الزواج
تزوّج أمير المؤمنين (عليه السلام) من فاطمة ابنة حزام العامرية، إمّا بعد وفاة الصديقة سيّدة النساء كما يراه بعض المؤرّخين(1)، أو بعد أن تزوّج بأُمامة بنت زينب بنت رسول اللّه كما يراه البعض الآخر(2). وهذا بعد وفاة الزهراء (عليها السلام) ; لأنّ اللّه قد حرّم النساء على علي ما دامت فاطمة موجودة(3).
فولدت أربعة بنين وأنجبت بهم: العبّاس، وعبد اللّه، وجعفر، وعثمان، وعاشت بعده مدّة طويلة ولم تتزوّج من غيره، كما أنّ أُمامة وأسماء بنت عميس وليلى النهشلية لم يخرجن إلى أحد بعده. وهذه الحرائر الأربع توفى عنهنّ سيد الوصيين(4).
وقد خطب المغيرة بن نوفل أُمامة، ثُمّ خطبها أبو الهياج بن أبي سفيان بن الحارث، فامتنعت، وروت حديثاً عن علي (عليه السلام): إنّ أزواج النّبي والوصيّ لا يتزوّجن بعده، فلم يتزوجن الحرائر وأُمهات الأولاد عملاً بالرواية(5).
____________
(1) جواهر المطالب في مناقب الإمام علي: 121، الدر النظيم للعاملي: 411.
(2) السيرة النبوية لابن كثير 4: 581، السيرة الحلبية 2: 452، الكنى والألقاب للقمي 1: 115.
(3) مناقب آل أبي طالب لابن شهراشوب 3: 110، الأمالي للشيخ الطوسي: 43، بشارة المصطفى للطبري: 381.
(4) عمدة القارئ 8: 41، تنقيح التحقيق في أحاديث التعليق: 305.
(5) مناقب آل أبي طالب 3: 90.
وبلغ من عظمها ومعرفتها وتبصّرها بمقام أهل البيت (عليهم السلام)، أنّها لمّا أُدخلت على أمير المؤمنين ـ وكان الحسنان مريضين ـ أخذت تُلاطف القول معهما، وتُلقي إليهما من طيب الكلام ما يأخذ بمجامع القلوب، وما برحت على ذلك تُحسن السيرة معهما وتخضع لهما كالأُم الحنون.
ولا بدع في ذلك فإنّها ضجيعة شخص الإيمان، قد استضاءت بأنواره، وربّت في روضة أزهاره، واستفادت من معارفه، وتأدّبت بآدابه، وتخلّقت بأخلاقه.
الولادة
لقد أشرق الكون بمولد قمر بني هاشم يوم بزوغ نوره من أُفق المجد العلوي، مرتضعاً ثدي البسالة، متربيّاً في حجر الخلافة، وقد ضربت فيه الإمامة بعرق نابض، فترعرع ومزيج روحه الشهامة والإباء والنزوع عن الدنايا، وما شوهد مشتداً بشبيبته الغضة إلاّ وملء اهابه إيمان ثابت، وحشو ردائه حلم راجح، ولبّ ناضج، وعلم ناجع.
فلم يزل يقتصّ أثر السبط الشهيد (عليه السلام) الذي خلق لأجله، وكوّن لأن يكون ردءاً له، في صفات الفضل، ومخائل الرفعة، وملامح الشجاعة، والسؤدد والخطر. فإن خطى سلام اللّه عليه فإلى الشرف، وإن قال فعن الهُدى والرشاد، وإن رمق فإلى الحقّ، وإن مال فعن الباطل، وإن ترفّع فعن الضيم، وإن تهالك فدون الدين.
فكان أبو الفضل جامع الفضل والمثل الأعلى للعبقرية ; لأنّه كان يستفيد بلج هاتيك المآثر من شمس فلك الإمامة (حسين العلم والبأس والصلاح)، فكان هو وأخوه الشهيد (عليه السلام) من مصاديق قوله تعالى في التأويل: { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا }(1)، فلم يسبقه بقول استفاده منه، ولا بعمل أتبعه فيه، ولا بنفسية هي ظلّ نفسيته، ولا بمنقبة هي شعاع نوره الأقدس، المنطبع في مرآة غرائزه الصقيلة.
____________
(1) الشمس: 1 ـ 2.
وممّا لا شكّ فيه أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لمّا أحضر أمامه ولده المحبوب ليقيم عليه مراسيم السنّة النبويّة التي تقام عند الولادة، ونظر إلى هذا الولد الجديد، الذي كان يتحرّى البناء على أُمه أن تكون من أشجع بيوتات العرب ; ليكون ولدها ردءاً لأخيه السبط الشهيد يوم تحيط به عصب الضلال، شاهد بواسع علم الإمامة ما يجري عليه من الفادح الجلل، فكان بطبع الحال يطبق على كُلّ عضو يشاهده مصيبة سوف تجري عليه، يقلّب كفيه اللذين سيقطعان في نصرة حجّة وقته، فتهمل عيونه.
____________
(1) أنيس الشيعة للعلاّمة السيّد محمّد عبد الحسين بن السيّد محمّد عبد الهادي المدارسي الهندي قال شيخنا الحجّة في الذريعة إلى مصنفات الشيعة 2: 45: رأيت الكتاب في النجف عند العالم السيّد اقا التستري من أحفاد السيّد نعمة اللّه الجزائري، والكتاب في وقائع الأيام، من موجبات السرور والأحزان، من مواليد الأئمة ووفياتهم ومعاجزهم..، رتّبه على الأشهر، بدأ بربيع الأول وختم في شهر صفر، وله مقدّمه في نسب النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وسنة جلوس الوصي (عليه السلام)وخاتمة في أحوال الحجة المنتظر (عليه السلام).
وذكر العلاّمة ميرزا محمّد علي الاُوردبادي أنّه قرأ بخطّ المؤلّف على ظهر الكتاب إنّه أهداه إلى السلطان فتح علي شاه يوم الجمعة أول شعبان سنة 1244 هـ، وللمؤلّف كتب منها: زاد المؤمنين، وتذكرة الطريق، وعناية الرضا.
(2) المجدي والأنوار النعمانية: 124، وحكاه في كتاب قمر بني هاشم: 22 عن وقائع الأيام لشيخ محمّد باقر البيرجندي.
فكان هذا الولد العزيز على أبويه وحامته كُلّما سرّ أبوه اعتدال خلقته، أو ملامح الخير فيه، أو سمة البسالة عليه، أو شارة السعادة منه ; ساءه ما يشاهده هنالك من مصائب يتحمّلها، أو فادح ينوء به، من جرح دام، وعطش مجهد، وبلاء مكرب.
وهذه قضايا طبيعيّة تشتدّ عليها الحالة في مثل هاتيك الموارد، ممّن يحمل أقلّ شيء من الرقّة على أقلّ إنسان، فكيف بأمير المؤمنين (عليه السلام) الذي هو أعطف الناس على البشر عامّة من الأب الرؤوف، وأرقّ عليهم من الأُم الحنون.
إذن فكيف به في مثل هذا الإنسان الكامل (أبي الفضل) الذي لا يقف أحد على مدى فضله، كما ينحسر البيان عن تحديد مظلوميته واضطهاده.
____________
(1) مثير الأحزان لابن نما الحلّي: 12.
صفاته
لقد كان من عطف المولى سبحانه وتعالى على وليّه المقدّس، سلالة الخلافة الكبرى، سيّد الأوصياء، أن جمع فيه صفات الجلالة من بأس وشجاعة وإباء ونجدة، وخلال الجمال من سؤدد وكرم ودماثة في الخلق، وعطف على الضعيف، كُلّ ذلك من البهجة في المنظر ووضاءة في المحيا من ثغر باسم ووجه طلق تتموّج عليه أمواه الحسن، ويطفح عليه رواء الجمال، وعلى أسرة جبهته أنوار الإيمان، كما كانت تعبق من أعراقه فوائح المجد، متأرّجة من طيب العنصر.
ولمّا تطابق فيه الجمالان الصوري والمعنوي قيل له: " قمر بني هاشم "(1)، حيث كان يشوء بجماله كُلّ جميل، وينذ بطلاوة منظره كُلّ أحد، حتّى كأنّه الفذّ في عالم البهاء، والوحيد في دنياه، كالقمر الفائق بنوره أشعة النجوم، وهذا هو حديث الرواة:
" كان العبّاس رجلاً وسيماً جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض، وكان يقال له: قمر بني هاشم "(2).
وقد وصفته الرواية المحكية في مقاتل الطالبيين بان " بين عينيه أثر السجود "، ونصّها:
____________
(1) كان يقال لعبد مناف: (قمر البطحاء)، ولعبد اللّه والد النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (قمر الحرم).
(2) مقاتل الطالبيين: 55.
وروى سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمّد، عن القاسم بن الأصبغ المجاشعي قال: " لما أُتي بالرؤوس إلى الكوفة، وإذا بفارس أحسن الناس وجهاً قد علق في لبب فرسه رأس غلام أمرد، كأنّه القمر ليلة تمّه، والفرس يمرح، فإذا طأطأ رأسه لحق الرأس بالأرض، فقلت: رأس من هذا؟ قال: رأس العبّاس بن علي، قلت: ومن أنت؟ قال: حرملة بن الكاهل الأسدي(2).
قال: فلبثت أياماً وإذا بحرملة وجهه أشدّ سواداً من القار، فقلت: رأيتك يوم حملت الرأس وما في العرب أنظر وجهاً منك، وما أرى اليوم أقبح ولا أسود وجهاً منك؟ فبكى وقال: واللّه منذ حملت الرأس وإلى اليوم ما تمرّ عليَّ ليلة إلاّ واثنان يأخذان بضبعي، ثُمّ ينتهيان بي إلى نار تؤجّج، فيدفعاني فيها وأنا أنكص، فتسفعني كما ترى، ثُمّ مات على أقبح حال "(3).
____________
(1) مقاتل الطالبيين: 79. الأصبغ هنا ابن نباتة ; لأنّ بني مجاشع بطن من حنظلة من تميم كما في نهاية الإرب للقلقشندي: 334، والأصبغ ابن نباتة حنظلي تميمي كما نصّ عليه ابن حجر في تهذيب التهذيب 1: 362.
(2) في تاريخ الطبري 4: 359:حرملة بن الكاهن، وفي الفصول المهمة لابن الصباغ: 845: حرملة بن الكاهل. والأمر سهل.
(3) تذكرة الخواص: 291.
وفي دار السلام للعلاّمة النوري ج1 ص114 والكبريت الأحمر ج3 ص52 ما يشهد للاستبعاد، واصلاحه كما في كتاب " قمر بني هاشم " ص126 بأنّه رأس العبّاس الأصغر بلا قرينة، مع الشكّ في حضوره الطفّ وشهادته، وهذا كاصلاحه بتقدير المقتول: " أخ العبّاس " المنطبق على عثمان الذي له يوم قتله إحدى وعشرين سنة، أو محمّد بن العبّاس المستشهد على رواية ابن شهرآشوب، فإنّ كُلّ ذلك من الاجتهاد البحت.
ولعلّ النظرة الصادقة فيما رواه الصدوق منضماً إلى رواية ابن جرير الطبري تساعد على كون المقتول حبيب بن مظاهر.
قال الصدوق: " وبهذا الاسناد عن عمرو بن سعيد، عن القاسم بن الأصبغ ابن نباتة، قال: قدم علينا رجل من بني أبان بن دارم ممّن شهد قتل الحسين، وكان رجلاً جميلاً شديد البياض، فقلت له: ما كدت أعرفك لتغير لونك؟ قال: قتلت رجلاً من أصحاب الحسين، يبصر بين عينيه أثر السجود وجئت برأسه.
فقال القاسم: لقد رأيته على فرس له مرحاً، وقد علّق الرأس بلبانها، وهو يصيبه بركبتيه، قال: فقلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس قليلاً، أما ترى ما تصنع به الفرس بيديها؟ فقال: يا بني ما يصنع به أشد، لقد حدّثني قال: ما نمت ليلة منذ قتلته إلاّ أتاني في منامي
وقد اتفقت هذه الروايات الثلاث في الحكاية عن القاسم بن الأصبغ بن نباتة بما فعل بالرأس الطاهر.
وتفيدنا رواية الصدوق أنّ المقتول رجل لا شاب، وأنّه من أصحاب الحسين (عليه السلام)، ولا إشكال فيها، وإذا وافقنا ابن جرير على أنّ الرأس المعلّق هو رأس حبيب بن مظاهر ـ في حين أنّ المؤرّخين لم يذكروا هذه الفعلة بغيره من الرؤوس الطاهرة ـ أمكننا أن ننسب الاشتباه إلى الروايتين السابقتين، خصوصاً بعد ملاحظة ذلك الاستبعاد بالنسبة إلى العبّاس، وتوقّف التصحيح فيهما على الاجتهاد بلا قرينة واضحة.
قال ابن جرير في ج6 ص252 من التاريخ: " وقاتل قتالاً شديداً، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله، وكان يقال له: بديل بن صريم من بني عقفان، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه، فوقع، فذهب ليقوم، فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف، فوقع، ونزل إليه التميمي فاحتز رأسه، فقال له الحصين: إنّي لشريكك في قتله! فقال الآخر: واللّه ما قتله غيري! فقال الحصين: أعطنيه أُعقله في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله، ثُمّ خذه أنت بعد فامض به إلى
____________
(1) ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 219.
قال له: إنّ هذا الرأس الذي معك رأس أبي أفتعطينيه حتّى أدفنه؟
قال: يا بني لا يرضى الأمير أن يدفن، وأنا أريد أن يثيبني الأمير على قتله ثواباً حسناً!
قال له الغلام: لكن اللّه لا يثيبك على ذلك إلاّ أسوأ الثواب، أما واللّه لقد قتلته خيراً منك وبكى.
فمكث الغلام حتّى إذا أدرك لم يكن له همة إلاّ اتباع أثر قاتل أبيه ليجد منه غرة فيقتله بأبيه، فلمّا كان زمان مصعب بن الزبير، وغزا مصعب باجمير ادخل عسكر مصعب فإذا قاتل أبيه في فسطاطه، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غرته، فدخل عليه وهو قائل نصف النهار فضربه بسيفه حتّى برد... "(1).
نعم، في رواية الصدوق أنّ القاسم يسأل أباه عمّا يفعله الفرس بالرأس فيقول: " قلت لأبي: لو أنّه رفع الرأس.. إلى آخره ".
____________
(1) تاريخ الطبري 4: 335.
فتلك الجملة: " قلت لأبي "، لا يعرف من أين جاءت. ولا غرابة في زيادتها بعد طعن أهل السنّة فيه كما في اللألئ المصنوعة ج1 ص213، فإنّه بعد أن ذكر حديث الأصبغ بن نباتة عن أبي أيوب الأنصاري " أنّهم أُمروا بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين مع علي "، قال: " لا يصحّ الحديث، لأنّ الأصبغ متروك، لا يساوي فلساً "(1).
وفيه ص195 ذكر عن ابن عباس حديث الركبان يوم القيامة رسول اللّه وصالح وحمزة وعلي قال: " رجال الحديث بين مجهول وبين معروف بعدم الثقة "(2).
____________
(1) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 1: 374، ونصّ العبارة: " لا يصحّ، وأصبغ متروك لا يساوي فلساً ".
(2) اللألئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة للسيوطي 4: 344، ونصّ العبارة: " رجاله فيهم غير واحد مجهول وآخرون معروفون بغير الثقة ".
كنيته
اشتهر أبو الفضل العبّاس (عليه السلام) بكُنى وألقاب، وُصف ببعضها في يوم الطفّ، والبعض الآخر كان ثابتاً له من قبل، فمن كناه: أبو قربة(1) ; لحمله الماء في مشهد الطفّ غير مرّة، وقد سدّت الشرائع، ومنع الورود على ابن المصطفى وعياله، وتناصرت على ذلك أجلاف الكوفة، وأخذوا الاحتياط اللازم، ولكن أبا الفضل لم يرعه جمعهم المتكاثف، ولا أوقفه عن الإقدام تلك الرماح المشرعة، ولا السيوف المجرّدة، فجاء بالماء وسقى عيال أخيه وصحبه.
ولم ينصّ المؤرّخون وأهل النسب على كنيته بأبي القاسم ; إذ لم يذكر أحد أنّ له ولداً اسمه القاسم.
نعم، خاطبه جابر الأنصاري في زيارة الأربعين بها قال: " السلام عليك يا أبا القاسم، السلام عليك يا عباس بن علي "(2)، وبما أنّ هذا الصحابي الكبير المتربّي في بيت النبوّة والإمامة خبير بالسبب الموجب لهذا الخطاب، فهو أدرى بما يقول.
____________
(1) تهذيب الكمال للمزي 20: 479، شرح إحقاق الحق 32: 679.
(2) بحار الأنوار 98: 330.
بذلتَ أيا عباس نفساً نفيسة | لنصرِ حُسين عزّ بالنصر من مثلِ |
أبيتَ التذاذ الماء قبل التذاذهِ | فحسن فعال المرء فرع عن الأصلِ |
فأنتَ أخو السبطين في يوم مفخر | وفي يوم بذل الماء أنت أبو الفضلِ(2) |
____________
(1) الجريدة في أصول أنساب العلويين: 318.
(2) أعيان الشيعة 9: 259.
اللقب
اشتهر بين العامّة والخاصّة بأنّه سلام اللّه عليه باب الحوائج ; لكثرة ما صدر منه من الكرامات وقضاء الحاجات ومن هنا قيل فيه(1):
للشوس عباس يريهم وجهَهُ | والوفد يَنظِرُ باسِماً محتاجَها |
باب الحوائجِ مَا دَعتهُ مروعةً | في حاجة إلاّ ويُقضِي حَاجَها |
بأبِي أبيِ الفضلِ الذِي مِنْ فَضلهِ | السامِي تَعلّمتِ الوَرى منهاجَها |
وقيل له: " قمر بني هاشم "(2) ; لوضاءته وجمال هيئته وإنّ اسرة وجهه تبرق كالبدر المنير، فكان لا يحتاج في الليلة الظلماء إلى ضياء.
وأمّا " الشهيد " فلم ينصّ عليه أحد إلاّ أنّه الظاهر من عبارات أهل النسب، ففي المجدي لأبي الحسن العمري قال ـ بعد ذكر أولاده ـ: " هذا آخر نسب بني العبّاس الشهيد السقا ابن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) "(3).
____________
(1) من قصيدة لسيد الذاكرين السيّد صالح الحلّي (رحمه الله).
(2) مقاتل الطالبيين: 56، مناقب آل أبي طالب 3: 256، بحار الأنوار 45: 39.
(3) المجدي في أنساب الطالبيين: 243.
ثُمّ روى عن معاوية بن عمّار الزيدي قال: " قلت للصادق (عليه السلام): كيف قسمتم نحلة فدك بعد ما رجعت عليكم؟ قال: " أعطينا ولد عبيد اللّه بن العبّاس الشهيد الربع والباقي لولد فاطمة، فأصاب بني العبّاس بن علي أربعة أسهم، الحصة أربعة نفر، ورثوا علياً (عليه السلام) "(2).
وكان الحريّ بأرباب المقاتل والنسب أن يدوّنوا له هذا اللقب المعرب عن أسمى منزلة له، وهو " العبد الصالح " كما خاطبه الإمام الصادق في الزيارة المخصوصة به التي رواها أبو حمزة الثمالي حيث يقول: " السلام عليك أيّها العبد الصالح "(3).
فإنّك جدّ عليم بأنّ هذه الصفة أرقى مراتب الإنسان الكامل ; لأنّها حلقة الوصل بين المولّى والعبد، وأفضل حالات أيّ فاضل، حيث يجد نفسه الطرف الرابط لموجد كيانه جلّ وعلا، وإن من أكمل مراتب الوجود فيما إذا التأم المنتهى مع المبدأ بنحو الصلة، وهذا لا يكون إلاّ إذا بلغ العبد أرقى مراتب الإنسانية التي تلحقه بعالم البساطة، وتنتهي به إلى صقع التجرّد، فتؤهّله لأن يتصل
____________
(1) سرّ السلسلة العلوية: 88.
(2) سرّ السلسلة العلوية: 89.
(3) كامل الزيارات: 440.
ولم يلقبوه بذلك ; لأن هذا المعنى صفة وليست اسماً ليجعل لقباً لشخص، وأهل السير غرضهم من ذكر الألقاب التمييز لا أطلاق الأوصاف، فتدبر.
ولا نعني بهذه المرتبة أن يكون العبد مواظباً على العبادات البسيطة المسقطة للخطاب والرافعة للتعزير فحسب، وإنّما نقصد منه ما إذا عبد اللّه سبحانه حقّ عبادته، الناشئة عن فقه وبصيرة ومعرفة بالمعبود الذي يجب أن يعبد، من دون لحاظ مثوبة أو عقوبة، حتّى يكون المولى هو الذي يسمّيه عبداً له، ويصافقه على تصديق دعواه بالعبودية له.
وما أسعد العبد حيث يبصر ما بيده من سلك الطاعة، ويعرف أنّ مولاه قابض على طرفه الآخر، تزلفه إليه جاذبة الصلة، وأشعة القرب.
وعلى ما قلناه كانت هذه المرتبة عند الأنبياء (عليهم السلام) أرقى مراتبهم، وأرفع منصاتهم ; لأنّ طرف عبوديتهم أمنع وأشرف من طرف رسالتهم، فالطرف الأعلى في العبودية " مبدأ الحقّ سُبحانه وتعالى "، والطرف الأسفل منته إلى شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأمّا النبوة فمبدؤها الرسول ومنتهاها الأُمة(1).
ولولا أنّ هذه الصفة أسمى الصفات التي يتصف بها العبد لما خصّ اللّه تعالى أنبياءه، بها فقال سبحانه: { وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْب مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَة مِّن مِّثْلِهِ }(2).
____________
(1) لكن حقيقة الرسالة راجعة إلى العبودية وداخلة في ضمنها، فهي منه وبه وإليه.
نعم، مانعية الرسالة من جهة اشتغال الرسول بتبليغ الرسالة والدخول في عالم الكثرة، وهذا فيه نوع حجب على النور الصافي فيما لو انقطع مع اللّه، ولكنّه بالتالي عبادة أقلّ من غيرها، فتدبّر.
(2) البقرة: 23.
وقال عزّ شأنه: { وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ }(2).
وقال جلّ وعلا: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(3).
وقال تعالت أسماؤه: { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }(4).
وقال عزّ سبحانه: { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ }(5).
وقال عظم ذكره: { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْب وَعَذَاب }(6).
وقد كان في وسع المولى تعالت أسماؤه أنّ يقول في خطاب نبيّه الكريم: " وإن كُنتم في ريب ممّا نزلنا على رسولنا.. " ونحوه ممّا يدل على النبوّة والرسالة، ولكن حيث كان حبيب اللّه وصفيّه متجرّداً عمّا يحجبه عن مشاهدة المهيمن سبحانه، فانياً في سبيل خدمة المولّى، لا يرى في الوجود غير منشئ الأكوان ; استحقّ أن يهبه البارئ تعالى أرقى صفة تليق بهذا المقام.
____________
(1) الإسراء: 1 (2) الأنفال: 41.
(3) ص: 17.
(4) ص: 30.
(5) ص: 45.
(6) ص: 41.
وأنت لا تفتأ في جميع الفرائض والنوافل في اليوم والليل تشهد بأنّ محمّداً عبده ورسوله، ولم تقل: خاتم الأنبياء، أو علّة الكائنات، أو سرّ الموجدات، أو حبيب اللّه وصفيّه، مع أنّها صفات لا تليق إلاّ بذات اشتقت من نور القدّس، ولكنّك عرفت أن أسمى هذه الصفات وأجلّ ما يليق بالعبد حال اتصاله بالمبدأ الأعلى هو وصفه بالعبودية لمولاه.
ومن هنا ظهر لنا أنّ من أجلى الحقائق وأرقى مراتب الفضلّ الّذي لا يُحلّق إليهِ طائر الفكر، ولا يدرك مداه أي تصوّر، غير أنّ من الواجب التصديق به على الجملة، هو وصف سيّدنا العبّاس (عليه السلام)بهذه الصفة الكاملة " العبد الصالح " التي أضافها اللّه تعالى إلى أنبيائه، ومبلّغي شريعته، وأمنائه على وحيه، ومنحه بها الإمام الصادق (عليه السلام).
____________
(1) مريم: 30.