وماتت أُمّ الإمام الحجّة صاحب الزمان عجّل اللّه فرجه في أيّام أبي محمّد الحسن العسكري، فدفنت في الدار وكتب على لوح: " هذا قبر أُمّ محمّد (عليه السلام) " ووضع في القبر(2).
وليس هو من خصائص أولادهم، وإنّما جرى الأمر على العادة المألوفة من التعريف بالميت والتنويه بذكره، فيكون الفعل في غيرها من الأنبياء (عليهم السلام) والعلماء الصالحين أولى وأرجح وأأكد.
والمراد من البناء المكروه ـ كما نصّ عليه الأردبيلي وكاشف الغطاء(3) ـ هو ما كان فوق القبر بحيث يصير القبر تحت الحائط، فإنّه غير مناسب لحرمة الميت، وأمّا البناء المتعارف المتداول بحيث يكون القبر تحت القبة فلا يشمله النهي، كما لا يشمل عمارة القبة وتجصيصها وتزيينها، ولا وضع الصناديق المزينة والأقمشة النفيسة على القبور والوقف لها.
وإليكَ أسماء مَن تعرض لهذا الحكم من علمائنا عند مسألة تجصيص القبور من أحكام الأموات وغيرها، مرتّبين على سّنة الوفاة:
السيّد عبد الكريم بن طاووس في الفرحة، المتوفّي سنة 693 هـ(4).
____________
(1) الكافي 3: 202، ح3، التهذيب 1: 461، ح146، الاستبصار 1: 217، ح2، وغيرها من المصادر.
(2) كمال الدين للصدوق: 431، وفي الإكمال: 459 أنّها ماتت في زمن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) وقد تقدّم ذكر ذلك في الهامش.
(3) كشف الغطاء 1: 208.
(4) فرحة الغري: 60
المحقّق الكركي في جامع المقاصد، المتوفّي سنة 933 هـ(2).
الشهيد الثاني في روض الجنان، المتوفّي سنة 966 هـ(3).
الأردبيلي في شرح الإرشاد المتوفّي سنة 993 هـ(4).
السبزواري في الذخيرة، المتوفّي سنة 1090 هـ(5).
الحر العاملي في الوسائل، المتوفّي سنة 1104 هـ(6).
المجلسي في مزار البحار ومرآة العقول، المتوفّي سنة 1110 هـ(7).
السيّد جواد العاملي في مفتاح الكرامة، المتوفّي سنة 1226 هـ(8).
كاشف الغطاء في نهج الرشاد ص71، المتوفّي سنة 1228 هـ(9).
السيّد علي في الرياض، المتوفّي سنة 1231 هـ(10).
____________
(1) الذكرى 2: 37، الدروس الشرعية 1: 318.
(2) جامع المقاصد 1: 449. علماً بأنّ وفاة المحقّق الكركي كانت سنة 940 هـ.
(3) روض الجنان: 317.
(4) مجمع الفائدة والبرهان 2: 499.
(5) ذخيرة المعاد 1: القسم الثاني: 343.
(6) وسائل الشيعة 3: 211.
(7) بحار الأنوار 99: 300.
(8) مفتاح الكرامة 4: 480.
(9) كشف الغطاء 1: 157.
(10) رياض المسائل 2: 221.
النراقي في المستند، المتوفّي سنة 1244 هـ(2).
الكرباسي في منهاج الهداية، المتوفّي سنة 1262 هـ.
صاحب الجواهر فيها، المتوفّي سنة 1266 هـ(3).
النوري في المستدرك، المتوفّي سنة 1330 هـ(4).
____________
(1) غنائم الأيام 3: 535.
(2) مستند الشيعة 3: 373.
(3) جواهر الكلام 4: 332.
(4) مستدرك الوسائل 2: 379.
عمارة مرقد العبّاس
إذا تمهّد ما ذكرناه، فمشهد سيّدنا أبي الفضل (عليه السلام) من أظهر مصاديق تلك البيوت التي أذن اللّه أن تُرفع ويذكر فيها اسمه، كما أنّه في الرعيل الأوّل من أولئك الصدّيقين والشهداء الصالحين، وفي تشييد قبّته السامية إبقاء لما أوعزنا إليه من السرّفي إنحياز قبره عن مجتمع الشهداء.
وإذا أعلمنا الإمام الصادق (عليه السلام) في زيارته بما له من المقام الرفيع في ملأ القدس وعند مجتمع الأنبياء والرسل، وقد حاز بذلك إكباراً منهم وتبجيلا حتّى غبطه على ما حباه اللّه جميع الشهداء والصدّيقين، لتفرّده بتلك المنعة والخطر ; كان الاحتفاء بمشهده القدسي من العمارة والتعاهد من أوّليات فرائض عالم الشهود.
ثُمّ إنّه سبحانه قيّض لعمارة هذا المشهد الكريم أُناساً قدّر لهم الخير والسعادة، وأجرى على أيديهم المبرّات، ففازوا بالباقيات الصالحات، وكانت لهم الذكرى الخالدة في الدارين، والسعادة في النشأتين، من ملوك، وأُمراء، وعلماء، ووجهاء، فتعاقب عليه العمران، وفي كُلّ يوم يزداد بهجة وبهاء حتّى تجلَّى ـ كما هو اليوم ـ في أبهج المناظر بقبّته التي تحاك السماء رفعة، وان شئت النجوم بهجة، وذلك الحرم المنيع المضاهي للعرش عظمة، وأروقته المغشاة بالقوارير التي تفوق الأفلاك بذخاً، وذلك الصحن
ويتحدّث المؤّرخون أنّ الشاه طهماسب في سنة 1032 هجرية زيّن القبة السامية بالكاشاني، وبنى شبّاكاً على الصندوق، ونظّم الرواق والصحن، وبنى البهو أمام الباب الأوّل للحرم، وأرسل الفرش الثمينة من صنع إيران.
وفي سنة 1155 هـ أهدى نادر شاه إلى الحرم المطهّر تُحفاً كثيرة، وزيّن بعض تلك المباني بالقوارير.
وفي سنة 1117 هـ زار الحسين وزيره الشهم، فجدّد صندوق القبر، وعمّر الرواق، وأهدى ثريا يوضع فيها الشمع لإنارة الحرم الشريف.
وبعد حادثة الوهابية بكربلاء سنة 1216 هـ، ونهب ما في الحرم من الأعلاق النفيسة والذخائر المثمنة، نهض الشاه فتح علي وجدّد ما نهب من الحسين وأخيه أبي الفضل، وعمّر قبّة العبّاس بالكاشاني، كما أنّه ذهّب قبّة سيّد الشهداء وصدر الأيوان الذي أمام الباب الأُولى للحرم من جهة القبلة، وأنشأ صندوق ساج على قبر أبي الضيم أبي عبد اللّه (عليه السلام)، وفضّض الشباك المطهّر.
وفي كتاب طاقة ريحان ص91 للعلاّمة الحاج ميرزا عبد الكريم المقدّس الارومي: أنّ خال جدّته لأُمه الحاج شكر اللّه بن بدل بك الأفشاري ذهّب الإيوان الذي هو أمام حرم أبي الفضل، وأنفق على ذلك كُلّ ماله، وذلك بإيعاز زين الفقهاء والمجتهدين الشيخ زين العابدين المازندراني المتوفّي 12 ذي العقدة سنة 1309 هـ، وكتب اسمه في الجانب الغربي من جدار الأيوان على
وفي الكتاب المذكور أن نصير الدولة ذهّب منارة أبي الفضل، وكان الصائع يغش في تطلية الطاقات الصفرية بالذهب، فعرف منه ذلك، وجيء به من بغداد إلى كربلاء، فَلمّا دخل الصحن اضطرب وأسود وجهة سواداً شديداً ومات من الغد.
وحدّثني العلاّمة الحجّة السيّد حسن مؤلّف كتاب (فدك) وغيره من المؤلّفات القيّمة: أنّ الإيوان الصغير الذهبي الذي هو أمام الباب الأُولى أنشأه ملك لكنهو محمّد شاه الهندي، وأمّا الطارمة المسقفة بالخشب فبأمر السلطان عبد الحميد خان، وجدّد بناء القبّة بالكاشاني محمّد صادق الأصفهاني الشيرازي الأصل، وهو الذي اشترى الدور الملاصقة للصحن الشريف وزادها في الصحن وبناه بما هو المشاهد، وكانت الزيادة من جهة القبلة أكثر من سائر الجهات قدر إيوانين أو ثلاث، ودفن في حجرة عند باب القبلة تعرف باسمه، وبنى الصحن بالكاشاني (رحمه الله) وجزاه لخدمته لأبي الفضل أفضل جزاء المحسنين.
وجدّد السيّد المبجّل سادن الروضة المقدسة السيّد مرتضى الباب الفضّي التي هي في الأيوان الذهبي أمام حضرة العبّاس (عليه السلام)سنّة 1355 هـ، وكتب على المصراعين قصيدة الخطيب الأُستاذ الشيخ محمّد علي اليعقوبي، وتفضّل حفظه اللّه بها، ولطروس الإنشاء الذي ذكرناه فيما تقدّم، وهذه القصيدة:
لذ بأعتاب مرقد قد تمنّت | أن تكون النجوم من حصباه |
وانتشق من ثرى أبي الفضل نشراً | ليس يحكي العبير نفح شذاه |
غاب فيه من هاشم أيّ بدر | فيه ليل الضلال يمحي دجاه |
هو يوم الطفوف ساقي العُطاشى | فاسق من فيض مقلتيك ثراه |
وأطل عنده البكاء ففيه | قد أطال الحسين شجواً بكاه |
لا يُضاهيه ذو الجناحين لمّا | قطعت في شبا الحسام يداه |
هو باب الحسين ما خاب يوماً | وافد جاء لائذاً في حماه |
قام دون الهدى يناضل عنه | وكفّاه ذاك المقام كفاه |
فادياً سبط أحمد كأبيه | حيدر مذ فدى النبيّ أخاه |
جدّد المرتضى له باب قدس | من لجين يغشى العيون سناه |
إنّه باب حطة ليس يخشى | كلّ هول مستمسك في عراه |
قف به داعياً وفيه توسّل | فبه المرء يستجاب دعاه |
السدانة
السدانة: هي خدمة المعبد والقيام بشؤونه ولوازمه وتحرّي كلاءته عن أي عادية، وقد اتّخذت العرب بيوتاً تعظّمها كتعظيم الكعبة وجعلوا لها حجاباً وسدنة، وكانوا يهدون إليها كما يهدون إلى الكعبة، ويطوفون كما يطوفون بالكعبة، وينحرون بها مثلها. كلّ ذلك مع معرفتهم فضل البيت الحرام والكعبة المشرفة ; لأنّها بناء الخليل(1).
فالبيت المعظّم الذي يتخذ معبداً ومأوى للوفود والزائرين ومحلاً للدعاء والابتهال لا بّد وان يجعل له حجبة وسدنة، يرعون حرمته، فنصب السادن من لوازم جلالة المحلّ ووجود المثمنات فيه، فلن تجد محلاًّ له شأن إلا ورأيت له خدمة.
وبمناسبة منعة المحلّ لا يقيضّ له من سوقة الناس ومن لا كفاءة له بالقيام بالخدمة ; لأنّ فيه حطّاً من كرامته، وتحطيماً لمكانته، فمن حقّ المقام أن يكون السادن شريف قومه، وكريم بيته، لا يسبق بمجد، ولا يلحق بشرف.
ومن هنا نشاهد السدانة في حرم أبي الفضل (عليه السلام) يتولاّها شريف بعد شريف، حتّى انتهى الأمر إلى الهاشمي المبجّل السيّد
____________
(1) البداية والنهاية لابن كثير 2: 243، السيرة النبوية لابن هشام 1: 54، تفسير ابن كثير 4: 271.
وقام نجله الزكي السيّد محمّد حسن بكُلّ ما يستطيعه من خدمة الحرم.
حامي الجوار
لقد عرف العلماء مكانة أبي الفضل عند اللّه سبحانه وتعالى وما حباه به وأعدّه له من جزيل الفضل، تقديراً لأعماله، وما قاساه من فوادح وآلام، فكان ملجأ الخائف، ولهف اللاجىء، وغوث الصريخ، وحمى المستجير، فلاذوا بجنابه عند الممّات، وجاوروا مرقده الأطهر، والتجأوا إلى كهفه المنيع، ليمنحهم الشفاعة، فيفوزوا بالخلد، ويتقلّبوا على أسرّة النعيم الدائم، وحاشا أبو الفضل أن يخفر الجوار ويتباعد عمّن عقل ناقته بفنائه.
ومن هؤلاء الأعلام ما في الذريعة إلى مصنفات الشيعة ج3 ص199: أنّ الحاج السيّد محمّد بن محسن الزنجاني توفّي بزنجان سنة 1355 هـ وحُمل إلى جوار أبي الفضل العبّاس بوصيّة منه.
وفيه ص323: أنّ الشيخ علي بن زين العابدين البارجيتي اليزدي الحائري صاحب كتاب (إلزام الناصب في أحوال الحجّة الغائب) دفن في صحن العبّاس (عليه السلام).
والعلاّمة الشيخ علي اليزدي البقروئي، من أجلاء تلامذة الأردكاني، دفن في البهو أمام حضرة العبّاس.
والسيّد كاظم البهبهاني، من تلامذة المرحوم آية اللّه السيّد هاشم القزويني، دفن في الرواق.
والعلاّمة السيّد عبد اللّه الكشميري، من تلامذة الأردكاني، دفن في الحجرة الرابعة من الشرق الجنوبي.
والشيخ كاظم الهرّ، له فضل في العلم والأدب، تلمّذ على الشيخ صادق ابن العلاّمة الشيخ خلف عسكر، دفن في الحجرة الأخيرة من الشرق الشمالي.
المديح والرثاء
من الواضح الذي لا يرتاب فيه أنّ نظم الشعر في أيّ رجل تعريف به وإحياء لذكره وإقامة لأمره، فإنّ آثار الرجال مهما كبرت في النفوس وعظم أمرها قد يهمل ذكرها بمرور الزمن، وتباعد العهد، فيغفل عن تلك المآثر ويتناسى مالها من أهميّة كبرى.
ولمّا كان القول المنظوم أسرع تأثيراً من الأصاخة، لرغبة الطباع إليه، فتسير به الركبان، وتلوكه الأشداق، وتتحفّظ به القلوب، وتتلقّاه جيلا بعد جيل، وتأخذه أُمّة بعد أُمّة حتّى يرث اللّه الأرض ومن عليها، فتلتفت إلى ذلك الفضل المتقادم، وقد حفظ لنا الأدب العربي كثيراً من قضايا الأُمم وسيرها وحروبها في الجاهلية والإسلام.
وبما أنّ ذكرى أهل البيت قوام الدّين، وروح الأصلاح، وبها تدرس تعاليمهم، ويقتفي آثارهم ; طفق أدباء هذه الأمة يذكرون مالهم من فضل كثار، وما جرى عليهم من المصائب ولاقوا في سبيل إحياء الدّين من كوارث ومحن ; لأنّ في ذلك إحياء أمرهم، ورحم اللّه من أحيى أمرهم ودعا إلى ذكرهم، وقد تواتر الحثّ من الأئمة المعصومين على نظم الشعر فيهم، مدحاً ورثاءً ; بحيث عدّ من أفضل الطاعات.
ولم يعهد من الأئمة الطاهرين ـ مع تحفّظهم على التقية وإلزام شيعتهم بها ـ تثبيط الشعراء عن المكاشفة في حقّهم وإظهار باطل
بل كان الأئمة يؤكّدون ذلك بالتحبيذ وإدرار المال عليهم، وإجزال الهبات لهم، وذكر المثوبات، وليس ذلك إلاّ لأنّ المكاشفة أدخل في توطيد أُسس الولاية، وعامل قويّ لنشر الخلافة الحقّة، حتّى لا يبقى سمع إلاّ وقد طرقه الحقّ الصراح، ثُمّ تتلقّاه الأجيال الآتية، كُلّ ذلك حفظاً للدّين عن الاندراس، ولئلا تذهب تضحية آل اللّه في سبيله أدراج التمويهات.
ولولا نهضة أولئك الأفذاذ من رجالات الشيعة للذبّ عن قدس الشريعة بتعريض أنفسهم للقتل كحجر بن عدي، وعمرو بن الحمق، ورشيد، وميثم التمار، وأمثالهم، ومجاهرة الشعراء بما قدّم به الأطهار من أهل البيت النبويّ، لما عرفت الأجيال المتعاقبة صراح الحقّ.
وممّا ورد من الحثّ على نظم الشعر مدحاً ورثاءً قولهم (عليهم السلام): " من قال فينا بيتاً من الشعر بنى اللّه له بيتاً في الجنّة "، وفي آخر: " حتَّى يؤيّد بروح القدس "(1).
وفي ثالث: " ما قال فينا مؤمن شعراً يمدحنا إلاّ بنى اللّه له في الجنة مدينة أوسع من الدنيا سبع مرّات، يزوره فيها كُلّ ملك مقرب ونبيّ مرسل "(2).
____________
(1) عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق 2: 15، وسائل الشيعة 1: 467، بحار الأنوار 26: 231، وورد بلفظ: " ما قال فينا قائل بيتاً من الشعر حتّى يؤيّد بروح القدس ".
(2) عيون أخبار الرضا 2: 15، وسائل الشيعة 14: 597.
من لقلب متيّم مستهام.
القصيدة: " لا تزال مؤيّداً بروح القدس ما دمت تقول فينا "(1).
وأذن الإمام الجواد (عليه السلام) لعبد اللّه بن الصلت أنّ يندبه ويندب أباه الرضا (عليه السلام).
وكتب إليه أبو طالب أبياتاً يستأذنه فيها في رثاء أبيه الرضا، فقطع أبو جعفر الأبيات وكتب إليه: " أحسنت وجزاك اللّه خيراً "(2).
وتقدّم في ص172 مدح الصادق لمن يرثي لهم ويمدحهم.
وحسب الشاعر أن يترتّب على عمله البار هاتيك المثوبات الجزيلة التي تشفّ عن أنّ ما يصفه بعين اللّه سبحانه حتّى يبوّأه الجليل عزّ شأنه من الخلد حيث يشاء، وتزدان به غرف الجنان، ولا بدع فإنّه بهتافه ذلك معدود من أهل الدعوة الإلهية، المعلنين لكلمة الحقّ وتأييد الدّين، فهو بقوله الحقّ يرفع دعامة الإصلاح، وتشييد مبانية، ويطأ نزعة الباطل بأخمص الهدى، ويقم أشواكه المتكدّسة أمام سير المذهب، ويلحب طريقه الواضح، فحيّاهم اللّه من دعاة إلى مراضيه.
وبما أنّ أبا الفضل العبّاس من أُولئك الأطهار الذين بهم تمّت الدعوة الإلهية، وعلت كلمة اللّه العليا، بإزهاق نفوسهم المقدّسة حتّى قضوا كراماً طيّبين، مضافاً إلى ما حواه من صفات الجلال والجمال ممّا أوجب أن يغبطه الصديقون على ما منحه الباري
____________
(1) وسائل الشيعة 14: 598، بحار الأنوار 47: 324.
(2) وسائل الشيعة 14: 598، بحار الأنوار 26: 232.
لا تدعوني وَيْكَ أمّ البنين | تذكّروني بليوث العرين |
كانت بنون لي أُدعى بهم | واليوم أصبحتُ ولا من بنين |
أربعة مثل نسور الربى | قد واصلوا الموتَ بقطع الوتين |
تنازع الخرصان أشلاءهم | فكلّهم أمسى صريعاً طعين |
يا ليت شعري أكما أخبروا | بأنّ عبّاساً قطيع الوتين |
وقولها الآخر:
يا مَن رأى العبّاس كرّ | على جماهير النقد |
ووراه من أبناء حيدر | كلّ ليث ذي لبد |
____________
(1) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: 56، وعنه بحار الأنوار 45: 40، والعوالم للبحراني: 281.
نُبِّئت أنّ ابني أُصيب | برأسه مقطوع يد |
ويلي على شبلي أمال | برأسه ضرب العمد |
لو كان سيفك في يدِ | يكُ لما دنا منه أحد |
ورثاه حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن ابن عبيد اللّه بن العبّاس بن أمير المؤمنين على ما في المجدي.
إنّي لأذكر للعبّاس موقفه | بكربلاء وهام القوم يختطف |
يحمي الحسين ويحميه على ظمأ | ولا يولّي ولا يثني فمختلف |
ولا أرى مشهداً يوماً كمشهده | مع الحسين عليه الفضل والشرف |
أكرم به مشهداً بانت فضيلته | وما أضاع له أفعاله خلف |
وحكى الشيخ الجليل العلاّمة ميرزا عبد الحسين الأميني في كتاب (الغدير) ج3 ص5 عن روض الجنان في نيل مشتهى الجنان، المطبوع للمؤرّخ الهندي أشرف علي، أنّ الفضل بن الحسن المذكور قال في جدّه العبّاس (عليه السلام):
أحقّ الناس أن يبكى عليه | فتى أبكى الحسين بكربلاء |
أخوه وابن والده عليّ | أبو الفضل المضرّج بالدماء |
ومَن واساه لا يثنيه شيء | وجاد له على عطش بماء |
وهذه الأبيات نسبها أبو الفرج في المقاتل إلى الشاعر، ونسبها السيّد الحجّة المتتبّع السيّد عبد اللّه شبّر (قدس سره) في جلاء العيون إلى الحسين (عليه السلام).
وقد رثى أبا الفضل العبّاس جماعةٌ كثيرة من الفضلاء الأدباء والعلماء البارعين، لو جُمعت لكانت مجلّداً ضخماً، ولعلّ فيض أبي الفضل يشملنا فنخرجها إلى القرّاء بالقريب العاجل، وفي هذا الكتاب نذكر ما يتحمّله منها.
ومن جيّد ما رثي به قصيدة الشاعر الشهير الحاجّ هاشم ابن حردان الكعبي الدروقي المتوفّى سنة 1231 هـ، وهي مثبتة في ديوانه المطبوع في النجف، وفي كشكول الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق في الفقه ج2 ص392، وفي الدرّ النضيد للعلاّمة السيّد محسن الأمين ومطلعها:
هل أم طوق كذات الطوق في السلم | نحن شوقاً إلى أيامنا القدم |
إلى أن يقول:
يومٌ أبو الفضل تدعوا الظاميات به | والماء تحت شبا الهندية الخذم |
والخيل تصطكّ والزعف الدلاص على | فرسانها قد غدت ناراً على علم |