الصفحة 381

ابداع مادة قانونية:

اما ما يرتبط من هذه الموارد الاربع المذكورة ببحثنا هو الموردين الاوليين اي مصادرة ميراث النبي وغصبه، والاخر وضع حديث مزيف بحيث صار قانونا لمن ياتي بعده ولما كان موضوع مصادرة الارث وغصب فدك من مسلمات الحوادث التاريخية المتفق عليها عند السنة والشيعة، لذلك لم نر لزوما للبحث فيها، فعلى هذا فان البحث منحصر في المورد الثاني.

كان الخليفة ابوبكر في تلك اللحظات الحساسة بحاجة ماسة الى ذريعة قوية ووسيلة شرعية، حتى تمكنه من الوصول الى ما نواه من مصادرة ميراث النبي واخراج ماكان عليه يدي الزهرا ابنة الرسول (ص) من ملكيتها، ويجعلها جزا من الانفال العامة المتعلقة ببيت المال، وهو في نفس الوقت كان يفكر ان لا يواجه هزيمة في منازعته مع الجانب الاخر يعني فاطمة الزهرا (س) ويكون هو المنتصر عند الراي العام، فما كانت ذريعة اقوى وادحض لمطالبة الجانب الاخر من ان يضع ويختلق حديثا وينسبه الى النبي (ص) اذ يقول: نحن معاشر الانبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.

هذا الحديث في معارضته ومناقضته للنصوص القرآنية صريح وواضح، وزد على هذه المخالفة ما فيه من معاكسته لكثير من الحقائق الاخرى التي سنذكرها:

فلو كان الحديث المنسوب الى النبي صحيحا فلم لم يرويه احد من اهل بيته (ع) واصحابه سوى ابي بكر، وحتى ابنته وصهره (ع) وكذا ازواجه لم يسمعوا بمثل هذا الخبرمن النبي (ص)؟

الم تكن وظيفة الرسول (ص) وفقا للاية (وانذر عشيرتك الا قربين)(1) ان يخبربه ابنته (س) صاحبة الحق وصهره الامام علي (ع) الذي كان ملازما له دائما لكي لا تطالب بعد وفاته (ص) بالارث وكذا يصنع من حدوث الاختلاف بين اهل بيته (ع) واصحابه؟

____________

1- الشعراء: 214.


الصفحة 382
هل الرسول (ص) كان يجهل انه سيحدث بعد وفاته اختلاف ونزاع حول مسالة الارث؟

ولو كان هذا الحديث صحيحا لماذا لاثت فاطمة الزهرا (س) وهي من اصحاب الكسا ومعصومة من الذنوب والخطا(1)، خمارها، واشتملت بجلبابها، واقبلت في امة من حفدتها ونسا قومها، تطا ذيولهـا، ما تخرم مشيتها مشية رسول اللّه (ص)، حتى دخلت على ابي بكر، وهو في حشر من المهاجرين والانصار وغيرهم، فنيطت دونها ملائة، فحنت ثم انت انة اجهش القوم لها بالبكا، فارتج المجلس، ثم امهلت هنيهة، حتى اذاسكن نشيج القوم، وهدات فورتهم، افتتحت الكلام وبدات خطبتها التاريخية واحتجاجها الخالد.

وبعد الحمد والثنا ذكرتهم بمتاعب ابيها رسول اللّه (ص)، وقضية خلافة بعلها، مستدلة بالبراهين الجلية، والدلائل الواضحة، ثم توجهت الى ابي بكر، وقالت: يا ابن ابي قحافة، افي كتاب اللّه ان ترث اباك ولا ارث ابي؟ وبعد ذلك توجهت الى قبر رسول اللّه (ص) وقالت:


قـد كـان بـعدك انبا وهـنبثةلو كـنت شاهدها لم تكثر الخطب
ابدت لنا رجال نجوى صدورهملـما قـضيت وحالت دونك الكثب
تـجـهمتنا رجال واستخف بـنااذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب(2)

فلو كان ما نسبه ابو بكر الى الرسول (ص) صحيحا لماذا غضبت عليه فاطمة الزهرا (س) التي قال عنها الرسول: من اغضبها فقد اغضبني(3) ولم تكلم ابابكر حتى

____________

1- راجع ص 309 اصل.

2- انظر الخطبة بكاملها واحتجاجها على ابي بكر في شرح نهج البلاغة لابن ابي الحديد 16: 211، بلاغات النساء: 12، والشافي للسيد المرتضى 4: 70.

3- راجع ص.


الصفحة 383
توفيت (ع)؟(1).

فلو كان ادعا ابي بكر صحيحا لما وقف أمير المؤمنين والحسن والحسين (ع) الذين نزلت فيهم آية التطهير والمباهلة الى جانب الزهرا (س) في احتجاجها مع ابي بكر؟

وهل يعقل ان ياخذ الامام علي وفاطمة والحسن والحسين (ع) الصدقات وهي محرمة عليهم وهي مختصة بفقرا المسلمين، ويصيرونها ملكا لهم؟ هذه الامورتدل بوضوح بان أمير المؤمنين وفاطمة وابناهما (ع) كانوا ينكرون على ابي بكر في جعله لهذه الرواية، وقالوا بانه قانون موضوع مختلق لا اساس له ولا اعتبار.

اصحاب النبي (ص):

قلنا: انه ليس في اصحاب النبي (ص) من سمع هذا الحديث من النبي (ص) الا ابابكر، وهذه المسالة من المسائل التي ما وسع علماء العامة ومحققيهم الا ان يصرحواوينوهوا على انها من منفردات ابي بكر، وعلى سبيل المثال نذكر ثلاثا منهم:

1 ـ قال ابن ابي الحديد المعتزلي في شرح نهج البلاغة: انه لم يرو هذا الخبر الا ابوبكر وحده، ذكر ذلك اعظم المحدثين، حتى ان الفقها في اصول الفقه اطبقوا على ذلك في احتجاجهم في الخبر برواية الصحابي الواحد(2).

وقال ايضا في موضع آخر تاييدا لقول السيد المرتضى: صدق المرتضى رحمه اللّه فيما قال، فلم يرو الخبر نفي الارث الا ابو بكر وحده(3).

2 ـ قال السيوطي: واختلف الاصحاب في ميراثه النبي فما وجدوا عند احد من ذلك علماء فقال ابو بكر: سمعت رسول اللّه (ص) يقول: انا معشر الانبياء لا نورث، ما تركناه صدقة(4).

____________

1- راجع ص.

2- شرح نهج البلاغة 16: 227.

3- شرح نهج البلاغة 16: 245.

4- تاريخ الخلفاء: 73.


الصفحة 384
3 ـ قال ابن حجر: اختلف الاصحاب في ميراث النبي فما وجدوا عند احد من ذلك علماء فقال ابو بكر: سمعت رسول اللّه (ص) يقول: انا معاشر الانبياء لا نورث(1).

زوجات النبي (ص):

ذكرنا سابقا ان اسطورة نفي الارث من الانبيا، والتي ولدت بعد وفاة النبي على انها حديث نبوي لم يسمعه اي احد من اصحاب النبي (ص) ولا عترته (ع) وحتى زوجاته لم يسمعن من النبي مثل هذا الحديث.

ولو كان هذا الحديث صدر من النبى حقيقة لاخبرهن بذلك، لان لهن نصيب وسهم معين في ميراثه (ص)، وهن اولات حق في تركة النبي (ص)، وهذا البخاري يروي في صحيحه عن عائشة تقول: بان زوجات النبي (ص) طالبن ابا بكر ارثهن وسهمهن من تركة الرسول (ص) الثمن، وارسلن اليه عثمان لكي يطالبه بالثمن من الارث.

وهذه القصة فيها دلالة واضحة على ان ازواج النبي قد انكرن على ابي بكروكذبنه، واثبتن بعملهن هذا ان هذا القانون منع ارث النبي (ص) هو من القوانين الموضوعة ولم يكن له وجود شرعي في الخارج وضعه ابو بكر ونسبه للنبي (ص).

اخرج البخاري حديثا عن عائشة تشير الى حكاية هذه المطالبة:

عن عروة بن الزبير قال: سمعت عائشة زوج النبي تقول: ارسل ازواج النبي (ص) عثمان الى ابي بكر يسالنه ثمنهن مما افا اللّه على رسوله (ص)، فكنت انا اردهن فقلت لهن: الا تتقين اللّه، الم تعلمن ان النبي (ص) كان يقول: لا نورث، ما تركناصدقة، يريد بذلك نفسه، انما ياكل آل محمد (ص) في هذا المال(2).

وقد اشرنا فيما سبق بان هذا الحديث لم ينقله احد غير ابي بكر ولم ينسبه

____________

1- الصواعق المحرقة: 35.

2- صحيح البخاري 5: 115 كتاب المغازي باب حديث بني النضير، صحيح مسلم 3: 1379كتاب الجهاد والسير باب «16» باب قول النبي: لا نورث ح51.


الصفحة 385
المحدثون الى عائشة، وان عائشة نفسها في احتجاجها على سائر ضراتها وازواج النبي (ص) تروي الحديث عن ابيها ابي بكر ايضا.

والجدير بالذكر ان الخلفاء كانوا يعطون كل واحدة من ازواج رسول اللّه (ص) مايجبر حرمانها من ارث النبي (ص) واما عائشة فقد كان لها نصيب الاسد، وهي اكثرهن حظا من تلك العطايا(1).

والحق ما قاله ابن الفارقي استاذ المدرسة الغربية ببغداد كما يحدث ابن ابي الحديد عنه فقال:

سالت علي بن الفارقي مدرس المدرسة الغربية ببغداد فقلت له: اكانت فاطمة (س) صادقة؟ قال: نعم.

قلت: فلم لم يدفع اليها ابو بكر فدك وهي عنده صادقة؟

فتبسم ثم قال كلاما لطيفا مستحسنا مع ناموسه وحرمته وقلة دعابته، قال: لواعطاها اليوم فدك بمجرد دعواها، لجات اليه غدا وادعت لزوجها الخلافة وزحزحته عن مقامه، ولم يمكنه الاعتذار والموافقة بشي، لانه يكون قد سجل على نفسه انهاصادقة فيما تدعي كائنا ما كان من غير حاجة الى بينة وشهود.

وهذا كلام صحيح وان كان اخرجه مخرج الدعابة والهزل(2).

3 ـ صلح الحديبية:

قال ابو وائل: كنا بصفين حيث اعلن وقف الحرب بين جند الامام علي (ع) وجيش معاوية، فقام بعض جند الامام مخالفا فقام سهل بن حنيف وسط جند الامام فقال: ايها الناس اتهموا انفسكم ولا تدعوا انكم تعلمون كل شي فانا كنا مع رسول اللّه (ص) يوم الحديبية، ولو نرى قتالا لقاتلنا فجا عمر بن الخطاب فقال: يا رسول اللّه

____________

1- شرح نهج البلاغة 16: 220 223.

2- شرح نهج البلاغة 16: 284.


الصفحة 386
السنا على الحق وهم على الباطل؟ فقال (ص): بلى فقال عمر: اليس قتلانا في الجنة، وقتلاهم في النار؟ قال (ص): بلى قال عمر: فعلى ما نعطى الدنية في ديننا، انرجع ولما يحكم اللّه بيننا وبينهم؟ فقال (ص): يابن الخطاب اني رسول اللّه ولن يضيعني اللّه ابدا.

فرجع عمر متغيظا فلم يصبر اي انه لم يقنع بكلام النبي (ص) حتى جاء ابا بكرفقال: يا ابا بكر السنا على الحق وهم على الباطل؟ قال: يابن الخطاب انه رسول اللّه ولن يضيعه اللّه ابدا، فنزلت سورة الفتح(1).

وقد ورد في ذيل احدى الروايات، الفقرة التالية:

فنزلت سورة الفتح فقراها رسول اللّه (ص) على عمر الى آخرها، فقال عمر: يارسول اللّه او فتح هو؟ قال: نعم(2).

اقول: يتضح من هذا الموضوع وما يليه موضوع الوصية الذي سنبحثه في الفصل الاتي مدى جراة الخليفة عمر على النبي (ص) وتجاسره عليه (ص)، ومن هذين الموضوعين يمكننا ان نعلم مدى درجة ايمان عمر واعتقاده بالنبوة، واعتماده على اقوال وكلام الرسول الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى(3)، ومخالفته لاوامرالنبي (ص) واعتراضه على النبي (ص).

4 ـ الوصية التي لم تكتب:

عن عبيداللّه بن عبداللّه بن عتبة، عن ابن عباس قال: لما حضر رسول اللّه (ص)، وفي البيت رجال، فيهـم عمر بن الخطاب فقال النبي (ص): هلم اكتب لكم كتابا لا تضلون

____________

1- صحيح البخاري 4: 125 كتاب الخمس باب في ذيل اثم من عاهد ثم عذر، وج6: 170كتاب التفسير تفسير سورة الفتح، صحيح مسلم 5: 1411 كتاب الجهاد باب «34» باب صلح الحديبية ح94.

2- صحيح البخاري 4: 126 كتاب الخمس باب في ذيل اثم من عاهد ثم عذر، صحيح مسلم3: 1412 كتاب الجهاد والسير باب «34» باب صلح الحديبية ح94.

3- النجم: 4.


الصفحة 387
بعده. فقال عمر: ان رسول اللّه (ص) قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف اهل البيت، فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اللّه (ص) كتابالن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر.

فلما اكثروا اللغو والاختلاف عند رسول اللّه (ص)، قال رسول اللّه (ص): قوموا.

قال عبيداللّه: فكان ابن عباس يقول: ان الرزية ما حال بين رسول اللّه (ص) وبين ان يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم(1).

وعن ابن عيينة، عن سليمان الاحول، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس انه قال: يوم الخميس وما يوم الخميس، ثم بكى، حتى خضب دمعه الحصبا فقال: اشتد برسول اللّه (ص) وجعه يوم الخميس فقال:

ائتوني بكتاب اكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ابدا، فتنازعوا، وما ينبغي عند نبي تنازع وقالوا: ما شانه اهجر؟ استفهموه فذهبوا يردون عليه.

قال (ص): دعوني فالذي انا فيه خير اوصيكم بثلاث: اخرجوا المشركين من جزيرة العرب، واجيزوا الوفد بنحو ما كنت اجيزهم، قال: وسكت عن الثالثة او قالهافانسيتها(2).

اقول: اخرج مسلم الحديث الثاني بطريقين وسندين الى ابن عباس، الاول عن سعيد بن جبير، والاخر عن عبيداللّه بن عتبة، وذكره البخاري في صحيحه في سبعة مواردوباسانيد مختلفة(3).

فاما الحديث فقد مدت اليه يد المحرفين بالتحريف والتغيير فحرفت بعض متنه

____________

1- صحيح مسلم 3: 1259 كتاب الوصية باب «5» باب ترك الوصية لمن ليس له شي يوصي فيه ح22، صحيح البخاري 7: 156 كتاب الطب باب قول المريض قوموا عني.

2- صحيح مسلم 3: 1257 كتاب الوصية باب «5» باب ترك الوصية لمن ليس له شي يوصي فيه ح20.

3- راجع الموارد السبعة المذكورة في الهوامش الاتية 3 و4 و5.


الصفحة 388
والفاظه، الا انه لم يخل من احتوائه على نكات مهمة، راينا لزاما ان نشير اليها والى التحريفات فيه:

1 ـ النكتة الاولى التي تجب الاشارة اليها والتمحيص فيها هي: انه قد ذكر اسم الخليفة عمر صريحا في ثلاثة موارد من الاحاديث السبعة بانه هو الذي خالف النبي (ص) وصده عن كتابة الوصية فقال عمر: ان رسول اللّه (ص) قد غلب عليه الوجع(1).

وفي الاربعة الاخرى لم يذكر اسم المتكلم الخليفة عمر بالصراحة بل جاء في مورد واحد منها:

فقال بعضهم: ان رسول اللّه (ص) قد غلبه الوجع(2)، وجا في الثلاثة الباقية: فقالوا: هجر رسول اللّه (ص)(3).

ولكن مضامين جميع هذه الاحاديث السبعة تصرح بان المبتكر والمبدع للمخالفة هو عمر بن الخطاب الذي اوجد الشبهة هجران النبي (ص) واما العبارات الاخرى فقال بعضهم او فقالوا: هجر رسول اللّه (ص) لا يمكن ان تشكك في الحقيقة وتشوهها وتحرف المسالة عن واقعيتها.

وان الاختلاف والنزاع الذي حدث للحاضرين عند الرسول (ص) لم يكن الا ردا اواثباتا لقول الخليفة هجر الرسول (ص) وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه الذي مال اليه فئة من الحاضرين، وخالفه آخرون كما جاء في النص:

فقال عمر: ان رسول اللّه (ص) قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب اللّه، فاختلف اهل البيت فاختصموا فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اللّه (ص) كتابا

____________

1- الموارد الثلاثة هي كالتالي: صحيح البخاري 1: 39 كتاب العلم باب كتابة العلم، وج7: 156 كتاب الطب باب قول المريض: قوموا عني، وج9: 137 كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة باب كراهية الخلاف.

2- راجع صحيح البخاري 6: 11 كتاب المغازي باب مرض النبي (ص) ووفاته.

3- راجع صحيح البخاري 4: كتاب الجهاد باب هل يستشفع الى اهل الذمة وص 120 كتاب الخمس باب اخراج اليهود من جزيرة العرب، وج6: 12 كتاب المغازي باب مرض النبي (ص) ووفاته.


الصفحة 389
لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر.

نقل ابن ابي الحديد رواية مفصلة من حوار جرى بين ابن عباس والخليفة عمروقداعترف الخليفة فيه بحقيقة هامة:

فقال: ان النبي (ص) في مرضه اراد ان يصرح باسمه ـ الامام علي (ع) فمنعت من ذلك.

وذكر هذا الخبر احمد بن ابي طاهر صاحب كتاب تاريخ بغداد في تاريخه مسندا(1).

2 ـ ان جملتى «هـجر رسول اللّه» و«غلب عليه الوجع» وان كانتا متغايرتين لفظا الا ان مفهومهما واحد وهو نسبة الهجر والهذيان الى النبي (ص).

الا ان رواة الحديث وحفاظ اهل السنة لما شاهدوا بان هذا البهتان العمري وهذه النسبة التي نسبها خليفتهم عمر الى رسول اللّه تخالف صريح الايات القرآنية التي تصف النبي (ص) وخاصة آية (ما ضل صاحبكم وما غوى)(2) سوف تعرضهم للنقد وتوقعهم في المؤاخذات والانتقادات، قاموا وكدابهم الدائم بتحريف وتغيير الحديث باشكال مختلفة.

ففي الاحاديث التي لم يرد فيها اسم الخليفة عمر صراحة، ونسبوا فيها القول المذكور الى بعض الحاضرين عند النبي (ص)، ذكرت جملة هجر رسول اللّه (ص) صريحة.

واما الاحاديث التي ورد فيها اسم عمر او جاء فيها كلمة بعض والتي هي اشارة لامحالة الى ان البعض هو عمر، فترى محدثو العامة اتوا بجملة «غلب عليه الوجع» بدلا عن كلمة هجر، ولا ريب ان تلك الجملة تعبير كنائي عن هذه الكلمة ومفهومهما واحد لا

____________

1- شرح نهج البلاغة 12: 21 و78.

2- النجم: 3.


الصفحة 390
غير(1).

وقد اشرنا فيما سلف الى ان المبدع للمقولة، والمخترع الاول للشبهة، والمبادر في القائها هو الخليفة عمر ذاته، ولا احد غيره، واذا تلفظ ونطق الاخرون بها وقالوا: «هجر» لم ياتوا بها من تلقا انفسهم بل انهم تعلموا ذلك من الخليفة.

3 ـ النكتة الثالثة الهامة هي ما يرتبط بالشق الاخير من الحديث اذ ان بعض الرواة والحفاظ اسقطوا ذلك، وقطعوا ذيله، ولكن آخرين غيرهم ذكروا الرواية بكاملها، وفيها ان النبي (ص) في تلك اللحظة الحساسة، وبعدما امتنع من كتابة الوصية اوصى بثلاث وصايا، فنقل الراوي اثنتين منها، ونسي الثالثة فقال: واوصى عند موته بثلاث ونسيت الثالثة.

وهنا يتبادر سؤال: ما هي الوصية الثالثة التي نسجت العنكبوت اوتار نسيانهاعليه؟

والحق ان نسيان الوصية الثالثة من وصايا النبي كانت فيه مصلحة ومنفعة لان تنسى ولا شك ان هذه الوصية الثالثة المنسية هي نفس الموضوع المهم والمصيري الذي اهتم النبي به وامر باحضار الكتف والدواة ليكتبه والذي يكون سدا منيعا امام ضلالة المسلمين وغيهم.

والمهم ان الوصية التي اراد النبي (ص) ان يوصي بها كانت من الاهمية والخطورة بحيث استدعت ان يقوم احد الحاضرين في مجلس النبي بالمعارضة والمخالفة ويلفق على النبي بهتان الهجر والهذيان.

وهذه الوصية التي بها تسد ابواب الضلالة والانحراف ما زالت باقية في ذهن النبي (ص) حتى استدعت ان يكتبها بعد ان اكدها وكررها شفاها، وذكرها صراحة، ولاشك في ان الراوي كان يعلمها ويدري تلك الوصية الا ان مصلحة النظام ومنافعها هي التي

____________

1- راجع متن الاحاديث التي اشرنا اليها في هوامش ص 345.


الصفحة 391
الزمته ان يكتم وصية النبي (ص) ويدفنها تحت اكمام النسيان والتناسي كما قال: «ونسيت الثالثة».

والجدير بالعجب والدهشة ان ابن عباس وسعيد بن جبير الراوي الاول والثاني لوصية النبي (ص) الثالثة قد نقلاها، ولكن ما ان تصل سلسلة سند الرواية الى سليمان الاحول حتى طغى عليه عفريت النسيان فغابت تلك الوصية عن باله وصرح البخاري بان سفيان بن عيينة الراوي الرابع من سلسلة سند الحديث المبتور قال بان جملة «ونسيت الثالثة» هي كلمة سليمان الاحول وليست كلمة سعيد بن جبير او عبداللّه بن عباس، وهكذا اعترف قائلا: قال سفيان: هذا من قول سليمان(1).

فتعسا وسحقا لهذه السياسة التي تحول بين المر وبين الحقائق المصيرية، وتقوم بتحريف الحقائق وتزويرها، وتودع الكثير من الحلول الضرورية في قفص النسيان والتناسي.

سؤال وجواب:

استشكل بعض العلما من اهل السنة قائلا:

فلو كانت كتابة الوصية ذات اهمية قصوى، فلماذا اعرض النبي (ص) عن ذلك على اثر مخالفة شرذمة قليلة؟

فلو كانت الوصية بهذه المكانة من الاهمية لماذا استسلم النبي (ص) لمخالفة الفئة المعارضة، وهو يرى ان هذا الامر هو نجاة للامة ومصلحة لها؟

واما الجواب: فنكتفي بما قاله المرحوم العلامة السيد شرف الدين الموسوي بهذا الصدد اذ يقول:

وانما عدل عن ذلك لان كلمتهم تلك «هجر رسول اللّه» التي فاجاوه بها اضطرته الى العدول، اذ لم يبق بعدها اثر لكتابة الكتاب سوى الفتنة والاختلاف من بعده، في انه

____________

1- صحيح البخاري 4: 121 كتاب الخمس باب اخراج اليهود من جزيرة العرب.


الصفحة 392
هل هجر فيما كتبه والعياذ باللّه او لم يهجر؟ كما اختلفوا في ذلك واكثروا اللغو واللغطنصب عينه، فلم يتسن له يومئذ اكثر من قوله لهم: «قوموا» كما سمعت، ولو اصر فكتب الكتاب للجوا في قولهم: «هجر»، ولاوغل اشياعهم في اثبات هجره والعياذ باللّه فسطروابه اساطيرهم، وملاوا طواميرهم، ردا على ذلك الكتاب وعلى من يحتج به.

لهذا اقتضت حكمته البالغة ان يضرب (ص) عن ذلك الكتاب صفحا لئلا يفتح هؤلاء المعارضون واوليائهم بابا الى الطعن في النبوة نعوذ باللّه ونستجير به، وقدراى (ص) ان عليا واولياه خاضعون لمضمون ذلك الكتاب سوا عليهم، اكتب ام لم يكتب؟ وغيرهم لا يعمل به ولا يعتبره لو كتب، فالحكمة والحال هذه توجب تركه اذ لا اثر له بعد تلك المعارضة سوى الفتنة كما لا يخفى والسلام(1).

وخلاصة المقال: ان النبي (ص) احس بان المعارضين الذين بهتوه بالهجر والهذيان وهو ما زال حيا، فلا ريب انهم يصرون ويلحون في اثبات ذلك عليه حتى يشككوا اشياعهم في اصل النبوة ويشطبوا على اعتبارها فكان ما فوجئ به كافيا، فلو كان يصرلكانت النتيجة اطم.

ولذلك اقتضت حكمته ان يعرض عن الكتابة ويسد بالنتيجة باب الطعن على النبوة ذاتها.

5 ـ حج التمتع:

ومن الاحكام الدينية والتعاليم الاسلامية التي تم تحريفها وتغييرها في عهد عمربن الخطاب وبدلت، عما كانت عليه في عهد رسول اللّه (ص) مسالة حج التمتع وان هذا التحريف العملي كحكم رسول اللّه جوبه في عهد عثمان بن عفان بالمخالفة الشديدة من قبل أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) حتى ارجع الى حكمه الاول الذي كان في عهدرسول اللّه (ص) وحسب ما امر به رسول اللّه والغيت بدعة عمر بن الخطاب بعد ان عملوا بها

____________

1- المراجعات: المراجعة رقم 86.


الصفحة 393
برهة من الزمن.

واما اهل السنة وعلماؤهم فقد اطبقوا على الافتا في العمل بحج التمتع الذي كان جائزا في عهد النبي وتركوا الاقتدا والالتزام ببدعة الخليفة الذي حرم حج التمتع(1).

وقبل الخوض في المسالة ارى من الضروري ان نستلهم مجرى هذا الحكم وكيفيته ومتعلقاته من كتب الحديث والصحيحين.

تعريفه:

هو ان يحرم المتمتع بالعمرة الى الحج في احد اشهر الحج شوال، ذي القعدة وذي الحجة ويلبي بها من الميقات ثم ياتي مكة، ويطوف بالبيت سبعا، ثم يسعى بين الصفاوالمروة سبعا، ثم يقصر ويحل من احرامه ليحل له جميع ما حرم عليه بالاحرام، حتى ينشئ في تلك السنة نفسها احراما للحج من مكة، ويخرج لعرفات، ثم يفيض الى المشعرالحرام، ومنها الى منى، ثم ياتي بباقي المناسك من رمي الجمار والهدي والحلق اوالتقصير والطواف وغيرها مما هو مفصل في الكتب الفقهية.

وسبب تسميته بحج التمتع هو ان فيه متعة والتذاذ باباحة المحظورات التي حرمت بالاحرام في المدة التي تخللت بين الاحرامين احرام العمرة واحرام الحج يعني ان المتمتع له ان يتمتع ويلتذ بما حرم عليه بسبب احرام التمتع وما حرم عليه بسبب احرام الحج.

وهذا فرض لمن يسكن خارج مكة مسافة ثمانية واربعين ميلا اي ثمانية وسبعين كيلومترا، ووجوبه ثابت بالادلة القرآنية الصريحة والسنة النبوية قال تعالى:

(فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة ايام في الحج وسبعة اذا رجعتم تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن اهله حاضري المسجد

____________

1- راجع بداية المجتهد لابن رشد القرطبي 1: 341 343، والفقه على المذاهب الاربعة لعبدالرحمن الجزيري 1: 688 696.


الصفحة 394
الحرام واتقوا اللّه واعلموا ان اللّه شديد العقاب)(1).

واما الاحاديث في ذلك فمتواترة ومتظافرة، ونذكر هنا بعضها:

الرسول يتحدى السنن الجاهلية:

كانت العمرة في اشهر الحج في الجاهلية قبل الاسلام تعتبر من اكبر الذنوب وافجرالفجور، وقد شرعهـا الرسول (ص)، وامر باتيانها في هذه الاشهر الثلاثة شوال ذي القعدة وذي الحجة وهو بتشريعه هذا الامر تحدى قريش الجاهلية في تبليغ دعوته.

ولما كان هذا الامر على خلاف سنة الجاهلية وعادتهم، فلذلك كان تشريعه (ص) له في بداية الدعوة امرا صعبا وعسيرا على بعض المسلمين ان يقبلوه ويؤمنوا به، ولذلك تعاظم عليهم وخالفوا امر رسول اللّه (ص) وتشريعه لمتعة الحج.

وفي هذا المورد اخرج البخاري ومسلم باسنادهما عن ابن عباس قال:

كانوا يرون ان العمرة في اشهر الحج من افجر الفجور في الارض، ويجعلون المحرم صفرا، ويقولون: اذا برا الدبر وعفا الاثر، وانسلخ صفر، حلت العمرة لمن اعتمر.

قدم النبي (ص) واصحابه صبيحة رابعة من ذي الحجة مهلين بالحج، فامرهم ان يجعلوها عمرة، فتعاظم ذلك عندهم فقالوا: يا رسول اللّه اي الحل؟ قال: «حل كله»(2).

واخرج ابن ماجة في سننه باسناده عن جابر بن عبداللّه قال:

اهللنا مع رسول اللّه (ص) بالحج خالصا، لا نخلطه بعمرة، فقدمنا مكة لاربع ليال خلون من ذي الحجة، فلما طفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة، امرنا رسول اللّه (ص) ان نجعلها عمرة، وان نحل الى النسا، فقلنا: ما بيننا ليس بيننا وبين عرفة الا خمس

____________

1- البقرة: 196.

2- صحيح البخاري 5: 175 كتاب الحج باب التمتع والاقران بالحج، صحيح مسلم 2: 909كتاب الحج باب «31» باب جواز العمرة في اشهر الحج ح198، سنن النسائي 5: 180كتاب الحج باب اباحة فسخ الحج بعمرة لمن لم يسق الهدي.


الصفحة 395
فنخرج اليها ومذاكيرنا تقطر منيا فقال رسول اللّه (ص): اني لابركم واصدقكم ولولا الهدي لاحللت.

فقال سراقة بن مالك: متعتنا هذه لعامنا هذا ام لابد؟

فقال (ص): «لا لابد الاباد»(1).

ورواه ايضا البخاري(2) ومسلم(3) بتفاوت يسير عما اخرجه ابن ماجة.

وروى مسلم في صحيحه باسناده عن جابر بن عبداللّه قال:

اهللنا مع رسول اللّه (ص) بالحج، فلما قدمنا مكة امرنا ان نحل، ونجعلها عمرة فكبرذلك علينا، وضاقت به صدورنا، فبلغ ذلك النبي (ص)، فما ندري اشي بلغه من السما ام شي من قبل الناس؟ فقال:

ايها الناس، احلوا فلولا الهدي الذي معي فعلت كما فعلتم.

قال: فاحللنا حتى وطئنا النسا، وفعلنا ما يفعل الحلال، حتى اذا كان يوم التروية، وجعلنا مكة بظهر، اهللنا بالحج(4).

فاما هؤلاء الذين هم حديثو عهد بالاسلام، والذين ما زالت السنن الجاهلية مترسخة في عقولهم وقلوبهـم، وكانوا يعتقدون بان الحاج اذا احرم في اشهر الحرم لايحق له ان ياتي بمحظورات الاحرام، وخاص ة اتيان النسا، الا ان يتم المناسك ويحل من احرام الحج، تراهم قد اظهروا استنكارهم لامر الرسول بان قالوا: اننطلق ومذاكيرنا تقطر منيا؟

ولما كان هذا البعض الذين كبر عليهم امر رسول اللّه (ص) وتشريع حج التمتع، وضاقت به صدورهم، فلم يسعهم قبول ذلك وظلوا مترددين حتى اغضبوا بفعلهم رسول

____________

1- سنن ابن ماجة 2: 992 كتاب المناسك باب «41» باب فسخ الحج ح2980.

2- صحيح البخاري: 2: 195 كتاب الحج باب تقضي الحائض المناسك كلها، وج3: 4 كتاب الحج باب عمرة التنعيم.

3- صحيح مسلم 2: 883 كتاب الحج باب «17» باب بيان وجوه الاحرام وانه ح141، ورواه النسائي في سننه 5: 178 وفيه زيادات وتفاوت.

4- صحيح مسلم 2: 884 كتاب الحج باب «17» باب بيان وجوه الاحرام وانه ح142.