نعم، عرفها البصير الناقد بعد أن جرّبها بمحكّ النزاهة، فوجدها غير مشوبة بغير جنسها، ثُمّ أطلق تلك الكلمة الذهبية الثمينة (ولا يعرف الفضل إلاّ أهله).
ولا يذهب بك الظنّ ـ أيّها القارئ الفطن ـ إلى عدم الأهمّية في هذه الكلمة بعد القول في زيارة الشهداء من زيارة وارث: " بأبي أنتم وأُمي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم ".
فإنّ الإمام في هذه الزيارة لم يكن هو المخاطِب لهم، وإنّما هو(عليه السلام) في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أن يخاطبهم بذلك الخطاب، فإنّ الرواية جاءت كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان قال: استأذنت الصادق (عليه السلام) لزيارة الحسين وسألته أن يعرّفني ما أعمل عليه.
فقال له: " يا صفوان، صُم قبل خروجك ثلاثة أيام " إلى أن
____________
(1) الكافي 4: 576، ح2، عيون أخبار الرضا 1: 308، تهذيب الأحكام للشيخ الطوسي 6: 55.
فالصادق (عليه السلام) في مقام تعليم صفوان أن يقول في السلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّ الصادق ماذا يقول لو أراد السلام عليهم.
وهنا ظاهرة أُخرى دلّت على منزلة كُبرى للعبّاس عند سيّد الشهداء، ذلك أنّ الإمام الشهيد لمّا اجتمع بعمر بن سعد ليلاً وسط العسكرين ; لإرشاده إلى سبيل الحقّ، وتعريفه طغيان ابن ميسون، وتذكيره بقول الرسول في حقّه ; أمر (عليه السلام) من كان معه بالتنحّي إلاّ العبّاس وابنه علياً، وهكذا صنع ابن سعد، فبقي معه ابنه وغلامه.
وأنت تعلم أنّ ميّزة أبي الفضل على الصحب الأكارم، وسروات المجد من آل الرسول الذي شهد لهم الحسين باليقين والصدق في النيّة والوفاء(1)، غير أنّه (عليه السلام) أراد أن يوعز إلى الملأ من بعده ما لأبي الفضل وعلي الأكبر من الصفات التي لا تحدها العقول.
ومن هذا الباب لمّا خطب يوم العاشر، وعلا صراخ النساء وعويل الأطفال حتّى كان بمسامع الحسين، وهو ماثل أمام العسكر، أمر أخاه العبّاس أن يسكتهنّ، حذار شماتة القوم إذا سمعوا ذلك العويل، وغيرة على نواميس حرم النبوّة أن يسمع أصواتهنّ الأجانب.
____________
(1) لعلّ جواب قول المصنّف: " وأنت تعلم... " وارد هنا وقد سقط من الطبعة السابقة، وتقديره: " معلومة "، أي أنّ منزلة أبي الفضل... معلومة.
لكن أهميّة موقفه عند أخيه السبط هو الذي أرجأ تأخيره عن الإقدام، فإنّ سيّد الشهداء يعدّ بقاءه من ذخائر الإمامة، وأنّ موتته تفتّ في العضد فيقول له: " إذا مضيتَ تفرّق عسكري "، حتّى إنّه في الساعة الأخيرة لم يأذن له إلاّ بعد أخذ وردّ.
وإنّ حديث (الإيقاد) لسيّدنا المتتبّع الحجّة السيّد محمّد علي الشاه عبد العظيم (قدس سره) يوقفنا على مرتبة تضاهي مرتبة المعصومين، ذلك لمّا حضر السجّاد (عليه السلام) لدفن الأجساد الطاهرة ترك مساغاً لبني أسد في نقل الجثث الزواكي إلى محلّها الأخير، عدى جسد الحسين وجثّة عمّه العبّاس، فتولّى وحده إنزالهما إلى مقرّهما، أو إصعادهما إلى حضيرة القدّس وقال: " إن معي من يعينني ".
أما الإمام فالأمر فيه واضح ; لأنّه لا يلي أمره إلاّ إمام مثله، ولكن الأمر الذي لا نكاد نصل إلى حقيقته وكنهه، فعله بعمّه الصدّيق الشهيد مثل ما فعل بأبيه الوصيّ، وليس ذلك إلاّ لأنّ ذلك الهيكل المطهّر لا يمسّه إلاّ ذوات طاهرة، في ساعة هي أقرب حالاته إلى المولى سبحانه، ولا يدنو منه مَن ليس من أهل ذلك المحلّ الأرفع.
العصمة
إنّ من الممكن جدّاً وليس بمحال. على اللّه تعالى، أن ينشىء كياناً لا تقترب منه العيوب، أو يخلق إنساناً لا يقترف الذنوب، ولقد أوجد جلّ شأنه ذواتاً مقدّسة، ونفوساً طاهرة، وجبت فيهم العصمة من الآثام، وتنزّهوا عن كُلِّ رجس: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }(1).
وقد اتفق أرباب الحديث والتراجم على حصر هؤلاء المنزّهين بالخمسة أصحاب الكساء، وهم: محمّد، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين (عليهم السلام).
ثُمّ أثبت أصحاب السيرة ما يضحك الثكلى ويلحق بالخرافات، فكان للغيرِ مجالُ الطعن والمناقشة، ذكروا أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا بلغ من العمر سنتين، وكان خلف البيوت عند بني سعد مع أتراب له، أتاه رجلان عليهما ثياب بيض، مع أحدهما طست من ذهب، مملوء ثلجاً، فشقّا بطنه وقلبه، واستخرجا منه علقة سوداء هي مغمز الشيطان.
وطربوا لذلك حيث إنّ اللّه بلطفه وكرمه قدّس نبيّه الكريم من هذه العلقة.
ولكن ما أدري لماذا صنع به هذه العملية الدامية وهو طفل صغير لا يقوى على تحمّل الآلام ومعانات الجروح الدامية؟! ألم
____________
(1) الأحزاب: 33.
تِلكَ نَفسٌ عَزّت عَلى اللّهِ قَدَراً | فارتَضاهَا لِنفسهِ واصَطفَاهَا |
حَازَ مِنْ جَوهَرِ التَقدّسِ ذَاتَاً | تاهت الأنبياء فِي مَعناهَا |
لا تَجل فِي صِفاتِ أحمدَ فِكَراً | فَهي الصُورةُ التيِ لَن تَراهَا |
وأغرب من ذلك جواب السبكي عن هذه المشكلة بأنّ اللّه أراد أن يخلق نبيّه ـ أولاً ـ كاملاً لا نقصان فيه عن سائر الناس حتّى في مثل هذه العلقة، لكونها من الأجزاء، ثُمّ بعد ذلك طهّره منها.
والعجب عدّ هذه العلقة من أجزاء بدن الإنسان التي يوجب فقدها نقصان الخلقة، وقد تنزّه عنها جلال النبوّة!
على أنّه أثبت ولادة النّبي مختوناً، وهذا أظهر في النقصان عمّا وجد عليه البشر من العلقة، لكونها غير مرئية.
وجواب الحلبي في السيرة ج1 ص115 بأنّه إنّما ولد مختوناً لئلاّ يطلع عليه المحرم وتنكشف عورته، لا يرفع إشكال النقصان عمّا عليه الناس.
وكيف كان فقد ثبت إمكان أن يخلق اللّه تعالى ذواتاً مقدّسة، مُنزّهة عن الأرجاس، معصومة عن الخطأ، وقد يجب ذلك كما في الهداة المعصومين، لكي يهدي بهم الناس(1).
____________
(1) السيرة الحلبية 1: 87، البداية والنهاية 2: 325، امتاع الاسماع للمقريزي 4: 57، مجمع الزوائد للهيثمي، وهو ليس تعليلاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإنما حديث مروي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) ورد فيه: " من كرامتي على ربي عزوجل أن ولدت مختوناً، ولم يرَ أحد سوأتي " وقد اختلفوا في تصحيح هذا الخبر وتضعيفه، ففي السيرة الحلبية في نفس المصدر قال: "..جاءت أحاديث كثيرة في ذلك، قال الحافظ ابن كثير: فمن الحفاظ من صححها ومنهم من ضعفها.. ".
فمن كانت عصمته واجبة ـ كما في المعصومين ـ سمّيت عصمته استكفائية ; لأنّه لا يحتاج في سلوكه إلى الغير، لكونه في غنىً عن أيّ حجّة، لتوفّر ما أُفيض عليهم من العلم والبصائر، ومن لم تكن فيه العصمة واجبة وكان محتاجاً إلى غيره في سلوكه وطاعته سُمّيت عصمته غير استكفائية، على تفاوت في مراتبهم من حيث المعرفة والعلم واليقين.
وحينئذ ليس من البدع إذا قلنا: إنّ (قمر بني هاشم) كان متحلياً بهذه الحلية، بعد أن يكون مصاغاً من نور القداسة الذي لا يمازجه أيّ شين، وعلى هذا كان معتقد شيخ الطائفة وإمامها
فتراه لم يقل عند ذكر رجالات أهل بيته الأعاظم، بل أثبت المعصومين منهم، وليس هذا العدول إلاّ لأنّه يرتأي أن يجعله في صفهم، ويعده منهم.
وتابعه على ذلك العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي فقال من قصيدته المتقدّمة:
أجل عباسُ الكِتَابَ والهُدى | والِعَلَم والدِينَ وأصحَاب العَبا |
عَن أن يُطِيشَ سَهمُهُ فَينثَنِي | والإثمَ قَد أثقَلَ مِنهُ مَنكِبَا |
لِم نَشتَرِط فِي ابنِ النّبيِّ عُصمة | ولا نَقولُ: إنّه قَد أذنَبَا |
وَلا أَقولُ غَيرَ مَا قَالَ بِهِ | (طَه الإمامُ) فِي الرِجَالِ النُجبَا |
فَالفِعَلُ مِنهُ حُجةُ كَقولِهِ | فِي الكُلِّ يَروِي عَن ذَويِهِ النُقَبَا |
وهذه النظرية في أبي الفضل لم ينكرها عالم من علماء الشيعة، نعرفه بالثقافة العلميّة، والتقدّم بالأفكار الناضجة، وقد استضأنا من أُرجوزة آية اللّه الحجّة الشيخ محمّد حسين الأصفهاني (رحمه الله) التي ستقرأها في فصل المديح حقائق راهنة، وكرائم نفيسة، سمت بأبي الفضل إلى أوج العظمة، وأخذت به إلى حظائر القدس، وصعدت به إلى أعلى مرتبة من العصمّة.
وممّا يزيدنا بصيرة في عصمته ما ذكرناه سابقاً في شرح قول الصادق: " لعن اللّه أُمة استحلّت منك المحارم وانتهكت في قتلك حرمة الإسلام ".
ويدخل في عموم لفظ الشهداء صريحة بيت الوحي " أبو الحسن علي الأكبر " الذي أفضنا القول في عصمّته.
وإذا كان العبّاس غير معصوم كيف يغبطه المعصوم على ما أُعطي من رفعة ومقام عالي؟ لأنّ المعصوم لا يغبط غيره، فلا بدّ أن للعبّاس أعلى مرتبة من العصمة كما عرفت، ومن هنا غبط منزلته التي أعدت له جميع الشهداء، حتّى من كان معصوماً كعلي الأكبر وأمثاله، غير الأئمة صلوات اللّه عليهم أجمعين.
____________
(1) الأمالي للشيخ الصدوق: 548، الخصال: 68، بحار الأنوار 22: 274، والنصّ: " وإن للعبّاس عند اللّه تبارك وتعالى منزلة عظيمة، يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة ".
الكرامات
من سنن اللّه الجارية في أوليائه: { وَ لَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً }(1) إكرامهم بإظهار ما لهم من الكرامة عليه والزلفى منه، وذلك غير ما ادّخره لهم من المثوبات الجزيلة في الآجلة، تقديراً لعملهم، وإصحاراً بحقيقة أمرهم، ومبلغ نفوسهم من القوّة، وحثّاً للملأ على اقتفاء آثارهم في الطاعة.
ومهما كان العبد يخفي الصالحات من أعماله فالمولى سبحانه يراغم ذلك الإخفاء بإشهار فضله، كما يقتضيه لطفه الشامل ورحمته الواسعة وبرّه المتواصل، وأنّه جلّت آلاؤه يظهر الجميل من أفعال العباد، ويزوي القبيح، رأفة منه، وحناناً عليهم.
ومن هذا الباب ما نجده على مشاهد المقرّبين وقباب المستشهدين في سبيل طاعته، من آثار العظمة، وآيات الجلالة، من إنجاح المتوسّل بهم إليه تعالى شأنه، وإجابة الدعوات تحت قبابهم المقدّسة، وإزالة المثلات ببركاتهم، وتتأكّد الحالة إذا كان المشهد لأحد رجالات البيت النبويّ ; لأنّه جلّت حكمته ذرأ العالمين لأجلهم، ولأن يعرفوا مكانتهم، فيحتذوا أمثالهم في الأحكام والأخلاق، فكان من المحتّم في باب لطفه وكرمه ـ عظمت نعمه أن يصحر الناس بفضلهم الظاهر.
____________
(1) فاطر: 43.
ولكثرة كراماته وآيات مرقده التي لا يأتي عليها الحصر، نذكر بعضاً منها تيمناً، ولئلاّ يخلو الكتاب منها، وتعريفاً للقراء بما جاد به قطب السخاء على من لاذ به واستجار بتربته.
الأُولى:
ما يحدّث به الشيخ الجليل العلاّمة المتبحّر الشيخ عبد الرحيم التستري المتوفى سنة 1313 هـ، من تلامذة الشيخ الأنصاري أعلى اللّه مقامه، قال:
زرت الإمام الشهيد أبا عبد اللّه الحسين، ثُمّ قصدت أبا الفضل العبّاس، وبينا أنا في الحرم الأقدس إذ رأيت زائراً من الأعراب ومعه غلام مشلول، وربطه بالشباك، وتوسّل به وتضرّع، وإذا الغلام قد نهض وليس به علّة، وهو يصيح: شافاني العبّاس، فاجتمع الناس عليه، وخرّقوا ثيابه للتبرّك بها.
ولمّا عُدت إلى النجف الأشرف أتاني الشيخ المرتضى الأنصاري قدّس اللّه روحه الزاكية، وأخرج صرّتين وقال: هذا ما طلبته من أبي الفضل العبّاس، اشتري داراً، وحجّ البيت الحرام، ولأجلهما كان توسّلي بأبي الفضل(1).
ومَا عَجِبتُ مَن أبي الفَضلِ كَما | عَجبتُ مِن أُستَاذِنَا إذ عَلَما |
لأنّ شِبلَ المُرتَضى لَم يَغرب | إذا أتى بمُعجِز أو معْجَبِ |
بِكُلِّ يَوم بَل بِكُلِّ سَاعة | لَمِن أتَاهُ قَاصِداً رِبَاعَهُ |
وهُوَ مِن الشَيخِ عَجِيبُ بَيّنُ | لكن نُورَ اللّهِ يَرنوُ المُؤمِن(2) |
الثانية:
ما في أسرار الشهادة ص325 قال: حدّثني السيّد الأجل العلاّمة الخبير السيّد أحمد ابن الحجّة المتتبّع السيّد نصر اللّه المدرّس الحائري قال: بينا أنا في جمع من الخدّام في صحن أبي الفضل، إذ رأينا رجلاً خارجاً من الحرم، مسرعاً، واضعاً يده على أصل خنصره والدم يسيل منها، فأوقفناه نتعرّف خبره،
____________
(1) طبعت هذه الكرامة مع صلاة الشيخ الأنصاري، وذكرها في الكبريت الأحمر ج3 ص50 قال: وذكرها عنه جماعة من أكابر العلماء والثقات المتديّنين.
(2) للعلاّمة الشيخ محمّد السماوي.
الثالثة:
ما حدّثني به العلاّمة البارع الشيخ حسن دخيل حفظه اللّه عمّا شاهده بنفسه في حرم أبي الفضل (عليه السلام)، قال: زرت الحسين (عليه السلام) في غيّر أيّام الزيارة، وذلك في أواخر أيّام الدولة العثمانية في العراق، في فصل الصيف، وبعد أن فرغت من زيارة الحسين (عليه السلام) توجّهت إلى زيارة العبّاس (عليه السلام)، قرب الزوال، فلم أجد في الصحن الشريف والحرم المطهّر أحداً، لحرارة الهواء، غير رجل من الخدمة واقف عند الباب الأوّل، يقدّر عمره بالستّين سنة، كأنّه مراقب للحرم، وبعد أن زرت صلّيت الظهر والعصر، ثُمّ جلست عند الرأس المقدّس، مفكَّراً في الأُبهة والعظمة التي نالها قمر بني هاشم عن تلك التضحية الشريفة.
وبينا أنا في هذا إذ رأيت امرأة محجّبة من القرن إلى القدم، عليها آثار الجلاّلة، وخلفها غلام يقدّر بالستّة عشر سنة، بزي أشراف الأكراد، جميل الصورة، فطافت بالقبر والولد تابع.
ثُمّ دخل بعدهما رجل طويل القامة، أبيض اللون مشرباً بحمرة، ذو لحية، شعره أشقر، يخالطه شعرات بيض، جميل البزّة، كردي اللباس والزي، فلم يأت بما تصنعه الشيعة من الزيارة أو السنّة من الفاتحة، فاستدبر القبر المطهّر، وأخذ ينظر إلى السيوف والخناجر والدرق المعلقة في الحضرة، غير مكترث بعظمة صاحب الحرم المنيّع، فتعجّبت منه أشدّ العجب، ولم أعرف الملّة التي ينتحلها، غير أنّي اعتقدت أنّه من متعلّقي المرأة والولد.
أمّا المرأة فحينما شاهدت هذه الكرامة من أبي الفضل (عليه السلام)قبضت على الولد، وأسندت ظهرها إلى الجدار، وهي تتوسّل به بهذه اللهجة: (أبو الفضل دخيلك أنا وولدي).
فأدهشني هذا الحال، وبقيت واقفاً لا أدري ما أصنع، والرجل قويّ البدن، وليس في الحرم أحد يقبض عليه، فدار حول القبر مرّتين، وهو ينبح ويقفز، فرأيت ذلك السيّد الخادم الذي كان واقفاً عند الباب الأوّل دخل الروضة الشريفة، فشاهد الحال، فرجع وسمعته ينادي رجلاً اسمه جعفر من السادة الخدام في الروضة، فجاءا معاً، فقال السيّد الكبير لجعفر: اقبض على الطرف الآخر من الحزام، وكان طول الحزام يبلغ ثلاثة أذرع، فوقفا عند القبر حتّى إذا وصل إليهما وضعا الحزام في عنقه وأداراه عليه، فوقف طيعاً لكنّه ينبح، فأخرجاه من حرم العبّاس وقالا للمرأة: اتبعينا إلى (مشهد الحسين)، فخرجوا جميعاً وأنا معهم، ولم يكن أحد في
فأدخلوه (المشهد الحسيني) وربطوه بشباك (علي الأكبر)، فهدأت حالته ونام، وقد عرق عرقاً شديداً، فما مضى إلاّ ربع ساعة فإذا به قد انتبه مرعوباً، وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب خليفة رسول اللّه بلا فصل، وأنّ الخليفة من بعده ولده الحسن، ثُمّ أخوه الحسين، ثُمّ علي بن الحسين، وعدّ الأئمة إلى الحجّة المهدي عجّل اللّه فرجه.
فسُئل عن ذلك قال: إنّي رأيت رسول اللّه الآن وهو يقول لي: اعترف بهؤلاء وعدّهم علي، وإن لم تفعل يهلكك العبّاس. فأنّا أشهد بهم وأتبرّأ من غيرهم.
ثُمّ سئل عمّا شاهده هناك فقال: بينا أنا في حرم العبّاس إذ رأيت رجلاً طويل القامة قبض عليّ وقال لي: يا كلب إلى الآن بعدك على الضلال، ثُمّ ضرب بي القبر، ولم يزل يضربني بالعصا في قفاي وأنا أفرّ منه.
ثُمّ سألت المرأة عن قصّة الرجل فقالت: إنّها شيعية من أهل بغداد، والرجل سنّي من أهل السليمانية ساكن في بغداد، متديّن بمذهبه، لا يعمل الفسوق والمعاصي، يحب الخصال الحميدة، ويتنزّه عن الذميمة، وهو بندرجي تتن، وللمرأة أخوان حرفتهما بيع التتن، ومعاملتهما مع الرجل، فبلغ دينه عليهما ماءتا (ليرة عثمانية)، فاستقرّ رأيهما على بيع الدار منه والمهاجرة من بغداد،
فطارا فرحاً، وأرادا مجازاته في الحال، فذاكرا المرأة على التزويج منه، فوجدا منه الرغبة فيه، لوقوفها على هذا الفضل مع ما فيه من التمسّك بالدّين واجتناب الدنايا، وقد طلب منهما مراراً اختيار المرأة الصالحة له، فلمّا ذكرا له ذلك زاد سروره، وانشرح صدره بحصول أُمنيته، فعقدا له من المرأة وتزوّج منها.
ولمّا حصلت عنده طلبت منه زيارة الكاظميين إذ لم تزرهما مدّة كونها بلا زوج، فلم يجبها، مدعياً أنّه من الخرافات، ولمّا ظهر عليها الحمل سألته أن ينذر الزيارة إن رُزق ولداً، ففعل، ولمّا جاءت بالولد طالبته بالزيارة فقال: لا أفِ بالنذر حتّى يبلغ الولد، فأيست المرأة، ولمّا بلغ الولد السنّة الخامسة عشر طلب منها اختيار الزوجة، فأبت ما دام لم يفِ بالنذر، فعندها وافقها على الزيارة مكرهاً، وطلبت من الجوادين الكرامة الباهرة ليعتقد بإمامتهما، فلم ترَ منهما ما يسرّها، بل أساءها سخريته واستهزاؤه.
ثُمّ ذهب الرجل بالمرأة والولد إلى العسكريين، وتوسّلت بهما، وذكرت قصة الرجل، فلم تشرق عليه أنوارهما، وزادت السخرية منه.
ولمّا وصلا كربلاء قالت المرأة: نقدّم زيارة العبّاس (عليه السلام)، وإذا لم تظهر منه الكرامة وهو أبو الفضل وباب الحوائج لا أزور أخاه الشهيد، ولا أباه أمير المؤمنين، وارجع إلى بغداد، وقصّت على
الرابعة:
ما في كتاب " إعلام الناس في فضايل العبّاس " تأليف الزاكي التقي السيّد سعيد بن الفاضل المهذّب الخطيب السيّد إبراهيم(1) البهبهاني قال:
تزوّجت في أوائل ذي القعدة سنة 1351 هـ، وبعد أن مضى أُسبوع من أيام الزواج أصابني زكام صاحبته حمّى، وباشرني أطباء النجف فلم انتفع بذلك، والمرض يتزايد، ومن جملة الأطباء الطبيب المركزي (محمّد زكي أباظة).
وفي أول جماد الأول من سنّة 1353 هـ خرجت إلى " الكوفة " وبقيت إلى رجب، فلم تنقطع الحمّى، وقد استولى الضعف على بدني حتّى لم أقدر على القيام، ثُمّ رجعت إلى النجف وبقيت إلى ذي القعدة من هذه السنّة بلا مراجعة طبيب، لعجزهم عن العلاج.
وفي ذي الحجّة من هذه السنّة اجتمع الطبيب المركزي
____________
(1) هو ابن السيّد محمّد ابن السيّد جعفر ابن سيّد محمّد ابن سيّد هاشم ابن سيّد محمّد ابن سيّد عبداللّه بن سيّد محمّد الكبير بن سيّد عبداللّه البلادي بن سيّد علوي، عتيق الحسين، بن سيّد حسين الغريفي بن سيّد حسن بن سيّد أحمد بن سيّد عبداللّه بن سيّد عيسى بن سيّد خميس بن سيّد أحمد بن سيّد ناصر بن سيّد علي بن كمال الدّين بن سيّد سلمان بن سيّد جعفر بن أبي العشا موسى بن أبي الحمراء محمّد بن علي الطاهر بن علي الضخم بن أبسي علي محمّد الحسن بن محمّد الحائري بن إبراهيم المجاب بن محمّد العابد بن الإمام الكاظم (عليه السلام)، ولهذه الكرامة كتب السيّد سعيد كتاباً في أحوال العبّاس يزيد على أربعمائة صفحة، أجهد نفسه، وسهر الليالي في جمعه وتبويبه، جزاه اللّه خير الجزاء.
وفي محرّم من سنة 1354 هـ خرج والدي إلى قرية القاسم ابن الإمام الكاظم (عليه السلام)، للقراءة في المآتم التي تقام لسيّد الشهداء، وكانت والدتي تمرّضني، ودأبها البكاء ليلاً ونهاراً.
وفي الليلة السابعة من هذه السنة رأيت في النوم رجلاً مهيباً وسيماً جميلاً، أشبه الناس بالسيّد الطاهر الزكي (السيّد مهدي الرشتي)، فسألني عن والدي، فأخبرته بخروجه إلى القاسم، فقال: إذن مَن يقرأ في عادتنا يوم الخميس، وكانت الليلة ليلة خميس، ثُمّ قال: إذن أنت تقرأ.
ثُمّ خرج وعاد إلى وقال: إنّ ولدي السيّد سعيد(1) مضى إلى كربلاء يعقد مجلساً لذكر مصيبة أبي الفضل العبّاس، وفاءً لنذر عليه، فأُمضي إلى كربلاء واقرأ مصيّبة العبّاس، وغاب عنّي.
فانتبهت من النوم ونظرت إلى والدتي عند رأسي تبكي، ثُمّ نمت ثانياً، فأتاني السيّد المذكور وهو يقول: ألم أقل لك: إنّ
____________
(1) ولد السيّد مهدي الرشتي سنة 1303 هـ، توفّي في النجف يوم 14 رجب سنة 1358 هـ، ودفن في الحجرة الملاصقة لباب الصحن المعروفة بباب القزّازين، وكان السيّد رحمه اللّه باذلاً نفسه ونفيسه في خدمة أجداده الأئمة المعصومين، وداره العامرة (حسينية) لأهل طرفه (البراق)، يقيمون فيها مراسيم العزاء والفرح للأئمة (عليهم السلام) لا يعدلون بها بدلاً، وفّقهم اللّه لما يرضيه.
وأما ولده السيّد سعيد فكانت ولادته في سنة 1322 هـ وتوفّي في 15 ذي القعدة سنة 1355 هـ، ودفن في الحجرة مع أبيه، وقام السيّد صالح أبيه في إقامة الأفراح والمآتم، فنعم الخلف لذلك السيّد الطاهر.
وفي المرّة الثالثة نمت فعاد إلّي السيّد المذكور وهو يقول بزجر وشدة: ألم أقل لك امضي إلى كربلاء، فما هذا التأخير؟! فهبته في هذه المرّة وانتبهت مرعوباً.
وقصصت الرؤيا من أوّلها على والدتي، ففرحت وتفاءلت بأنّ هذا السيّد هو أبو الفضل، وعند الصباح عَزِمَت على الذهاب بي إلى حرم العبّاس، ولكن كُلّ من سمع بهذا لم يوافقها، لما يراه من الضعف البالغ حدّه، وعدم الاستطاعة على الجلوس حتّى في السيارة، وبقيت على هذا إلى اليوم الثاني عشر من المحرم، فأصرّت الوالدة على السفر إلى كربلاء بكُلّ صورة، فأشار بعض الأرحام على أن يضعوني في تابوت، ففعلوا ذلك، ووصلت ذلك اليوم إلى القبر المقدّس، ونمت عند الضريح الطاهر.
وبينا أنا في حالة الإغماء في الليلة الثالثة عشر من المحرّم، إذ جاء ذلك السيّد المذكور وقال لي: لماذا تأخرّت عن يوم السابع وقد بقي سعيد بانتظارك، وحيث لم تحضر يوم السابع فهذا يوم دفن العبّاس وهو يوم 13، فقم واقرأ، ثُمّ غاب عنِّي، وعاد إلّي ثانياً وأمرني بالقراءة وغاب عنِّي، وعاد في الثالثة ووضع يده على كتفي الأيسر ; لأنّي كنت مضطجعاً على الأيمن، وهو يقول: إلى متى النوم؟ قم واذكر (مصيبتي)، فقمت وأنا مدهوش مذعور من هيبّته وأنواره، وسقطت لوجهي مغشياً علىَّ، وقد شاهد ذلك من كان حاضراً في الحرم الأطهر.
فاجتمع علىَّ مَن في الحرم الشريف، وأقبل مَن في الصحن والسوق، وازدحم الناس في الحضرة المنوّرة، وكثر التكبير والتهليل، وخرق الناس ثيابي، وجاءت الشرطة فأخرجوني إلى البهو الذي هو أمام الحرم، فبقيت هناك إلى الصباح.
وعند الفجر تطّهرت للصلاة، وصلّيت في الحرم بتمام الصحة والعافية، ثُمّ قرأت مصيبة أبي الفضل (عليه السلام)، وابتدأت بقصيدة السيّد راضي بن السيّد صالح القزويني وهي:
أبَا الفَضلِ يَا مَنْ أسَسَّ الفَضل والإبا | أَبا الفضل إلاّ أن تَكُونَ لَهُ أبا |
والأمر الأعجب أنّي لمّا خرجت من الحرم قصدتُ داراً لبعض أرحامنا بكربلاء،وبعد أن قرأت مصيبة العبّاس خلوت بزوجتي، وببركات أبي الفضل حملت ولداً سمّيته " فاضل "، وهو حّي يرزق، كما رُزقت عبداللّه وحسناً ومحمّداً وفاطمة كنيتها أُم البنين.
هَذهِ مِن عُلاَه إحدَى المَعالِي | وعَلَى هَذِه فَقِس مَا سِوَاهَا |
وذكر أنّ السيّد الطاهر الزاكي السيّد مهدي الأعرجي، وكان خطيباً نائحاً له مدائح ومراثي لأهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، ورد النجف يوم خروجي إلى كربلاء، فبات مفكّراً في الأمر، وكيف يكون الحال؟! وفي تلك الليلة الثالثة عشر رأى في المنام كأنّه في كربلاء، ودخل حرم العبّاس، فرأى الناس مجتمعين علىَّ وأنا أقرأ مصيبة العبّاس، فارتجل في المنام:
لَقد كُنتَ بالسِلِّ المُبرّح داؤه | فشافانَي العباسُ من مرضِ السلِ |
ففضلت بينَ الناسِ قَدراً وإنَّما | لي الفضل إذ أنّي عتيقُ أبي الفضلِ |
وانتبه السيّد من النوم يحفظ البيتين، فقصد دارنا وعرّفهم بما رآه، وفي ذلك اليوم وضح لهم الأمر.
وقد نظم هذه الكرامة جماعة من الأُدباء الذين رأوا السيّد سعيد في الحالين الصحة والمرض.
فمنهم السيّد الخطيب العالّم السيّد صالح الحلّي (رحمه الله).
بأبِي الفَضِل استَجَرنَا | فَحبَانَا مِنهُ مُنحه |
وطَلبنَا أن يُداوِي | أَلَمَ القَلّبِ وجُرحَه |
فَكسَا اللّه سَعيداً | بعد سُقم ثَوُب صِحه |
بدل الرحمن منه | قرحة القلب بفرحه |
وقال الخطيب الفاضل الأُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي:
بأبي الفَضْلِ زالَ عنّي سقامي | مُذ كَساني منَ الشفاءِ بُرودا |
وحَباني منَ السعادةِ حتّى | صرُت في النَشأتين اُدعى سعيدا |
وقال العلاّمة الشيخ علي الجشي أيده اللّه:
سعيدٌ سعدتَ وجزتَ الخطر | من السلِّ في مثلِ لمحِ البَصْر |
غداةَ التجأتَ لمثوى بهِ | أبو الفضلِ حلَّ فرد القَدر |
وقال السيّد حسون السيّد راضي القزويني البغدادي:
سعيدٌ لقدْ نالَ الشِفا من أبي الفَضْلِ | ولولاه كانَ السقم يأذنُ بالقتلِ |