الصفحة 23

سلسلة الآباء


هو العبّاس بن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرّة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة ابن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.

إلى هنا يقف الباحث عن الإتيان بباقي الآباء الأكارم الى آدم، بعد ما يقرأ قول النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): " إذا بَلغ نسبي إلى عدنان فامسكوا "(1).

وكأنّه نظر الى غرابة تلكم الأسماء، وتعاصيها على نطق العامة، فكان التصحيف إليها أسرع شيء، فيعود وهناً في ساحة جلالتهم، وخفةً في مقدارهم، وقد ولدوا الرّسول الأعظم والوصي المقدّم صلّى اللّه عليهم أجمعين.

وكيف كان فالمُهمّ الذي يجب الهتاف به هو كون كُلّ واحد من هؤلاء الأنجاب غير مدنّس بشيء من رجس الجاهلية، ولا موصوماً بعبادة وثن، وهو الذي يرتضيه علماء الحقّ، لكونهم صدّيقين بين أنبياء وأوصياء.

____________

(1) مناقب آل أبي طالب 1: 134، كشف الغمة 1: 15.


الصفحة 24
وقد نزّههم اللّه تعالى في خطابه لنبيّه الأقدس: { وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ }(1)، فإنّه أثبت لهم جميعاً ـ بلفظ الجمع المحلّى باللام ـ السّجود الحقّ الذي يرتضيه لهم.

وإنّ ما يؤثر عنهم من أشياء مستغربة لا بدّ أن يكون من الشريعة المشروعة لهم، أو يكون له معنىً تظهره الدراية والتنقيب.

وليس آزر ـ الذي كان ينحت الأصنام وكاهن نمرود ـ أبا إبراهيم الخليل(2)، الذي نزل من ظهره، لأنّ أباه اسمه تارخ، وآزد:

____________

(1) الشعراء: 219.

(2) اختلفوا في أنّ الذي قيل له: (عرق الثرى) إبراهيم أم إسماعيل، فالذي عليه السهيلي في الروض الآنف 1: 8، أنّه إبراهيم، وعلّله: بأنّ الثرى لا تأكله النار، وإبراهيم لا تأكله النار.

ويظهر من الصادق (عليه السلام): لما تخطّى النار وقال: " أنا ابن أعراق الثرى، أنا ابن إبراهيم خليل الرحمن، الإشارة إليه [الكافي 1: 473 في نوادر المعجزات لابن جرير: 154].

ونصّ عليه في البحار 35: 41 في باب نسب أبي طالب قال: وإبراهيم (عرق الثرى).

وفي 44: 104 عند قول الإمام الحسن (عليه السلام): " انا وهو اين ابن أعراق الثرى "، قال: رأيت في بعض الكتب أنّ عرق الثرى إبراهيم، لكثرة ولده في البادية.

ولعلّ عبد اللّه بن أيوب الخريبي الشاعر في مرثية الإمام الرضا يشير إليه كما في البحار 49: 325 في باب مراثيه.


يابن الذَبيِحِ ويَابنَ أعراقِ الثرّىطَابَت أروُمَتَه وطَابَ عُروُقها

ولكن في نصّ الطبري 2: 28، والبداية والنهاية 2: 245، والبحار 15: 105 عن أم سلمة: أنّ عرق الثرى إسماعيل.

وقد جاء ذكر الثرى في شعر امرئ القيس والفرزدق، ولم يعلم منه المراد، قال امرؤ القيس على ما في أمالي المرتضى 1: 119
فبعض اللوم عاذلتي فأنّيستغنيني التجارب وانتسابي
إلى عرق الثرى وشجت عروقي وهذاالموت يسلبني شبابي

وقال الفرزدق كما في كامل ابن الأثير 3: 469
أنا ابن الجبال الشمّ في عدد الحصىوعرق الثرى عرقي فمن ذا يحاسبه

وفي أخبار الزمان: 80 عدنان بن عرق الثرى.

[وأيضاً تجده في: أُسد الغابة لابن الأثير 1: 379، حياة الإمام الحسن للقرشي: 130].


الصفحة 25
إمّا أن يكون عمّه، كما يرتئيه جماعة من المؤرّخين، وإطلاق الأب على العمّ شائع على المجاز، وجاء به الكتاب المجيد: { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَـهَكَ وَإِلَـهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ }(1)فأطلق على إسماعيل لفظ الأب، ولم يكن أبا يعقوب وإنما هو عمّه، كما اُطلق على إبراهيم لفظ الأب وهو جدّه.

وإمّا أن يكون آزر جدّ إبراهيم لاُمّه كما يراه المنقّبون، والجد للأُمّ أب في الحقيقة، ويؤيّد أنّه غير أبيه قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ }(2).

فميّزه باسمه، ولو أراد أباه الذي نزل من ظهره لاستغنى بإضافة الأُبوّة عن التسمية بآزر.

وصرّح الرسول بطهارة آبائه عن رجس الجاهلية وسفاح الكفر فقال: " لمّا أراد اللّه أن يخلقنا، صوّرنا عمود نور في صلب آدم، فكان ذلك النور يلمع في جبينه، ثمّ انتقل إلى وصيّه شيث، وفيما أوصاه به ألاّ يضع هذا النور إلاّ في أرحام المطهّرات من النساء،

____________

(1) البقرة: 133.

(2) الأنعام: 74.


الصفحة 26
ولم تزل هذه الوصيّة معمولاً بها يتناقلها كابر عن كابر، فولدنا الأخيار من الرجال والخيرات المطهّرات المهذّبات من النساء، حتّى انتهينا الى صلب عبد المطلب، فجعله نصفين: نصف في عبد اللّه فصار إلى آمنة، ونصف في أبي طالب فصار إلى فاطمة بنت أسد ".

أمّا " عدنان " فقد أوضح في خطبه في ظهور النّبي وأنّه من ذريّته وأوصى باتباعه.

وكان ابنه " معد " صاحب حروب وغارات على بني إسرائيل ممّن حاد عن التوحيد، ولم يحارب أحداً إلاّ رجح عليه بالنصر والظفر، ولكونه على دين التوحيد ودين إبراهيم الخليل أمر اللّه أرميا أن يحمله معه على البراق كيلا تصيبه نقمة بخت نصر، وقال سبحانه لارميا: إنّي سأخرج من صلبه نبياً كريماً اختم به الرسل، فحمله الى أرض الشام الى أن هدأت الفتن بموت بختنصّر(1).

وكان السبب في التسمية بـ " نزار " أنّ أباه لمّا نظر إلى نور النبوّة يشع من جبهته سرّه ذلك، فأطعم الناس لأجله وقال: إنه نزر في حقّه(2).

وورد النهي عن سبّ ربيعة ومضر ; لأنّهما مؤمنان، ومن كلام مضر: من يزرع شرّاً يحصد ندامةً.

و" إلياس بن مضر " كبير قومه وسيّد عشيرته، وكان لا يقضى أمر دونه، وهو أوّل من هدى البدن إلى البيت الحرام، وأوّل من

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 20.

(2) الروض الآنف 1: 8.


الصفحة 27
ظفر بمقام إبراهيم لما غرق البيت في زمن نوح، وكان مؤمناً موحّداً، ورد النهي عن سبّه(1).

وقد أدرك مدركة بن إلياس كلّ عز وفخر كان لآبائه، وكان فيه نور النّبي محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).

و" كنانة " شيخ عظيم القدر حسن المنظر، كانت العرب تحجّ إليه لعلمه وفضله، وكان يقول: قد آن خروج نبيّ من مكة يدعى أحمد، يدعو إلى اللّه وإلى البرّ والاحسان ومكارم الأخلاق، فاتبعوه تزدادوا شرفاً وعزاً إلى عزّكم، ولا تكذبوا ما جاء به فهو الحقّ. وممّا يؤثر عنه: " ربّ صورة تخالف المخبرة قد غرت بجمالها واختبر قبح فعالها، فاحذر الصور واطلب الخبر "، وكان يأنف أن يأكل وحده.

وولده " النضر " (قريش عند الفقهاء) فلا يقال لأولاد من فوقه قرشي، وإنّما أولاده مثل مالك وفهر، فمن ولده النضر فهو قرشي، ومن لم يلده فليس بقرشي(2).

وأمّا " فهر " فقد حارب حسّان بن عبد كلال حين جاء من اليمن في حمير لأخذ أحجار الكعبة ليبني بها بيتاً باليمن يزوره الناس، فانتصر فهر وأسر حسّان وانهزمت حمير، وبقي حسّان في الأسر ثلاث سنين، ثمّ فدى نفسه بمال كثير وخرج فمات بين مكة واليمن، فهابت العرب فهراً وأعظموه وعلا أمره، خصوصاً مع ما يشاهدون في جبهته من نور النبوّة.

____________

(1) الروض الآنف 1: 8.

(2) السيرة الحلبية 1: 61.


الصفحة 28
ويؤثر عنه قوله لولده غالب: " قليل ما في يدك أغنى لك من كثير ما أخلق وجهك وإن صار إليك "، وكان موحّداً(1).

ولم يزل كعب بن لؤي يذكر النّبي، ويُعلم قريشاً أنّه من ولده، ويأمرهم باتباعه ويقول: " اسمعوا وعوا وتعلّموا تعلموا وتفهّموا تفهموا، ليل داج ونهار ساج والأرض مهاد والجبال أوتاد والأولون كالآخرين، كلّ ذلك إلى بلاء، فصلوا أرحامكم، وأصلحوا أحوالكم، فهل رأيتم من هلك رجع أو ميتاً نشر الدار أمامكم؟ والظنّ خلاف ما تقولون، زيّنوا حرمكم وعظّموه وتمسّكوا به ولا تفارقوه، فسيأتي له نبأ عظيم، وسيخرج منه نبيّ كريم، ثمّ قال:


نهارٌ وليلٌ واختلاف حوادثسواءٌ عَلينا حلوُها ومريرُها
يؤوبان بالأَحداثِ حتّى تأوّباوبالنعمِ الضافي علينا ستُورها
على غفلة يأتِي النّبي محمّدفيُخبر أخباراً صدوقاً خبيرها

ثمّ قال:


يَاليتني شاهِد فَحْواء دعوتهِحتّى العشيرةِ تبغي الحقّ خُذلانا(2)

ولجلالته وشرفه في قومه أرخوا بموته ثمّ أرخوا بعام الفيل، ثمّ بموت عبد المطلب، وهو أوّل من سمّى يوم الجمعة ; لاجتماع قريش فيه، وكان اسمه في الجاهلية العروبة، ولما جاء الإسلام أمضاه(3).

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 26.

(2) السيرة الحلبية 1: 25، السيرة النبوية لابن كثير 1: 167.

(3) السيرة الحلبية 3: 169.


الصفحة 29
و" كلاب بن مرّة " الجد الثالث لآمنة أُمّ النّبي والرابع لأبيه عبد اللّه، كان معروفاً بالشجاعة، ونور النّبي لائح في جبهته.

ولا تسل عن سيّد الحرم " قصي " فلقد جمع قومه من منازلهم وأسكنهم أرض مكة، وأمرهم بالبناء حول البيت ; لتهابهم العرب، فبنوا حول جوانبه الأربعة، وجعلوا لهم أبواباً تخصهم، فباب لبني شيبة، وباب لبني جمح، وباب لبني مخزوم، وباب لبني سهم. وتركوا قدر الطواف بالبيت، وبنى قصي دار الندوة للمشاورة والتفاهم فيما يعرض عليهم من المهمات، وتيمّنت قريش برأيه وسمّي مجمعاً.

وعند مجيء الحاج قال لقريش: " هذا أوان الحجّ، وقد سمعت العرب بما صنعتم وهم لكم معظمون، ولا أعلم مكرمة عند العرب أعظم من الطعام، فليخرج كلّ انسان منكم من ماله خرجاً ". ففعلوا وجمع مالاً كثيراً، ولمّا جاء الحاج نحر لهم على كلّ طريق من طرق مكة جزوراً، غير ما نحره بمكة، وأوقد النار بالمزدلفة ليراها الناس(1).

وصنع للناس طعاماً أيام منى، وجرى عليه الحال حتّى جاء الإسلام، فالطعام الذي يصنعه السلطان أيام منى كلّ عام من آثار قصي(2).

ومن هنا خضعت خزاعة لقصي، وسلّمت له أمر الحرم وسدانة البيت الحرام، بعد أن كانت عند حليل وعند قصي ابنته وهي أُمّ أولاده.

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 21.

(2) تاريخ الطبري 2: 185.


الصفحة 30
تولّى قصي سدانة البيت: إمّا بوصاية من حليل عند الموت إليه، أو أنّها كانت عند ابنته زوج قصي بالوراثة، فقام زوجها بتدبير شؤون البيت لعجز المرأة عن القيام بهذه الخدمة، أو أنّ أبا غبشان الخزاعي كان وصيّ حليل على هذه السدانة، فعاوضه عليها قصي بأثواب وأذواد من الإبل.

هذا هو الصحيح المأثور في ولاية قصي سدانة البيت، ويتفق مع العقل الحاكم بنزاهة جدّ الرسول الأقدس خاتم الأنبياء عمّا تأباه شريعة إبراهيم الخليل من المعاوضة بالخمر المحرم في جميع الأديان.

أيجوز لجدّ الرسول أن يجعل للخمر قيمة ـ وثمنها سحت ـ وهو المانع عنها، المحذّر قومه منها؟! فإنّه قال لولده وقومه: " اجتنبوا الخمر، فإنّها لا تصلح الأبدان، وتفسد الأذهان "، فكيف يعاوض بها؟! بل لا يتحيّل إلى مطلوبه بالخمر وهو القائل: " من استحسن قبيحاً نزل إلى قبحه، ومن أكرم لئيماً أشركه في لؤمه، ومن لم تصلحه الكرامة أصلحه الهوان، ومن طلب فوق قدره استحقّ الحرمان، والحسود هو العدو الخفي "(1).

وقد جمع أطراف المجد والشرف " عبد مناف " بن قصي، ولبهائه وجمال منظره قيل له: " قمر البطحاء "، وكان سمحاً جواداً لا يعدم أحداً من ماله حتّى في أيام أبيه، فقيل له: " الفيّاض ".

ويسمّى مناف ; لأنه أناف على الناس وعلا أمره حتّى ضربت له الركبان من أطراف الأرض(2)، وكان اسمه عبداً، ثمّ اُضيف إلى

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 21.

(2) إثبات الوصيه: 75.


الصفحة 31
مناف فقيل له: " عبد مناف " وهذا هو الصحيح المأثور.

وأمّا ما أثبته ابن دحلان في السيرة النبوية من أن أُمّه اخدمته صنماً اسمه مناف، بعيد عن الصواب ; إذ لا شكّ في نزاهة آباء النّبي وأُمهاته في جميع أدوار حياتهم من الخضوع للأصنام كرامة لحبيبه وصفيّه الرسول الأعظم، فليس بصحيح ما يقال: من أنّ في آباء النّبي وأُمهاته من يعبد الصنم، أو يخضع له ; لشهادة ما تقدّم من الأحاديث عليه، وإليه أشار البوصيري:


لم تَزل فِي ضَمائِر الكَونِ تَختَارُلَكَ الأُمهاتَ والآباءَ(1)

على أنّه لم يكن من الأصنام اسمه " مناف "، وإنّما الموجود " مناة " بالتاء المثناة من فوق، ومن هنا كان يقول ابن الكلبي في كتاب الأصنام: 32: " لا أدري أين كان هذا الصنم؟ ولمن كان؟ ومن نصبه "(2).

ومنه نعرف الغلط في قول البرقي والزبير: أنّ أُمه أخدمته مناة (بالتاء المثناة من فوق) فسمي عبد مناة، ولكن رأي قصي يوافق عبد مناة بن كنانة فحوّله عبد مناف.

وكان بيت عبد مناف أشرف بيوتات قريش(3)، ولسيادته كان عنده قوس إسماعيل ولواء نزار.

ومن وصيّته ما وجد مكتوباً في بعض الأحجار: أوصى قريشاً بتقوى اللّه جلّ جلاله وصلة الرحم(4).

____________

(1) السيرة الحلبية 1: 71.

(2) معجم البلدان للحموي 5: 203 والعبارة التي فيه: " ولا أدري أين كان؟ ولا من كان نصبه ".

(3) سبل الهدى والرشاد 1: 272.

(4) السياسة الشرعية لابن تيمية 1: 57.


الصفحة 32
وجرى ابنه هاشم على سيرته حتّى فاق قريشاً وسائر العرب، واذعنوا له، وكان يُطعم الحّاج، كما كان يصنع أبوه. وأصابت قريشاً سنة مُجدِبة، فخرج هاشم الى الشام واشترى الدقيق والكعك، فهشم الخبز، ونحر الجزر، وأطعم الناس حتّى أشبعهم. وكانت مائدته منصوبةً لا ترفع في السّراء والضّراء، وكان يحمل ابن السبيل، ويؤمن الخائف، وإذا أهلّ هلالّ ذي الحجّة قام في صبيحته وأسند ظهره الى الكعبة من تلقاء بابها وخطب الناس فقال:

" يا معشر قريش ; إنّكم سادة العرب، أحسنها وجوهاً، وأعظمها أحلاماً، وأوسطها نسباً، وإنّكم جيران بيت اللّه، أكرمكم اللّه بولايته، وخصّكم بجواره دون بني إسماعيل، وإنّه يأتيكم زوار اللّه يعظّمون بيته، فهم أضيافه، وحقّ من أكرم أضياف اللّه أنتم ; فأكرموا ضيفه وزواره، فإنّهم يأتونه غبراً من كلّ بلد، على ضوامر كالقداح، فوربَّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتموه، وأنا مخرج من طيب مالي وحلالي ما لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ بظلم، ولم يدخل فيه حرام، فمن شاء منكم أن يفعل مثل ذلك فعل. وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجل منكم من ماله ـ لكرامة زوار بيت اللّه وتقويتهم ـ إلاّ طيّباً، لم يقطع فيه رحم، ولم يؤخذ غصباً ".

فكانوا يجتهدون في ذلك، ويخرجون من أموالهم، ويضعونه في دار الندوة(1).

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 211، السيرة الحلبية 1: 9، سبل الهدى والرشاد 1: 270.


الصفحة 33
وكان هاشم يطعم الحاجّ بمكة ومنى وعرفة وجمع(1).

وهو أوّل من سنّ لقريش الرحلتين ; رحلة إلى اليمن ورحلة إلى الشام، وأخذ لهم من ملوك الروم وغسان ما يعتصمون به(2) ; وذلك إنّ تجار قريش لم تعد تجارتهم نفس مكة وضواحيها، وإنّما تقدّم عليهم الأعاجم بالسلع، فيشترونها، حتّى رحل هاشم إلى الشام ونزل على قيصر، فأعجبه حسن خلقه وجمال هيئته وكرمه المنهمر، فلم يحجبه، وأذن له بالقدوم عليه بالتجارة، وكتب أماناً بينهم، فارتقت منزلة هاشم بين الناس، فكان يسافر في الشتاء إلى اليمن وفي الصيف إلى الشام، وشرك في تجارته رؤساء القبائل من العرب ومن ملوك اليمن والشام، وجعل له معهم ربحاً، وساق لهم إبلاً مع إبله، وكفاهم مؤونة الأسفار على أن يكفوه مؤنة الأعداء في طريقه ومنصرفه، فكان في ذلك صلاح عام للفريقين، فكان المقيم رابحاً، والمسافر محفوظاً، فأخصبت قريش بذلك، وأتاها الخير من البلاد العالية والسافلة ببركة هاشم، وهذا هو الإيلاف المذكور في القرآن المجيد(3).

وكان يقول في خطبته: " أيُّها الناس نحن آل إبراهيم، وذريّة إسماعيل، وبنو النضر بن كنانة، وبنو قصي بن كلاب، وأرباب مكة، وسكان الحرم، لنا ذروة الحسب، ومعدن المجد، ولكُلّ في كلّ خلف يجب عليه نصرته وإجابة دعوته، إلاّ ما دعا إلى عقوق عشيرة وقطع رحم.

____________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 211، تاريخ الطبري 2: 12.

(2) تاريخ الطبري 2: 12، الكامل في التاريخ 2: 16.

(3) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 15: 210.


الصفحة 34
يا بني قصي، أنتم كغصني شجرة أيّهما كسر أوحش صاحبه، والسيف لا يصان إلاّ بغمده، ورامي العشيرة يصيبه سهمه، ومن أمحكه اللجاج وأخرجه إلى البغي.

أيّها الناس، الحلم شرف، والصبر ظفر، والمعروف كنز، والجود سؤدد، والجهل سفه، والأيام هول، والدهر غيِّر، والمرء منسوب إلى فعله، ومأخوذ بعمله، فاصطنعوا المعروف تكسبوا الحمد، ودعوا الفضول تجانبكم السفهاء، وأكرموا الجليس يعمر ناديكم، وحاموا الخليط يرغب في جواركم، وأنصفوا من أنفسكم يوثق بكم، وعليكم بمكارم الأخلاق فإنّها رفعة، وإياكم والأخلاق الدنيّة فإنّها تضع الشرف، وتهدم المجد، وإنّ نهنهة الجاهل أهون من جريرته، ورأس العشيرة يحمل أثقالها، ومقام الحليم عظة لمن انتفع به "(1).

ولنور النبوّة الحالّ في جبهته كان وجهه يضيء في الليلة الظلماء، ولم يمرّ بحجر ولا شجر إلاّ ناداه: أبشر يا هاشم، سيظهر من ذريّتك أكرم خلق اللّه مُحمّد خاتم النبيّين.

وأوصاه أبوه ـ عبد مناف ـ بما أوصاه به أبوه قصي: أن لا يضع نور النبوّة إلاّ في الأرحام الطاهرات من النساء، وأخذ عليه العهد بذلك، فقبل.

وقد تقدّم أنّها موروثة من آدم (عليه السلام)، ومن هنا رغب الأشراف من الأكاسرة والقياصرة في مصاهرة هاشم وهو يأبى، حتّى إذا رأى

____________

(1) جمهرة خطب العرب، لأحمد زكي صفوت 1: 73، نقلاً عن آباء الأنبياء كلهم مؤمنون، مركز المصطفى.


الصفحة 35
في المنام قائلاً يقول: عليك بسلمى بنت عمرو بن لبيد بن حداث ابن زيد بن عامر بن غنم بن مازن من بني النجار، فإنّها طاهرة مطهّرة الأذيال، ليس لها مشبه من النساء، فادفع المهر الجزيل، فإنّك ترزق منها ولداً يكون منه النّبي، فمشى هاشم وأخوه المطلب وبنو عمِّه إلى المدينة ومعهم لواء نزار وعليهم أفخر الثيّاب والدروع.

ولمّا اجتمع القوم خطب المطلب بن عبد مناف فقال: " نحن وفد بيت اللّه الحرام، والمشاعر العظام، وإلينا سعت الأقدام، وأنتم تعلمون شرفنا وسؤددنا، وما خصّنا به اللّه من النور الساطع والضياء اللامع، ونحن بنو لؤي بن غالب، قد انتقل هذا النور إلى عبد مناف، ثُمّ إلى أخينا هاشم، وهو معنا من آدم (عليه السلام)، وقد ساقه اللّه إليكم، وأقدمه عليكم، فنحن لكريمتكم خاطبون، وفيكم راغبون ".

فأجابه عمرو ـ أبو سلمى ـ بالقبول والإنعام، وساقوا المهر كما أرادوا.

ولمّا تزوّج منها هاشم، ودخل بها، وحملت بعبد المطلب انتقل إليها النور، وما زالت تسمع البشائر بولادة خير البشر فأفزعها ذلك، إلاّ أنّ هاشماً عرّفها أمر النّبي(1).

فلمّا ولدت عبد المطلب كان يدعى (شيبة الحمد) ; لكثرة حمد الناس له، لكونه مفزع قريش في النوائب، وملجأهم في الأُمور، فكان شريف قومه وسيّدهم كمالاً ورفعةً، غير مدافع عن ذلك، وهو من حلماء قريش وحكمائها.

____________

(1) بحار الأنوار 15: 40.


الصفحة 36
وقد سنّ أشياءً أمضاها له الإسلام: حرّم نساء الآباء على الأبناء، ووجد كنزاً أخرج خمسه وتصدّق به، وسنّ في القتل مائة من الإبل، ولم يكن للطواف عدد عند قريش. فسنّه سبعة أشواط، وقطع يد السارق، وحرّم الخمر والزنا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ولا يستقسم بالأزلام، ولا يؤكل ما ذبح على النصب(1).

ومما يؤثر عنه: " الظلوم لن يخرج من الدنيا حتّى ينتقم منه، وإنّ وراء هذا الدار دار يجزى فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وإذا لم تصب الظلوم في الدنيا عقوبة فهي معدة له في الآخرة "(2).

وقيل له: الفيّاض ; لكثرة جوده ونائله، حتّى إنّ مائدته يأكل منها الراكب، ثُمّ ترفع إلى جبل أبي قبيس لتأكل منها الطير والوحوش(3).

ولعزّه المنيع وشرفه الباذخ كان يفرش له بإزاء الكعبة، ولم يفرش لأيّ أحد غيره، ولا يجالسه على بساط الأُبهة إلاّ نبيّ العظمة(4)، وإذا أراد أحد أعمامه أن ينحيه صاح به عبد المطلب وقال: " إنّ له لشأناً وملكاً عظيماً "(5).

ولا غرو في ذلك بعد أن كان وصيّاً من الأوصياء وقارئاً للكتب السماوية، ولقد أخبر أبو طالب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: " كان أبي

____________

(1) الخصال: 313، الدر النظيم: 798.

(2) الغدير 7: 353، عقيدة أبي طالب للرفاعي: 72.

(3) السيرة الحلبية 1: 6.

(4) تاريخ اليعقوبي 2: 12.

(5) المصدر السابق.


الصفحة 37
يقرأ الكتب جميعاً " وقال: " إنّ من صلبي نبيّاً، لوددت أنّي أدركت ذلك الزمان فآمنت به، فمن أدركه من ولدي فليؤمن به "(1).

وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): " واللّه ما عَبدَ أبي ولا جدّي عبد المطلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنماً، وإنّما كانوا يعبدون اللّه، ويصلّون إلى البيت على دين إبراهيم، متمسّكين به "(2).

وكان أبو طالب سيّد البطحاء شبيهاً بأبيه شيبة الحمد، عالماً بما جاء به الأنبيّاء، وأخبرت به أُممهم من حوادث وملاحم ; لأنّه وصيّ من الأوصياء، وأمين على وصايا الأنبياء حتّى سلّمها إلى النّبي(3).

قال درست بن منصور: قلت لأبي الحسن الأوّل: أكان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) محجوجاً بأبي طالب؟

قال: " لا، ولكن كان مستودع الوصايا فدفعها إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) " قلت: دفعها إليه على أنّه محجوج به؟

قال (عليه السلام): " لو كان محجوجاً به ما دفعها إليه ".

قلت: فما كان حال أبي طالب؟

قال: " أقرّ بالنّبي وبما جاء به حتّى مات "(4).

____________

(1) بحار الأنوار 35: 147.

(2) كمال الدين وتمام النعمة: 175، بحار الأنوار 15: 144 وغيرها من المصادر.

(3) بحار الأنوار 35: 74.

(4) الكافي 1: 445، ح18.


الصفحة 38
وقال المجلسي: " أجمعت الشيعة على أنّ أبا طالب لم يعبد صنماً قطّ، وأنّه كان من أوصياء إبراهيم الخليل (عليه السلام) "(1).

وحكى الطبرسي إجماع أهل البيت على ذلك، ووافقه ابن بطريق في كتاب المستدرك.

وقال الصدوق: " كان عبد المطلب وأبو طالب من أعرف العلماء وأعلمهم بشأنّ النّبي، وكانا يكتمان ذلك عن الجهّال والكفرة "(2).

وممّا يشهد على أنّه كان على دين التوحيد وملّة إبراهيم، أنّ قريشاً لمّا أبصرت العجائب ليلة ولادّة أميّر المؤمنين، خصوصاً لما أتوا بالآلهة إلى جبل أبي قبيس ليسكن بهم ما شاهدوه ارتجّ الجبل، وتساقطت الأصنام، ففزعوا إلى أبي طالب ; لأنّه مفزع اللاجىء، وعصمة المستجير، وسألوه عن ذلك، فرفع يديه مبتهلاً إلى المولّى جلّ شأنه قائلاً: " إلهي أسألك بالمحمّدية المحمّودة، والعلويّة العالّية، والفاطميّة البيضاء إلاّ تفضّلت على تهامة بالرأفة والرحمّة، فسكن ما حلّ بهم، وعرفت قريش هذه الأسماء قبل ظهورها، فكانت العرب تكتب هذه الأسماء وتدعو بها عند المهمات، وهي لا تعرف حقيقتها "(3).

ومن هنا اعتمد عليه عبد المطلب في كفالة الرسول وخصّه به دون بنيه وقال:

____________

(1) بحار الأنوار 35: 138، والعبارة فيها تقديم وتأخير.

(2) كمال الدين وتمام النعمة: 171، الخرائج والجرائح 3: 1074، وفي آخر الحديث: " عن الجهّال، وأهل الكفر والضلال ".

(3) روضة الواعظين: 78، مناقب آل أبي طالب 2: 22، الدر النظيم: 231.