مقدّمة التحقيق
بعد سقوط النظام البعثي في العراق، سعى مركز الأبحاث العقائديّة ـ الذي أُنشئ بمباركة ودعم سماحة المرجع الديني الأعلى زعيم الحوزة العلميّة آية اللّه العظمى السيّد علي الحسيني السيستاني دام ظلّه الوارف، وبإشراف الأخ الكريم سماحة حجّة الإسلام والمسلمين السيّد جواد الشهرستاني ـ إلى إعادة الروح في مكتبات العتبات المقدّسة في العراق، والتي قضى عليها وأبادها النظام البعثي الجائر.
فكان أوّلها مكتبة الروضة الحيدرية في النجف الأشرف، ومكتبة الروضة الحسينيّة ومكتبة الروضة العبّاسية في كربلاء المقدّسة، إذ قام المركز بتجهيز هذه المكتبات بكلّ ما تحتاج إليها من: كتب، وأجهزة كومبيوتر، ومقاعد، ومناضد، وقفصات لحفظ الكتب، وسجّاد، وغيرها.
ولم يكتفِ المركز بذلك، بل ظلّ طيلة هذه السنوات يدعم هذه المكتبات بما تحتاجه وحسب الإمكانات المتوفّرة لديه.
ومن أجل دعم الحركة العلميّة في هذه المكتبات قام المركز بإحياء مجموعة من الكتب وطبعها بالتعاون مع المسؤولين فيها، منها هذا الكتاب الماثل بين أيدينا، والذي قمنا بتحقيقه وطبعه في فترة قصيرة جدّاً ليحمل الرقم الأوّل من إصدارات مكتبة الروضة العبّاسية، ويوزّع في افتتاح هذه المكتبة المباركة في أوائل شعبان سنة 1427 هـ.
المؤلّف
هو السيّد عبد الرزاق بن محمّد بن عباس بن حسن بن قاسم بن حسون المقرّم الموسوي الدغاري النجفي، أصل أُسرته من مدينة الحسكة، وقد هاجر جدّه الأعلى قاسم بن حسون إلى مدينة النجف الأشرف.
ولد في مدينة النجف الأشرف سنة 1316 هـ = 1898 م، وترعرع في أحضان جدّه الذي تولّى تربيته وتعليمه، وما أن بلغ سنّ الرشد حتّى شرع في دراسته علوم آل محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مدينة باب علمه النجف الأشرف، وحضر عند كبار علماء عصره مثل:
العلاّمة الشيخ محمّد جواد البلاغي (ت 1352 هـ).
والميرزا حسين النائيني (ت 1355 هـ).
والشيخ محمّد حسين الأصفهاني (1361 هـ).
والشيخ ضياء الدين العراقي (1361 هـ).
والسيّد أبو الحسن الأصفهاني (1365 هـ).
والسيّد أبو القاسم الخوئي (ت 1413 هـ).
وذكر الشيخ محمّد حسين حرز الدين، حفيد الشيخ محمّد حرز الدين (ت 1365 هـ) في تعليقه على كتاب جدّه " معارف الرجال ": أنّ السيّد المقرّم كان من المجازين في الرواية من الشيخ
كان (رحمه الله) يعقد مجالس عزاء الإمام الحسين (عليه السلام) في داره ويقرأ التعزية بنفسه، ويحضر مجلسه هذا كبار العلماء والفضلاء، وفي مقدّمتهم المرجع الديني السيّد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله).
ذكره الشيخ محمّد هادي الأميني (ت 1421 هـ) قائلاً: " عالم متتبّع، ومجتهد محقّق، متضلّع في الفقه المقارن والتأريخ الإسلامي، مؤلّف مكثر، له كتب "(2).
ومدحه وأطراه السيّد محمّد الغروي إذ قال: " عالم كامل، ومجتهد متتبّع، مؤرّخ، محقّق،... كان على جانب كبير من الورع والتقوى والتفاني في حبّ أهل البيت الطاهرين (عليهم السلام) والتمسّك بحبل مودّتهم، خشناً في ذات اللّه، لا تأخذه فيه لومة لائم، بعيداً عن التكلّف والتصنّع والرياء، وكانت له خزانة كتب قيّمة، كما كانت داره ندوة الأفاضل والعلماء ومجمع الخطباء والمؤمنين، يتجنّب التدخّل في قضايا خارجة عن نطاق عقيدته ودينه، ولم تستهوه الحياة وزخارفها. كان يقرأ مقتل الإمام السبط الشهيد (عليه السلام) كلّ يوم عاشوراء في حسينية النجفيين في كربلاء المقدّسة منذ طلوع الشمس إلى الظهر مع البكاء والعويل "(3).
وقد عُرف السيّد المقرّم بكثرة تآليفه القيّمة، والتي أكثرها في حياة أهل البيت (عليهم السلام)، منها ما هو مطبوع، ومنها لازال خطيّاً لم ير النور لحدّ الآن، نذكرها مرتّبة حسب الحروف الألفبائية:
____________
(1) معارف الرجال 2: 188 " الهامش ".
(2) معجم رجال الفكر والأدب: 1231.
(3) مع علماء النجف الأشرف 2: 231.
(2) الإمام الجواد (عليه السلام)، طبع سنة 1371 هـ.
(3) الإمام الرضا (عليه السلام)، طبع بدون تأريخ.
(4) أُرجوزة " الأنوار القدسيّة " في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته (عليهم السلام).
(5) تعليقة في الفقه المقارن على المحاضرات في الفقه الجعفري.
(6) تنزيه المختار الثقفي، طبع سنة 1356 هـ.
(7) ثامن شوّال، في حوادث هدم القبور بالبقيع وأحوال الوهابية.
(8) الحسن المجتبى (عليه السلام).
(9) زيد الشهيد، طبع سنة 1371 هـ.
(10) زينب بنت أمير المؤمنين (عليه السلام).
(11) سرّ الإيمان في الشهادة الثالثة في الأذان، طبع سنة 1374 هـ.
(12) السيّدة سكينة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)، طبع سنة 1378 هـ.
(13) الشهيد مسلم بن عقيل، طبع سنة 1369 هـ.
(14) الصدّيقة الزهراء (عليها السلام)، طبع في النجف سنة 1370 هـ.
(15) عاشوراء في الإسلام.
(16) العبّاس [بن علي (عليه السلام)].
(17) علي الأكبر ابن الإمام الحسين (عليه السلام)، طبع سنة 1367 هـ.
(19) قداسة ميثم التمّار.
(20) قمر بني هاشم، طبع سنة 1369 هـ.
(21) الكشكول في ما جرى على آل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
(22) الكنى والألقاب، مخطوط.
(23) ليلة عاشوراء عند الحسين (عليه السلام).
(24) مقتل الحسين (عليه السلام) وحديث كربلاء، وهو أشهر كتبه، طبع عدّة مرات، وتُرجم إلى اللغة الانكليزية.
(25) المقداد الكندي.
(26) نقد التأريخ.
(27) يوم الأربعين، طبع سنة 1377 هـ.
وقد توفّي السيّد المقرّم في مدينة النجف الأشرف في السابع عشر من محرم الحرام سنة 1391 هـ الموافق 1971 م، بعد عمر قضاه في خدمة الدين الإسلامي الحنيف ومذهب أهل البيت (عليهم السلام)، فرحمه اللّه تعالى، وأسكنه مع الأئمة الطاهرين (عليهم السلام).
هذا الكتاب
حينما أعلمنا مسؤول مكتبة الروضة الحسينية والروضة العبّاسية الأخ العزيز سماحة حجّة الإسلام الشيخ علي الفتلاوي، بقرب افتتاح مكتبة الروضة العبّاسية، بعد تهيئة مستلزماتها، فكّرت بطبع كتاب عن العبّاس (عليه السلام) يكون باكورة أعمال هذه المكتبة المباركة.
وقد واجهنا في تحقيقه بعض المصاعب; لأنّ المؤلّف لم ينقل نصوصه من نفس المصادر، بل اعتمد على محفوظاته، لذلك شاهدنا اختلافاً بين نصوص الكتاب ومصادرها، فحاولنا قدر الإمكان تصحيحها وجعلها مطابقة للمصادر.
إضافة لذلك فإنّا شاهدنا أنّ هذا الكتاب طبع عدّة مرّات وبأسماء متعدّدة هي: " العبّاس (عليه السلام) "، " العبّاس بن علي (عليه السلام) "، " العبّاس بن أمير المؤمنين (عليه السلام) "، " حياة العبّاس بن علي (عليه السلام) "، " قمر بني هاشم (عليه السلام) ".
وبعد التتبّع ظهر لنا أنّ الأسماء الأربعة الأُولى كلّها مسمّيات لكتاب واحد، وضعها الناشرون لها; لعدم بيان المؤلّف اسم كتابه هذا، لا في أوّله، ولا في آخره.
أمّا الكتاب الأخير " قمر بني هاشم " فهو كتاب آخر، أي أنّ للسيّد المقرّم كتابين عن العبّاس (عليه السلام)، ألّف أوّلاً كتاب " قمر بني هاشم "، ثمّ ألّف كتابه الآخر " العبّاس (عليه السلام) "، إذ أضاف في كتابه الأخير بعض الفصول لم تكن موجودة في كتابه الأوّل، وغيّر بعض عناوينه، لذلك فالكتاب الأخير أكبر من الأوّل، وبينهما عموم وخصوص مطلق.
وقد ذكر المتتبّع أقا بزرك الطهراني هذين الكتابين مشيراً إلى عدد صفحاتهما، فقال:
" قمر بني هاشم "، طبع في 176 صفحة(2).
وقد وقفنا على الطبعة الأُولى للكتاب الأوّل " قمر بني هاشم " الذي قامت بطبعه سنة 1369 هـ المطبعة الحيدريّة في النجف الأشرف، وطبعته في قم أيضاً سنة 1414 هـ بالتصوير على الطبعة الأولى.
أمّا الكتاب الثاني فقد طبع عدّة طبعات، شاهدنا منها طبعة دار الأضواء في بيروت باسم " العبّاس بن علي "، وطبعة مكتبة الشريف الرضي في قم المقدّسة، وهي بدون تأريخ وباسم " العبّاس (عليه السلام) "، وهذه الطبعة هي التي اعتمدنا عليها في تحقيق ونشر هذا الكتاب.
فقد قمنا بتصحيح الكتاب قدر المستطاع، واستخراج ما يحتاج إلى تخريج من: آيات قرآنيّة كريمة، وأحاديث شريفة، وأقوال العلماء المختلفة، كلّ ذلك من المصادر الرئيسيّة لها المتوفّرة لدينا.
شكر وتقدير
ختاماً نتقدّم بجزيل الشكر والتقدير لكلّ الاخوة والأخوات الذين ساهموا في إخراج هذا الكتاب بحلّته القشيبة هذه، ونخصّ بالذكر الأخ العزيز المحقّق الأُستاذ الشيخ لؤي المنصوري الذي
____________
(1) الذريعة 7: 121/641.
(2) الذريعة 17: 167/883.
سيّدي ومولاي يا أبا الفضل، يا حامي الحمى، ويا باب الحوائج، ويا ساقي العطاشا، إنّا قمنا بإحياء هذا الكتاب المتعلّق بك، رجاءً منّا أن تحمينا وأهلنا من كلّ مكروه، وتقضي حوائجنا، وتسقينا وتشفع لنا يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، اللهمّ اجعله في ميزان أعمالنا، إنّك أنت الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيّنا ومقتدانا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، آمين ربّ العالمين.
محمّـد الحسّـون
يوم مولد الصدّيقة الزهراء (عليها السلام) 1427هـ
site.aqaed.com/Mohammad
muhammad@aqaed.com
حمداً لك اللهمّ، وصلاة على خاتم أنبيائك وخلفائه المعصومين، ورضىً بقضائك وتقديرك بأوليائك الذين تحمّلوا المشاقّ في إحياء شرعك الأقدس، فقابلوا الأخطار بكلّ طلاقة وبشاشة حتّى كرعوا حياض المَنون، وانتهلت من دمائهم الزاكية بيض الصفاح، وأمسوا بجوارك متلفّعين بالبرود القانية....
فسلاماً على أرواحهم الطاهرة، وأشلائهم المقطّعة في سبيل مرضاتك ياربَّ العالمين.
مقدّمة
إنّ للنسب مكانةً كبرى في شتّى النواحي، فليس من المستنكر دخله في تهذيب الأخلاق، فإنّ الإنسان مهما كان مولعاً بالشهوات مستهتراً ماجناً، إذا عرف أنّ له سلفاً مجيداً، وأنّ من ينتمي إليهم أُناس مبجّلون ـ كما هو الشأن في جلّ البشر، إن لم نقل كلهم ـ لا يروقه أن يرتكب ما يشوّه سمعتهم، وإنّما يكون جلّ مسعاه أن يكون خلقاً صالحاً لهم، يجدّد ذكرياتهم، ويخلّد ذكرهم الجميل بالتلفّع بمكارم الأخلاق.
ولقد جعل اللّه تعالى أبناء آدم (عليه السلام) شعوباً وقبائل ليتعارفوا(1)، فتشتبك الأواصر، وتتواصل الأرحام، ويحمى الجوار بالتساند والمؤازرة، ويعرفهم من عداهم كتلة واحدة، فيهاب جانبهم ولا تخفر ذمتهم، فيسود بذلك السلام والوئام، ومن هنا نشاهد المردة من قوم شعيب قالوا له لما عتوا عن أمره: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ }(2).
فإذن يكون في مشتبك الأواصر مناخ العزّ ومأوى الهيبة كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن: " وأكرم عشيرتك، فإنّهم جناحُك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها
____________
(1) (خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات: 13.
(2) هود: 91.
ولقد جاء في الشريعة المقدّسة أحكام منوطة بمعرفة الأنساب خاصّة أو عامّة، كالمواريث والأخماس وصلة الأرحام وديّة قتل الخطأ... إلى غيرها من فوائد النسب التي جعلته في الغارب والسنام من بين العلوم الفاضلة، وأكسبته الأهمية الكبرى.
وجعلت منصّة النسّابة في المحلّ الأسمى عند الديني والاجتماعي والأخلاقي(2)، وهو أحد العلماء الذين لكلٍّ منهم اختصاص في فن من الفنون يرجع إليه في فنه ويستفتى، كما يراجع غيره من العلماء فيما اختصّ به من الفنون.
ولقد كان عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) ـ على شرف أصله وقداسة
____________
(1) نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده 3: 57، من وصيّة له لابنه الحسن (عليهما السلام).
(2) ورد عن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه دخل المسجد، فإذا جماعة قد طافوا برجل، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): " ما هذا "؟
فقيل: علاّمة. قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " وما العلاّمة "؟
فقالوا: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها.
فقال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ".
ثمّ قال النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة، وما خلاهنّ فهو فضل ".
انظر: الكافي 1: 32، ح ، وصول الأخيار إلى أُصول الأخبار: 37، الفصول المهمة في أصول الأئمة للعاملي: 679.
فكان يُخشى ويُرجى من هاتين الناحيتين، ويراجع للوقوف على لوازم الكفاية عند المصاهرة، تحريّاً للحصول على الدّعة في العشرة بين الزوجين، وكرائم الأخلاق المكتسبة من إرضاع الحرائر الكريمات، وعروق الأخوال الأكارم، والشريعة المطهّرة تقول في نصّها على ذلك: " اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين "(1)، كما حذرت عن خلافه: " إياكم وخضراء الدمن "، وفسّره صاحب الشريعة بأنّها " المرأة الحسناء في منبت السوء "(2).
فكان عقيل ـ كما وصفه الصفدي ـ أحد الذين يتحاكّم إليهم، ويوقف عند قولهم في علم النسبِّ ; لكونه العليم به وبأيّام العرب، وكانت تُبسط له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، يصلّي عليها، ويجتمع إليه في معرفة الأنساب وأيّام العرب وأخبارهم مع ما له من السرعة في الجواب والمراجعة في القول(3).
____________
(1) الكافي 5: 332، باب اختيار الزوجة، ح2.
(2) الكافي 5: 332، باب اختيار الزوجة، ح4.
(3) نص ّ عبارة الصفدي عن ابن عقيل هكذا: " وكان عقيل أنسب قريش وأعلمهم بأيامهم، ولكنّه كان يعدّ مساوئهم، وكانت له طنفسة تُطرح في مسجد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي عليها، ويجتمع إليه في علم النسب وأيام العرب، وكان أسرع الناس جواباً، وأحضرهم مراجعة في القول، وأبلغهم في ذلك، وكان الذين يتحاكم إليهم ويوقف عند قولهم في علم النسب أربعة: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبا جهم بن حذيفة العدوي، وخويطب بن عبد العزي العامري، وعقيل أكثرهم ذكراً لمثالب قريش.
راجع عبارة الصفدي في الوافي بالوفيات 20: 63، وأُسد الغابة 3: 423، والاستيعاب 3: 178.
فقال له: تزوّج بأُمّ البنيّن الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها(1).
هكذا جاء الحديث، ولكن لا يفوت القارئ أنّا نعتقد في حملة أعباء الإمامة شمول علمهم كُلّ ما ذرأ اللّه ـ سبحانه ـ وبرأ وما جاءت به الأُمم من فضائل ومخازي وأوصاف وعادات في كُلّ حال، وللبرهنة على هذه الدعوى مجال في غير هذا المختصر.
إذن، فأين يقع علم عقيل وغير عقيل من واسع علم أمير المؤمنين، المتدفّق بأحوال قبائل العرب، وبمعرفة الشجعان منهم حتّى يحتاج إلى نظر عقيل؟!
وهل يخفى علم ذلك على من كان يعلم الذّكر والأُنثى من النمّل كما في حديث أبي ذر الغفاري: دخلت أنا وأمير المؤمنين (عليه السلام) وادياً فيه نمل كثير، فقلت: سبحان اللّه محصيه!
فقال (عليه السلام): " لا تقلّ ذلك، وقل: سبحان اللّه باريه، فواللّه إنّي لأحصيه وأعرف الذّكر منه والأُنثّى "(2).
ويقول (عليه السلام): " إنّ شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق آدم.. لا يشذّ منها شاذ ولا يدخل فيها داخل، وإنّي لأعرفهم حين ما أنظر
____________
(1) عمدة الطالب لابن عنبة: 357.
(2) مدينة المعاجز 2: 160.
" وإنّهم لمكتوبون عندنا بأسمائهم وأسماء آبائهم وعشائرهم وأنسابهم "(2).
فمن كان هذا علمه لا يحتاج إلى تعرّف القبائل والبطون من عقيل، مهما بلغ من العلم والمعرفة إلى ذُرَى عالية.
نعم،
وكم سائل عن أمره وهو عالم | .................. |
فإنّه جرى صلوات اللّه عليه مجرى العادة في أمثاله، وكم لهم من ضرائب في أعمالهم (عليهم السلام) لحكم ومصالح لعلّنا ندرك بعضها، والبعض الآخر منها مطوي لدِيّهم مع أمثالها من غوامض أسرارهم.
فهذا الرسول الأعظم، وهو المسدَّد بالفيض الأقدسّ والإرادة الإلهية ; المستغني عن الاستعانة بأيّ رأيّ، يمشي وراء العادة، فيشاور أصحابه إذا أراد المضيّ في أمر، ولعلّ النكتة فيه ـ مضافاً إلى ذلك ـ تعريف خطأ الاستبداد وإن بلغ الرجل أعلى مراتب العقل، فكانت الصحابة تبصر من أشعة حكمه فوائد الاستشارة كالاستخارة، وتمضي على قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): " من أُعجب برأيه ضلّ،
____________
(1) مدينة المعاجز 2: 195. والنص كالتالي: " إن شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق اللّه آدم بألفي عام، لا يشذّ منها شاذّ، ولا يدخل فيها داخل، وإني لأعرفهم حين ما أنظر إليهم ; لأنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما تفل في عيني وكنتُ أرمد قال: اللهمّ أذهب عنه الحرّ والبرد، وأبصر صديقه من عدوه، فلم يُصبني رمد ولا حر ولا برد، وإني لاعرف صديقي من عدوي ".
(2) الاختصاص: 217.
ولمّا خرج (صلى الله عليه وآله وسلم) من المدينة طالباً عير أبي سفيان، بلغه في (ذفران)(3) أنّ قريشاً خرجت على كُلّ صعب وذلول، شاور أصحابه فقال: " ما تقولون، العير أحبّ إليكم أم النفير "؟
فقال بعضهم: العير، وقال (رجلان): يا رسول اللّه إنّها قريش وخيلاؤها، ما ذلّت منذ عزّت، وما آمنت منذ كفرت، فساءه كلامهما، وتغيّر وجهه، فقام المقداد بن الأسود الكندي وقال: امض يا رسول اللّه لما أمرك به اللّه، ونحن معك، فواللّه لا نقول لك ما قالت بنو إسرائيل لموسى بن عمران: { فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ }(4)، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون ما دام منّا عين تطرف، نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن خلفك، فوالذي بعثك بالحقّ لو سرت بنا إلى برك الغمام (بلاد الحبشة)، لجالدنا معك من دونه حتّى تبلغه فضحك رسول اللّه وأشرق وجهه وسرّ بكلامه(5).
____________
(1) في تفسير القرطبي 4: 251 ورد هكذا: " ما ندم من استشار ولا خاب من استخار "، وأمّا في مصادرنا فوردت هكذا: عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: " ما حار من استخار، ولا ندم من استشار ". وسائل الشيعة 8: 265 ح8، الأمالي للطوسي: 136، كشف الغمة 3: 173.
(2) نهج السعادة 7: 275، الفائدة السادسة.
(3) قال في لسان العرب 1: 157 " ذفران: موضع عند بدر ".
(4) المائدة: 24.
(5) أُسد الغابة 4: 410، تاريخ الطبري 2: 140، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 52، والوارد في آخر الرواية: " فقال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) خيراً ودعا له.. ".
فقال: " هو الرأي والحرب ".
فأشار عليه بأن ينهض ويأتي أدنى منزل من القوم فينزل على الماء، ثُمّ يعمل حوضاً يملأه ماءً يشرب منه المسلمّون ولا يشرب منه أعداؤهم، فأخذ برأيه وارتحل حتّى أتى الماء ونزل عليه(1).
ولمّا قصده الأحزاب أراد أن يصالح عيينة بن حصين والحارث بن عوف على ثلث أثمار المدينة، ليرجعا بمن معهما من غطفان، فشاور في ذلك سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وسعد بن فزارة، فأشاروا عليه ألا يعطيهم شيئاً، فعمل بمشورتهم، وكان الفتح له(2)، كُلّ ذلك إيذاناً وتنبيهاً بما هو اللازم من التريّث والأخذ بحقائق الأُمور.
وسار الأئمة من آله على هذا النهج، فكان الإمام الرضا (عليه السلام)يذكر أباه موسى بن جعفر ويقول: " كان عقله لا يوازن به العقول، وربما شاور بعض عبيده فيشير عليه من الضيعة والبستان فيعمل به، فقيل له: أتشاور مثل هذا؟ فقال (عليه السلام): ربما فتح على لسانه "(3).
ولمّا كتب إليه علي بن يقطين بما عزم عليه موسى الهادي من الفتك به وأنّه سمعه يقول: قتلني اللّه إن لم أقتل موسى بن جعفر،
____________
(1) أُسد الغابة 1: 365، تاريخ الطبري 2: 144، تاريخ الإسلام للذهبي 2: 53، الثقات لابن حبّان 1: 162، إمتاع الاسماع للمقريزي 9: 243.
(2) تاريخ الإسلام 3: 348، امتاع الإسماع للمقريزي 1: 239.
(3) المحاسن للبرقي 2: 602 بلفظ: " وربما شاور الأسود من سودانه ".
وكان الأئمة (عليهم السلام) ـ وهم العالمون بما كان وما يكون ـ يتخذون الوسائل العادية لدفع الأضرار عنهم إذا علموا تأخّر القضاء من مراجعة الطبيب، أو الشخوص نحو المهيمن جلّ شأنّه، أو الشكوى إلى جدّهم النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
ولما سُقي الإمام الحسن (عليه السلام) العسل المسموم وأعتلّ تداوى بالحليب، فعوفي، وحين عادت إليه العلّة أخذ يسيراً من تربة النّبي ومزجها بالماء فشربه وعوفي(2).
وقال الإمام الهادي (عليه السلام) لأبي هاشم الجعفري حين مرض بسامراء: " ابعثوا رجلاً إلى (الحائر) يدعو اللّه لي بالشفاء من العلّة ".
فقال علي بن بلال: ما يصنع بالحير، أليس هو الحير؟! فلم يدرِ أبو هاشم ما يجيبه حتّى دخل علي الهادي (عليه السلام) وحكى له قوله، فقال (عليه السلام): " ألا قلت له: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت، ويقبّل الحجر، وحرمة النّبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمره اللّه تعالى أن يقف بعرفات، وإنّما هي مواطن يحبّ
____________
(1) بحار الأنوار 48: 151.
(2) الكامل للبهائي: 453.
والغرض من هذا كلِّه التعريف بأنّه لم يجب في التكوينات إلاّ جري الأُمور على مجاريها العادية وأسبابها الطبيعية، وأنّه لا غناء عنها لأيّ أحد، وأنّ الأئمة من أهل البيت وإن أمكنهم إعمال ما أقدرهم عليه اللّه سبحانه من التصرّفات حسبما يريدون، لكنّهم في جميع أدوارهم مقتدى الأُمّة ومسيروهم إلى ما يراد منهم من أمر الدّين والدنّيا، فعلى نهجهم يسير الناس، وبأفعالهم يتأسى البشر، وبإرشادهم ترفع حُجب الأوهامّ.
وعلى هذا الأساس مشى أمير المؤمنين في اختيار الزوجة الصالحة.
____________
(1) الكافي 4: 567، 568، ح3، كامل الزيارات: 459، ح [697] 1، وسائل الشيعة 14: 538 ح (19775)3، ونص الرواية كالتالي: " عدّة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن أبي هاشم الجعفري قال: بعث إليّ أبو الحسن (عليه السلام) في مرضه، وإلى محمّد بن حمزة، فسبقني إليه محمّد بن حمزة وأخبرني محمّد مازال يقول: " ابعثوا إلى الحير، ابعثوا إلى الحير!
فقلت لمحمّد ألا قلت له: أنا أذهب إلى الحير، ثمّ دخلت عليه وقلت له: جعلت فداك: أنا أذهب إلى الحير؟ فقال: " انظروا في ذاك "، ثمّ قال لي: " إنّ محمّداً ليس له سرّ من زيد بن علي، وأنا أكره أن يسمع ذلك ".
قال: فذكرت ذلك لعلي بن بلال فقال: ما كان يصنع [بـ] الحير وهو الحير.
فقدمت العسكر، فدخلت عليه فقال لي: " إجلس " حين أردت القيام، فلمّا رأيته أنس بي، ذكرت له قول علي بن بلال.
فقال لي: " ألا قلت له: إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يطوف بالبيت ويقبّل الحجر، وحرمة النّبي والمؤمن أعظم من حرمة البيت. وأمره اللّه عزّ وجلّ أن يقف بعرفة، وإنّما هي مواطن يحبّ اللّه أن يُذكر فيها، فأنا أحبّ أن يُدعى [اللّه] لي حيث يحب اللّه أن يدعى فيها.. ".