وصيّت من كنيّته بطالّب | عبدَ مناف وهو ذو تجارّب |
بابنِ الحبيّبِ أكرمِ الأقارّب | بابن الّذي قَدْ غابَ غيرَ آئب |
فقال أبو طالب:
لا تُوصني بلازم وواجب | إنّي سمعتُ أعجبَ العجائبِ |
من كُلّ حبر عالم وكاتب | بأنّ بحمّد اللّه قول الراهبِ(1) |
فقال عبد المطلب: " أُنظر يا أبا طالب أن تكون حافظاً لهذا الوحيد الّذي لم يَشمّ رائحة أبيّه، ولم يذق شفقة أُمّه، أُنظر أن يكون من جسّدك بمنزِّلة كبدك، فإنّي قد تركت بنيّ كُلّهم وخصصتك به، لأنّك من أُمّ أبيّه، وأعلم فإنّ استطعت أن تتبعه فافعل، وانصره بلسانك ويدك ومالك، فإنّه واللّه سيسودكم ويملك ما لا يملك أحد من آبائي، هل قبلت وصيّتي "؟
قال: " نعم، قد قبلتُ، واللّه على ذلكِ شاهد ".
فقال عبد المطلب: " الآن خفف عليَّ الموت "، ولم يزل يقبله ويقول: " اشهد أنّي لم أر أحداً في ولدي أطيب ريحاً منك ولا أحسن وجهاً "(2).
وفرح أبو طالب بهذه الحظوة من أبيه العطوف، وراح يدّخر لنفسه السعادة الخالدة بكفالة نبيّ الرحمّة، فقام بأمره، وحماه في صغره بماله وجاهه من اليهود والعرّب وقريش، وكان يؤثره على أهلّه ونفسه، وكيف لا يؤثره وهو يشاهد من ابن أخيّه ولمّا يبلغ التاسعة من عمره هيكل القدس يملأ الدست هيبةً ورجاحة، أكثر ضحكه الابتسام، ويأنس بالوحدة أكثر من الاجتماع.
____________
(1) مناقب آل أبي طالب 1: 34، بحار الأنوار 35: 85، الدر النظيم: 211.
(2) كمال الدين وتمام النعمة: 172، وعنه المجلسي في بحار الأنوار 15: 143.
وكان يوماً معه بذي المجاز، فعطش أبو طالب ولم يجد الماء، فجاء النّبي إلى صخرة هناك وركلها برجله، فنبع من تحتها الماء العذب(2). وزاد على ذلك توفر الطعام القليل في بيته حتّى إنّه يكفي الجمع الكثير إذا تناول النّبي منه شيئاً(3).
وهذا وحدّه كاف في الإِذعان بأن أبا طالب كان على يقين من نبوة ابن أخيه محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم).
أضف إلى ذلك قوله في خطبته لما أراد أن يزوّجه من خديجة: " وهو واللّه بعد هذا له نبأ عظيم، وخطر جليل "(4).
وفي وصيته لقريش: " إنّي أوصيّكم بمحمّد خيراً، فإنّه الأمين في قريش، والصدّيق في العرب، وهو الجامع لكُلّ ما أوصاكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان "(5).
ولمّا جاء العبّاس بن عبد المطلّب يخبره بتألّب قُريش على معاداة الرسول قال له: " إنّ أبي أخبرني أنّ الرسول على حقِّ، ولا
____________
(1) انظر مناقب آل أبي طالب 1: 36 ـ 37، وعنه المجلسي في بحار الأنوار 15: 235.
(2) السيرة الحلبية 1: 191.
(3) المصدر السابق 1: 189.
(4) السيرة الحلبية 1: 226، إمتاع الاسماع للمقريزي 6: 29، تفسير البحر المحيط 3: 110.
(5) السيرة الحلبية 2: 49، الغدير 7: 366. وقد ذكر المصادر الموردة للحديث.
واستشهاده بكلمة أبيه القارئ للكتب، مع أنّه كان يقرؤها مثله، يدلّنا على تفنّنه في تنسيق القياس وإقامة البرهان على صحة النبوّة، وأنّ الواجب اعتناق شريعته الحقّة.
أمّا هو نفسه فعلى يقين من أنّ رسالة ابن أخيه خاتمة الرسل، وهو أفضل من تقدّمه قبل أن يشرق نور النبوّة على وجه البسيطة، ولم تجهل لديه صفات النّبي المبعوث.
وعلى هذا الأساس أخبر بعض أهلِّ العلم من الأحبار حينّما أسرّ إليه بأنّ ابن أخيه محمّد الروح الطيّبة، والنّبي المطهّر على لسان التوراة والانجيل، فاستكتمه أبو طالب الحديث كي لا يفشوا الخبر، ثمّ قال له: " إنّ أبي أخبرني أنّه النّبي المبعوث، وأمر أنّ أستر ذلك لئلا يغرى به الأعادي ".
ولو لم يكن معتقداً صدق الدعوة لما قال لأخيه حمزة لما أظهر الإسلام.
فصَبْر أبا يَعلى على دينِ أحمد | وكُن مظهراً للدين وُفّقت صابراً |
____________
(1) الفتوح لابن أعثم الكوفي 2: 557، الغدير 7: 348. وقد ذكر المصادر الموردة للحديث ثمّ قال: " قال الأميني: أترى أنّ أبا طالب يروي ذلك عن أبيه مطمئناً به، وينشط رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذا التنشيط لأوّل يومه، ويأمره بإرشاد أمره والإشادة بذكر اللّه، وهو مخبت بأنّه هو ذلك النّبي الموعود بلسان أبيه والكتب السالفة، ويتكهن بخضوع العرب له ; أتراه سلام اللّه عليه يأتي بهذه كلّها ثُمّ لا يؤمن به؟! إنّ هذا إلاّ اختلاق.
وحطْ من أتى بالدين من عندِ ربِّه | بصدق وحقّ لا تكن حمز كافراً |
فقد سرّني إذ قلت إنّك مُؤمن | فكنْ لرسولِ اللّهِ في اللّهِ ناصراً |
ونادِ قُريشاً بالذي قَدْ أتيته | جهاراً وقُلّ ما كان أحمدَ ساحراً(1) |
وقال راداً على قريش:
أَلَمْ تَعْلَموا أنّا وجدنا محمّداً | نبيّاً كموسى خطَّ في أوّل الكتّب(2) |
وقال:
وأَمسى ابنُ عبدِ اللّهِ فينا مُصدّقاً | على سخط من قَومنا غيرَ معتّب(3) |
وقال:
أمينٌ محبّ في العبادِ مسوّم | بخاتمِ ربِّ قاهر للخواتمِ |
يرى الناسَ بُرهاناً عليه وهيّبة | وما جاهل في فعلهِ مثل عالمِ |
نبيّ أتاه الوحي من عندِ ربِّه | فمَن قال لا يقرع بها سنّ نادم(4) |
____________
(1) مناقب آل أبي طالب 1: 56، كنز الفوائد للكراجكي: 79، الغدير 7: 357، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 76.
(2) مناقب آل أبي طالب 1: 57، كنز الفوائد للكراجكي: 79، البداية والنهاية لابن كثير 3: 108، السيرة النبوية لابن هشام 1: 235.
(3) مناقب آل أبي طالب 1: 58، سيرة ابن إسحاق: 145، الدر النظيم للعاملي: 216.
(4) كنز الفوائد للكراجكي: 79، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 73.
تَعْلم خيارُ الناسِ أنّ محمّداً | وزيرٌ لموسى والمسيّح بن مريّم |
أتى بالهدى مثَلَ الذي أتيَا بهِ | فكُلّ بأمر اللّه يهدّي ويَعصِمُ |
وإنّكم تتلونه في كتابكم | بِصدقِ حديث لا حديثَ المُترجم |
فلا تجعلوا للّهِ نداً وأسلموا | فإنّ طريق الحقِّ ليس بمُظلِمِ |
وقال:
اذهب بُنيّ فمَا عليكَ غَضاضَة | اذهب وقرّ بذاك مِنك عيوناً |
واللّه لن يَصلوا إليكَ بجمعهِم | حتّى أُوسدَ في التّراب دفيناً |
ودعوتني وعلمتُ أنّكَ ناصحي | ولقد صدقتَ وكُنتَ قَبلُ أميناً |
وذكرتَ ديناً لا محالة أنّه | من خير أديانِ البريّة ديناً(1) |
وبعد هذه المصارحة هل يخالج أحداً الريبُ في إيمان أبي طالب؟
____________
(1) مناقب آل أبي طالب 1: 301، بحار الأنوار 35: 87، الغدير 7: 334، فتح الباري 7: 148، تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي 1: 435، الكشّاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل للزمخشري 2: 12، تفسير الثعلبي 4: 141، تفسير البغوي 2: 91، زاد المسير لابن القيم 2: 17، تاريخ الإسلام للذهبي 1: 150، البداية والنهاية لابن كثير 3: 56، السيرة الحلبية 1: 462، وغيرها من المصادر الكثيرة التي نقلت هذا الشعر بتمامه أو بعض المقاطع منه.
وهل يكون إقرار بالنبوّة أبلغ من قوله: " فأمسى ابن عبد اللّه فينا مصدقاً "؟
وهل فرق بين أن يقول المسلم: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وبين أن يقول:
وإن كانَ أحمد قَدْ جاءَهم | بصدق ولم يتهم بالكذبِّ(1) |
أو يعترف الرجل بأنّ محمّداً كموسى وعيسى جاء بالهدى والرشاد مثل ما أتيا به ثُمّ يحكم عليه بالكفر؟!
وهل هناك جملة يعبّر بها عن الإسلام أصرح من قول المسلم:
وذكرت ديناً لا محالة أنّه | من خيرِ أديّان البريّة ديناً؟ |
كلاّ! ولو لم يعرف أبو طالب من ابن أخيه الصدق فيما أخبر به لما قال له بمحضر قريش ليريهم من فضله وهو به خبير وجنانه طامن: " يابن أخي اللّه أرسلك "؟
قال: " نعم ".
قال: " إنّ للأنبياء معجزة وخرق عادة فأرنا آية "؟
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): " يا عم ادع تلك الشجرة وقل لها: يقول لك محمّد بن عبد اللّه: أقبلي بإذن اللّه "! فدعاها أبو طالب فأقبلت حتّى سجدت بين يديه، ثُمّ أمرها بالانصراف فانصرفت، فقال أبو
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 62، سيرة ابن إسحاق: 144.
وقال يوماً لعلي: " ما هذا الذي أنت عليه "؟
قال: " يا أبة آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت بما جاء به، ودخلت معه واتبعته ". فقال أبو طالب: " أما أنّه لا يدعك إلاّ إلى خير فالزمه "(2).
وهل يجد الباحث بعد هذا كُلّه ملتحداً عن الجزم بأنّ شيخ الأبطح كان معتنقاً للدّين الحنيف، ويكافح طواغيت قريش حتّى بالإِتمام مع النّبي في صلابة، وإن أهمله فريق من المؤرّخين رعاية لمّا هم عليه من حبّ الوقيعة في أبي طالب ورميه بالقذائف، حنقاً على ولده (الإِمام) الذي لم يتسنّ لهم أي غميزة فيه، فتحاملوا على أُمّه وأبيه، إيذاءً له، واكثاراً لنظائر من يرومون إكباره وإجلاله ممّن سبق منهم الكفر، وحيث لم يسعهم الحظّ من كرامة النّبي أو الوصيّ عمدوا إلى أبويهما الكريمين فعزوا إليهما الطامات، وربما ستروا ما يؤثر عنهما من الفضائل إيثاراً لما يروقهم اثباته!!
ويشهد لذلك ما ذكره بعض الكتّاب عند ذكرى أسرى بدر فقال: " وكان من الأسرى عمِّ النّبي، وعقيل ابن عمه (أخو علي) "(3).
____________
(1) بحار الأنوار 35: 115، الغدير 7: 396.
(2) مناقب آل أبي طالب 1: 301، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 200، تفسير الثعلبي 5: 85، تاريخ الطبري 2: 58، السيرة الحلبية 1: 436، سبل الهدى والسلام للصالحي الشامي 2: 301.
(3) تاريخ الاُمّة العربية: 84، مطبعة الحكومة، بغداد، 1939م.
ثُمّ جاء فريق آخر من المؤرّخين يحسبون حصر المصادر في ذوي الأغراض المستهدفة، وأنّ ما جاءوا به حقائق راهنة، فاقتصر على مرويّاتهم ممّا دبّ ودرّج، وفيها الخرافات وما أوحته إليهم الأهواء والنوايا السيئة، ومن هنا أُهملت حقائق ورويت أباطيل.
فعزوا إلى أبي طالب قوله: " إنّي لا أحبّ أن تعلوني أستي "!(1)
____________
(1) مسند أحمد 1: 99، مجمع الزوائد للهيثمي 9: 102 وقال: " رواه أحمد وأبو يعلى باختصار، والبزار والطبراني في الأوسط وإسناده حسن "، مسند أبي داود الطيالسي: 26، السيرة الحلبية 1: 436.
والجدير بالذكر أنّ الحديث ورد عن طريق يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه، عن حبّة العرني، عن علي وعليه فالكلام يقع في مقامين:
الأوّل: في سند الحديث والثاني: في متن الحديث.
أمّا سند الحديث فلا يحتاج إلى كثير مؤونة ; لأنّ يحيى بن سلمة بن كهيل ضعيف، قال الذهبي في ميزان الاعتدال 4: 381/9527: " يحيى بن سلمة بن كهيل عن أبيه:
قال أبو حاتم وغيره: منكر الحديث.
وقال النسائي: متروك.
وقال عباس عن يحيى: ليس بشيء، لا يكتب حديثه.
وقال محمّد بن إبراهيم بن أبي العنس: أخبرني يحيى بن سلمة قال: كان سفيان الثوري يجيء إلى أبي وهو غلام عليه أقبية يسمع منه، فكان أبي يعيّرني به ويقول: أُنظر إلى هذا الغلام يجيء من بني ثور رغبة في الحديث، وأنت هاهنا لا ترغب فيه... ".
وارجع إلى غيره تجد ترجمته كما ذكرنا.
وأمّا الناحية الثانية المتعلقة بمتن الحديث، فنقول: إنّ صاحب السيرة الحلبية 1: 436 قال بعد أن ذكر الحديث: " وهذا ـ كما لا يخفى ـ ينبغي أن يكون صدر منه قبل ما تقدّم من قوله لابنه جعفر: صل جناح ابن عمك، وصل على يساره، لما رأى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يصلّي وعلي على يمينه.. ".
فاذن لا بدّ من تخطّي هذا الأمر وإثبات أنّ هذا القول صدر بعد ما أوصى جعفر بالصلاة مع النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنى له إثبات ذلك، مع ما عرفته من حال السند.
أضف إلى ذلك أنّه قال: " وذكر أنّ أبا طالب قال لعلي: أي بني ما هذا الذي أنت عليه؟
فقال: يا أبتِ آمنت باللّه ورسوله، وصدّقت ما جاء به، ودخلت معه واتبعته! فقال: إما إنّه لم يدعك إلاّ إلى خير فالزمه ".
وعليه فيكون الحديث المتقدّم باطلاً ; لأنّ المعروف خلافه.
يضاف إلى ذلك تناقض آخر ; إذ ذكروا أنّ أبا طالب مات مشركاً، لا لأجل هذه المقوله: " إنّي لا أحبّ أن تعلوني أُستي "، بل لأجل ما ذكروا من قول أبي طالب: " إنّي لا أعلم أنّ ما يقوله ابن أخي لحقّ، ولولا أنّي أخاف أن تعيّرني نساء قريش لاتبعته ".
فيكون عدم الاتباع لأجل هذا، لا ما تقدّم.
فاذن الحديث ضعيف سنداً، ومن الجهة الأخرى فيه مشاكل مقنية تأبى قبوله أو التصديق به، فيكون من مختلقات العثمانيين.
قال رسول اللّه: " دين اللّه، ودين ملائكته ورسله، ودين أبينا إبراهيم، بعثني اللّه به إلى العباد، وأنت أحقّ من دعوته إلى الهدى وأحقّ من أجابني ".
فقال أبو طالب: " إنّي لا استطيع أن أُفارق ديني ودين آبائي، واللّه لا يخلص إليك من قريش شيء تكرهه ما حييت "(1).
____________
(1) تاريخ الطبري 2: 58، الكامل في التاريخ 2: 58.
وجوابه: هذا من أنفس التورية وأبلغ المحاورة، فإنّ مراده من قوله لرسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) عقيب قوله: " أنت أحق من دعوته ": " إنّي لا أستطيع أن أفارق ديني ودين آبائي " الاعتراف بإيمانه، وأنّه باق على الملّة البيضاء، وحنيفية إبراهيم الخليل الذي هو دين الحقّ والهدى، وهو دينه ودين آبائه، ثُمّ زاد أبو طالب في تطمين النّبي بالمدافعة عنه مهما كان باقياً في الدنيا.
نعم، من لا خبرة له بأساليب الكلام وخواصّ التورية يحسب أنّ أبا طالب أراد بقوله: " إنّي لا أُفارق ديني... إلى آخره " الخضوع للأصنام، فصفق طرباً، واختال مرحاً.
وجاء الآخر يعتذر عنه بأنّه كان يراعي بقوله هذا الموافقة لقريش، ليتمكّن من كلائة النّبي وتمشية دعوته.
نحن لا ننكر أنّ شيخ الأبطح كان يلاحظ شيئاً من ذلك ويروقه مداراة القوم في ما يمسّ بكرامة الرسول للحصول على غايته الثمينة، لكنّا لا نصافقهم في كلّ ما يقولون: من انسلاله عن الدّين الحنيف إنسلالاً باتاً، فإنّه خلاف الثابت من سيرته حتّى عند رواة تلكم المخزيات، ومهملي الحقائق الناصعة، حذراً عمّا لا يلائم خطتهم، فلقد كان يراغم أُولئك الطواغيت بما هو أعظم من التظاهر بالإيمان والائتمام بالصلاة مع النّبي.
وإنّ شعره الطافح بذكر النبوّة والتصديق بها سرت به الركبان، وكذلك أعماله الناجعة حول دعوة الرسالة:
ولولاَ أبُو طَالب وابنِهِ | لمّا مَثُلَ الّدِين شَخصاً فَقامَا |
فَذاكَ بِمَكةَ آوى وحَامَا | وهذا بيثرِبَ جَسّ الحِمامَا |
تَكفّل عَبدُ مُناف بِأمر | وأَودىَ فَكَان عليٌ تَمامَا |
فللِّه ذا فَاتِحُ للهُدَى | وللّه ذا للمَعالِي خِتامَا |
وما ضَِرّ مَجدُ أبي طَالب | عَدو لغا أو جَهول تعامى(1) |
____________
(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14: 84، قال ابن أبي الحديد المعتزلي: " وصنّف بعض الطالبيين في هذا العصر كتاباً في إسلام أبي طالب وبعثه إليّ، وسألني أن أكتب عليه بخطي نظماً أو نثراً، أشهد فيه بصحة ذلك وبوثاقة الأدلّة عليه، فتحرّجت أن أحكم بذلك حكماً قاطعاً، لمّا عندي من التوقّف فيه، ولم استجز أن أقعد عن تعظيم أبي طالب، فإنّي أعلم أنّه لولاه لما قامت للإسلام دعامة، وأعلم أنّ حقّه واجب على كلّ مسلم في الدنيا إلى أن تقوم الساعة، فكتبت على ظاهر المجلد: ولولا أبو طالب وابنه... ".
على أنا نقول: إن الأدلّة على إيمانه كثيرة، بينما الأدلّة المنقولة عن عدم إيمانه فيها ما هو مرفوض ; لأنّ في أسانيدها من كان يبغض علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كحديث الضحضاح من النار ; فإنّه رواية المغيّرة بن شعبة، وهو معلوم البغض والعداوة لأهل البيت (عليهم السلام) ولعلي (عليه السلام) بالخصوص، حيث كان يسبّه على المنابر، ويقيم خطباء على سبّه، فمثل هذا الشخص لا تحلّ عنه الرواية مطلقاً فضلاً عن روايته عن حال أهل البيت (عليهم السلام).
والخلاصة: إنّ أبا طالب مؤمن باللّه وبرسوله لعدة أدلّة لا مطعن لها، ولا تحتاج إلى تأويل وهي كالتالي:
1 ـ الأشعار الكثيرة التي أطلقها أبو طالب في حقّ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي فيها الصريح بإيمانه وتصديقه برسالة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).
2 ـ إنّ فاطمة بنت أسد زوجة أبي طالب من المسلمات الأوليات وقد بقيت على نكاح أبي طالب، إلى أن مات، ولم يفرقها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا أمر بتفريقهما.
3 ـ بعض الأحاديث المنقولة عن أبي طالب والتي تدلّ على إسلامه.
4 ـ محبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي طالب معلومة مشهورة، فهذا يدلّ على إيمانه لأنّ اللّه تعالى أمرّ ببغض المشركين والتبري منهم، فلو كان مشركاً لابغضه.
السنن الكبرى للبيهقي 9: 131، مجمع الزوائد للهيثمي 6: 150 و151 وقال عقيبه: " رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح "، و9: 120 و123 و124 و371، مسند أبي داود الطيالسي: 320، المصنّف للصنعاني 11: 228، ح20395، المصنّف لابن أبي شيبة الكوفي 7: 496، ح 15 و500، ح 33 وح 35 وح 37 و504، ح 56 و8: 520، ح 2 وح 7 و522، ح 10 وح 22، مسند ابن راهويه 1: 253، ح 219، مسند سعد بن أبي وقاص: 51، ح 19، كتاب السنّة لابن عاصم: 594، ح 1379 وح 1380، السنن الكبرى للنسائي 5: 46، ح 8149 و8151 و108، ح 8399 وح 8400 وح 8401 وح 8402 وح 8403 وح 8404 وح 8405 وح 8406 وح 8407 وح 8408 وح 8409 و123، ح 8439 و145، ح 8511، و172، ح 8587 و178، ح 8601 و179، ح 8602 و180، ح8603، خصائص أمير المؤمنين للنسائي: 49 و50 و51 و52 و53 و55 و56 و57 و58 و59 و60 و61 و62 و82 و116، صحيح ابن حبان 15: 379 و380 و382، المعجم الأوسط للطبراني 1: 239، و6: 59، المعجم الصغير للطبراني 2: 11، المعجم الكبير للطبراني 6: 127 و7: 13 و17 و35 و77، الاستيعاب لابن عبد البر 2: 787 و3: 1099، الدرر في اختصار المغازي والسير لابن عبد البر: 198 و199 و200، رياض الصالحين للنووي: 108 و145.
" أيّها الناس سيظهر في هذه الليلة ولّي من أولياء اللّه، يكمّل فيه خصال الخيّر، ويتمّ به الوصيّين، وهو إمام المتقين، وناصّر الدّين، وقامع المشركين، وغيّظ المنافقين، وزيّن العابدين، ووصيّ رسول ربِّ العالمين، إمام هدىً، ونجم علا، ومصباح دجىً، ومبيد الشرك والشبهات، وهو نفسّ اليقيّن ".
ويقول رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): " ضربة علي عمرو بن ود تعدل عِبادة الثقلين "(2).
وقال يوم خيبر: " لأعطينّ الراية رجلاً يُحبّ اللّه ورسوله ويحبّه اللّه ورسوله، لا يرجع حتّى يفتح فأعطاها لعلي (عليه السلام)، وكان الفتح على يده "(3).
وبعد هذا فلنقف عن الاتيان بما أودع اللّه فيه من نفسيات وغرائز، شكرها لَهُ الإسلام.
نعم، يجب أن نلفت القارئ إلى شيء أكثر البحث فيه رواة الحديث وهو: الإسلام حال الصغر، وتردّدت الكلمة في الجوامع،
____________
(1) روضة الواعظين للنيسابوري: 78، بحار الأنوار 35: 102.
(2) ورد بهذا اللفظ في عوالي اللئالئ لابن جمهور الاحسائي 4: 86، وورد بلفظ: " ضربة علي يوم الخندق أفضل من أعمال أُمتي إلى يوم القيّامة " وفي المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 32، شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني 2: 14، تاريخ بغداد للبغدادي 13: 19، تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر 50: 333.
وكلا الحديثين معناهما واحد ; لأنّ الأفضليّة في الأعمال تعني المعادلة إن لم تكن أكثر، والأُمّة شاملة للثقلين معاً: الإنس، والجنّ.
(3) ورد الحديث بألفاظ مختلفة في: مسند أحمد 1: 185 و331 و2: 384 و4: 52 و5: 333 و358، صحيح البخاري 4: 12 و20 و207 و5: 76، كتاب المغازي، باب غزوة خيبر، كتاب الجهاد والسير، باب دعاء النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، صحيح مسلم 5: 195، كتاب الجهاد والسير، باب غزوة خيبر، و7: 120 و121 و122، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل علي (رضي الله عنه)، سنن ابن ماجه 1: 44، ح117، سنن الترمذي 5: 302 ح3808، فضائل الصحابة للنسائي: 15 و16، المستدرك على الصحيحين للحاكم 3: 38 و109 و132 و437.