وحسـب هذا دليلاً لمعرفـة صحة ما نقول من أنّ مـودّتها ميزان للإسـلام والإيمان.
وعليه، فالأجر على الرسالة لابدّ أن يرتبط بأصل الرسالة، ولا معنى لما يقال من إرادة التودّد العاطفي البحت لذوي القربى، بل المعنيّ به هو أنّ هذه النخبة الصالحة هي التجسيد الواقعي للدين وصمّام الأمان للرسالة، وأنّ التودّد إليهم سيعود بالنفع على الناس قبل النفع على القربى، لأنّها لا تز يد القربى مقاماً ومنزلة إذ منزلتهم محفوظة من عند الله، فهم مستودع العلم وظرف الرسالة، وهذا ما صرّح به الذكر الحكيم بقوله {إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} لا (المودة للقربى)، وفي هذا إيماء لطيف إلى أنّهم غير محتاجين إلى مودة الناس، بل إنّ مودّتهم تؤدّي بالناس إلى الخير والصلاح، لأنّ التودّد الذي تكون القربى ظرفاً له سيربطهم بالرسالة وصاحبها ارتباطاً وثيقاً ترجع خيراته إلى الناس، وهو لطف من الله للبشر، إذ جعل مودّة أهل بيتِ رسولِهِ سبباً لنجاتهم من الهلكة، وهي من قبيل جعل حب الإمام عليّ وبغضه مقياساً لمعرفة المؤمن من المنافق، وقد كان المنافقون من الصحابة يُعرَفُون ببغضهم لعليّ بن أبي طالب، فقد ثبت عن أبي سعيد الخدري قوله:
" إنّا كنّا نعرف المنافقين ـ نحن معاشَر الأنصار ـ ببغضهم عليّ بن أبي طالب "(2).
____________
1- تفسير عليّ بن إبراهيم كما في نور الثقلين 3: 131، مجمع الزوائد 9: 202، وانظر: الدّر المنثور 4: 153 والمستدرك للحاكم 3: 156، والمناقب لابن المغازلي: 357، وتاريخ الخميس 1: 277.
2- أُسد الغابة 4: 30.
وجاء عن ابن مسعود قوله: ما كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلاّ ببغضهم عليّ بن أبي طالب(2).
إذاً كان عليّ بن أبي طالب محكًّا للأنصار ولغيرهم(3)، وهذا بخلاف قوله (صلى الله عليه وآله) في الأنصار (لا يحبّهم إلاّ مؤمن ولا يبغضهم إلاّ منافق)(4).
ففي النص الأوّل كان شخص عليّ بن أبي طالب هو المعيار لمعرفـة المؤمـن مـن المنافق، بخلاف الأنصار الذين يرجع حبّهم إلى ما فعلوه من نصـرتهم لنشـر الديـن الإسـلامي والسـعي في إيواء المسـلمين وقيامهـم في مهـمات الديـن.
قال النووي في شرح مسلم (إنّ من عرف مرتبة الأنصار.... وعرف من عليّ ابن أبي طالب قربه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وحبّ النبيّ له، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه ثمّ أحب الأنصار وعليّاً لهذا، كان ذلك من دلائل صحّة إيمانه وصدقه في إسلامه، لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى
____________
1- الغريبين للهروي 1: 222 مادة " بور "، ذكر اول الحديث، تاج العروس 3: 61 مادة (بور)، وغيرهما.
2- الدر المنثور 6: 66.
3- ومن هنا أنشأت عائشة تقول في حق علي(عليه السلام):
إذا ما التِّبر حُكّ على محكٍّ | تبيّن غشّه من غير شكِّ |
وفينا التبر والذهب المصفّى | عليّ بيننا شبه المَحكِّ |
الكنز المدفون للسيوطي: 68.
4- صحيح مسلم 1: 85 ح 129 كتاب الايمان.
وكلام النووي كما تراه فيه غفلة عن الفرق الشاسع بين الأمر بحب عليّ (عليه السلام) والأمر بحب الأنصار، لأن حبّ عليّ (عليه السلام) مطلوب بذاته، بخلاف حبّ الأنصار فإنّه مطلوب لسوابقهم، ويؤكد ذلك أنّ في الأنصار منافقين ومنحرفين وأصحاب ارتباطات باليهود ـ وإن كانت غالبيّتهم من أنصار الإمام عليّ (عليه السلام) ومخالفين لقريش ـ فلا يعقل أن يكون حبّهم جميعاً لذواتهم، وإنّما كان الحب لهم كمجموعة لها مواقف محمودة.
ومثل الإمام عليّ كانت الصدّيقة فاطمة الزهراء، إذ علّق الباري عزّ وجلّ رضاه وغضبه على رضاها وغضبها ; لقوله (صلى الله عليه وآله): " إنَّ الله يغضب لغضبك ويرضى لرضاك "(2)، فصار رضى فاطمة معياراً لرضى الله، وهو دليل على نزاهتها المطلقة وعصمتها وطهارتها التامّة من كلّ ما يشين، إذ لا يعقل تعلق رضى الله برضى إنسان غير معصوم.
ولا يفوتنك ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أبي ذر الغفاري، قال: قال رسول الله: " من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع علياً فقد أطاعني، ومن عصى علياً فقد عصاني ".
وقال: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه(3).
وفي هذا الحديث دلالة على كمال الإمام عليّ وعصمته، لأنا نعلم أن رسول الله لا يداهن ولا يجامل ولا يبالغ، وبذلك يكون معنى الحديث أن إرادة الإمام
____________
1- شرح مسلم 1 ـ 2: 423 ـ424، كتاب الايمان / باب 33.
2- المعجم الكبير 1: 108 و22: 401، مجمع الزوائد 9: 203، مستدرك الحاكم 3: 154، الإصابة 8: 266.
3- المستدرك على الصحيحين 3: 121.
وهكذا الحال بالنسبة إلى الإمامين الحسن والحسين، فهما إمامان قاما أو قعدا، وسيّدا شباب أهل الجنّة، فهؤلاء هم القربى المعنيّون في آية المودّة.
وعلى هذا فالدعوة إلى المودّة في القربى ونقل فضائلهم هي مقدِّمة إلى لزوم الأخذ بنهجهم والاهتداء بهداهم ; لتعلّق أجر الرسالة بها، بل هو تعبير آخر عمّا جاء في حديث الثقلين " ما إن أخذتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً " لانّ مفهوم السنّة لغة: هو الطريق، والصراط، والجادّة، واصطلاحاً: هو اتّباع الرسول قولاً وفعلاً وتقريراً.
وقد أرشَدَنا الرسول (صلى الله عليه وآله) إلى لزوم اتّباع العترة، فيكون الابتعادُ عن هؤلاء ابتعاداً عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) والإسلام، وهو عين الضلالة والهلكة، لأنّه لا هدى إلاّ بالقرآن والنبيّ والعترة، فعلي مع القرآن، والقرآن مع عليّ " لا يفترقان حتّى يردا عليّ الحوض "(2).
ولو تأمّلت في هذه العبارة لعرفت مكانة الإمام عليّ ولرأيته في رتبة المعيّة مع القرآن، وهي نسبة تقوم بطرفين، ويستحيل أن تقوم بطرف واحد، وعندما قال
____________
1- الحق المبين: 79 للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.
2- المستدرك 3: 124 قال صحيح ولم يخرجاه، الجامع الصغير 2: 177، كنز العمال 11: 603.
حاشا أفصح مَن نطق بالضاد مِن اللغو في كلامه، وحاشا أفصح من نطق بالضاد من التكرار في كلامه، [ دون معنى متوخّى، فإنّه (صلى الله عليه وآله) ] أراد أن يُفهمنا أن مسألة معيّتهما [ هي ] معيّة من نوع خاص، ويشير إلى أبعادها العميقة، ذلك أن المعيّة بين شيئين أو أكثر، عندما تطلق، فيقال: زيد مع عمرو، فهي أعمّ من أن يكون هذا الطرف في الإضافة متقدّماً رتبة على ذاك أو متأخّراً عنه، بل تدلّ على أنهما معاً بقطع النظر عن رتبة كلّ منهما.
وربّما كان فيها إشارة إلى أنّ المَقْرون أقلّ رتبةً من المقرون به، لهذا أعاد النبيّ (صلى الله عليه وآله) صياغة هذه المعية، ليقول للمفكّرين: لا ينبغي أن تفهموا من قولي: " عليّ مع القرآن " أن عليّاً أقلّ رتبة من القرآن، بل القرآن مع عليّ أيضاً، فهما وجودان متعادلان "(1).
ويؤيّد هذا الاستنتاج ما جاء عن النبيّ: " عليّ مني وأنا من عليّ "(2)، وقوله (صلى الله عليه وآله) لعليّ: " أنت مني وأنا منك "(3).
ولو جمعنا آية المودة، مع آية التطهير، مع حديث الثقلين، وما جاء في أهل الكساء، وقوله: لا يزال الدين عزيزاً حتّى يكون منهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش(4)، وقوله: من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية(5)، وغيرها
____________
1- الحقّ المبين: 105 للمرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني.
2- سنن الترمذي 5: 300 ح 3803، مصنف بن أبي شيبة 7: 504 ح 58، سنن ابن ماجة 1: 44 ح 119.
3- صحيح البخاري 3 ـ 4: 363 ـ 364 كتاب الصلح / باب كيف يكتب هذا ما صالح فلان...
4- صحيح مسلم 6: 4 كتاب الامارة، سنن بي داود 4: 106 ح 4280.
5- وسائل الشيعة 16: 246 كتاب الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
عرفنا إذاً أنّ الخطاب في آية المودّة هو لعموم المسلمين الذين آمنوا برسالة النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله)، لا لخصوص المشركين من قر يش حسبما قاله البعض ; لكون الآية مدنية وإن كانت السورة مكية، فلا يُعقل أن يخاطب الرسول أعداءه من المشركين ويطلب منهم أجراً على رسالته.
وكذا لا يصحّ ما قاله البعض الآخر: من أنّ الآية تشير إلى معنى تودّد المسلمين في التقرّب إلى الله، ومعنى كلامهم هذا أنّ القربى استعملت بمعنى مطلق التقرّب، وهذا باطل لغو ياً حيث لم يرد هذا المعنى في المعاجم.
ويضاف إليه: كيف يمكن للرسول أن يوقف أجر رسالته على نفسها، لأنّ المسلم وباتّباعه الرسالة يحصل له القرب إلى الله، فلا معنى للتودّد والإلحاح في القرب إليه ; لأنّه توقيف الشيء على نفسه، وإن كان كذلك فلا يكون أجر الرسالة بل هو نتيجة الرسالة.
هذا، وإنّك لو طالعت التاريخ الإسلامي لعرفت أنّ مفهـوم القـربى كان في الصدر الأوّل يطلق على عليّ وفاطمة والحسـنين، ثمّ أطلقت على أبنائهم المعصومين لاحقاً.
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك عن الإمام الحسن قوله: وأنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كلّ مسلم فقال تبارك وتعالى {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} فاقتراف
وقال أبو إسحاق السبيعي: سألت عمرو بن شعيب عن قوله تبارك وتعالى {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} فقال: قربى النبيّ، رواهما ابن جرير الطبري(2).
وعن ابن عبّاس أنّه قال: لما نزلت هذه الآية {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين أمر الله بمودّتهم؟ قال: فاطمة وولدها:(3).
وثبت عن عليّ بن الحسين أنّه قال للشامي رداً على تنكيل الشامي به: أما قرأت كتاب الله عزّوجلّ؟
قال الشامي: نعم.
فقال عليّ بن الحسين: أما قرأتَ هذه الآية {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.
قال: بلى.
فقال له عليّ بن الحسين (عليه السلام): فنحن أولئك، فهل تجد لنا في سورة بني إسرائيل حقاً خاصّة دون المسلمين؟
فقال: لا.
فقال عليّ بن الحسين: أما قرات هذه الآية {وآت ذا القُربى حقَّه}؟
قال: نعم.
قال عليّ بن الحسين: فنحن أولئك الذين أمر الله عزّ وجلّ نبيه أن يؤتيهم
____________
1- المستدرك على الصحيحين 3: 173.
2- تفسير ابن كثير 4: 113 سورة الشورى.
3- تفسير ابن أبي حاكم 10 ص 3277.
فقال الشامي: إنكم لاَنتم هُم؟
فقال عليّ بن الحسين: نعم، فهل قرأت هذه الآية {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْء فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى}.
فقال الشامي: بلى.
فقال عليّ بن الحسين: فنحن ذوو القربى، فهل تجد لنا في سورة الأحزاب حقّاً خاصّة دون المسلمين؟
فقال: لا.
قال عليّ بن الحسين: أما قرأت هذه الآية {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}.
قال: فرفع الشامي يده إلى السماء ثمّ قال: اللّهمّ إنيّ أتوب إليك ـ ثلاث مرات ـ اللّهمّ إني أتوب إليك من عداوة آل محمّد، وأبرأ إليك ممن قتل أهل بيت محمّد، ولقد قرأت القرآن منذ دهر فما شعرتُ بها قبل اليوم(1).
وهذا النص يؤكّد لنا وضوح دلالة هذه الآيات المباركة، حيث إن الشيخ الشامي فهم معانيها بأدنى تأمّل، وبمجرّد إيضاح الإمام السجّاد (عليه السلام) له المراد من هذه الآيات. هذا من جهة، ومن جهة ثانية يبين هذا النص مدى التعتيم الإعلامي الأموي على أهل البيت، وتحريفات السلطة لمعاني هذه الآيات المباركة، ولذلك كأنّ الشيخ الشامي من قبل لم يشعر بها وبمعانيها. ولم يعرف المصداق الأكمل لها في زمانه.
ومثله روى حكيم بن جبير، عن حبيب بن أبي ثابت، قال: كنت أجالس
____________
1- الاحتجاج: 307، وتفسير ابن كثير 4: 122 سورة الشورى.
وجاء في الكافي في حديث طويل عن الباقر (عليه السلام) فيه قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ} يقول: أجر المودة الذي لم اسألكم غيره فهو لكم تهتدون به وتنجون به من عذاب يوم القيامة، وقال لاعداء الله، اولياء الشيطان أهل التكذيب والانكار: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} (2).
وبعد هذا فلنا أن نحتمل أنّ الله تعالى قد ألمح في قوله {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} (3)، إلى ما تُلاقيه هذه المجموعة الصالحة من قربى الرسول من أمّته بعده.
فعن خالد بن عرفطة، قال: قال رسول الله: إنكم ستُبتَلَون في أهل بيتي من بعدي(4).
وقال الإمام الباقر: بَليةُ الناس علينا عظيمة ; إن دعوناهم لم يستجيبوا لنا، وإن تركناهم لم يهتدوا بغيرنا(5).
____________
1- اُسد الغابة 5: 367.
2- الكافي 8: 379/ ح 574، البرهان 7: 79.
3- سورة الشورى الآية: 23.
4- كنز العمال 11: 124/30877.
5- الارشاد 2: 167، مناقب آل أبي طالب 4: 206، بحار الأنوار 46: 288 ح 11 عن الارشاد.
وقال الشعبي: ما ندري ما نصنع بعليّ ; إن أحببناه افتقرنا، وإن أبغضناه كفرنا(2).
واشتهر عن محمّد بن إدريس الشافعي قوله: ماذا أقول في رجل أخفت أصدقاؤه فضائله خوفاً، وأخفت أعداؤه فضائله حسداً، وشاع له من بين ذَين ما ملأ الخافقين(3).
من هذا يتبيّن لنا أنّ آية المودة هي معنىً آخر لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} (4) والأخيرة صر يحة في نزولها في حجة الوداع ويوم غدير خُمّ.
ولا يصحّ ما قالوه من أنّها نزلت في أوّل البعثة لمّا خاف رسول الله (صلى الله عليه وآله) من التبليغ، فهدّده الله وطمأنه.
أو ما قالوه من أنّها نزلت في مكّة قبل الهجرة فاستغنى بها النبيّ عن حراسة عمّه أبي طالب.
أو ما قـالـوه من نـزولهـا في المديـنة في السـنة الثانية للهـجرة بعد غـزوة
____________
1- مناقب آل أبي طالب 3: 215 باب في حساده.
2- المناقب للخوارزمي: 350 الفصل 19 وعنه في بحار الأنوار 29: 481.
3- حلية الابرار 2: 136 (للبحراني)، مشارق أنوار اليقين للبرسي: 171، وقيل هي للخليل بن أحمد اللغوي الشهير كما جاء في ملحقات السيّد المرعشي على إحقاق الحق 3: 406، 4: 2. وقد نسب العلاّمة الحلي هذه المقولة لأحد الفضلاء دون ذكر اسمه انظر: كشف اليقين: 4.
4- المائدة: 67.
لأن القول الأوّل يكذّبه كون السورة مدنية ; فلا يعقل أن يأتي خبرٌ كان في أوّل البعثة في آخر سورة من القرآن، ولو صحّ ذلك القول وما يليه وأنّ الله كان قد عصم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فما معنى صلاة الخوف وما فعله (صلى الله عليه وآله) مع الأعداء في السنوات الأخيرة من حياته الشر يفة؟
وأكثر من ذلك، هو أنّ الرسول لو كان قد حُمِيَ هذه الحماية في بدء الدعوة واسـتغنى عن حماية أبي طالب، فما معنى تلك النصوص الصـادرة عنه (صلى الله عليه وآله) إلى القـبائل والتي يطـلـب منهـم أن يحمـوه؟ بل ما معنى هجرته من مكّة إلى المـدينة المـنوّرة؟
فالآية صر يحة في نزولها في آخر حياته الشر يفة، وبعد حجة الوداع، إذ لو كانت في بدء الدعوة فلا معنى لعبارة {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إذ لم ينزل إليه إلاّ الشيء اليسير، وهذه الجملة تدلّ على الماضي الحقيقي وهو يتطابق مع نزولها في آخر حياته (صلى الله عليه وآله)، وخصوصاً حينما نرى توقّف أمر الرسالة عليه {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}!
وعليه فالآيتان ـ آية التبليغ وآية المودّة ـ دالتان على شيء واحد مرتبط بأجر الرسالة وتبليغها، وهما أمران مَولَويّان من الباري جل شانه {قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} و {وَإِن لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ}، وكلاهما يرتبط بأمر الولاية والخلافة الإلهية، لأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يخاف من رجوع أمّته القهقرى ـ وهي كائنة لا محالة ـ وذلك لاجتماع قريش على العصبية والقبلية وسعيهم لإبعاد الإمام عليّ عن الخلافـة وإمـرة المؤمنين ; لأنّـه وَتَر قر يشاً وكَسَر شـوكتها وعظمتها.
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ألاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2).
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلاَّ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا اسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (3).
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} (4).
وقوله {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمينَ} (5).
وهكذا نجد أنّ كلمات هؤلاء الأنبياء الكرام: كانت واحدة متطابقة تعبّر عن معنىً واحد محدّد معلوم، هو أنّهم لم يطلبوا من الناس أجراً على الرسالة، وإنّما أجرهم " على ربّ العالمين ".
أما الرسول المصطفى فيقول {قُل لاَأَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} (6)
____________
1- الشعراء: 109.
2- الشعراء: 127.
3- الشعراء: 145.
4- الشعراء: 164.
5- الشعراء: 180.
6- الانعام: 90.
وقال على لسان نبيّه (صلى الله عليه وآله): {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْر إِلاَّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} (2) فما يعني ذلك، وعلى أيّ شيء يدل؟
إن المقدمة السابقة قد تكون وضحت جواب هذا الأمر، خصوصاً بعدما عرفت أنّ رسالة المصطفى هي الرسالة الخاتمة، فلا يمكن إبقاء هذه الرسالة إِلاَّ بـ {ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} و {مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} وهما القرآن والعترة، وذلك لوجود نصوص كثيرة تشير إلى أنّ أهل البيت هم (الذكر) و(السبيل) إلى الله، وهو ما اصطلح عليه في كلام النبيّ (صلى الله عليه وآله) بالثقلين، فيصير معنى الآية وكلام النبيّ لزوم اتّخاذ السبيل إلى الله وهم القربى، وأنّ اتّخاذ هذا السبيل سيعود نفعه على الناس، (عليكم). أمّا أجر رسول الله فهو على الله لقوله سبحانه في سورة سبا {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْء شَهِيدٌ} (3). ومعنى الآية: أني قمت بواجبي، وأدّيت ما علَيَّ، ولا أسألكم عليه من أجر بعد المودّة إن أجري إلاّ على الله، لكن لو أردتم الانتفاع من هذه الرسالة والنجاة فاتصلوا بالسبب الممدود بين الأرض والسماء وهو القرآن والعترة.
وبهذا فلا تناف بين قوله {لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} وبين قوله {قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِنْ أَجْر فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ} (4).
إنّ هذا لَيقترب بنا من فهم المعنى العميق لـ " حيّ على خير العمل " الذي نصّ
____________
1- يوسف: 104.
2- الفرقان: 57.
3- سبأ: 47.
4- للإمام الباقر توضح بهذا الصدد انظر: روضة الكافي 8: 379.
لقد أكّد رسول الله على العترة بدءًا من {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} (1).
ومروراً بحجة الوداع التي خطب فيها رسول الله خمس مرات، وختماً بالكتاب الذي منعوه من كتابته في آخر حياته الشر يفة.
قال الحلبي في سيرته: " خطب النبيّ خمس خطب: الأولى يوم السابع من ذي الحجة بمكة، والثانية يوم عرفة، والثالثة يوم النحر، والرابعة يوم القرّ بمنى، والخامسة يوم النَّفر الأوّل بمنى "(2).
وقد روى مسلم وأحمد وغيرهما ـ خطبته (صلى الله عليه وآله) عند مرجعه من حجة الوداع إلى المدينة ـ عن زيد بن أرقم، قال: قام رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوماً خطيباً بماء يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكّر، ثمّ قال: ألا أيّها الناس، إنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أوّلهما كتاب الله منه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغّب فيه، ثمّ قال: وأهل بيتي، أذكّركم في أهل بيتي، أذكّركم في أهل بيتي، أذكّركم في أهل بيتي.
____________
1- الشعراء: 214، وانظر: في تفسيرها كتب التفاسير والتواريخ اخبار أول البعثة.
2- السيرة الحلبية 3: 333.
قال: نساؤه من أهل بيته؟! ولكنّ أهل بيته من حرم الصدقة بعده.
قال: ومن هم؟
قال: هم آل عليّ وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس.
قال: كلّ هؤلاء حرم الصدقة؟
قال: نعم(1).
وعن أبي هريرة: من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجة كتب له صيام ستين شهراً، وهو يوم غدير خُمّ لمّا أخذ النبيّ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: ألستُ وليَّ المؤمنين؟
قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: من كنتُ مولاه فعليّ مولاه.
فقال عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت مولاي ومولى كلّ مسلم! فأنزل الله عزّوجلّ {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلاَمَ دِيناً} (2).
عَود على بدء
كانت هذه مقدمة أتينا بها كي نوضّح وجه أفضلية الولاية على العبادات الأربع الأخرى، إذ الصلاة تتركها الحائض، والصوم يتركه المريض، والزكاة والحج ساقطان عن الفقير، أمّا الولاية فهي واجبة على الصحيح والمر يض والغني
____________
1- صحيح مسلم 7: 122، مسند أحمد 4: 367.
2- تاريخ دمشق 42: 233، الدر المنثور 2: 259، تاريخ بغداد 8: 290.
1 ـ التأسيس على يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
2 ـ الصيانة من الانحراف، وهو دور الأئمة المفترضي الطاعة، وهو ما كان يؤكّد عليه الرسول للأمة، يحذّرها من الابتعاد عنهم لأنّ ذلك سيؤدّي بهم إلى الضلال.
وقد كان النهج الحاكم في تعارض مع هذه الصفوة الطاهرة، فما من الصفوة إلاّ مقتول أو مسموم، وقد ثبت في علم السياسة والاجتماع أنّ جميع الثورات الفكر ية، إذا مات زعماؤها، وتولّى إدارتها غير الأكفاء انحرفت عن مسارها الذي اختطّه لها صاحبها، أمّا إذا واصل المسيرة الأكفاء الذين يختارهم صاحب الثورة والتغيير، فإنها تبقى حيّة نابضة، ولا تنحرف عن منهاجها الأصلي. هذا عن القسم الأوّل من السؤال.
أ مّا ارتباط برّ فاطمة وولدها بالأذان والصلاة ـ كما في بعض الروايات ـ(2)فهو معنى تفسيري للجملة، ومن قبيل بيان المعاني المشكلة والمتشابهة أو الخفية والمجملة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، فالإمام قد يكون أراد بتوضيحه ذلك بيان ما هو المقصود في العلم الالهي، وبيان ما حدث بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) من
____________
1- انظر: الكافي 1: 224، كمال الدين وتمام النعمة: 677، معاني الأخبار: 97.
2- كرواية معاني الاخبار: 42، وعلل الشرائع 2: 256.
ولعلّ القارئ الكريم قد وقف على جذور هذا الأصل الديني من القرآن والعترة فيما وضّحناه سابقاً في البحوث التمهيدية، من أنّ تشر يع الأذان سماويٌّ، وهو يحمل في طياته سمات معنو ية وأسراراً عالية، وأنّه بيان لأصول العقيدة وكليّات الإسلام، لأنّ الأذان ليس إعلاماً لوقت الصلاة فقط، بل إنّ آثاره تجري في عدة أمور، فهو بيان لما ابتنى عليه الدين الإسلامي من التوحيد والنبوة ـ والإمامة في نظر الإمامية ـ.
____________
1- انظر: شرح نهج البلاغة 16: 209 ـ 253 و17: 216، الاحتجاج 1: 267، الاختصاص: 183.
2- جاء في تاريخ الطبري 3: 202 بسند معتبر، قال: أتى عمر بن الخطاب منزل عليّ وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. وقد كانت فاطمة في البيت، فقالوا لعمر: إنّ في البيت فاطمة! قال: وإنْ (انظر الإمامة والسياسة 1: 12، اعلام النساء 4: 114).
3- جاء في صحيح البخاري 2: 504 كتاب الخمس باب 837 باب فرض الخمس ح 1265 بسنده عن أم المؤمنين عائشة أنّها اخبرته: أن فاطمة (عليها السلام) ابنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) سألت ابا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن يقسم لها ميراثها ما ترك رسول الله ممّا أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله قال: لا نورث ما تركنا صدقة، فغضبت فاطمة بنت رسول الله، فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتّى توفّيت، وعاشت بعد رسول الله ستة أشهر.