الصفحة 317

الحمزة


من أحفاد أبي الفضل السيّد الجليل أبو يعلى الحمزة ابن القاسم بن علي بن حمزة بن الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس ابن أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقد كتب الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي صحائف غُر في حياته نذكرها بنصها، قال:

" كان أبو يعلى أحد علماء العترة الطاهرة، وفذّاً من أفذاذ بيت الوحي، وأوحدي من سروات المجد من هاشم.

روى الحديث فأكثر، واختلف إليه العلماء للأخذ منه، منهم: الشيخ الأجل أبو محمّد هارون بن موسى التلعكبري، وأحد أعاظم الشيعة، ومن حملة علومهم، توفي سنّة 385 هـ.

والحسين بن هاشم المؤدّب، وعلي بن أحمد بن محمّد بن عمران الدقاق، وكلاهما من مشايخ الصدوق ابن بابويه القمّي.

وعلي بن محمّد القلانسي، من مشايخ الشيخ المبجل أبي عبد اللّه الحسين بن عبيد اللّه الغضائري.

وأبو عبد اللّه الحسين بن علي الخزاز القمّي "(1).

ويظهر من هذا أنّه كان في طبقة ثقة الإسلام الكليني، قد أدرك القرنين آخر الثالث وأواخر الرابع، ولأجله عقد له الشيخ العلاّمة الشيخ آغا بزرك الرازي في كتابه (نابغة الرواة في رابعة المئات) ترجمة ضافية، فهو من علماء الغيبة الصغرى.

____________

(1) رجال النجاشي: 140، نقد الرجال للتفرشي 2: 167، رجال العلاّمة: 121، رجال ابن داود: 85.


الصفحة 318
وله من الآثار والمآثر: كتاب التوحيد، وكتاب الزيارات والمناسك، وكتاب الرّد على محمّد بن جعفر الأسدي، وكتاب من روى عن جعفر بن محمّد (عليهما السلام) من الرجال، استحسنه النجاشي والعلاّمة، ولهذا ترجمه شيخنا الرازي في مصفّى المقال في مصنفي علماء الرجال، وأسند النجاشي إلى هذه الكتب عن ابن الغضائري عن القلانسي عن سيّدنا المترجم.

وإليك كلمات العلماء في الثناء عليه:

قال النجاشي والعلاّمة: " إنّه ثقة جليل القدر من أصحابنا، كثير الحديث "(1).

وقال المجلسي في الوجيزة: " ثقة "(2).

وفي تنقيح المقال للعلاّمة المامقاني: " السيّد جليل حمزة، ثقة، جليل القدر، عظيم المنزلة "(3).

وفي الكنى والألقاب لشيخنا المحدّث الشيخ عباس القمّي: " إنّه أحد علماء الإجازة، وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع "(4).

إنّ دون مقام سيّدنا المترجم أن نقول فيه: إنّه من مشايخ الإجازة الذين هم في غنى عن أيّ تزكية وتوثيق، كما نصّ به الشهيد الثاني، وتلقّاه من بعده بالقبول، فإنّ ذلك شأن من لا يعرف وجُهلت شخصيته، وإنّ مكانة سيّدنا أبي يعلى فوق ذلك كُلّه على ما عرفته من نصوص علماء الرجال.

____________

(1) رجال النجاشي: 140/364.

(2) بحار الأنوار 53: 287.

(3) تنقيح المقال 1: 376.

(4) الكنى والالقاب للقمي 1: 187.


الصفحة 319
ومن كراماته المريبة على حدّ الإحصاء، المشهودة من مرقده المطهّر، فهو من رجالات أهل البيت المعدودين من أعيان علمائهم بكُلّ فضيلة ظاهرة ومأثرة باهرة:


والشمس معروفة بالعين والأثر.................

فليس هو ممّن نتحرّى إثبات ثقته حتّى نتشبّث بأمثال ذلك. نعم، كثرة روايته للحديث تنمّ عن فضل كثار من غزارة علمه، ومن قولهم (عليهم السلام): " اعرفوا منازل الرجال منّا بقدر روايتهم عنّا "، فإنّ ذلك يشفّ عن التصلّب في أمرهم، والتضلّع بعلومهم، والبث لمعارفهم، وبطبع الحال إن كُلا من هذه يقرّب العبد إلى اللّه تعالى وإليهم (عليهم السلام) زلفى، فكيف بمن له الحظوة بها جمعاء، كسيّدنا المترجم على نسبه المتألق المتصل بدوحهم القدسي اليانع؟!

أمّا مشايخه في الرواية فجماعة عرفناهم بعد الفحص في المعاجم وكتب الحديث، كرجال الطوسي، وفهرست النجاشي، وإكمال الدّين للصدوق، منهم:

1 ـ الشيخ الثّقة الجليل سعد بن عبد اللّه الأشعري.

2 ـ محمّد بن سهل بن ذارويه القمّي.

3 ـ الحسن بن ميثل.

4 ـ علي بن عبد بن يحيى.

5 ـ جعفر بن مالك الفزاري الكوفي.

6 ـ أبو الحسن علي بن الجنيد الرازي.

7 ـ وأجلّ مشيخته عمّه مستودع ناموس الإمامة، والمؤتمن على وديعة المهيمن سبحانه، أبو عبد اللّه أو عبيد اللّه محمّد بن علي بن حمزة الحسن بن عبيد اللّه بن العبّاس (عليه السلام).


الصفحة 320
ومن جلالته أنّه لمّا وقعت الفتنة بعد وفاة أبي محمّد العسكري (عليه السلام)، وكثر الفحص والطلب من زبانية الإلحاد وطواغيت الوقت على بيت الإمامة ونسائه وجواريه وإمائه، حذار وجود البقية منه أو وجود حامل منهم تلده، لمّا بلغ الطاغية أنّ الخلف بعد أبي محمّد العسكري يدمّر دولة الباطل، فحسبه في العاجل وهو آجل، فعند ذلك انتقلت الكريمة الطاهرة أُم الإمام المنتظر عجّل اللّه فرجه (نرجس) سلاّم اللّه عليه وعليها إلى بيت أبي عبد اللّه هذا، كما نصّ به النجاشي للحفظ من عادية المرجفين(1).

وإنّ الاعتبار لا يدعنا إلاّ أن نقول بأنّ بيتاً يحوي أُم الإمام لابدّ أن يكون مختلف وليّ الدهر، وصاحب العصر، الناهض بعبء خلافة اللّه الكبرى، ومحطّ أسراره، ومرتكز أمره، ومجرى علومه، ومصبّ معارفه، ليتعاهد الحرّة الطيبة أُمّه نرجس، ويكون (عليه السلام) هو المجتبى في صدر ذلك الدست والمتربع على منصّه عزّه.

ولا شكّ أنّ أبا عبد اللّه هذا يقتبس من علومه، ويستضيء بأنواره، وحينئذ فدون مقامه إطراء العلماء له كقول النجاشي والعلاّمة: " ثقة جليل "، وكقول ابن داوود: " عين في الحديث، صحيح الاعتماد "(2)، كتوثيقات الوجيزة، والبلغة، والمشتركات، وحاوي الأقوال.

____________

(1) رجال النجاشي: 347، ولكن في كمال الدين وتمام النعمة للصدوق: 459، ح7، قال: " فماتت [يعني أم الامام الحجة] ـ في حياة أبي محمّد (عليه السلام) ".

(2) رجال النجاشي: 347/938، وهذه عبارته وليست عبارة ابن داود، وارجع إلى رجال الحلّي: 360/106، ونقد الرجال 4: 274/4926/570، وغيرها.


الصفحة 321
وقال ابن عنبة في العمدة: " نزل البصرة، وروى الحديث عن علي بن موسى الكاظم (عليه السلام) وغيره بها وبغيرها، وكان متوجّهاً عالماً شاعراً "، وقال النجاشي: " له رواية عن أبي الحسن وأبي محمّد (عليهما السلام)، وإن له مكاتبة، وله مقاتل الطالبين "(1).

فحسب سيّدنا المترجم أبو يعلى من الشرف أن يكون معماً بمثله، وناهيه من الفضيلة أن يكون خريجاً لمدرسته.

ووالد أبي عبد اللّه هذا فهو علي بن حمزة بن الحسن، نصّ النجاشي والعلاّمة الحلّي وفي الوجيزة والبلغة على ثقته.

وأبو حمزة الشبيه بجدّه أمير المؤمنين جليل القدر عظيم المنزلة، خرج توقيع المأمون بخطه: " يُعطى لحمزة ابن الحسن لشبهه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب مائة ألف درهم "، قاله ابن عنبة في العمدة(2).

وأبو حمزة هذا الحسن بن عبيد اللّه، فذكر النسّابة العمري في المجدي أنّه كان لأُمّ ولد، روى الحديث، وعاش سبعاً وستين سنة(3).

ووافقه على عمره أبو نصر البخاري في سرّ السلسلة، وذكر أنّ العدد والثروة في ولده، وأنّ أُمّه وأُمّ شقيقه عبد اللّه بنت عبد اللّه بن معبد بن العبّاس بن عبد المطلب(4).

قلت: والظاهر أنّ في النسخة غلط نسياني، فإنّ أبا نصر نفسه

____________

(1) معجم رجال الحديث للخوئي 17: 351، 11321 ت.

(2) عمدة الطالب لابن عنبة: 358.

(3) المجدي في أنساب الطالبين: 231.

(4) سرّ السلسلة العلوية للبخاري: 90.


الصفحة 322
ذكر أنّ التي كانت تحت عبيد اللّه بن العبّاس (عليه السلام) هي أُمّ أبيها بنت معبد بن العبّاس لا ابنة ابنه.

وعبيد اللّه بن العبّاس أبو الحسن ذكر الشيخ العلاّمة علي بن يوسف ابن المطهّر أخو آية اللّه العلاّمة الحلي في العدد القوية، عن الزبير بن بكار: أنّه من العلماء.

وقال أبو نصر البخارى: " تزوج أربع عقائل كرام: رقية بنت الإمام الحسن السبط، وأُم علي بنت السجاد لم تلد منه، وأُم أبيها بنت معبد بن العبّاس بن عبد المطلب، وابنة المسوّر بن مخزوم الزبيري "(1).

وأما سيّدنا أبو الفضل العبّاس قمر بني هاشم الذي هو بمنقطع الفضل، ومنتهى الشرف، وغاية الجلاّلة، وقصارى السؤدد، فالبيان يتقاعس أنّه جاء ممدوحاً بلسان أئمة الدّين كابن أخيه الإمام السجاد، ثُمّ الإمام الصادق.

ولسيّدنا المترجم أبي يعلى في أرض الجزيرة بين الفرات ودجلة من جنوب الحلّة السيفية مشهد معروف في قرية تعرف باسمه (قرية الحمزة)، بالقرب من قرية " المزيدية " يقصد بالزيارة، وتُساق إليه النذور، ويتبرّك به، وتُعزى إليه الكرامات، تتناقلها الألسن، ويتسالم عليها المشاهدون، وتخبت بها النفوس، وكان في ذي قبل يعرف بمشهد (حمزة بن الإمام موسى الكاظم).

وبما أنّ الثابت في التاريخ والرجال أنّ قبر حمزة المذكور في الري، إلى جنب مشهد السيّد الأجل عبد العظيم الحسني سلام اللّه عليهما.

____________

(1) سرّ السلسلة العلوية للبخاري: 90.


الصفحة 323
كان سيّد العلماء والفقهاء المجاهدين سيّدنا المهدي القزويني بعد أن هبط الحلّة الفيحاء، وأقام فيها دعامة الدّين، وشيّد أركان المذهب، يمرّ بهذا المشهد حين وفوده إلى بني زبيد للإرشاد والهداية، ولا يزوره، ولذلك قلّت رغبة الناس في زمانه، فصادف أن مرّ به مرّة، فطلب منه أهل القرية زيارة المرقد المطهّر، فاعتذر بما قدّمناه، وقال: " لا أزور من لا أعرفه.

فبات ليلة وغادر القرية من غدا إلى المزيدية وبات بها، حتّى إذا قام للتهجّد في آخر الليل وفرغ من عمله طفق يراقب طلوع الفجر، إذ دخل عليه رجل في زي علوي شريف من سادة تلك القرية، يعرفه المهدي بالصلاح والتقوى، فسلّم وجلس وقال له: استضعفت أهل الحمزة، وما زرت مشهده؟

قال: نعم.

قال: ولم ذلك؟

فأجابه بما قدّمناه من جوابه لأهل القرية.

فقال العلوي المذكور " ربَّ مشهور لا أصل له " وليس هذا قبر حمزة بن موسى الكاظم كما اشتهر، وإنّما هو قبر أبي يعلى حمزة ابن القاسم العلوي العباسي، أحد علماء الإجازة وأهل الحديث، وقد ذكره أهل الرجال في كتبهم وأثنوا عليه بالعلم والورع.

فحسب سيّدنا الحجّة المهدي أنّه أخذ هذا من أحد العلماء ; لأنّه كان من عوام السادة، وأين هو من الاطّلاع على الرجال والحديث؟! فاغفل عنه ونهض لفحص الفجر، وخرج العلوي من عنده.


الصفحة 324
ثمّ أدى السيّد الفريضة وجلس للتعقيب حتّى مطلع الشمس، وراجع كتب الرجال التي كانت معه، فوجد الأمر كما وصفه الشريف العلوي الداخل عليه قبيل الفجر، ثُمّ ازدلف أهل القرية إليه مسلّمين عليه، وفيهم العلوي المشار إليه، فسأله عن دخوله عليه قبيل الفجر وإخباره إيّاه عن المشهد وصاحبه عمّن أخذه؟ ومن أين له ذلك؟ فحلف العلوي باللّه أنّه لم يأته قبل الفجر، وأنّه كان بائتاً خارج القرية في مكان سمّاه، وأنّه سمع بقدوم السيّد فأتاه زائراً في وقته هذا، وأنّه لم يره قبل ساعته تلك.

فنهض السيّد المهدي من فوره وركب لزيارة المشهد وقال: الآن وجب علي زيارته ـ وإنّي لا أشكّ أنّ الداخل عليه الإمام هو الحجّة ـ وركب الطريق معه أهل المزيدية(1).

ومن يومئذ اشتهر المرقد الشريف بالاعتبار والثبوت، وازدلفت الشيعة إلى زيارته والتبرك والاستشفاع إلى اللّه تعالى به.

وبعد ذلك نص سيّدنا المهدي عليه في فلك النجاة، وتبعه على ذلك من بعده العلاّمة النوري في تحية الزائر، والعلاّمة المامقاني في تنقيح المقال، وشيخنا المحدّث القمّي في الكنى والألقاب(2).

أخذنا هذا النبأ العظيم من جنة المأوى للعلاّمة النوري.

هذا ما كتبه شيخنا العلاّمة ميرزا محمّد علي الأُوردبادي أيده اللّه.

____________

(1) الكنى والألقاب 1: 186.

(2) شجرة طوبى للحائري: 173.


الصفحة 325

عمارة المشهد


تمهيد:

لا شكّ في رجحان عمارة قبور الأولياء المقرّبين، لا سيما من حظي منهم بشرف المنبت النبويّ الطاهر الذي هو معدود من أكبر الفضائل ; لأنّه لا يزال بمجرّده متواصل العرى، يحدو بصاحبه إلى أوج العظمة، وكُلّ سبب ونسب منقطع يوم القيامة إلاّ نسبه وسببه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فهو مشرف من تحلّى به في الدنيا والآخرة، فكيف به إذا كان مشفوعاً بعلم وتقى ومآثر ومفاخر؟!

1 ـ لأنّه من تعظيم شعائر اللّه: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ }(1)، ومن موارد حرماته المعيّنة بقوله تعالى: { وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ }(2).

وإذا كانت البُدن من الشعائر له سبحانه: { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ }(3)، وليست البُدن إلاّ بهيمة تُنحر في مرضات اللّه سبحانه وفي سبيل طاعته والشعار فيها نحرها.

فلماذا لا يكون عمل الولي المقرّب الشهيد الصديق المنحور على الدعوة الإلهية، والمراق دمه الطاهر على مجزرة الشهادة، من مستوى القدس، من جملة الشعائر والحرمات التي يجب تعظيمها،

____________

(1) الحج: 32.

(2) الحج: 30.

(3) الحج: 36.


الصفحة 326
بتعاهد مرقده الأطهر، وقصده بالزيارة، والعبادة فيه، وعمارته عند الانهدام، ليأوى إليه الزائر، ويتفيّأ بظلّه المتعبّد، كما أنّ الأمر بطواف البيت يستدعي عمارته كُلّما أوشك أن يتضعضع بنيانه؟!

2 ـ على أنّ رجالات بيت النبوّة هم: { فِي بُيُوت أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ }(1)، والمراد من البيت: ما كان مسقوفاً، ولذلك أطلقه في الكتاب المجيد على الكعبة المعظمة حيث يقول: { الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ }(2)، لكونها مسقوفة ; ولم يُرد من البيوت مطلق المساجد أو المساجد الأربعة وهي: المسجّد الحرام، ومسجد النبيّ، ومسجد الكوفة، والبصرة ; فالمساجد كُلّما ذكر في القرآن أُطلق عليها المسجّد دون البيت، مثل قوله تعالى:

{ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى }(3).

{ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد }(4).

{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً }(5).

{ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }(6).

{ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }(7).

{ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ }(8).

____________

(1) النور: 36.

(2) المائدة: 97.

(3) التوبة: 108.

(4) الأعراف: 29.

(5) التوبة: 107.

(6) الكهف: 21.

(7) البقرة: 144.

(8) البقرة: 191.


الصفحة 327
والمساجد بمقتضى تشريعها مكشوفة، والسقف الموجودة فيها حادثة، لقصد أن يأوي إليها الوفود من المرامي السحيقة الذين لا مأوى لهم، لتكنّهم من قائض الحرّ وقارص البرد، فلا يناسب إطلاق البيت عليها ; لأنّه عبارة عن المحلّ المسقوف، ولا يطلق على غير المسقوف، ولذلك تجد إطلاق بيوت الأعراب على أخبيتهم دون الصحاري التي يسكنونها، ومن ذلك أطلق البيت على الكعبة لكونها مسقوفة.

وكما لا يراد من تلك البيوت ـ التي يجب أن ترفع ويذكر فيها اسمه ـ المساجد، لا يراد منها خصوص الكعبة المشرّفة ; لأنّ لفظ البيوت في الآية جمع، وحينئذ فمن المتعيّن أن يراد منها بيوتات تكون مستوى لذكر اللّه والدعوة إلية، إمّا بألسنة ساكنيها أو بأعمالهم وجهادهم، فتكون تلك البيوت منبثق أنوار اللّه.

وإذا فتشنا بيوت العالم فلا نجد ما هو أولى بصدق هذه البيوت عليهم، إلاّ بيوت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذين أنفذوا طاقاتهم في رفع كَلمة اللّه العليا، وتوحيده، والذكير بوعده ووعيده، فكانت مقصورة على ذلك دعوتهم، منحصراً به هتافهم، حتّى أثبتوه على جبهة الدهر، وكتبوا بدمائهم الزاكية على صحيفة الزمان، مع ما لهم من الدؤوب على العبادة والتلاوة في آناء الليل وأطراف النهار، وأُناس بهم أُسوة حسنة.

وليس من الرأي السديد قصرها على بيوتهم التي يسكنونها أيام حياتهم، بل تعمّها ومشاهدهم المقدّسة، فإنّهم { أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ }(1)، وإذا ثبت في الشهداء ـ وهم دونهم بمراتب ـ أنّهم

____________

(1) آل عمران: 169.


الصفحة 328
أحياء، فإنّ أهل البيت أولى بذلك ; لأنّهم الدعاة إلى سبيل ربّهم بالحكمة والموعظة الحسنة، أحياءً وأمواتاً، وشهداءً في سبيل تلك الدعوة المقدّسة، وشهداء على أعمال الأُمة المرحومة.

وعليه فلا يخلو إمّا أن يراد من الرفع في الآية خصوص العمارة، وتشيدها، كما هو الظاهر على حدّ قوله تعالى: { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ }(1)، أو يراد مطلق التعظيم، وممّا لا شكّ فيه أنّ من أظهر مصاديقه عمارتها وتجديدها عند أولها إلى الخراب، لتتمّ بقيّة أقسام التعظيم من تفيء المتعبدين، وانتجاع المزدلفين إليها، واختلاف الزوّار اليها، وذكر اللّه سبحانه، والصلاة والترحّم على أولياء اللّه المتبوّئين هاتيك المشاهد المطهّرة، وتكون تلك القباب والأبنية الشاهقة كنار تدل الوافدين على ما هناك من ضالتهم المنشودة.

3 ـ ثُمّ إنّ في الكتاب العزيز شيء آخر دلّنا على مشروعية البناء على مراقد الصالحين واتخاذ خصوص المساجد عليها، وهو قوله جلّ شأنه: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً }(2)، وذلك أنّ المؤمنين مع ملكهم بيدروس وكان موحّداً، لما وصلوا إلى أصحاب الكهف واطلعوا على موتهم في مكانهم، أمر الملك أن يتركوا في مكانهم، ويبنى على باب الكهف مسجد يتعبّد فيه الناس ويتبرّكون بمكانهم(3).

____________

(1) البقرة: 127.

(2) الكهف: 21.

(3) تفسير البغوي 3: 152، الكشاف عن حقائق التنزيل 2: 478، تفسير النسفي 3: 9، التسهيل لعلوم التنزيل للكلبي 2: 185، تفسير أبي السعود 5: 215، تفسير الآلوسي 15: 234، الكامل في التاريخ 1: 359، قصص الأنبياء للرواندي: 261، قصص الانبياء للجزائري: 52.


الصفحة 329
وهذا منه سبحانه وإن كان إخباراً عن عمل أُمّة سابقة على الإسلام، لكنّه مقرون بالتقرير من اللّه عزّ ذكره، وعدم الإنكار عليهم، وكُلّما كان الحكم غير منكر من الإسلام فهو مستصحب البقاء، والنسخ وإن وقع في الشريعة لكنّه لمجموع هاتيك الشرائع لا لجميعها، فهو كالعشرة الإبراهيمية(1) التي لم تنسخ ولا تنسخ أبداً كغيرها من الأحكام المستصحبة.

وإذا أجازت الشريعة الإلهية بناء المسجد على أولئك الصالحين من فتية الكهف للعبادة والتبرّك بهم، فالحكم شرع سواء فيهم وفي من هو أفضل منهم، الاّ وهم الحجج المعصومون والأولياء المقرّبون من هذه الأمة المرحومة.

وعلى هذا النهج اللاحب جاءت سنّة الرسول الأعظم فإنّه صلّى اللّه عليه وآله لما دفن عثمان بن مظعون أمر بحجر فوضع عند رأسه، معلّلا بأنّه يُعلم منه قبر أخيه ليدفن إليه من مات من أهل بيته، وهذا الحجر أخذه مروان بن الحكم ووضعه على قبر عثمان بن عفان، فكلّمته بنو أُمية وقالوا: كيف تأخذ حجراً وضعه رسول اللّه؟ فلم يعبا بهم(2).

____________

(1) خمسة من هذه العشرة في الرأس وهي: أخذ الشارب، واعفاء اللحى، وطمّ الشعر، والسواك، والخلال وخمسة في البدن: الختان، وتقليم الأظفار، والغسل من الجنابة، والطهور بالماء، وحلق الشعر من البدن، تفسير القمّي 1: 59، التفسير الصافي للفيض الكاشاني 1: 186، مجمع البحرين للطريحي 1: 247.

(2) وفاء الوفاء للسمهودي 2: 85، وبعضها في نيل الأوطار للشوكاني 4: 132، بحار الأنوار 48: 297، السنن الكبرى للبيهقي 3: 412، السيرة الحلبية 2: 290.


الصفحة 330
وإذا كان وضع الحجر للتعريف بالقبر، فلا ريب أنّ البناء على القبر أوفى بهذه العلّة من وضع الحجر، فيكون راجحاً بالأولوية.

على أنّ اهتمام النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بتعريف قبر عثمان دون غيره من المسلمين يدلّنا على امتياز بعضهم عن بعض بالفضل والعلم والورع والمعرفة، وحينئذ يكون البناء على قبور الأنبياء والأوصياء والأولياء والأمثل فالأمثل امتيازاً عن غيرهم، وإعلاماً لهم لما من شأن ورفعة أولى وأرجح.

وكانت فاطمة الزهراء (عليها السلام) تزور قبر حمزة وترمّه وتُصلحه وقد علّمته بحجر(1)، فدلّ على أنّ إصلاح القبر وتعاهده كي لا تندرس آثاره معروف في زمن الشارع المقدّس، وإلاّ لما فعلت ذلك سيّدة نساء العالمين، والوحي ينزل في بيتها.

وإصلاح القبر يختلف باختلاف الأوقات والأزمنة، فقد تقتضي الحالة والوقت إصلاح القبر بجمع ترابه ووضع الحجر عليه، وقد تقتضي بناء قبّة عليه أو وضع جدار حوله.

ومن أجل ذلك دفنوا النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجرة عائشة، وكانت مسقّفة بجريد النخل، وأوّل من بناها باللبن عمر بن الخطّاب(2).

ثُمّ إنّ عبد اللّه بن الزبير شيّد جدران قبر النبيّ وجعلها مرتفعة، وفي سنة 193 هـ أمر الرشيد وإليه على المدينة أبا البختري أن يبني سقف الحجرة، ثُمّ المتوكّل أمر واليه على

____________

(1) السيدة فاطمة الزهراء للبيومي: 134.

(2) وفاء الوفاء للسمهودي 1: 383، الشامي السيرة النبوية لابن كثير 4: 541، سبل الهدى والرشاد للصالحي.


الصفحة 331
الحرمين إسحاق بن سلمة أن يشيّد حجرة النبيّ بحجارة الرخام ففعل ذلك سنة 242 هـ.

وفي الأوراق البغدادية للسيّد إبراهيم الراوي أن المسلمين لمّا فتحوا بلاد الشام وبيت المقدس ورأوا على قبور الأنبياء المباني لم يهدموها، ومن أشهرها البناء الذي على قبر إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وقد رأى ذلك عمر بن الخطّاب فلم يهدمه ولم يأمر بهدمه.

وغير خفيّ أنّ تقرير الصحابة ـ وفيهم الخلفاء ـ ذلك العمل دليل قويّ على تعارف البناء على القبور وجوازه لديهم.

وحدّث محمّد بن الحنفية المتوفى سنة 81 أنّ رسول اللّه دفن فاطمة بنت أسد في موضع المسجد الذي يقال له اليوم: (قبر فاطمة)، وفيه دلالة كما عند السمهودي على أنّ قبرها كان عليه مسجد يُعرف به ذلك الزمان(1)، وهو في المائة الاُولى من الهجرة، كما كان على قبر حمزة بن عبد المطلب مسجداً يومئذ(2).

وكما بني على قبر العبّاس بن عبد المطلب قبّة دفن فيها الحسن والسجاد (عليهما السلام)(3)، والباقر(4)، والصادق(5)، ففي المائة الاُولى والثانية كانت القبة على قبر العبّاس موجودة.

وإن الخطيب البغدادي المولود سنة 392 هـ حكى في ترجمة الإمام الكاظم أنّه دفن في مقام الشونيزية (مقابر قريش) خارج القبة وقبره هناك مشهور يزار... إلى آخره.

____________

(1) تاريخ المدينة لابن شية النميري 1: 123.

(2) المصدر السابق 1: 126.

(3) وفيات الأعيان 3: 369.

(4) وفيات الأعيان 4: 174، الوافي بالوفيات 4: 77.

(5) وفيات الأعيان 1: 327.


الصفحة 332
فدلّ على أنّه كان يوم وفاة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) قبّة في مقابر قريش(1).

وعليه يكون وضع القباب على القبور متعارف بين المسلمين لم تنكره علماء تلك العصور مع تبصّرهم بأحاديث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم).

ومن هنا لم يمتنع الخلفاء من وضع القباب على قبور أسلافهم، فهذا الرشيد بنى قبّة على قبر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(2)، وبنى المأمون على قبر الرشيد قبّة(3) مع أنّ عصره كان حافلا بالعلماء كالشافعي وابن حنبل وسفيان بن عيينة وغيرهم، فلم ينكر عليه أحد.

ولمّا توفي المعزّ البويهي سنة 356 هـ دفن في داره، ثُمّ نقل إلى مشهد بُني له في مقابر قريش(4)، وابن وكيع الشاعر المتوفّي 393 هـ دفن في المقبرة الكبرى في القبّة التي بنيت له بها(5)، وأبو تمام المتوفّي سنة 271 هـ بنى على قبره نهشل بن حميد الطوسي قبة(6).

____________

(1) في تاريخ بغداد 13: 29، " فقدم هارون منصرفاً من عمرة شهر رمضان سنة تسع وتسعين.فحمل موسى معه الى بغداد، وحبسه بها إلى أن توفّي في محبسه ".

نعم في الارشاد للمفيد 2: 243: " ثم حمل فدفن في مقابر قريش " وكذلك في غيره، ومقابر قريش معروفة أنها في بغداد ".

(2) عمدة الطالب: 62.

(3) بحار الأنوار 48: 323.

(4) وفيات الأعيان 1: 174.

(5) وفيات الأعيان 2: 106.

(6) وفيات الأعيان 2: 17.


الصفحة 333
فما قيل من أنّ هذه القباب حدثت منذ القرن الخامس، فهي من البدع غير المعروفة في زمن الشارع المقدّس وما بعده من الأكاذيب الفاضحة.

فتحصّل من جميع ما ذكرناه أنّ البناء على القبور وعمارتها وتجديدها وتعاهدها أمر راجح وعليه الأمة الأُسلاّمية من دون نكير بينها، ويتأكّد في قبور الأولياء المقرّبين، والشهداء الصدّيقين، والعلماء الصالحين، وذوي المآثر والفضائل ; لأنّ فيه تعريفاً بالميت وتنويهاً بمقامه، ليزوره الزائر، ويستريح إليه المتعبّد، لكونه من الأمكنة المحبوبة للّه تعالى، فيها الذكر والطاعة وتحصيل المصالح الدينية.

وبذلك اتفقت كلمة العلماء الذين هم أعرف الأُمة بموارد الأمر والنهي، بل زادوا على البناء والعمارة تزيينها بالمعلّقات والفرش والستائر، وكُلّ ما فيه احترامهم وتعظيمهم.

مدّعين على ذلك ـ بعد الإجماع والاتفاق ـ أنّه من الشعائر، وعدم إنكار الأئمة في عهود كانوا ظاهرين فيها، والأخبار الكثيرة الدالة على ميلهم ورضاهم به، وقد أمرت بالوقوف على باب الروضة أو القبّة أو الناحية المقدَّسة ; والاستئذان وتقبيل القبّة والدعاء عند ترائي القبّة الشريفة وغيرها، ممّا يتوقّف على وجود الباب والقبّة والعتبة، المتوقّف كُلّه على البناء، فلولا البناء أين تكون القبّة؟ وأين الباب؟ وأين العتبة؟ وأين الاستئذان عندها؟

مع صراحة خبر أبي عامر ـ واعظ أهل الحجاز ـ عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وفيه: " إن اللّه سبحانه جعل قلوب نجباء من خلقه وصفوة من عباده تحنّ إليكم، وتحتمل الأذى

الصفحة 334
والمذلّة، فيزورون قبوركم، ويكثرون زيارتهم، تقرّباً منهم إلى اللّه تعالى، ومودّة منهم لرسوله، أولئك المخصوصون بشفاعتي، الواردون حوضي، وهم زواري غداً في الجنّة.

يا علي، مَن عمّر قبوركم وتعاهدها فكأنّما أعان سليمان على بناء بيت المقدس ـ الى أن قال ـ: ولكن حثالة من الناس يعيّرون زواركم كما تعيّر الزانية بزناها، أُولئك شرار أُمتي، لا نالتهم شفاعتي "(1).

وحينئذ فلا ريب في تخصيص العمومات المانعة من تجصيص القبر وتجديده، بل ادّعى صاحب الجواهر أعلى اللّه مقامه: " أنّ البناء على قبور الأئمة والصلحاء من ضروري المذهب، بل الدين "(2).

على أنّ النهي عن التجصيص معارض بما هو أقوى منه سنداً ودلالة وأكثر عدداً، ومنه حديث صفوان: زار الصادق (عليه السلام) قبر جدّه أمير المؤمنين وذكر فضل زيارته واستئذانه منه إعلام الشيعة بهذا الفضل إلى أنّ قال: " وأعطاني دراهم فأصلحت القبر "(3).

ويحدّث يونس بن يعقوب أنّ الإمام الكاظم عند رجوعه من بغداد ماتت ابنة له بـ (فيد)، فدفنها وأمر بعض مواليه أن يجصّص

____________

(1) تهذيب الأحكام 6: 22، المزار للشيخ المفيد: 228، وغيرها من المصادر باختلاف في بعض الالفاظ.

(2) جواهر الكلام 4: 341 وعبارته بعد الكلام عن القبور كالنالي: " وحاصل الكلام أن استحباب ذلك كاستحباب المقام عندها وزيارتها وتعاهدها كاديكون من ضرورات المذهب إن لم يكن الدين ".

(3) الغارات للثقفي 2: 856، فرحة الغري لابن طاووس: 132، بحار الأنوار 97: 280.