الصفحة 367
في ذهنه.

11 ـ المصاحف الشريفة: روى البخاري باسناده عن انس بن مالك قال: ان حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي اهل الشام في فتح ارمينية وآذربيجان مع اهل العراق، فافزع حذيفة اختلافهم في القراة فقال حذيفة لعثمان: يا أمير المؤمنين اليهود والنصارى، فارسل عثمان الى حفصة ان ارسلي الينا بالصحف، ننسخها في المصاحف، ثم نردها اليك، فارسلت بهاحفصة الى عثمان.

فامر زيد بن ثابت وعبداللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: اذا اختلفتم انتم وزيد بن ثابت في شي من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فانما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى اذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف الى حفصة، وارسل الى كل افق بمصحف مما نسخوا، وامر بما سواه من القرآن في كل صحيفة او مصحف ان يحرق(1).

قال احد العلما المعاصرين: اما ان عثمان جمع المسلمين على قراة واحدة وهي القراة التي كانت متعارفة بين المسلمين، والتي تلقوها بالتواتر عن النبي (ص)، وانه منع عن القراءات الاخرى، اما هذا العمل من عثمان فلم ينتقده احد من المسلمين وذلك لان الاختلاف في القراة كان يؤدي الى الاختلاف بين المسلمين، وتمزيق صفوفهم، وتفريق وحدتهم، بل كان يؤدي الى تكفير بعضهم بعضا، وقد منع النبي (ص) عن الاختلاف في القرآن، ولكن الامر الذي انتقد عليه هو احراقه لبقية المصاحف، وامره اهالي الامصارباحراق ما عندهم من المصاحف، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين حتى سموه بحراق المصاحف(2).

اقول: ان للقرآن في الاسلام الحرمة الفائقة والمكانة العظيمة، وورد في تكريمه

____________

1- صحيح البخاري 6: 225 كتاب فضائل القرآن باب جمع القرآن ترى القصة كاملة.

2- البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي: 227.


الصفحة 368
واحترامه احكام كثيرة كحرمة مسه من دون طهور، وحرمة قراة العزائم للجنب والحائض في رأي الشيعة واما اهل السنة فانهم يقولون بحرمة قراة اي سورة من القرآن لهما، وحرمة تنجيسه.

وملخص القول: قد تظافرت الاحاديث بحرمة كل عمل يكون موجبا لتوهين القرآن عرفا.

قال الترمذي في سننه بعد ان اخرج حديث «لا تقرا الحائض ولا الجنب شيئا من القرآن»: المنقول عن النبي (ص) ما نصه، وهو قول اكثر اهل العلم من اصحاب النبي (ص) والتابعين ومن بعدهم مثل سفيان الثوري، وابن المبارك، والشافعي، واحمد، واسحاق قالوا: لا تقرا الحائض ولا الجنب من القرآن شيئا الا طرف الاية والحرف ونحوذلك، ورخصوا للجنب والحائض في التسبيح والتهليل(1).

نعم، ان هذه التاكيدات والاوامر والنواهي لم تصدر الا لبيان حرمة القرآن ورعاية شانه واهميته فكيف جاز للخليفة عثمان ان يامر باحراق هذه المصاحف؟ وباي دليل ومستند شرعي استساغ لنفسه ان يشعل النار في كثير من الايات القرآنية، سوا التي كانت في المدينة او سائر البلاد الاخرى؟ وكيف يمكن الجمع والتطبيع بين هذه الفتوى والحكم الخليفي وبين عظمة القرآن والاحكام التي جاءت فيها؟

فلو كان الخليفة عثمان بن عفان قد قصد باحراق المصاحف الشريفة ليتقي الاختلاف المحتمل، فان هناك طرقا اخرى غير الاحراق يمكنه ان يدفع الاختلاف بها، ولا توجب الاهانة بكرامة القرآن والاساة الى قدسيته، فمثلا كان بامكانه ان يضع المصاحف في بئر او بحر ويحفظ قداسته.

والاجابة على هذه الاسئلة نحيلها الى القارئ النبيه ليجيب عليها.

____________

1- سنن الترمذي 1: 236 كتاب الطهارة باب «98» باب من ابواب الطهارة ح131.


الصفحة 369

بين الخلفاء والشريعة


لا ريب ان اهم شروط الامامة والتي تعتبر المفهوم الواقعي والحكمة العالية في الخلافة في الاسلام هو: ان يكون الامام والخليفة حافظا للدين، وصائنا للشريعة، ومنفذالقوانين القرآن وتشريعاته.

هذا ما اوضحه أمير المؤمنين (ع) في ضمن بيانه لشروط الامامة فقال: ولا المعطل للسنة فيهلك الامة.

ولكن التاريخ يروي لنا عكس هذا تماما، ويستفاد مما احتوته احاديث الصحيحين، ان بعض حكام الشريعة، وقوانين الدين، قد تعرضت للتزوير وتطاولت اليها ايدي التشويه والتحريف في عهد الخلفا، وانهـم كانوا يغيرون التعاليم والاحكام الدينية حسب ما تقتضيه مصالحهم ونزعاتهم الشخصية، وكل واحد منهم كان يفسر الشريعة والسنة وفقا لرايه وكيفما شات اهواؤهم.

لما ارادوا ان يبرروا هذا العمل ـ ويصبغوا هذه التحريفات والتغييرات بالصبغة الدينية والطابع الشرعي، ويظهروا باطلهم ومخالفاتهم للنصوص في كسوة الحق سموه الاجتهاد، وخلف ستار الاجتهاد وباسمه دسوا تحريفاتهم ومخالفاتهم في اوساطالمجتمعات الاسلامية، بينما الاجتهاد في الواقع امر، ومخالفة التعاليم القرآنية الصريحة والسنة النبوية امر آخر.

وبهذه المناسبة يقول امير المؤمنين الامام علي (ع):

قد عملت الولاة قبلي اعمالا خالفوا فيها رسول اللّه (ص)، متعمدين بخلافه، ناقضين لعهده، مغيرين لسنته، ولو حملت الناس على تركها، وحولتها الى مواضعها، والى ما كانت في عهد رسول اللّه (ص)، لتفرق عني جندي، حتى ابقى وحدي، او مع قليل

الصفحة 370
من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرض امامتي من كتاب اللّه وسنة رسوله (ص)(1).

وقال ايضا: لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت اشيا.

وعلق ابن ابي الحديد في شرحه على هذه الكلمة: لسنا نشك انه كان يذهب في الاحكام الشرعية والقضايا الى اشيا يخالف فيها اقوال الصحابة، نحو قطعه السارق من رؤوس الاصابع، وبيعه امهات الاولاد، وغير ذلك، وانما كان يمنعه من تغيير احكام من تقدمه اشتغاله بحرب البغاة والخوارج(2).

اقول: ان عدد الاحكام التي غيرت وحرفت واحصا المخالفات التي وقعت في قبال اوامر النبي (ص) واحكامه سوا في حياته او بعد وفاته من قبل الصحابة، فهي كثيرة العدد مستخرجة ومروية في كتب الحديث والتفسير بكثرة.

الا اننا نذكر هنا بعض تلك الاعمال ـ وقد نقلها الشيخان في صحيحيهما التي خالف فيها الاصحاب اوامر الرسول (ص) وسننه، وحرفوها:

1 ـ القتل والفتك

تحريف الاحكام:

من الاحكام الضرورية في الشريعة الاسلامية حرمة الانسان المسلم الذي يقربالشهادتين شهادة ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه (ص) فاهراق دمه واستباحة ماله حرام، ولا يحق لاحد التعرض لهما الا من الناحية الحقوقية الفردية.

قال النبي (ص): امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله الا اللّه، فمن قال: لا اله الا اللّه، فقد عصم مني ماله ونفسه الا بحقه، وحسابه على اللّه(3).

____________

1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: 162، روضة الكافي: 59 ح21، بحار الانوار 34: 168 كتاب تاريخ امير المؤمنين (ع) باب «32» باب علة عدم تغيير اميرالمؤمنين (ع) بعض البدع في زمانه، احقاق الحق 1: 61.

2- شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 19: 161.

3- صحيح البخاري 9: 19 كتاب استتابة المرتدين والمعاندين باب قتل من ابى قبول الفرائض، صحيح مسلم 1: 51 كتاب الايمان باب «8» باب الامر بقتال الناس حتى يقولوا لااله الا اللّه ح32.

ثمة في التاريخ الاسلامي قضايا وحوادث مؤلمة مثل احراق قبيلة بني سليم الذي اشعل خالد.


الصفحة 371
فبعد وفاة الرسول ابي بعض المسلمين المعتقدين بوجوب احكام الدين وضرورياته كالزكاة ان يدفع الزكاة الى ابي بكر، والحق لانهم ما كانوا يعترفون بخلافة ابي بكر على انها خلافة شرعية، ولذلك حاربهم ابو بكر فقتل رجالهم وسبى نساهم واطفالهم(1).

ولما راوا فضاعة ما فعلوه عمدوا الى الباسه لباس الشرعية ليحصنوا بذلك شرف الخليفة من النقد والاستنكار، ويبرؤونه من وصمة العار، ولذلك سموا مانعي دفع الزكاة الى الخليفة بالمرتدين، وبذلك اشتهروا، وصيروا في قائمة الكفار مثل مسيلمة(2) وطليحة(3) اللذان حاربا الاسلام في عهد رسول اللّه (ص).

____________

1- بن الوليد فيها الفار في غرة حكومة الخليفة ابي بكر الصديق راجع الرياض النضرة للمحب الطبري 1: 147.

2- مسيلمة الكذاب: هو مسليمة بن ثمامة من بني حنيفة، ادعى النبوة وكان من المعمرين، نشا باليمامة، ولما ظهر الاسلام في الحجاز وافتتح النبي9 مكة ودانت له العرب، جاه وفدمن بني حنيفة وكان معهم مسيلمة الا انه تخلف مع الرحال خارج مكة فجا الوفد الى النبي واسلموا واخبروا النبي بمكان مسيلمة، ولما رجعوا الى ديارهم كتب مسيلمة الى النبي: من مسيلمة رسول اللّه الى محمد رسول اللّه، سلام عليك، اما بعد... فاجابه النبي: بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه الى مسيلمة الكذاب....

وكان مسيلمة يضع اسجاعا ليضاهي بها القرآن، وتوفي النبي9 قبل القضا على فتنته، وفي عهدابي بكر ارسل ابوبكر جيشا بقيادة خالد بن الوليد فقضى عليه، وكان ذلك سنة 12 من الهجرة.

راجع الاعلام ترجمة مسيلمة الجز السابع. المعرب.

3- طليحة الكذاب: هو طليحة بن خويلد الاسدي، قدم هو وقبيلته سنة تسع من الهجرة المدينة فاسلموا، ولما رجعوا ارتد طليحة وادعى النبوة فوجه النبي (ص) اليه ضرار بن الازورفضربه ضرار بالسيف يريد قتله، فنبا السيف فشاع بين الناس ان السلاح لا يؤثر فيه، ومات النبي (ص) فكثر اتباع طليحة من قبائل اسد وغطفان وطي، وكان يقول: ان جبرئيل ياتيه، وتلاعلى الناس اسجاعا امرهم فيها بترك السجود في الصلاة، فهاجم المدينة في عهد ابي بكروقاتله خالد ومات في عهد عمر الاعلام ترجمة طليحة الاسدي الجز الثالث المعرب.


الصفحة 372
بينما الروايات والتاريخ يدفعان هذا الاتهام والوصمة بالارتداد عن هذه الفئة وينفيانه عنها وتبرئ اولئك من هذه الفرية.

ومن الاحاديث التي تكشف عن واقعية هذه القضية وحقيقتها هو ما اخرجه البخاري ومسلم في كتابيهما، حيث كشفا عن جوانب جزئية من هذه القصة نتطرق الى نقل خلاصة القضية من الناحية التاريخية.

اخرج الشيخان عن ابي شهاب، اخبرني عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة ان ابا هريرة قال: لما توفي النبي (ص) واستخلف ابوبكر، وكفر من كفر من العرب، قال عمر: يا ابا بكر قال رسول اللّه (ص): «امرت ان اقاتل الناس حتى يقولوا: لا اله الا اللّه، فمن قال: لا اله الا اللّه عصم مني ماله ونفسه الا بحقه وحسابه على اللّه»؟

قال ابو بكر: واللّه لاقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فان الزكاة حق المال واللّه لومنعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول اللّه (ص) لقاتلتهم على منعها.

قال عمر: واللّه ما هو الا ان رايت ان قد شرح اللّه صدر ابي بكر للقتال، فعرفت انه الحق(1).

اقول: ان الجملة الاولى من هذه الحكاية وكفر من كفر من العرب كما يظهر من ظاهرها ليست الا كذبا وتدليسا، وما هي الا ذريعة التمسوها لتوجيه القتل والغارات والتنكيل بالمسلمين، التي وقعت بامر من الخليفة ابي بكر، وما يشهد على زيف دعواهم ما جاء في الفقرات الاخيرة من القصة البخارية.

1 ـ ورد في جواب ابي بكر لعمر: «انى اقاتل من فرق بين الصلاة والزكاة» وهذه العبارة انما تدل بوضوح على ايمانهم واقامتهم الصلاة وليس فيها ما يمت الى كفرهم.

____________

1- صحيح البخاري 9: 19 كتاب استتابة المرتدين والمعاندين باب قتل من ابى قبول الفرائض، صحيح مسلم 1: 51 كتاب الايمان باب «8» باب الامر بقتال الناس حتى يقولوا: لا اله الا اللّه.


الصفحة 373
2 ـ فلو فرضنا انهم مرتدون فان اعتراض عمر على الخليفة حينئذ يكون باطلا، حيث انه استنكر عمل الخليفة وانتقده، واستدل في استنكاره بحديث يبين فيه تعاليم الاسلام في بيان مصونية مال المسلمين ودمائهم.

قال ابن رشد: وقد بقى من احكامه حكم مشهور، وهو ماذا حكم من منع الزكاة ومن لم يجحد وجوبها؟

فذهب ابو بكر (رض) الى ان حكمه حكم المرتد، وبذلك حكم في مانع الزكاة من العرب، وذلك انه قاتلهـم وسبى ذريتهـم، وخالفه في ذلك عمر، واطلق من كان استرق منهم وبقول عمر قال الجمهور(1).

وكانت حروب الردة كما يصطلحون عليها منحصرة في جبهتين: في جبهة حضرموت ضد قبائل كندة ومارب وكان اميرالعسكر الخليفي عكرمة بن ابي جهل وفي جبهة اطراف المدينة ضد قبائل عبس وذبيان وبني كنانة وغيرها بقيادة خالد بن الوليد.

وهـؤلا الرجال الذين قتلوا بسيف المسلمين بقيادة عكرمة وخالد لم يرتدوا ولم يكونوا منكري وجوب الزكاة، بل هم مسلمون وكانوا يقولون:

اطعنا رسول اللّه مادام وسطنا.

فيا قوم ما شاني وشان ابي بكر(2).

بعضهـم كانوا يقولون لممثل الخليفة: انك تدعو الى طاعة رجل لم يعهد الينا ولا اليكم فيه عهد(3).

وتارة كانوا يقولون(4) لهم: انظروا في شان عترة النبي (ص) فما كان من امرهم، وهم الاولى بتسنم خلافة الرسول فاقصيتموهم واللّه تعالى يقول: (واولوا الارحام بعضهم اولى ببعض في كتاب اللّه)(5).

قال ابن كثير: وجعلت وفود العرب بعد خلافة ابي بكر تقدم المدينة، يقرون

____________

1- بداية المجتهد 1: 256.

2- للمزيد من الاطلاع على قضية ما سمي بالردة راجع: معجم البلدان للحموي، انساب الاشراف للبلاذري، والفتوح لابن اعثم الكوفي.

3- للمزيد من الاطلاع على قضية ما سمي بالردة راجع: معجم البلدان للحموي، انساب الاشراف للبلاذري، والفتوح لابن اعثم الكوفي.

4- للمزيد من الاطلاع على قضية ما سمي بالردة راجع: معجم البلدان للحموي، انساب الاشراف للبلاذري، والفتوح لابن اعثم الكوفي.

5- الانفال: 75.


الصفحة 374
بالصلاة ويمتنعون عن اداء الزكاة، ومنهم من امتنع عن دفعها الى الصديق ابي بكر(1).

وقال العقاد: اما القبائل ورا ذلك، فكان لكل منها نصيب من التقلقل يناسب نصيبها من القرب والبعد والمودة والجفا، فاقربهم الى مهد الاسلام كانوا يخلصون للنبي (ص) ويخرجون على من ولى الحكم بعده:


اطعنا رسول اللّه مذ كان بيننافيا لعباد اللّه ما لابي بكر

واناس منهم آمنوا بالزكاة ولم يؤمنوا بمن يؤدونها اليه(2).

وقال الاستاذ محمد حسنين هيكل: جمع ابو بكر كبار الصحابة يستشيرهم في قتال الذين منعوا الزكاة، وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه الا يقاتلواقوما يؤمنون باللّه ورسوله، وان يستعينوا بهم على عدوهم، ولعل اصحاب هذا الراي كانوا اكثر الحاضرين، في حين كان الذين اشاروا بالقتال هم القلة.

واغلب الظن ان المجادلة بين القوم في هذا الامر البالغ الخطر طالت، واحتدمت ايما احتدام، فقد اضطر ابوبكر ان يتدخل بنفسه فيها، يؤيد القلة ولقد اشتد في تاييد رايه في ذلك المقام يدل على ذلك قوله: واللّه لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه الى رسول اللّه (ص) لقاتلتهم على منعه(3).

اقول: وقصة التشاور بين ابي بكر وبلاطه نقلها السيوطي(4) والبلاذري وابن الاعثم الكوفي(5)، وقال الاعثم:

وان جملة «واللّه لو منعوني عقالا» قالها ابوبكر في جواب عمر عندما رآه يعارض

____________

1- البداية والنهاية 6: 304 حوادث سنة احدى عشرة فصل في تنفيذ جيش اسامة.

2- عبقرية الصديق: 124.

3- الصديق ابوبكر: 96.

4- تاريخ الخلفاء: 74.

5- الفتوح 1: 6 22.


الصفحة 375
فكرة قتال المسلمين.

وعلى اي حال يتضح مما ذكرناه ونقلناه عن ابن كثير وسائر المؤرخين، ومن كلام ابي بكر ان السبب والباعث الرئيسي ورا قتاله لهؤلاء القوم لم يكن ارتدادهم وتراجعهم عن الاسلام، او انكارهم لاحدى الضروريات الدينية اي الزكاة ـ، بل الباعث في قتالهم هو انهم امتنعوا عن اداء الزكاة لابي بكر كما كانوا يؤدونها لرسول اللّه (ص).

مالك بن نويرة عامل النبي (ص) على الصدقات:

الحروب التي شنت على القبائل المختلفة، وقتل فيها رجالها وسبيت النساوالاطفال، لم يكن سببها في الواقع هو ارتدادهم عن الدين وخروجهم عن الاسلام كما اتهموا بها، وانما السبب الواقعي هو امتناعهم عن اداء الزكاة للخليفة لابي بكر.

ولما كان استعراض كل الجزئيات المكنونة في تلك الحروب الردة وشرحها ممايستدعي ويستوجب الاطالة والاطناب، فلذلك اكتفينا بذكر قصة قتل مالك بن نويرة ورجال قبيلته خاصة(1).

قال ابن حجر في ترجمة مالك بن نويرة: وكان النبي (ص) استعمله على صدقات قومه قبيلة بني تميم(2).

وقال ابن الاعثم الكوفي: ثم ضرب خالد عسكرا بارض بني تميم، وبث السرايافي البلاد يمنة ويسرة، قال: فوقعت سرية من تلك السرايا على مالك بن نويرة فاذا هو في حائط له ومعه امراته وجماعة من بني عمه.

قال: فلم يرع مالك الا والخيل قد احدقت به، فاخذوه اسيرا واخذوا امراته معه، وكانت مسحة من جمال، واخذوا كل من كان معه من بني عمه، فاتوا بهم الى خالد بن الوليد حتى اوقفوا بين يديه.

____________

1- راجع: عبداللّه بن سبا للعلامة العسكري لتزداد اطلاعا عن حروب الردة.

2- الاصابة 5: 560 ترجمة مالك بن نويرة رقم 7712.


الصفحة 376
قال: فامر خالد بضرب اعناق بني عمه بديا.

فقال القوم: انا مسلمون، فعلى ماذا تامر بقتلنا؟ قال خالد: واللّه لاقتلنكم، فقال له شيخ منهم: اليس قد نهاكم ابو بكر عن ان تقتلوا من صلى للقبلة؟ قال خالد: بلى قد امرنابذلك، ولكنكم لم تصلوا ساعة قط.

قال: فوثب ابو قتادة الى خالد بن الوليد فقال: اشهد انك لا سبيل لك عليهم، قال خالد: وكيف ذلك؟ قال:

لاني كنت في السرية التي قد وافتهم، فلما نظروا الينا قالوا: من اين انتم؟ قلنا: نحن مسلمون قالوا:

ونحن مسلمون ثم اذنا وصلينا فصلوا معنا فقال خالد: صدقت يا ابا قتادة، ان كانوا قد صلوا معكم فقد منعوا الزكاة التي تجب عليهم ولابد من قتلهم قال: فرفع شيخ منهم صوته وتكلم، فلم يلتفت خالد اليه والى مقالته، فقدمهم فضرب اعناقهم عن آخرهم.

قال: وكان ابو قتادة قد عاهد اللّه انه لا يشهد مع خالد بن الوليد مشهدا ابدا بعدذلك اليوم.

قال: ثم قدم خالد مالك بن نويرة ليضرب عنقه، فقال مالك: اتقتلني وانا مسلم اصلي الى القبلة؟ خالد: لو كنت مسلما لما منعت الزكاة ولا امرت قومك، واللّه مانلت ما في مثابتك منامك حتى اقتلك.

قال: فالتفت مالك بن نويرة الى امراته فنظر اليها ثم قال: يا خالد برجوعك عن دين الاسلام، وجفلك لابل الصدقة، وامرك لقومك بحبس ما يجب عليهم من زكاة اموالهم قال: ثم قدمه خالد فضرب عنقه صبرا فيقال: ان خالد بن الوليد تزوج بامراة مالك، ودخل بها، وعلى ذلك اجمع اهل العلم(1).

قال اليعقوبي المؤرخ: وكان متمم بن نويرة اخو مالك شاعرا فرثى اخاه بمراث كثيرة ولحق بالمدينة الى ابي بكر، فصلى خلف ابي بكر صلاة الصبح، فلما فرغ ابو بكر

____________

1- الفتوح 1: 7.


الصفحة 377
من صلاته، قام متمم فاتكا على قوسه ثم قال:


نعم القتيل اذا الرياح تناوحتخلف البيوت قتلت يابن الازور
ادعـوته باللّه ثـم غـدرتهلـو هـو دعـاك بذمه لم يغدر

فقال ابوبكر: ما دعوته ولا غدرت به(1).

وقال اليعقوبي ايضا: وكان اول ما عمل به عمر لما ولي الخلافة ان رد سبايا اهل الردة الى عشائرهم(2).

وقال ابن الاعثم: فهم ابو بكر بقتل المقاتلة وقسمة النسا والذرية، فمنعه عمر عن ذلك فامر بهم ابو بكر فحبسوا، ولما صار الامر الى عمر قال لهم: انطلقوا فانتم احرار لوجه اللّه فلا فدية عليكم(3).

نعم، هكذا كان المسلمون يقتلون وتضرب اعناقهم وتسبى نساؤهم وذرياتهم، بامر من الخليفة، وما ذنبهم الا انهم امتنعوا عن اداء الزكاة الى الخليفة، وكانوا يسحبون والاغلال في اعناقهم الى مركز الحكومة الاسلامية.

ولكن لما مات ابو بكر وحل محله خليفته عمر بن الخطاب استنكر ما كان يراه ابوبكر صحيحا، واول عمل قام به ان اطلق سراح الاسرى والسبايا وارجعهم الى قبائلهم كما قرأنا معا خلاصة ما نقله الشيخان في صحيحيهما في الاسطر السابقة.

واخرج مسلم في صحيحه باسناده عن ابي هريرة قال:

ان رسول اللّه (ص) لما اعطى الراية يوم خيبر لعلي بن ابي طالب (ع) قال له: امش ولا تلتفت حتى يفتح اللّه عليك، قال: فسار علي (ع) شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ: يارسول اللّه على ماذا اقاتل الناس؟

____________

1- تاريخ اليعقوبي 2: 132.

2- المصدر: 139.

3- الفتوح 1: 18.


الصفحة 378
قال: قاتلهم حتى يشهدوا ان لا اله الا اللّه وان محمدا رسول اللّه (ص)، فاذا فعلواذلك فقد منعوا منك دماهم واموالهم الا بحقها وحسابهم على اللّه(1).

هذه هي سيرة الرسول وسنته وانقياد الامام علي (ع) لاوامره، وهذه هي سنة الاسلام ونهجه الصحيح.

وتلك كانت طريقة الخلفاء ومنهجم في اجرا الاحكام الدينية والسنة النبوية.

2 ـ قصة فدك وإرث الرسول (ص):

المورد الثاني من مخالفة الخلفاء لرسول اللّه (ص) واحكام الشريعة، والتي وقعت في عهد الخليفة ابي بكر هو مسالة غصبه فدك وارث رسول اللّه (ص) من فاطمة الزهرا (س)، وانه آذى بضعة الرسول (ص) واغضبها.

ولما كانت هذه الواقعة وبعض جوانبها قد وردت مجملة ومختصرة في الصحيحين في موردين فقط، نقلاها عن عائشة بنت ابي بكر، راينا لزاما ان ننقل النص منهما ومن ثم ندرس هذه القضية دراسة محق قة على نحو الاختصار.

1 ـ عروة بن الزبير: ان عائشة ام المؤمنين (رض) اخبرته ان فاطمة (س) ابنة رسول اللّه (ص) سالت ابا بكر الصديق بعد وفاة رسول اللّه (ص) ان يقسم لها ميراثها مما ترك رسول اللّه مما افا اللّه عليه.

فقال لهـا ابو بكر: ان رسول اللّه (ص) قال: لا نورث، ما تركنا صدقة فغضبت فاطمة بنت رسول اللّه (ص)، فهجرت ابا بكر، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت وعاشت بعد رسول اللّه (ص) ستة اشهر.

قالت: وكانت فاطمة (س) تسال ابا بكر نصيبها مما ترك رسول اللّه (ص) من خيبر

____________

1- صحيح مسلم 4: 1871 كتاب فضائل الصحابة باب «4» فضائل علي بن ابي طالب (ع) ح33.


الصفحة 379
وفدك وصدقته بالمدينة، فابى ابو بكر عليها ذلك(1).

2 ـ عن عروة، عن عائشة: ان فاطمة (س) بنت النبي (ص)، ارسلت الى ابي بكر، تساله ميراثها من رسول اللّه (ص) مما افا اللّه عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبرفقال ابو بكر: ان رسول اللّه (ص) قال: لا نورث ما تركنا صدقة، انما ياكل آل محمد (ع) في هذا المال، واني واللّه لا اغير شيئا من صدقة رسول اللّه (ص) عن حالها التي كان عليها في عهد رسول اللّه (ص)، ولاعملن فيها بما عمل به رسول اللّه (ص).

فابى ابو بكر ان يدفع الى فاطمة (س) منها شيئا، فوجدت فاطمة (س) على ابي بكرفي ذلك، فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت، وعاشت بعد النبي (ص) ستة اشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا، ولم يؤذن بها ابا بكر وصلى عليها، وكان لعلي (ع) من الناس وجه حياة فاطمة (س)، فلما توفيت استنكر علي وجوه الناس، فالتمس مصالحة ابي بكرومبايعته، ولم يكن يبايع تلك الاشهر، فارسل الى ابي بكر ان ائتنا ولا ياتنا معك احد(2).

اقول: هذان الحديثان اخرجهما الشيخان باسنادهما عن عائشة، ولما كان الحديث طويلا انتقينا الفقرات الاولى منها حيث انها بيت القصيد.

وعلى الرغم من ان كلام عائشة قد اعطت القضية نوعا من الجدل والمصالحة، وصبغتها بصبغة الصلح والمسالمة، الا انها تحتوي على نقاط هامة، وتكشف عن حقائق كانت مستورة نشير اليها باختصار:

1 ـ يظهر بعد البحث والتحقيق ان ميراث النبي (ص) وتركته المتنازع عليها، والتي صودرت من قبل الخليفة، لم تنحصر بفدك كما هو المشهور، لان النبي (ص) كان يملك

____________

1- صحيح البخاري 4: 96 كتاب الجهاد والسير باب فرض الخمس، صحيح مسلم 3: 1381كتاب الجهاد والسير باب «16» باب قول النبي: لا نورث ح54.

2- صحيح البخاري 5: 177 كتاب فضائل اصحاب النبي باب غزوة خيبر، صحيح مسلم 3: 1381 كتاب الجهاد والسير باب «16» باب قول النبي: لا نورث ما تركنا صدقة ح54.


الصفحة 380
اموالا وقرى خارج المدينة غير فدك كما اثبته المحققون والعلماء(1).

وهذا ما نستفيده من كلام عائشة حيث قالت: بان فاطمة طالبت ابا بكر بعد وفاة النبي بموارد متعددة، مثل فدك والخمس من غنائم خيبر والصفايا والصدقات خارج المدينة.

ولعل اشتهار فدك من بين كل تلك الموارد، لاهميتها الخاصة وموقعها كما يقول ابوداود في سننه: ان ارباح فدك السنوية في عهد الخليفة عمر بن عبدالعزيز كانت تبلغ ‌اربعين الف دينار وقد ردها الخليفة لبني الحسن(2).

2 ـ ان ابا بكر عندما امتنع من ان يرجع ميراث النبي (ص) الى اهل بيته (ع) عمد الى تزويرو جعل حديث ونسبه الى رسول اللّه (ص) بانه قال: لا نورث.

3 ـ ان فاطمة الزهرا (س) انكرت هذا الحديث المزيف وانتقدته، وهجرت ابابكرولم تكلمه، حتى توفيت فغسلها وكفنها ودفنها وصلى عليها زوجها علي بن ابي طالب (ع) ليلا، ولم يخبر الخليفة بوفاتها والصلاة عليها.

4 ـ كانت فاطمة (س) في المدة التي عاشتها بعد ابيها الرسول ستة اشهر(3) اقوى حام ومدافع لأمير المؤمنين (ع) في مقابل مخالفيه، ولذا نقرا انه ما بايع أمير المؤمنين (ع) ابابكر ما دامت فاطمة (س) حية، وعندما توفيت فاطمة (س) وتغير اسلوب الخليفة واصحاب رسول اللّه (ص) في معاملتهم لأمير المؤمنين الامام علي (ع)، ارسل الى ابي بكر وبايعه، كماقالت عائشة: استنكر وجوه الناس فالتمس مصالحة ابي بكر ومبايعته.

____________

1- سنن ابي داود 3: 141 كتاب الخراج والامارة والفي باب في صفايا رسول اللّه ح2967.

2- سنن ابي داود 3: 143 كتاب الخراج والامارة والفي باب في صفايا رسول اللّه (ص) ح2972.

3- هذه المدة هي حسب ما ترويه روايات العامة، واما كتب التاريخ والسير عند الشيعة وكذارواياتهم تؤكد بانها سلام اللّه عليها عاشت بعد ابيها 70 يوما او ثلاث اشهر، فعلى الاول ان قلنا بان شهادتها كانت في الثالث عشر من جمادى الاولى وعلى الثلاث اشهر ان قلنا بان شهادتها كانت في الثالث من جمادى الاخرى.