضي الله عنه ليغيظ به الليث»(2).

إذن فضائل علي حوربت بشتى الأساليب، وأمثلة ذلك وشواهده كثيرة ليس غرضنا بحثها واستقصاءها، بل أحببنا أن ننـبّه القارئ الكريم إلى أنّه وإن وجد مديح لأهل البيت (عليهم السلام) في كتب أهل السنة إلاّ أن هذا المديح قد فرّغ من محتواه وبقي مسألة نظرية في بطون الكتب ليس له من الواقع نصيب.

لذا ندعو كل ضمير حي، وكل قلب متعطش لمعرفة الحقيقة أن يراجع متبنياته القَبلية، وأنْ يبحث في التراث الإسلامي بصدر واسع رحب بعيداً عن التعصب الفئوي، والتقيـّد بأطر الفكر الموروث، ومِنْ ثم ليتّبع ما تمليه عليه

____________

(1) قال عنه الذهبي: «الليث بن سعد الإمام الحافظ شيخ الديار المصرية وعالمها ورئيسها.. وكان كبير الديار المصرية وعالمها الأنبل حتى أن نائب مصر وقاضيها من تحت أوامره وإذا رابه من أحد منهم أمر كاتب فيه الخليفة فيعزله.. كان الشافعي يتأسف على فواته وكان يقول هو أفقه من مالك إلا أن أصحابه لم يقوموا به...» «تذكرة الحفاظ»: 1/224، مكتبة الحرم المكي.

(2) فضائل مصر وأخبارها وخواصها لابن زولاق: 48، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة.


الصفحة 426
الأصول الحقة، وما يوصله له اجتهاده المنطقي المبتني على الأسس الصحيحة، والله هو الهادي إلى سبيل الرشاد. وما التوفيق إلاّ من عند الله.


والحمد لله ربّ العالمين.