يوم الرحيل
دنت ساعة الرحيل، ودقت أجراس الخوف، وتسارعت نبضات القلوب، وهاجت المشاعر، فكان الذهول والوجل سمة من سمات الأحبّة، هل يبقى للعليلة النحيلة نفس بعد كلّ هذا؟! وهل سيستمر ذلك القلب الكبير في نبضات حياة الدنيا؟! وهل ستعاود اليد المرتعشة حنانها على فلذات كبدها؟! وهل ستعود في يوم ما إبتسامة البيت النبوي، وتدبّ فيه الحياة من جديد؟! وهل يمكن أن ينسى شيء من الفجائع الّتي جرت، والأهوال الّتي حدثت، والآلآم الّتي هدّت؟! هل ينسى فقد الأب النبي العظيم(صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! أم ينسى غصب الخلافة من البعل(عليه السلام)، وجرّه بحبائل سيفه حتّى كادوا يقتلونه؟! أم ينسى السقط القتيل المخضّب بالدماء المطبق تحت الثرى؟! أم ينسى فزع أفلاذ الأكباد وقد رُعّبوا بالهجوم على الدار؟!
أم دنت ساعة الرحيل؟!
تنقل لنا شاهدة عيان، عاشت الأحداث لا ببصرها فقط، بل تألّمت وحزنت وانتحبت وفاضت عيناها دموعاً منهمرة، وبقيت حزينة متألّمة مفجوعةً طيلة حياتها، ولم تكن هذه مجرّد خادمة عند الزهراء(عليها السلام)، بل كانت تلميذةً واعية، وحبيبةً غالية، والكلّ يعرفها بولائها الصادق لأهل بيت النبوة، ألا وهي ( فضّة )،
فهل أنت على استعداد، أن تعيش إحساساً مع هذه الكلمات الحزينة؟! وتتوهج شعوراً مع هذه الفجائع الجسيمة؟! فإن كنت كذلك، فهل لك صبر على المواصلة مع كلّ كلمة كلمة؟!
لقد ابتدأ الخطاب يلوح عبر الأثير، فالأنين والنحيب سبقا تلك الكلمات المثيرة، فلا يفوتنّك حرف من حروف النور، واجعل قلبك يستقبل ذلك الإرسال عبر الزمن، ومن حيث يريد أن يبدأ:
صلّى أمير المؤمنين عليه السلام صلاة الظهر، وأقبل يريد المنزل، إذ استقبلته الجواري باكيات حزينات، فقال لهنَّ: ما الخبر؟ ومالي أراكنَّ متغيّرات الوجوه والصّور؟ فقلن: يا أمير المؤمنين أدرك ابنة عمّك الزّهراء(عليها السلام) وما نظنّك تدركها.
فأقبل أمير المؤمنين(عليه السلام) مسرعاً حتّى دخل عليها، وإذا بها ملقاة على فراشها وهو من قباطيِّ مصر، وهي تقبض يميناً وتمدُّ شمالاً، فألقى الرِّداء عن عاتقه، والعمامة عن رأسه، وحلَّ أزراره، وأقبل حتّى أخذ رأسها وتركه في حجره، وناداها: يا زهراء! فلم تكلّمه، فناداها: يا بنت محمّد المصطفى! فلم تكلّمه، فناداها: يا بنت من حمل الزَّكاة في طرف ردائه وبذلها على الفقراء! فلم تكلّمه، فناداها: يا ابنة من صلّى بالملائكة في السماء مثنى مثنى! فلم تكلّمه، فناداها: يا فاطمة كلّميني فأنا ابن عمّك عليٌّ بن أبي طالب.
قال: ففتحت عينيها في وجهه، ونظرت إليه وبكت، وبكى وقال: ما الّذي تجدينه فأنا ابن عمّك عليٌّ بن أبي طالب، فقالت: يا ابن العمِّ إنّي أجد الموت
الّذي لا بدَّ منه ولا محيص عنه، وأنا أعلم أنّك بعدي لا تصبر على قلّة التزويج، فإن أنت تزوَّجت امرأة اجعل لها يوماً وليلة، واجعل لأولادي يوماً وليلة يا أبا الحسن، ولا تَصحْ في وجوههما، فيصبحان يتيمين غريبين منكسرين، فإنّهما بالأمس فقدا جدَّهما، واليوم يفقدان أُمّهما، فالويل لأمّة تقتلهما وتبغضهما.
ثمَّ أنشأت تقول:
ابكني إن بكيت يا خير هادي | واسبل الدَّمع فهو يوم الفراق |
يا قرين البتول أوصيك بالنسل | فقد أصبحا حليف اشتياق |
ابكني وابك لليتامى ولا تنـ | ـس قتيل العدى بطفِّ العراق |
يحلف اللّه فهو يوم الفراق | فارقوا فاصبحوا يتامى حيارى |
قالت: فقال لها عليٌّ(عليه السلام): من أين لك يا بنت رسول اللّه هذا الخبر،
والوحي قد انقطع عنّا؟ فقالت: يا أبا الحسن رقدت الساعة، فرأيت حبيبي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) في قصر من الدُّرِّ الأبيض، فلمّا رآني قال: هلمّي إليَّ يا بنيّة، فإنّي إليكِ مشتاق، فقلت: واللّه إنّي لأشدُّ شوقاً منك إلى لقائك، فقال: أنت اللّيلة عندي وهو الصادق لِما وعد، والموفي لما عاهد.
فإذا أنت قرأت يس، فاعلم أنّي قد قضيت نحبي، فغسّلني ولا تكشف عنِّي، فإنّي طاهرة مطهّرة، وليصلِّ عليَّ معك من أهلي الأدنى فالأدنى ومن رزق أجري، وادفنّي ليلاً في قبري، بهذا أخبرني حبيبي رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم).
فقال عليٌّ: واللّه لقد أخذت في أمرها، وغسّلتها في قميصها، ولم أكشفه عنها، فواللّه لقد كانت ميمونة طاهرة مطهّرة، ثمَّ حنّطتها من فضلة حنوط رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم)، وكفّنتها وأدرجتها في أكفانها، فلمّا هممت أن أعقد الرِّداء ناديت يا أُم كلثوم! يا زينب! يا سكينة! يافضّة! يا حسن! يا حسين! هلمّوا تزوَّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق واللّقاء في الجنّة.
فأقبل الحسن والحسين(عليهما السلام) وهما يناديان واحسرتا لا تنطفئ أبداً، من فقد جدِّنا محمد المصطفى، وأُمِّنا فاطمة الزَّهراء، يا أُمَّ الحسن، يا أُمَّ الحسين، إذا لقيت جدَّنا محمد المصطفى فاقرئيه منّا السلام، وقولي له: إنّا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدُّنيا.
فقال أمير المؤمنين عليٌّ(عليه السلام): إنّي أشهد اللّه، أنّها قد حنَّت وأنّت، ومدَّت يديها، وضمّتهما إلى صدرها مليّا، وإذا بهاتف من السّماء ينادي: يا أبا الحسن ارفعهما عنها، فلقد أبكيا واللّه ملائكة السّماوات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب، قال: فرفعتهما عن صدرها، وجعلت أعقد الرِّداء، وأنا أنشد بهذه الأبيات:
فراقك أعظم الأشياء عندي | وفقدك فاطم أدهى الثكول |
سأبكي حسرة وأنوح شجواً | على خلّ مضى أسنى سبيل |
ألا يا عين جودي واسعديني | فحزني دائم أبكي خليلي |
ثمَّ حملها على يده، وأقبل بها إلى قبر أبيها، ونادى: السلام عليك يا رسول
اللّه، السلام عليك يا حبيب اللّه، السلام عليك يا نور اللّه، السلام عليك يا صفوة اللّه، منّي السلام عليك، والتحيّة واصلة منّي إليك ولديك، ومن أبنتك النازلة عليك بفنائك، وإنَّ الوديعة قد استردَّت، والرهينة قد أخذت، فوا حزناه على الرَّسول، ثمَّ من بعده على البتول، ولقد اسودَّت عليَّ الغبراء، وبعدت عنّي الخضراء، فواحزناه، ثمَّ واأسفاه.
ثمَّ عدل بها على الرَّوضة، فصلّى عليها في أهله وأصحابه ومواليه وأحبّائه، وطائفة من المهاجرين والأنصار، فلمّا واراها وألحدها في لحدها.
أنشأ بهذه الأبيات يقول:
أرى علل الدُّنيا عليَّ كثيرة | وصاحبها حتّى الممات عليل |
لكلِّ اجتماع من خليلين فرقة | وإنَّ بقائي عندكم لقليل |
وإنَّ افتقادي فاطماً بعد أحمد | دليل على أن لا يدوم خليل(1) |
____________
1- البحار ج43 ص178 ح15 .
فقتلوا الأمّ ضرباً
هل حقّاً ماتت الأمّ المحزونة المكروبة متأثرة بضرب اللئام لها؟! أم ماتت لإسقاط جنينها؟! أم ماتت غُصّة من الذلّ الّذي أصابها من ذلك؟! أم تكالبت عليها الآلآم من كلّ ذلك، فاستلقت على فراشها وسلّمت لبارئها؟!
هل يمكن أن يحدث كلّ هذا لبنت النبي الرؤوف الرحيم(صلى اللّه عليه وآله وسلم)؟! في حين أنّه لم يمض على رحيله إلاّ أيّام قليلة!! فلم يمض من الوقت ما يجعلهم ينسونه، أو ينسون أنّ هذه ابنته!! أم تناسوا كلّ خير عميم أسداه، وكلّ كلام رحيم أبقاه، وكلّ خلق عظيم أبداه؟!.
أظنك تعلم بالإجابة على هذه التداعيات، بعد أن قرأت في فصول هذا الكتاب تلك الروايات، واستعرضت من الصفحات ما هو واضح الدلالات، وقلّبت من الورقات ما هو المليء حتّى بالإعترافات، وطللت من بين السطور على تلك الرزايا والطامّات.
ولتأكيد الأمر، وزيادته وضوحاً نورد إليك هذا القبس فنقول:
فعن سليم بن قيس الهلالي(1):
روى سليم بن قيس، عن عبد الله بن العباس، أنه حدّثه: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لعلي، بعد خطبة طويلة:
____________
1- كتاب سليم بن قيس ص21.
(( إن قريشاً ستظاهر عليكم، وتجتمع كلمتهم على ظلمك وقهرك، فإن وجدت أعواناً فجاهدهم، وإن لم تجد أعواناً فكف يدك واحقن دمك، أما إنّ الشهادة من ورائك، لعن الله قاتلك.
ثم أقبل (صلى الله عليه وآله وسلم) على ابنته (عليها السلام)، فقال: إنك أول من يلحقني من أهل بيتي، وأنت سيدة نساء أهل الجنة، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً، حتى تضربي، ويكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك…))(1).
وروى سليم بن قيس عن ابن عباس أيضاً، قال:
(( دخلت على علي (عليه السلام) بذي قار، فأخرج لي صحيفة، وقال لي:
يا ابن عباس، هذه صحيفة أملاها عليَّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وخطي بيده(2).
فقلت : يا أمير المؤمنين، اقرأها عليَّ…. إلى أن قال:
فكان مما قرأه عليَّ: كيف يصنع به، وكيف تستشهد فاطمة، وكيف يستشهد الحسن…إلخ ))(3).
____________
1- كتاب سليم بن قيس:ج2 ص907. 2- الظاهر أن الصواب: بيدي. 3- كتاب سليم بن قيس: ج2 ص915، والبحار: ج28 ص73، والفضائل لابن شاذان: ص141.
وفي كنز الفوائد:
عن أبي الحسن بن شاذان، عن أبيه، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن الحسين بن الصفار، عن محمد بن زياد، عن مفضل بن عمر، عن يونس بن يعقوب، عن الصادق (عليه السلام)، أنه قال في حديث طويل: (( يا يونس، قال جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ملعون من يظلم بعدي فاطمة ابنتي، ويغصبها حقها ويقتلها ))(1).
وفي كتاب الإختصاص:
روى الشيخ المفيد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أبيه، والعباس بن معروف، عن عبد الله بن المغيرة، قال: حدثني عبد الله بن عبد الرحمن الأصم، عن عبد الله بن بكر الأرجاني قال:
صحبت أبا عبد الله (عليه السلام) في طريق مكة من المدينة… ثم ذكر حديثاً طويلاً عن الإمام (عليه السلام) جاء فيه:
((.. قاتل أمير المؤمنين (عليه السلام)، وقاتل فاطمة (عليها السلام)، وقاتل المحسن، وقاتل الحسن والحسين…إلخ ))(2).
____________
1- كنز الفوائد: ج1 ص149 و150، وروضات الجنات: ج6 ص182. 2- الإختصاص: ص343 و344، والبحار: ج25 ص373، وكامل الزيارات: ص 326 و327.
وفي دلائل الإمامة:
عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال في حديث:
(( وحملت بالحسن، فلما رزقته حملت بعد أربعين يوماً بالحسين ثم رزقت زينب، وأم كلثوم، وحملت بمحسن، فلما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وجرى ما جرى في يوم دخول القوم عليها دارها، وأخرج ابن عمها أمير المؤمنين، وما لحقها من الرجل، أسقطت به ولداً تماماً. وكان ذلك أصل مرضها ووفاتها صلوات الله عليها ))(1).
قال الفاضل الخواجوئي المازندراني:
((.. ورد في طريقنا: أنها (عليها السلام) كانت معصومة صديقة شهيدة رضية…))(2).
وذكر الشيخ المفيد في كتاب المزار زيارة لفاطمة (عليها السلام) تقول:
(( السلام عليك يا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، السلام على ابنتك الصديقة الطاهرة، السلام عليك يا فاطمة بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، يا سيدة نساء العالمين، أيتها البتول الشهيدة الطاهرة…))(3).
____________
1- دلائل الإمامة: ص26 و27، والعوالم: ج11 ص504. 2- الرسائل الإعتقادية: ص301. 3- كتاب المزار للشيخ المفيد: ص156، والمقنعة للشيخ المفيد أيضاً: ص459. والبلد الأمين: ص198و278، والبحار: ج97 ص197و198.
وقال الشيخ الطوسي (قدس سره) بعد نقله الزيارة المروية: (( يا ممتحنة امتحنك الله…)):
(( هذه الرواية وجدتها مروية لفاطمة (عليها السلام)، وأما ما وجت أصحابنا يذكرونه من القول عند زيارتها (عليها السلام)، فهو أن تقف على أحد الموضعين اللذين ذكرناهما، وتقول:
(( السلام عليك يا بنت رسول الله… السلام عليك أيتها الصديقة الشهيدة…))(1).
وفي البحار نص آخر وهو:
(( اللهم صلّ على السيدة المفقودة، والكريمة المحمودة، والشهيدة
العالية ))(2).
وذكر الكفعمي في مصباحه:
((.. إن سبب وفاتها (عليها السلام) هو أنها ضربت وأسقطت ))(3).
____________
1- تهذيب الأحكام للطوسي: ج6 ص10، وجامع أحاديث الشيعة: ج12 ص264. وروضة المتقين: ج5 ص345، وملاذ الأخيار: ج9 ص25، والوافي: ج14 ص370 وص371. 2- بحار الأنوار: ج99 ص220. 3- مصباح الكفعمي: ص522.
وقال المجلسي الثاني:
((.. وفي رواية أخرى: ضربها عمر بالسوط، فماتت حين ماتت وإن في عضدها مثل الدملج من ضربته… إلى أن قال: لم تدعهم يذهبوا بعلي (عليه السلام) حتى عصروها وراء الباب، فألقت ما في بطنها مَنْ سمَّاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ((محسناً)) حتى ماتت (عليها السلام) مما أصابها ))(1).
وقال أيضاً في تعليقه على الخبر الصحيح المروي عن أبي الحسن (عليه السلام): أن فاطمة (عليها السلام) صديقة شهيدة، ما لفظه:
(( ثم إن هذا الخبر يدل على أن فاطمة صلوات الله عليها كانت شهيدة، وهو من المتواترات.
وكان سبب ذلك: أنهم لما غصبوا الخلافة، وبايعهم أكثر الناس بعثوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ليحضر للبيعة، فأبى. فبعث عمر بنار ليحرق على أهل البيت بيتهم. وأرادوا الدخول عليه قهراً، فمنعتهم فاطمة عند الباب، فضرب قنفذ غلام عمر الباب على بطن فاطمة، فكسر جنبها، وأسقط لذلك جنيناُ كان سماه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محسناً. فمرضت لذلك، وتوفيت صلوات الله عليها في ذلك المرض…إلخ ))(2).
وذكر صاحب كتاب ألقاب الرسول وعترته:
____________
1- جلاء العيون: ج1 ص193 و194. 2- مرآة العقول: ج5 ص318.
(( أن من ألقاب فاطمة (عليها السلام) الشهيدة ))(1).
وقال الحسيني في كتاب التتمة في تواريخ الأئمة:
((.. فجمع عمر بن الخطاب جماعة وأتى بهم إلى منزل علي (عليه السلام)، فوجدوا الباب مغلقاً، فلم يجبهم أحد، فاستدعى عمر بحطب وقال:
والله لئن لم تفتحوا لنحرقنّه بالنار. فلما سمعت فاطمة (عليها السلام) ذلك خرجت وفتحت الباب، فدفعه عمر فاختفت هي من وراء الباب، فعصرها بالباب فكان ذلك سبب إسقاطها، ونقل أنه سبب موتها ))(2).
وقال أيضاً:
(( سبب وفاتها هي من الضرب الذي أصابها، وأسقطت بعده الجنين ))(3).
وفي كتاب مؤتمر علماء بغداد:
((.. فاطمة بيت النبوة. فاطمة قتلت بسبب عمر بن الخطاب…إلخ ))(4).
وقال الكفعمي: (( إن سبب موتها (عليها السلام): أنها ضربت وأسقطت ))(5).
فألقوا في عنقه حبلاً، وحالت بينهم وبينه فاطمة(عليها السّلام) عند باب البيت،
____________
1- كتاب ألقاب الرسول وعترته: ص39. 2- التتمة في تواريخ الأمة: ص35. 3- نفس المصدر: ص28. 4- مؤتمر علماء بغداد: ص137. 5- المصباح: ص522.
فضربها قنفذ الملعون بالسوط، فماتت حين ماتت وإن في عضدها كمثل الدملج من ضربته لعنه اللّه(1)...
وأيضاً سليم بن قيس في كتابه(2):
وقد كان قنفذ لعنه اللّه ضرب فاطمة(عليها السلام) بالسوط، حين حالت بينه وبين زوجها، وأرسل إليه عمر: إن حالت بينك وبينه فاطمة فأضربها، فألجأها قنفذ إلى عضادة بيتها ودفعها، فكسر ضلعها من جنبها، فألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتّى ماتت صلّى اللّه عليها من ذلك شهيدة(3).
وكذلك عن سليم بن قيس الهلالي(4):
فقال العباس لعليّ (صلوات اللّه عليه): ما ترى عمر منعه من أن يغرم قنفذاً كما أغرم جميع عماله؟ فنظر عليّ(عليه السلام) إلى من حوله، ثم اغرورقت عيناه، ثم قال: شكر له ضربة ضربها فاطمة بالسوط.
فماتت وفي عضدها أثر كأنه الدملج(5).
عن أمالي الصدوق(6):
____________
1- البحار ج28 ص270 و ج43 ص198 . 2- كتاب سليم بن قيس ص40 . 3- البحار ج28 ص270 و ج43 ص198 . 4- كتاب سليم بن قيس الهلالي ص67. 5- ماذا تقضون ص765 . 6- أمالي الشيخ الصدوق ص99. وفرائد السمطين ج2 ص35. وإثبات الهداة ج1 ص280 و281. وإرشاد القلوب 295. وبحار الأنوار ج28 ص37/39 و ج43 172 و173. والعوالم ج11 ص321 و392، وفي هامشه عن غاية المرام ص48، وعن المحتضر ص109، وجلاء العيون للمجلسي ج1 ص186/188، وبشارة المصطفى ص197/200، والفضائل لابن شاذان ص8/11.
عن الدقاق، عن الأسدي، عن النخعي، عن النوفلي، عن ابن البطائني، عن أبيه، عن ابن جبير، عن ابن عباس في خبر طويل قال(صلى اللّه عليه وآله وسلم) فيه: كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها، وأسقطت جنينها، وهي تنادي: يامحمّداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث ...
إلى أن يقول:
فيلحقها اللّه(عزّ وجلّ) بي، فتكون أوَّل من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليَّ محزونة، مكروبة، مغمومة، مغصوبة، مقتولة، فأقول عند ذلك: اللّهمَّ العن من ظلمها، وعاقب من غصبها،وذلّل من أذلّها، وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين(1).
وذكر ابن طاووس في كتابه الإقبال(2):
____________
1- البحار ج43 ص173 ب7 ح13 ، ونقلها الجويني في فرائد السمطين ج2 ص36 . 2- الإقبال لابن طاووس ص625.
في زيارة الصدّيقة الزهراء(عليها السّلام) المرويّة عن أهل بيت العصمة(عليهم السلام):
اللّهمّ صلّ على محمّد وأهل بيته، وصلّ على البتول الطاهرة، الصدّيقة المعصومة، التقيّة النقيّة، الرّضيّة المرضيّة، الزكيّة الرشيدة، المظلومة المقهورة، المغصوبة حقّها، الممنوعة إرثها، المكسورة ضلعها، المظلوم بعلها، المقتول ولدها، فاطمة بنت رسولك، وبضعة لحمه، وصميم قلبه، وفلذة كبده، ...(1).
روى ابن قولويه في كامل الزيارات(2):
بإسناده إلى حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: لمّا أسري بالنبي(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... إلى أن قال: وأمّا ابنتك فتظلم وتحرم، ويؤخذ حقها غصباً الذي تجعله لها، وتضرب وهي حامل، ويدخل على حريمها ومنزلها بغير إذن، ثم يمسّها هوان وذل ثمّ لا تجد مانعاً، وتطرح ما في بطنها من الضرب، وتموت من ذلك الضرب(3).
____________
1- ونقل هذه الزيارة في البحار ج100 في كتاب المزار ص199 ح20 ، ومفاتيح الجنان ص318. 2- كامل الزيارات البن قولويه ص332. والبحار ج28 ص62 ـ 64، وراجع: ج53 ص23. وعوالم العلوم ج11 ص398. وجلاء العيون للمجلسي ج1 ص184 ـ 186. 3- البحار ج28 ص61-62 ح24 .
وروى ابن قولويه أيضاً في كامل الزيارات(1):
في حديث عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: وقاتل أمير المؤمنين وقاتل فاطمة ومحسن وقاتل الحسن والحسين(عليهم السلام)(2).
وروى الشيخ المفيد في الإختصاص(3):
أبو محمد، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: لمّا قبض رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) ... في حديث طويل... إلى أن يقول: فرفسها برجله، وكانت حاملة بابن اسمه المحسن، فأسقطت المحسن من بطنها، ثمَّ لطمها، فكأنّي أنظر إلى قرط في أذنها حين نقفت(4) ثمَّ أخذ الكتاب فخرقه، فمضت ومكثت خمسة وسبعين يوماً مريضة ممّا ضربها عمر، ثمَّ قبضت ... إلى آخر الخبر.
وذكر العلامة الشيخ محمد تقي المجلسي(رحمه الله):
وهو والد الشيخ محمد باقر صاحب البحار، قال في شرحه(5) لكتاب (من لا يحضره الفقيه): وشهادتها (صلوات اللّه عليها) كانت من ضربة عمر الباب على بطنها، عندما أرادوا أمير المؤمنين لبيعة أبي بكر ... وضرب قنفذ غلام عمر السوط عليها بإذنه.
____________
1- كامل الزيارات لابن قولويه ص326-329 . 2- البحار ج25 ص373 . 3- الإختصاص للشيخ المفيد ص183. والبحار ج29 ص192. ووفاة الصديقة الزهراء للمقرم ص78. 4- [نقفت] على بناء المجهول أي كسر من لطم عمر. 5- روضة المتقين ج5 ص342 .
والحكاية مشهورة عند العامة والخاصة، وسقط بالضرب غلام كان اسمه محسن(1).
وقال العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي(رحمه الله):
في كتاب مرآة العقول(2)، الذي شرح فيه أخبار أصول الكافي والروضة، قال عند رواية أنها(عليها السلام) صدّيقة شهيدة : إنه من المتواترات.
وكان سبب ذلك أنهم لمّا غصبوا الخلافة، وبايعهم أكثر الناس، بعثوا إلى أمير المؤمنين(عليه السلام) ليحضر البيعة، فأبى.
فبعث عمر بنارٍ ليحرق على أهل البيت بيتهم، وأرادوا الدخول عليه قهراً، فمنعتهم فاطمة عند الباب، فضرب قنفذ ـ غلام عمر ـ الباب على بطن فاطمة(عليها السلام) فكسر جنبها، وأسقطت لذلك جنيناً كان سمّاه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) محسناً، فمرضت لذلك، وتوفيت صلوات اللّه عليها من ذلك المرض(3).
وروى الطبري في دلائل الإمامة(4):
____________
1- شرح الخطبة ص283 . 2- مرآة العقول ج5 ص318 . 3- شرح الخطبة ص283 . 4- دلائل الإمامة ص45 ، وقد صححنا هذه الرواية في أواخر الكتاب فانتظر.
عن محمد بن هارون بن موسى التلعكبري، عن أبيه، عن محمد بن همام، عن أحمد البرقيِّ، عن احمد بن محمد بن عيسى، عن عبد الرَّحمن بن أبي نجران، عن ابن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه(عليه السلام) قال: قبضت فاطمة(عليها السّلام) في جمادى الآخرة يوم الثّلاثاء لثلاث خلون منه، سنة إحدى عشر من الهجرة.
وكان سبب وفاتها أنَّ قنفذاً مولى عمر لكزها بنعل السيف بأمره، فأسقطت محسنّاً، ومرضت من ذلك مرضاً شديداً، ولم تدع أحداً ممّن آذاها يدخل عليها.
وكان الرَّجلان من أصحاب النبيِّ(صلى اللّه عليه وآله وسلم) سألا أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه أن يشفع لهما إليها، فسألها أمير المؤمنين(عليه السلام)، فلمّا دخلا عليها قالا لها: كيف أنت يا بنت رسول اللّه؟ قالت: بخير بحمد اللّه، ثمَّ قالت لهما: ما سمعتما النبي يقول: فاطمة بضعة منّي، فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى اللّه؟ قالا: بلى، قالت: فواللّه لقد آذيتماني، قال: فخرجا من عندها (عليها السلام) وهي ساخطة عليهما.
قال محمد بن همام: وروي أنّها قبضت لعشر بقين من جمادى الآخرة، وقد كمل عمرها يوم قبضت ثمانية عشر سنة وخمساً وثمانين يوماً بعد وفاة أبيها، فغسّلها أمير المؤمنين(عليه السلام)، ولم يحضرها غيره والحسن والحسين وزينب وأُمُّ كلثوم وفضّة جاريتها وأسماء بنت عميس.
وأخرجها إلى البقيع في اللّيل، ومعه الحسن والحسين وصلّى عليها، ولم يعلم بها، ولا حضر وفاتها، ولا صلّى عليها أحد من سائر النّاس غيرهم، ودفنها بالرَّوضة، وعمي موضع قبرها.
وأصبح البقيع ليلة دفنت وفيه أربعون قبراً جدداً، وإنَّ المسلمين لمّا علموا وفاتها جاؤوا إلى البقيع، فوجدوا فيه أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور، فضجَّ الناس، ولام بعضهم بعضاً وقالوا: لم يخلف نبيّكم فيكم إلاّ بنتاً واحدة، تموت وتدفن ولم تحضروا وفاتها والصّلاة عليها، ولا تعرفوا قبرها.
ثمَّ قال ولاة الأمر منهم: هاتم من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور، حتّى نجدها فنصلّي عليها، ونزور قبرها.
فبلغ ذلك أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، فخرج مغضباً قد احمرَّت عيناه، ودرَّت أوداجه، وعليه قباه الأصفر الّذي كان يلبسه في كلِّ كريهة، وهو متوكّأٌ على سيفه ذي الفقار، حتّى ورد البقيع، فسار إلى النّاس النذير، وقالوا: هذا عليُّ بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم باللّه لئن حوِّل من هذه القبور حجر ليضعنَّ السّيف على غابر الآخر.
فتلقّاه عمر ومن معه من أصحابه وقال له: مالك يا أبا الحسن، واللّه لننبشنَّ قبرها ولنصلّينَّ عليها.
فضرب عليٌّ(عليه السلام) بيده إلى جوامع ثوبه فهزَّه، ثمَّ ضرب به الأرض، وقال له: يا ابن السّوداء، أمّا حقّي فقد تركته مخافة أن يرتدّ الناس عن دينهم، وأمّا قبر فاطمة فوالّذي نفس عليّ بيده، لئن رمت وأصحابك شيئاً من ذلك لأسقينَّ الأرض من دمائكم، فان شئت فأعرض يا عمر.
فتلقّاه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن بحقِّ رسول اللّه، وبحقِّ من فوق العرش إلاّ خلّيت عنه، فإنّا غير فاعلين شيئاً تكرهه.
قال: فخلّى عنه وتفرَّق النّاس، ولم يعودوا إلى ذلك(1).
____________
1- البحار ج43 ص170 ح11 .
وعلت الصيحة
فـي يـوم الـقـيـامـة
قامت القيامة الصغرى في دولة النبي محمّد وآله(صلى اللّه عليه وآله وسلم) وخرج الناس من الأجداث، في يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى اللّه بقلب سليم، ترى النّاس سكارى وما هم بسكارى، قد انخلعت القلوب من مقرّها لهول الموقف متعلّقةً بكلّ بصيص أو واهمة أمل تعطيها الأمن من غضب الجبّار.
الأبصار شاخصة قد أذهلها عظيم العظمة، حيارى لا تعلم ما يفعل بها أتؤخذ على هون تزفّ إلى الجنّة حيث القصور والحور أم إلى النّار حيث الويل والثبور والحرور، إن كان الموت رحمة فاليوم مع عذاب اللّه أو نعيمه لا موت أبداً.
خلق كثير يموج موجان البحر، النّظر إليه لوحده رعب قاتل، أمر لا يمكن لمنطيق أن يصفه، ولا لمتبحر أن يدركه، ترامت الأطراف فلا عين تبصرها ولا عقل يحويها ولا قلب يحتمل.
في ذلك الموقف الرّهيب، وعلى تلك الحال والانتظار قاتل، تبزغ شمس الحسين(عليه السلام) مخضّباً بدمه هو وجميع من قتل معه، فإذا رآه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكى وبكى أهل السماوات والأرض لبكائه.
وهنا تصرخ فاطمة(عليها السلام) فتزلزل الأرض ومن عليها، إلى أن يأتي الجنين الحبيب تحمله جدّتاه خديجة بنت خويلد وفاطمة بنت أسد وهنّ صارخات أمّا أمّه سيّدة النساء وهي سيّدة المحشر آنذاك فتتلو بعض آيات اللّه (سبحانه و تعالى) :
نعم... هكذا حدّثنا المفضل عن مولانا الإمام الصادق (صلوات اللّه وسلامه عليه) فقال:
يقوم الحسين(عليه السلام) مخضّباً بدمه هو وجميع من قتل معه، فإذا رآه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) بكى، وبكى أهل السماوات والأرض لبكائه، وتصرخ فاطمة(عليها السّلام) فتزلزل الأرض ومن عليها، ويقف أمير المؤمنين والحسن(عليهما السلام) عن يمينه، وفاطمة عن شماله.
ويقبل الحسين(عليه السلام) فيضمّه رسول اللّه(صلى اللّه عليه وآله وسلم) إلى صدره، ويقول: يا حسين! فديتك، قرَّت عيناك وعيناي فيك، وعن يمين الحسين حمزة أسد اللّه في أرضه، وعن شماله جعفر بن أبي طالب الطيّار، ويأتي محسن تحمله خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت أسد أُمُّ أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهنَّ صارخات، وأُمّه فاطمة تقول:) هذا يومكم الّذي كنتم توعدون(1)( اليوم ) تجد كلّ نفس ما عملت من خيرٍ محضراً وما عملت من سوءٍ تودّ لو أنّ بينها وبينه أمداً بعيداً(2)(.
قال: فبكى الصادق(عليه السلام) حتى اخضلّت لحيته بالدُّموع، ثمَّ قال: لا قرَّت عين لا تبكي عند هذا الذكر، قال: وبكى المفضّل بكاء طويلاً، ثمَّ قال: يا مولاي ما في الدموع يا مولاي؟ فقال: ما لا يحصى إذا كان من مُحِقٍّ.
ثمَّ قال المفضّل: يا مولاي ما تقول في قوله تعالى ) وإذا الموؤدة سئلت بأيّ
____________
1- سورة الأنبياء 21\103 . 2- سورة آل عمران 3\30 .
ذنب قتلت(1)( قال: يا مفضّل والموؤدة واللّه محسن(2).
هذا ... وما عن المنادي الّذي ينادي من بطنان العرش؟ ومِن مَن؟ إنّه من قبل ربّ العزّة والأفق الأعلى. هل حقّاً كل هذا يحدث!؟ نعم ... فاستمع معي جاعلاً مشاهد القيامة نصب عينيك بكلّ ما تملك من أحاسيس ومشاعر وخشية من اللّه (سبحانه و تعالى) .
روى القمي في تفسيره(3):
بإسناده عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)، من حديث طويل، قال فيه: ثمّ ينادي منادٍ من بطنان العرش، من قبل ربّ العزّة، والأفق الأعلى: نعم الأب أبوك يا محمد وهو إبراهيم، ونعم الأخ أخوك وهو علي بن أبي طالب، ونعم السبطان سبطاك وهما الحسن والحسين، ونعم الجنين جنينك وهو محسن، ونعم الأئمة
____________
1- سورة التكوير 81\8 . 2- البحار ج53 ص23 . والعوالم ج11 ص441 ـ 443. والهداية الكبرى للخصيبي ص392 و407 و417، وعن حلية الأبرار ج2ص652. وراجع فاطمة بهجة المصطفى ج2 ص532، عن نوائب الدهور للسيد الميرجهاني ص192. 3- تفسير القمي ص 116 في سورة آل عمران الآية 185. والبحار ج12 ص6 و7. ونور الثقلين ج1 ص348. والبرهان في تفسير القرآن ج1 ص328 و329.
الراشدون ذرّيتك(1).
بعد هذا نريد أن نعرف كيف سيتمّ حكم اللّه العدل؟ ومتى؟ أعجباً أن تبدأ الحكومة لجنين؟
نعم إنّه جنين محمّد وعلي وفاطمة (صلوات اللّه وسلامه عليهم أجمعين) ، الّذي أُفجعوا به وتبعهم في تلك الرزية والمصيبة شيعتهم حزناً وتألّماً وبكاءً، وإذا لم يقدِّم اللّه (سبحانه و تعالى) الحكم لحبيبه وأعزّ خلقه فلمن يا ترى يكون التقديم؟!
لا أطيل عليك فالوقت قد حان، ونبرات النبي العظيم قد ظهر فوح عبيرها، فلنستمع إليه جميعاً وهو يقول(2):
وأوّل من يحكم فيه محسن بن عليّ(عليه السلام) في قاتله، ثم في قنفذ، فيؤتيان هو وصاحبه فيضربان بسياط من نـار، لو وقع سوط منها على البحار لغلت من مشرقها إلى مغـربها، ولـو وضعـت على جِبال الـدنيا لـذابت حتى تصير رماداً(3).
وتمّت مشاهد القيامة، وكأنّي بالجنين يرفرف في جنان الخلد، بين جدّه وأبيه وأُمّه وإخوته وجميع الأنبياء والمرسلين، بل يشرف بنوره البهي مشرقاً بنور جدّه
____________
1- البحار ج23 ص130 ح 63 و ج7 ص328 ح3 . 2- رواه ابن قولويه في كامل الزيارات ص332. 3- البحار ج28 ص64 ح24.
على مساكن المؤمنين الّذين ناصروه ولو بدمعة، وواسوه ولو بحسرة، أمّا الّذين أنّو الأنين، وتقطعت قلوبهم ألماً وهم يدافعون عنه، فإنّ لهم منه الأمر العظيم.
المحسن (عليه السلام)
فـي شعــر أحـبّتــه
الشعر كلامات إحساس، ونبضات شعور مرهف، وإنّ بعض الشعر له أثره البالغ في نشر الفكر الصادق، وكم من أبيات من الشعر كان لها الأثر الأكبر من كثير النثر، فنجد النفوس غالباً ما تتفاعل مع الشعر أكثر من غيره.
فإذا ذاب الشعر في الولاء والمحبّة لأهل البيت(عليهم السلام) ، وتوهج بنيران الشوق إلى محمّد وآله(عليهم السلام)، فلا شكّ أنّه يحمل عذوبةً خاصّة من ناحية، ويفيض دمع العاشقين من ناحية أخرى، فيحرّك في نفوسهم ما لا يحرّكه النثر من الكلام.
فللشعر أثره البارز في تجلّي الولاء والمحبّة لأهل بيت العصمة والطهارة(عليهم السلام)، ولذا برز دور الشعر في إحياء أمر أهل البيت(عليهم السلام)، وبيان فضلهم ومآثرهم، وأيضاً مسرّاتهم وأحزانهم في مواليدهم ووفاياتهم، فأثرى ذلك الشعر الشعورَ الشيعي الملتهب ولاءً لأهل بيت النبوة(صلوات الله وسلامه عليهم).
ورحم الله الشيخ الأميني(1)، الذي عرض هذا المعنى بأسلوبه الرائع، فتعال معي نستمع إليه وهو يتحدّث عن شيء من شعر الولاء الطاهر الصادق، فيقول:
____________
1- الغدير ج2 ص2 .
(( أنت تجد تأثير الشعر الرائق في نفسيّتك فوق أي دعاية وتبليغ، فأيّ أحد يتلو ميميّة الفرزدق فلا يكاد أن يطير شوقاً إلى الممدوح وحبّاً له؟ أو ينشد هاشميات الكميت فلا يمتلئ حجاجاً للحق؟ أو يترنّم بعَينيّة الحميري فلا يعلم أنّ الحقّ يدور على الممدوح بها؟ أو تلقى عليه تائيّة دعبل فلا يستاء لاضطهاد أهل الحق؟ أو تصكّ سمعه ميميّة الأمير أبي فراس فلا تقف شعرات جلدته؟ ثمّ لا يجد كلّ عضو منه يخاطب القوم بقوله:
يا باعة الخمر كُفّوا عن مفاخركم | لِعصبةٍ بيعهم يوم الحياج دمُ |
وكم وكم لهذه من أشباه ونظائر في شعراء أكابر الشيعة )).
فحثّ أهل البيت(عليهم السلام) على الشعر، وشجّعوا الشعراء، ما دام هذا يخدم الحق ويظهره، ويهدم الباطل ويدحره، فكان بعض ما قالوا في ذلك:
من قال فينا بيتَ شِعر بنى الله له بيتاً في الجنّة.
ما قال فينا قائل بيتَ شِعر حتّى يؤيّد بروح القدس.
وعلّموا أولادكم بشعر العبدي.
وغير ذلك
بل قالوا الشعر واستشهدوا به سوى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لظرف خاصّ به يتعلّق بالقرآن الكريم، وهذه الناحية لا تنطبق عليهم كما يعرف ذلك من سيرتهم، حتّى جمع ديوان من شعر أمير المؤمنين(عليه السلام).
والّذي يهمّنا في هذا الكتاب، هو أننا نورد بعض الشعر الّذي يتعلّق بموضوعنا، ونهدف إلى أنّ الشاعر في مثل هذه القضايا التاريخيّة يُعدّ راوياً وناقلاً
للحدث التاريخي بمعناه أو باللفظ القريب من روايته.
ولتأكيد الأمر رجعنا إلى الغدير(1) لِنرتوي منه مرّةً أخرى، فألفيناه قائلاً:
(( إنّ كُلاً من أولئك الشعراء الفطاحل (وأكثرهم من العلماء) معدودٌ من رواة هذا الحديث، فإنّ نظمهم إيّاه في شعرهم القصصي ليس من الصّور الخياليّة الفارغة، كما هو المطَّرد في كثير من المعاني الشعريّة، ولَدى سوادٍ عظيم من الشعراء، ألم ترهم في كلّ وادٍ يهيمون؟ لكن هؤلاء نظموا قصَّةً لها خارج، وأفرغوا ما فيها من كلِم منثورة أو معانٍ مقصودة، من غير أيّ تدخّل للخيال فيه، فجاء قولهم كأحد الأحاديث المأثورة، فتكون تلكم القوافي المنضَّده في عقودها الذهبية من جملة المؤكّدات لتواتر الحديث )).
وبعد ... لقد حان الوقت بأن نورد لك بعض الشعر فيما يتعلّق بموضوعنا وليس على نحو الحصر والتتبّع، وإنّما لأجل التمثيل والتأكيد لما قلناه فنقول:
قصيدة(2) السيد الحميري:
توفي ببغداد سنة173 وقيل:179 وقيل:178 وهو من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، ويكفيه فخراً ثناء وترحم الإمام عليه.
____________
1- الغدير ج2 ص1 . 2- أعيان الشيعة ج3 ص425، وترجمته في ص405.
إن جبريل أتى ليلاً إلى | طاهر من بعد ما كان هجع |
بحنوط طيب من جَنَّة | في صرار حل منه فسطع |
فدعا أحمد من كان به | واثقاً عند معضات الجزع |
أوثق الناس معا في نفسه | عند مكروه إذا الخطب وقع |
قسم الصرة أثلاثاً فلم | يأل عن تسوية القسم الشرع |
قال جزء لي وجزء لابنتي | ولك الثالث فاقبضها جمع |
فإذا مت فحنطني بها | ثم حنطها بهذا لا تدع |
إنها أسرع أهلي ميتة | ولحاقاً بي فلا تكثر جزع |
فمضى واتبعته والها | بعد غيظ جرعته ووجع(1) |
وقال:
وفاطم قد أوصت بأن لا يصليا | عليها وأن لا يدنوا من رجا القبر |
____________
1- روي البيتان الأخيران في مناقب ابن شهرآشوب ج3 ص362 هكذا:
إنها أسـرع أهـل بيـته ولحافاً بي فلا تفشي الجـزع فمـضى واتبعته والهـا بعد غيض جرعتـه ووجـع
والغيض هو السقط الذي لم يتم خلقه راجع القاموس المحيط باب غاض ج2 ص499.
علياً ومقداداً وأن يخرجوا بها | رويداً بليل في سكون وفي ستر(1) |
وقال أيضاً:
ضربت واهتضمت من حقها | وأذيقت بعده طعم السلع |
قطع الله يدي ضاربها | ويد الراضي بذاك المتبع |
لا عفى الله له ولا | كفَّ عنه هول يوم المطلع(2) |
أبو محمد عبد الله بن عمار البرقي(3):
قتل سنة 245 هـ حيث وشي به إلى المتوكل العباسي وقرأت له قصيدته النونية الشهيرة في أهل البيت (عليهم السلام)، والتي يقول فيها:
فهو الذي امتحن الله القلوب به | عمَّا يجمْجمْن من كفر وإيمان |
وهو الذي قد قضى الله العلي له | أن لا يكون له في فضله ثاني |
____________
1- أعيان الشيعة ج3 ص 422. 2- السراط المستقيم ج3 ص 13. 3- ترجمته في أدب الطف ج3 ص283.
فقال:
وكللا النار من بيت ومن حطب | والمضرمان لمن فيه يسبان |
وليس في البيت إلا كل طاهرة | من النساء وصديق وسبطان |
فلم أقل غدرا بل قلت قد كفرا | والكفر أيسر من تحريق ولدان |
وكل ما كان من جور ومن فتن | ففي رقابهما في النار طوقان(1) |
وقال أيضاً:
فلم يوار رسول الله في جدثٍ | حتّى تعصب فرعون لهامان |
واستخرجا فدكاً منها وقد علما | بأنها حقها حقاً بتبيان(2) |
القاضي أبو حنيفة نعمان بن محمد التميمي:
توفي سنة 363 هـ. اعتنق المذهب الحق بعد أن كان مالكياً، وله أرجوزة بلغت ألفين وثلاثمائة وخمسة وسبعين بيتاً، ومنها(3):
____________
1- السراط المستقيم ج3 ص13. 2- نفس المصدر. 3- الأرجوزة المختارة للقاضي النعمان بتحقيق وتعليق إسماعيل قربان حسين بونا والا معهد الدراسات الإسلامية جامعة مجيل ـ مونتريال كندا 1970 الطبعة الأولى.
حتى أتوا باب البتول فاطمه | وهي لهم قالية مصارمه |
فوقفت عن دونه تعذلهم | فكسر الباب لهم أولهم |
فاقتحموا حجابها فعولت | فضربوها بينهم فأسقطت |
فسمع القول بذاك فابتدر | إليهم الزبير قالوا فعثر |
فبدر السيف إليهم فكسر | وأطبقوا على الزبير فأسر |
فخرج الوصي في باقيهم | إذ لم يروا دفاعهم ينجيهم |
فاكتنفوهم ومضوا في ضيق | حتى أتوا بهم إلى عتيق |
أكرم بآسادٍ وليث غاب | سارت بهم نوابح الكلاب |
إلى ابن أوس بل إلى خنزير | أعزز عليّ ذاك من مسير |
يا حسرةً من ذاك في فؤادي | كالنار يذكي حرها اعتقادي |
وقتلهم فاطمة الزهراء | أضرم حرّ النار في أحشائي |
لأن في المشهور عند الناس | بأنها ماتت من النفاس |
وأمرت أن يدفنوها ليلا | وأن يعمّى قبرها لكي لا |
يحضرها سوى ابن عمها | ورهطه ثم مضت بغمها |
صلى عليها ربها من ماضيه | وهي على الأمة غير راضيه |
فبايعوا كرها له تقيه | والله قد رخّص للبريه |
لأنه الرؤوف بالعباد | في الكفر للكره بلا اعتقاد |
وقد أتى فيما روى عن شيعته | بأنه عاتبهم في بيعته |
قصيدة(1) القاضي محمد بن عبد الرحمن أبي قُريعة:
توفي سنة 367هـ، وكان فاضلاً أديباً ظريفاً شاعراً مختصّاً بالوزير المهلبي، ولمّا دخل الصاحب بن عبّاد بغداد اجتمع به فأعجبه.
يا من يسائل دائباً | عن كل معضلة سخيفة |
لاتكشفن مغطى | فلربما كشفت جيفة |
ولرب مستور بدا | كالطبل من تحت القطيفة |
إنّ الجوابَ لحاضر | لكنني أخفيه خيفة |
لولا اعتداء رعيّة | ألقى سياستها الخليفة |
وسيوف أعداء بها | هاماتنا أبداً نقيفة |
لنشرت من أسرار آل | محمد جملاً طريفة |
تغنيكم عمّا رواه | مالك وأبو حنيفة |
وأريتكم أن الحسين | أُصيب في يوم السقيفة |
ولأيّ حال لحدت | بالليل فاطمة الشريفة |
ولما حمت شيخكم | على وطئ حجرتها المنيفة |
آه لبنت محمّد | ماتت بغصتها أسيفة |
السيد المرتضى علم الهدى(2):
المتوفى سنة 436، مفخرة العصور،
____________
1- البحار ج43 ص190 . وكشف الغمة ج2 ص127. وترجمته في الأعيان ج9 ص380 . 2- ترجمته في أدب الطف ج2 ص266.