الصفحة 227

أنواع من المعرفة والعارفين

المعرفة الحقيقية والمعرفة الشكلية

ـ الصحيفة السجادية ج 2 ص 108

... عن ثابت البناني قال: كنت حاجاً وجماعة عباد البصرة مثل أيوب السجستاني، وصالح المري، وعتبة الغلام، وحبيب الفارسي، ومالك بن دينار، فلما أن دخلنا مكة رأينا الماء ضيقاً، وقد اشتد بالناس العطش لقلة الغيث، ففزع إلينا أهل مكة والحجاج يسألوننا أن نستسقي لهم، فأتينا الكعبة وطفنا بها، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها، فمنعنا الاِجابة. فبينما نحن كذلك إذا نحن بفتى قد أقبل وقد أكربته أحزانه وأقلقته أشجانه، فطاف بالكعبة أشواطاً ثم أقبل علينا فقال: يا مالك بن دينار ويا ثابت البناني ويا صالح المري ويا عتبة الغلام ويا حبيب الفارسي ويا سعد ويا عمر ويا صالح الاَعمى ويا رابعة ويا سعدانة ويا جعفر بن سليمان فقلنا: لبيك وسعديك يا فتى. فقال: أما فيكم أحد يحبه الرحمن ؟ فقلنا: يا فتى علينا الدعاء وعليه الاِجابة، فقال: أبعدوا عن الكعبة فلو كان فيكم أحد يحبه الرحمن لاَجابه !

ثم أتى الكعبة فخر ساجداً، فسمعته يقول في سجوده: سيدي بحبك لي إلا سقيتهم الغيث. قال: فما استتم الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب. فقلت: يا فتى من أين علمت أنه يحبك ؟ قال: لو لم يحبني لم يستزرني، فلما استزارني علمت أنه يحبني، فسألته بحبه لي فأجابني. ثم ولى عنا وأنشأ يقول:

مـن عـرف الـرب فلم تُغْنِهِ * معرفة الرب فذاك الشقِي
ما ضر ذو الطاعة ما نـاله * في طاعة الله وما ذا لـقِي
ما يـصـنع العبد بغير التقى * والعـز كل الـعـز للمتـقـِي


الصفحة 228
فقلت يا أهل مكة من هذا الفتى ؟ قالوا: علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. ورواه في مستدرك الوسائل ج 6 ص 209

تحير المتصوفة في دور العقل في المعرفة

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 63 ــ 67 (تحقيق د. عبد الحليم محمود طبع عيسى الحلبي مصر 1960)

قولهم في معرفة الله تعالى:

أجمعوا على أن الدليل على الله هو الله وحده، وسبيل العقل عندهم سبيل العاقل في حاجته إلى الدليل لاَنه محدث، والمحدث لا يدل إلا على مثله. وقال رجل للنوري: ما الدليل على الله ؟ قال: الله. قال فما العقل ؟ قال العقل عاجز، والعاجز لا يدل إلا على عاجز مثله !

وقال ابن عطاء: العقل آلة للعبودية لا للاِشراف على الربوبية. وقال غيره: العقل يجول حول الكون، فإذا نظر إلى المكون ذاب. وقال أبوبكر القحطبي: من لحقته العقول فهوت مقهورة إلا من جهة الاِثبات، ولولا أنه تعرف إليها بالاَلطاف لما أدركته من جهة الاِثبات. وأنشدونا لبعض الكبار:

من رامه بالعقل مسترشـداً * سـرحه فـي حيــرة يلهو
وشـاب بالـتـلبـيس أسراره * يقول من حيرته هل هو

وقال بعض الكبار من المشايخ: البادي من المكونات معروف بنفسه لهجوم العقل عليه، والحق أعز من أن تهجم العقول عليه وإنه عرفنا نفسه أنه ربنا فقال: ألست بربكم ؟ ولم يقل: من أنا ؟ فتهجم العقول عليه حين بدأ معرفاً، فلذلك انفرد عن العقول، وتنزه عن التحصل غير الاِثبات.

وأجمعوا أنه لا يعرفه إلا ذو عقل، لاَن العقل آلة للعبد يعرف به ما عرف، وهو بنفسه لا يعرف الله تعالى.


الصفحة 229
وقال أبوبكر السباك: لما خلق الله العقل قال له: من أنا ؟ فسكت فكحله بنور الوحدانية ففتح عينيه فقال: أنت الله لا إلَه إلا أنت. فلم يكن للعقل أن يعرف الله إلا الله.

تحيرهم في الفرق بين العلم والمعرفة

ثم اختلفوا في المعرفة نفسها: ما هي ؟ والفرق بينها وبين العلم.

فقال الجنيد: المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه. قيل له زدنا، قال: هو العارف وهو المعروف. معناه: إنك جاهل به من حيث أنت، وإنما عرفته من حيث هو. وهو كما قال سهل: المعرفة هي المعرفة بالجهل.

وقال سهل: العلم يثبت بالمعرفة، والعقل يثبت بالعلم، وأما المعرفة فإنها تثبت بذاتها. معناه: إن الله إذا عرف عبداً نفسه فعرف الله تعالى بتعرفه إليه، أحدث له بعد ذلك علماً، فادرك العلم بالمعرفة وقام العقل فيه بالعلم الذي أحدثه فيه.

وقال غيره: تبين الاَشياء على الظاهر علم، وتبينها على استكشاف بواطنها معرفة. وقال غيره: أباح العلم للعامة وخص أولياءه بالمعرفة.

وقال أبوبكر الوراق: المعرفة معرفة الاَشياء بصورها وسماتها، والعلم علم الاَشياء بحقائقها.

وقال أبو سعيد الخراز: المعرفة بالله هي علم الطلب لله من قبل الوجود له، والعلم بالله هو بعد الوجود، فالعلم بالله أخفى وأدق من المعرفة بالله.

وقال فارس: المعرفة هي المستوفية في كنه المعروف.

وقال غيره: المعرفة هي حقر الاَقدار إلا قدر الله، وأن لا يشهد مع قدر الله قدراً.

وقيل لذي النون: بم عرفت ربك ؟ قال: ما هممت بمعصية فذكرت جلال الله إلا استحييت منه. جعل معرفته بقرب الله منه دلالة المعرفة له.

وقيل لعليان: كيف حالك مع المولى ؟ قال: ما جفوته منذ عرفته. قيل له: متى

الصفحة 230
عرفته ؟ قال: منذ سموني مجنوناً. جعل دلالة معرفة له تعظيم قدره عنده.

قال سهل: سبحان من لم يدرك العباد من معرفته إلا عجزاً عن معرفته.

تصوراتهم عن العارف بالله تعالى

ـ التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 136 ــ 138

سئل الحسن بن علي بن يزدانيار: متى يكون العارف بمشهد الحق ؟ قال: إذا بدا الشاهد، وفني الشواهد، وذهب الحواس، واضمحل الاِخلاص.

معنى بدا الشاهد: يعني شاهد الحق، وهو أفعاله بك مما سبق منه إليك من بره لك، وإكرامه إياك بمعرفته، وتوحيده، والاِيمان به، تفنى رؤية ذلك منك رؤية أفعالك وبرك وطاعتك، فترى كثير ما منك مستغرقاً في قليل ما منه، وإن كان ما منه ليس بقليل، وما منك ليس بكثير. وفناء الشواهد: بسقوط رؤية الخلق عنك، بمعنى الضر والنفع والذم والمدح. وذهاب الحواس هو معنى قوله: فبي ينطق وبي يبصر، الحديث. ومعنى اضمحل الاِخلاص: أن لا يراك مخلصاً، وما خلص من أفعالك خلص، ولن يخلص أبداً إذا رأيت صفتك، فإن أوصافك معلولة مثلك.

سئل ذوالنون عن نهاية العارف فقال: إذا كان كما كان حيث كان قبل أن يكون معناه: أن يشاهد الله وأفعاله دون شاهده وأفعاله.

قال بعضهم: أعرف الخلق بالله أشدهم تحيراً فيه.

قيل لذي النون: ما أول درجة يرقاها العارف ؟

فقال: التحير، ثم الاِفتقار، ثم الاِتصال، ثم التحير.

الحيرة الاَولى في أفعاله به ونعمه عنده، فلا يرى شكره يوازي نعمه، وهو يعلم أنه مطالب بشكرها، وإن شكر كان شكره نعمة يجب عليه شكرها، ولا يرى أفعاله أهلاً أن يقابله بها استحقاراً لها، ويراها واجبة عليه، لا يجوز له التخلف عنها.

وقيل قام الشبلي يوماً يصلي فبقى طويلاً ثم صلى فلما انفتل عن صلاته قال: يا ويلاه إن صليت جحدت، وإن لم أصل كفرت.


الصفحة 231
أي جحدت عظم النعمة وكمال الفضل حيث قابلت ذلك بفعلي شكراً له مع حقارته. ثم أنشد:

الـحـمــد لله عـلـى أنــنـي * كضـفدع يسكن في اليـم
إن هي فاهت ملاَت فمهـا * أو سكتت ماتت من الغم

والحيرة الاَخيرة: أن يتحير في متاهات التوحيد، فيضل فهمه ويخنس عقله في عظم قدرة الله تعالى وهيبته وجلاله. وقد قيل: دون التوحيد متاهات تضل فيها الاَفكار.

سأل أبو السوداء بعض الكبار فقال: هل للعارف وقت ؟ قال: لا. فقال: لم ؟ قال: لاَن الوقت فرجة تنفس عن الكربة، والمعرفة أمواج تغط، وترفع وتحط، فالعارف وقته أسود مظلم. ثم قال:

شرط المعارف محو الكل منك إذا * بدا المريد بلحظ غير مطلع

قال فارس العارف: من كان علمه حالة، وكانت حركاته غلبة عليه.

سئل الجنيد عن العارف فقال: لون الماء لون الاِناء. يعني أنه يكون في كل حال بما هو أولى فتختلف أحواله، ولذلك قيل: هو ابن وقته.

سئل ذو النون عن العارف فقال: كان هاهنا فذهب. يعني أنك لا تراه في وقتين بحالة واحدة، لاَن مصرفه غيره. وأنشدونا لابن عطاء:

ولو نطـقت في السن الدهر خبرت * بأني في ثوب الصبابة أرفل
وما أن لـهـا علم بقدري وموضعي * وما ذاك موهوم لاَنـي أنــقل

وقال سهل بن عبدالله: أول مقام في المعرفة أن يعطى العبد يقيناً في سره تسكن به جوارحه، وتوكلاً في جوارحه يسلم به في دنياه، وحياة في قلبه يفوز بها في عقباه.

قلنا: العارف هو الذي بذل مجهوده فيما لله، وتحقق معرفته بما من الله، وصح رجوعه من الاَشياء إلى الله. قال الله تعالى: ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.


الصفحة 232

المؤلفة قلوبهم بالمال لكي يعرفوا

ـ اجتهد الخليفة عمر بن الخطاب في آية المؤلفة قلوبهم فأسقط سهمهم رغم نص الآية عليه، وقد خالفه في ذلك علي والاَئمة من أهل البيت عليهم السلام وعدد من الصحابة لاَن الآية نصت على ذلك ولا يجوز نسخها بالاجتهاد !

ـ الكافي ج 2 ص 412

عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن علي بن حسان، عن موسى بن بكر، عن رجل قال: قال أبو جعفر عليه السلام: ما كانت المؤلفة قلوبهم قط أكثر منهم اليوم، وهم قوم وحدوا الله وخرجوا من الشرك ولم تدخل معرفة محمد رسول الله صلى الله عليه وآله قلوبهم وما جاء به فتألفهم رسول الله صلى الله عليه وآله وتألفهم المؤمنون بعد رسول الله صلى الله عليه وآله لكي ما يعرفوا.

ـ مجمع الفائدة والبرهان ج 4 ص 158

الرابع: المؤلفة قلوبهم، قال المصنف في المنتهى: أجمع علمائنا على أن من المشركين قوم مؤلفة يستمالون بالزكاة لمعاونة المسلمين، ونقل في التهذيب من تفسير علي بن إبراهيم، عن العالم عليه السلام أنه قال: والمؤلفة قلوبهم قال: هم قوم وحدوا الله وخلعوا عبادة من دون الله ولم تدخل المعرفة قلوبهم أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله فكان رسول الله صلى الله عليه وآله يتألفهم يعلمهم ويعرفهم كيما يعرفوا، فجعل لهم نصيباً في الصدقات لكي يعرفوا ويرغبوا.

راجع أيضاً: الحدائق الناضرة ج 12 ص 175 وذخيرة المعاد ص 454 ومستند الشيعة ج 2 ص 46 وجواهر الكلام ج 15 ص 339 وفقه السيد الخوئي ج 23 ص 247 ومصباح الفقية ج 3 ص 95 وغيرها من مصادر الحديث والفقه والتفسير.

دعوة العدو في الجهاد إلى معرفة الله تعالى

ـ الكافي ج 5 ص 36

علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن القاسم بن محمد، عن المنقري، عن سفيان بن

الصفحة 233
عيينة، عن الزهري قال: دخل رجال من قريش على علي بن الحسين صلوات الله عليهما فسألوه كيف الدعوة إلى الدين ؟ قال: تقول: بسم الله الرحمن الرحيم أدعوكم إلى الله عز وجل وإلى دينه، وجماعه أمران: أحدهما معرفة الله عز وجل والآخر العمل برضوانه وأن معرفة الله عز وجل أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كل شيء وأنه النافع الضار، القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الاَبصار وهو يدرك الاَبصار وهو اللطيف الخبير، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، وما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين.

عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد، عن محمد بن الحسن بن شمون، عن عبدالله بن عبدالرحمن، عن مسمع بن عبدالملك، عن أبي عبدالله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لما وجهني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن قال:يا علي لا تقاتل أحداً حتى تدعوه إلى الاِسلام، وأيم الله لاَن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه. انتهى. وروى نحو الحديث الاَول في تهذيب الاَحكام ج 6 ص 141

معرفة أهل الآخرة بديهية لا كسبية

ـ رسائل الشريف المرتضى ج 2 ص 131

قال المرتضى رضي الله عنه: سألت بيان أحكام أهل الآخرة في معارفهم وأحوالهم وأنا ذاكر من ذلك جملة وجيزة: إعلم أن لاَهل الآخرة ثلاث أحوال: حال ثواب، وحال عقاب، وحال أخرى للمحاسبة. ويعمهم في هذه الاَحوال الثلاث سقوط التكليف عنهم، وأن معارفهم ضرورية، وأنهم ملجؤون إلى الاِمتناع من القبيح وإن كانوا مختارين لاَفعالهم مؤثرين لها، وهذا هو الصحيح دون ما ذهب إليه من خالف هذه الجملة....


الصفحة 234
وأما الذي يدل على أن أهل الآخرة لابد أن يكونوا عارفين بالله تعالى وأحواله، فهو أن المثاب متى لم يعرفه تعالى، لم يصح منه معرفة كون الثواب ثواباً وواصلاً إليه على الوجه الذي يستحقه، وأنه دائم غير منقطع، وإذا كانت هذه المعارف واجبة فما لا يتم هذه المعرفة إلا به ــ من معرفة الله تعالى وإكمال العقل وغيرهما ــ لابد من حصوله.

بحث للشيخ الطوسي في تعريف الاِيمان والكفر

ـ الاِقتصاد ص 140

الاِيمان هو التصديق بالقلب، ولا اعتبار بما يجرى على اللسان، وكل من كان عارفاً بالله وبنبيه وبكل ما أوجب الله عليه معرفته مقراً بذلك مصدقاً به فهو مؤمن. والكفر نقيض ذلك، وهو الجحود بالقلب دون اللسان مما أوجب الله تعالى عليه المعرفة به، ويعلم بدليل شرعي أنه يستحق العقاب الدائم الكثير.

وفي المرجئة من قال: الاِيمان هو التصديق باللسان خاصة وكذلك الكفر هو الجحود باللسان، والفسق هو كل ما خرج به عن طاعة الله تعالى إلى معصيته، سواء كان صغيراً أو كبيراً. وفيهم من ذهب إلى أن الاِيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، والكفر هو الجحود بهما.

وفي أصحابنا من قال: الاِيمان هو التصديق بالقلب واللسان والعمل بالجوارح، وعليه دلت كثير من الاَخبار المروية عن الاَئمة عليهم السلام.

وقالت المعتزلة: الاِيمان إسم للطاعات، ومنهم من جعل النوافل والفرائض من الاِيمان، ومنهم من قال النوافل خارجة عن الاِيمان. والاِسلام والدين عندهم شيء واحد، والفسق عندهم عبارة عن كل معصية يستحق بها العقاب، والصغائر التي تقع عندهم مكفرة لا تسمى فسقاً. والكفر عندهم هو ما يستحق به عقاب عظيم،

الصفحة 235
وأجريت على فاعله أحكام مخصوصة، فمرتكب الكبيرة عندهم ليس بمؤمن ولا كافر بل هو فاسق.

وقالت الخوارج قريباً من قول المعتزلة إلا أنهم لا يسمون الكبائر كلها كفراً، وفيهم من يسميها شركاً.

والفضيلية منهم تسمي كل معصية كفراً صغيرة كانت أو كبيرة.

والزيدية من كان منهم على مذهب الناصر يسمون الكبائر كفر نعمة، والباقون يذهبون مذهب المعتزلة.

والذي يدل على ما قلناه: أولاً، هو أن الاِيمان في اللغة هو التصديق، ولا يسمون أفعال الجوارح إيماناً، ولا خلاف بينهم فيه.

ويدل عليه أيضاً قولهم: فلان يؤمن بكذا وكذا وفلان لا يؤمن بكذا. وقال تعالى: يؤمنون بالجبت والطاغوت. وقال: وما أنت بمؤمن لنا، أي بمصدق، وإذا كان فائدة هذه اللفظة في اللغة ما قلناه وجب إطلاق ذلك عليها إلا أن يمنع مانع، ومن ادعى الاِنتقال فعليه الدلالة، وقد قال الله تعالى: بلسان عربي مبين. وقال: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه. وقال: إنا أنزلناه قرآناً عربياً. وكل ذلك يقتضي حمل هذه اللفظة على مقتضى اللغة. وليس إذا كان هاهنا ألفاظ منتقلة وجب أن يحكم في جميع الاَلفاظ بذلك، وإنما ينتقل عما ينتقل بدليل يوجب ذلك. وإن كان في المرجئة من قال ليس هاهنا لفظ منتقل ولا يحتاج إلى ذلك.

ولا يلزمنا أن نسمي كل مصدق مؤمنا لاَنا إنما نطلق ذلك على من صدق بجميع ما أوجبه الله عليه. والاِجماع مانع من تسمية من صدق بالجبت والطاغوت مؤمناً، فمنعنا ذلك بدليل وخصصنا موجب اللغة، وجرى ذلك مجرى تخصيص العرف لفظ الدابة ببهيمة مخصوصة، وإن كان موجب اللغة يقتضي تسمية كل ما دب دابة، ويكون ذلك تخصيصاً لا نقلاً. فعلى موجب هذا، يلزم من ادعى انتقال هذه اللفظة إلى أفعال الجوارح أن يدل عليه.


الصفحة 236
وليس لاَحد أن يقول: إن العرف لا يعرف التصديق فيه إلا بالقول، فكيف حملتموه على ما يختص القلب ؟

قلنا: العرف يعرف بالتصديق باللسان والقلب، لاَنهم يصفون الاَخرس بأنه مؤمن وكذلك الساكت، ويقولون: فلان يصدق بكذا وكذا وفلان لا يصدق، ويريدون ما يرجع إلى القلب، فلم يخرج بما قلناه عن موجب اللغة.

وإنما منعنا إطلاقه في المصدق باللسان لاَنه لو جاز ذلك لوجب تسميته بالاِيمان وإن علم جحوده بالقلب، والاِجماع مانع من ذلك.

... وأما الكفر فقد قلنا إنه عند المرجئة من أفعال القلوب، وهو جحد ما أوجب الله تعالى معرفته مما عليه دليل قاطع كالتوحيد والعدل والنبوة وغير ذلك، وأما في اللغة فهو الستر والجحود، وفي الشرع عبارة عما يستحق به العقاب الدائم الكثير، ويلحق بفاعله أحكام شرعية كمنع التوارث والتناكح.

والعلم بكون المعصية كفراً طريقه السمع لا مجال للعقل فيه، لاَن مقادير العقاب لا تعلم عقلاً، وقد أجمعت الاَمة على أن الاِخلال بمعرفة الله تعالى و توحيده وعدله وجحد نبوة رسله كفر، لا يخالف فيه إلا أصحاب المعارف الذين بينا فساد قولهم.

ولا فرق بين أن يكون شاكاً في هذه الاَشياء أو يكون معتقداً لما يقدح في حصولها، لاَن الاِخلال بالواجب يعم الكل.

فعلى هذا، المجبرة والمشبهة كفار، وكذلك من قال بالصفات القديمة لاَن اعتقادهم الفاسد في هذه الاَشياء ينافي الاِعتقاد الصحيح من المعرفة بالله تعالى وعدله وحكمته.

بحث للشهيد الثاني في تعريف الاِيمان والكفر

ـ رسائل الشهيد الثاني ج 2 ص 50

في تعريف الاِيمان لغة وشرعاً، فاعلم أن الاِيمان لغةً: التصديق، كما نص عليه

الصفحة 237
أهلها، وهو إفعال من الاَمن، بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها، وحينئذ فكان حقيقة آمن به سكنت نفسه واطمأنت بسبب قبول قوله وامتثال أمره، فتكون الباء للسببية. ويحتمل أن يكون بمعنى آمنه التكذيب والمخالفة، كما ذكره بعضهم فتكون الباء فيه زائدة، والاَول أولى كما لا يخفى وأوفق لمعنى التصديق، وهو يتعدى باللام كقوله تعالى: وما أنت بمؤمن لنا، فأمن له لوط. وبالباء كقوله تعالى: آمنا بما أنزلت.

وأما التصديق: فقد قيل أنه القبول والاِذعان بالقلب، كما ذكره أهل الميزان.

ويمكن أن يقال: معناه قبول الخبر أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان، ويدل عليه قوله تعالى: قالت الاَعراب آمنا، فأخبروا عن أنفسهم بالاِيمان وهم من أهل اللسان، مع أن الواقع منهم هو الاِعتراف باللسان دون الجنان، لنفيه عنهم بقوله تعالى: قل لم تؤمنوا. وإثبات الاِعتراف بقوله تعالى: ولكن قولوا أسلمنا، الدال على كونه إقراراً بالشهادتين، وقد سموه إيماناً بحسب عرفهم، والذي نفاه الله عنهم إنما هو الاِيمان في عرف الشرع.

إن قلت: يحتمل أن يكون ما ادعوه من الاِيمان هو الشرعي، حيث سمعوا الشارع كلفهم بالاِيمان، فيكون المنفي عنهم هو ما ادعوا ثبوته لهم، فلم يبق في الآية دلالة على أنهم أرادوا اللغوي.

قلت: الظاهر أنه في ذلك الوقت لم تكن الحقائق الشرعية متقررة عندهم، لبعدهم عن مدارك الشرعيات، فلا يكون المخبر عنه إلا ما يسمونه إيماناً عندهم.

وقوله تعالى: آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم، وقوله تعالى: ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين.

وجه الدلالة في هذه الآيات أن الاِيمان في اللغة التصديق، وقد وقع في الاِخبار عنهم أنهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، فيلزم صحة إطلاق التصديق على الاِقرار باللسان وإن لم يوافقه الجنان. وعلى هذا فيكون المنفي هو الاِيمان الشرعي أعني

الصفحة 238
القلبي، جمعاً بين صحة النفي والاِثبات في هذه الآيات.

لا يقال: هذا الاِطلاق مجاز، وإلا لزم الاِشتراك، والمجاز خير منه.

لاَنا نقول: هو من قبيل المشترك المعنوي لا اللفظي، ومعناه قبول الخبر أعم من أن يكون باللسان أو بالجنان، واستعمال اللفظ الكلي في أحد أفراد معناه باعتبار تحقق الكلي في ضمنه حقيقة لا مجازاً، كما هو المقرر في بحث الاَلفاظ.

فإن قلت: إن المتبادر من معنى الاِيمان هو التصديق القلبي عند الاِطلاق، وأيضاً يصح سلب الاِيمان عمن أنكر بقلبه وإن أقر بلسانه، والاَول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.

قلت: الجواب عن الاَول أن التبادر لا يدل على أكثر من كون المتبادر هو الحقيقي لا المجازي، لكن لا يدل على كون الحقيقة لغوية أو عرفية، وحينئذ فلا يتعين أن اللغوي هو التصديق القلبي، فلعله العرفي الشرعي.

إن قلت: الاَصل عدم النقل، فيتعين اللغوي.

قلت: لا ريب أن المعنى اللغوي الذي هو مطلق التصديق لم يبق على إطلاقه بل أخرج عنه إما بالتخصيص عند بعض أو النقل عند آخرين. ومما يدل على ذلك أن الاِيمان الشرعي هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله، وبنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وبما علم بالضرورة مجيئه به لا ما وقع فيه الخلاف وعلى هذا أكثر المسلمين. وزاد الاِمامية التصديق بإمامة إمام الزمان، لاَنه من ضروريات مذهبهم، أيضاً أنه مما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وقد عرفت أن الاِيمان في اللغة التصديق مطلقاً، وهذا أخص منه.

ويؤيد ذلك قوله تعالى يا أيها الذين آمَنُوا آمِنُوا بالله ورسوله، أخبر عنهم تعالى بالاِيمان، ثم أمرهم بإنشائه فلابد أن يكون الثاني غير الاَول، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل. وإذا حصلت المغايرة كان الثاني المأمور به هو الشرعي، حيث لم يكن حاصلاً لهم، إذ لا محتمل غيره إلا التأكيد، والتأسيس خير منه. وعن الثاني بالمنع من كون ما صح سلبه هو الاِيمان اللغوي بل الشرعي، وليس النزاع فيه.


الصفحة 239
إن قلت: ما ذكرته معارض بما ذكره أهل الميزان في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق، من أن المراد بالتصديق الاِذعان القلبي، فيكون في اللغة كذلك لاَن الاَصل عدم النقل.

قلت: قد بينا سابقاً أن الخروج عن هذا الاَصل ولو سلم فلا دلالة في ذلك على حصر معنى التصديق مطلقاً في الاِذعان القلبي، بل التصديق الذي هو قسم من العلم وليس محل النزاع.

على أنا نقول: لو سلمنا صحة الاِطلاق مجازاً ثبت مطلوبنا أيضاً، لانا لم ندع إلا أن معناه قبول الخبر مطلقاً، ولا ريب أن الاَلفاظ المستعملة لغة في معنى من المعاني حقيقة أو مجازاً تعد من اللغة، وهذا ظاهر.

واما الاِيمان الشرعي: فقد اختلفت في بيان حقيقته العبارات بحسب اختلاف الاِعتبارات. وبيان ذلك: إن الاِيمان شرعاً: إما أن يكون من أفعال القلوب فقط، أو من أفعال الجوارح فقط أو منهما معاً. فإن كان الاَول فهو التصديق بالقلب فقط، وهو مذهب الاَشاعرة وجمع من متقدمي الاِمامية ومتأخريهم، ومنهم المحقق الطوسي رحمه الله في فصوله، لكن اختلفوا في معنى التصديق فقال أصحابنا: هو العلم. وقال الاَشعرية: هو التصديق النفساني، وعنوا به أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر، فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق، ولذا يثاب عليه بخلاف العلم والمعرفة، فإنها ربما تحصل بلا كسب، كما في الضروريات.

وقد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين، فقال: التصديق هو أن تنسب باختيارك الصدق للمخبر حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقاً وإن كان معرفة، وسنبين إن شاء الله تعالى [ قصور ] ذلك.

وإن كان الثاني، فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط، وهو مذهب الكرامية. أوعن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضاً ونفلاً، وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والغلاة والقاضي عبدالجبار. أو عن جميعها من الواجبات

الصفحة 240
وترك المحظورات دون النوافل، وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه هاشم وأكثر معتزلة البصرة.

وإن كان الثالث، فهو إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات، وهو قول المحدثين وجمع من السلف كابن مجاهد وغيره فإنهم قالوا: إن الاِيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالاَركان.

وإما أن يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة، ونسب إلى طائفة منهم أبوحنيفة.

أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الاِقرار باللسان، وهو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في تجريده، فهذه سبعة مذاهب ذكرت في الشرح الجديد للتجريد وغيره.

واعلم أن مفهوم الاِيمان على المذهب الاَول يكون تخصيصاً للمعنى اللغوي، وأما على المذاهب الباقية فهومنقول، والتخصيص خير من النقل.

وهنا بحث وهو أن القائلين بأن الاِيمان عبارة عن فعل الطاعات، كقدماء المعتزلة والعلاف والخوارج، لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الاَصول، وحينئذ فما الفرق بينهم وبين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب والجوارح ؟

ويمكن الجواب، بأن اعتقاد المعارف شرط عند الاَولين وشطر عند الآخرين....

إعلم أن المحقق الطوسي رحمه الله ذكر في قواعد العقائد أن أصول الاِيمان عند الشيعة ثلاثة: التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته تعالى، والعدل في أفعاله، والتصديق بنبوة الاَنبياء عليهم السلام والتصديق بإمامة الاَئمة المعصومين من بعد الاَنبياء عليهم السلام.

وقال أهل السنة: إن الاِيمان هو التصديق بالله تعالى وبكون النبي صلى الله عليه وآله صادقاً، والتصديق بالاَحكام التي يعلم يقيناً أنه صلى الله عليه وآله حكم بها دون ما فيه اختلاف واشتباه.

والكفر يقابل الاِيمان، والذنب يقابل العمل الصالح، وينقسم إلى كبائر وصغائر.


الصفحة 241
ويستحق المؤمن بالاِجماع الخلود في الجنة، ويستحق الكافر الخلود في العقاب. انتهى.

وذكر في الشرح الجديد للتجريد أن الاِيمان في الشرع عند الاَشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلاً فيما علم تفصيلاً، وإجمالاً فيما علم إجمالاً، فهو في الشرع تصديق خاص. انتهى.

فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الاِيمان هي التصديق فقط، وإن اختلفوا في المقدار المصدق به. والكلام هاهنا في مقامين:

الاَول: في أن التصديق الذي هو الاِيمان المراد به اليقين الجازم الثابت، كما يظهر من كلام من حكينا عنه.

الثاني: في أن الاَعمال ليست جزء من حقيقة الاِيمان الحقيقي، بل هي جزء من الاِيمان الكمالي. أما الدليل على الاَول فآيات بينات:

منها قوله تعالى: إن الظن لا يغني من الحق شيئاً. والاِيمان حق للنص والاِجماع، فلا يكفي في حصوله وتحققه الظن.

ومنها: إن يتبعون إلا الظن، إن هم إلا يظنون، إن بعض الظن إثم، فهذه قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن، والاِيمان لا يوبخ من حصل له بالاِجماع، فلا يكون ظناً.

ومنها قوله: إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، فنفى عنهم الريب، فيكون الثابت هو اليقين.

إن قلت: هذه الآية الكريمة لا تدل على المدعى بل على خلافه، وهو عدم اعتبار اليقين في الاِيمان، وذلك أنها إنما دلت على حصر الاِيمان فيما عدا الشك، فيصدق الاِيمان على الظن.

قلت: الظن في معرض الريب، لاَن النقيض مجوز فيه ويقوى بأدنى تشكيك،

الصفحة 242
فصاحبه لا يخلو من ريب حيث أنه دائماً يجوز النقيض، على أن الريب قد يطلق على ما هو أعم من الشك، يقال: لا أرتاب في كذا. ويريد أنه منه على يقين، وهذا شائع ذائع.

ومن السنة المطهرة قوله عليه السلام: يا مقلب القلوب والاَبصار ثبت قلبي على دينك، فلو لم يكن ثبات القلب شرطاً في الاِيمان لما طلبه عليه السلام والثبات هو الجزم والمطابقة، والظن لا ثبات فيه، إذ يجوز ارتفاعه.

وفيه، منع كون الثبات شرطاً في تحقيق الاِيمان، ويجوز أن يكون عليه السلام طلبه لكونه الفرد الاَكمل، وهو لا نزاع فيه.

ومن جملة الدلائل على ذلك أيضاً الاِجماع، حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الاِيمان بها إلا بالدليل إجماعاً من العلماء كافة، والدليل ما أفاد العلم، والظن لا يفيده.

وفي صحة دعوى الاِجماع بحث، لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الاَصولية، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

واعلم أن جميع ما ذكرناه من الاَدلة لا يفيد شيء منه العلم بأن الجزم والثبات معتبر في التصديق الذي هو الاِيمان إنما يفيد الظن باعتبارهما، لاَن الآيات قابلة للتأويل وغيرها كذلك، مع كونها من الآحاد.

ومن الآيات أيضاً قوله تعالى: فاعلم أنه لا إلَه إلا الله. واعترض على هذا الدليل بأنه أخص من المدعى، فإنه إنما يدل على اعتبار اليقين في بعض المعارف، وهو التوحيد دون غيره، والمدعى اعتبار اليقين في كل ما التصديق به شرط في تحقق الاِيمان، كالعدل والنبوة والمعاد وغيرها.

وأجيب بأنه لا قائل بالفرق، فإن كل من اعتبر اليقين اعتبره في الجميع، ومن لم يعتبره لم يعتبره في شيء منها. واعلم أن ما ذكرناه على ما تقدم وارد هاهنا أيضاً.


الصفحة 243
واعترض أيضاً بأن الآية الكريمة خطاب للرسول صلى الله عليه وآله فهي إنما تدل على وجوب العلم عليه وحده دون غيره.

وأجيب بأن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وآله بالاِجماع، وقد دل دليل وجوب التأسي به على وجوب اتباعه، فيجب على باقي المكلفين تحصيل العلم بالعقائد الاَصولية.

وأيضاً أورد أنه إنما يفيد الوجوب لو ثبت أن الاَمر للوجوب، وفيه منع لاحتماله غيره، وكذا يتوقف على كون المراد من العلم هاهنا القطعي، وهو غير معلوم، إذ يحتمل أن يراد به الظن الغالب، وهو يحصل بالتقليد. وبالجملة فهو دليل ظني.

وأما المقالة الثانية وهو أن الاَعمال ليست جزء من الاِيمان ولا نفسه فالدليل عليه من الكتاب العزيز، والسنة المطهرة، والاِجماع.

أما الكتاب، فمنه قوله تعالى: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فإن العطف يقتضي المغايرة، وعدم دخول المعطوف في المعطوف عليه، فلو كان عمل الصالحات جزء من الاِيمان أو نفسه لزم خلو العطف عن الفائدة لكونه تكراراً.

وَرُدَّ ذلك بأن الصالحات جمع معرف يشمل الفرض والنفل، والقائل بكون الطاعات جزء من الاِيمان يريد بها فعل الواجبات واجتناب المحرمات، وحينئذ فيصح العطف لحصول المغايرة المفيدة لعموم المعطوف، فلم يدخل كله في المعطوف عليه، نعم ذلك يصلح دليلاً على إبطال مذهب القائلين بكون المندوب داخلاً في حقيقة الاِيمان كالخوارج.

ومنه قوله تعالى: ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن، أي حالة إيمانه، فإن عمل الصالحات في حالة الاِيمان يقتضي المغايرة لما أضيف إلى تلك الحالة وقارنه فيها، وإلا لصار المعنى: ومن يعمل بعض الاِيمان حال حصول ذلك البعض، أو ومن يعمل من الاِيمان حال حصوله، وحينئذ فيلزم تقدم الشيء على نفسه وتحصيل الحاصل.


الصفحة 244
إن قلت: الآية الكريمة إنما تدل على المغايرة في الجملة، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تكون الاَعمال جزءاً، فإن المعنى والله أعلم: ومن يعمل من الصالحات حال إيمانه، أي تصديقه بالمعارف الاِلَهية، وحينئذ فيجوز أن يكون الاِيمان الشرعي بمجموع الجزئين، أي عمل الصالحات والتصديق المذكور، فالمغايرة إنما هي بين جزئي الاِيمان ولا محذور فيه، بل لابد منه وإلا لما تحقق الكل، بل لابد لنفي ذلك من دليل.

قلت: من المعلوم أن الاِيمان قد غير عن معناه لغة، فأما التصديق بالمعارف فقط فيكون تخصيصاً، أو مع الاَعمال فيكون نقلاً، لكن الاَول أولى، لاَن التخصيص خير من النقل.

ووجه الاِستدلال بالآية أيضاً بأن ظاهرها كون الاِيمان الشرعي شرطاً لصحة الاَعمال، حيث جعل سعيه مقبولاً إذا وقع حال الاِيمان، فلابد أن يكون الاِيمان غير الاَعمال، وإلا لزم إشتراط الشيَ بنفسه.

ويرد على هذا ما ورد على الاَول بعينه، نعم اللازم هنا أن يكون أحد جزئي المركب شرطاً لصحة الآخر ولا محذور فيه.

والجواب عن هذا هو الجواب عن ذلك فتأمل.

ومنه قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فإنه أثبت الاِيمان لمن ارتكب بعض المعاصي، فلو كان ترك المنهيات جزء من الاِيمان لزم تحقق الاِيمان وعدم تحققه في موضع واحد في حالة واحدة وهو محال.

ولهم أن يجيبوا عن ذلك بمنع تحقق الاِيمان حالة ارتكاب المنهي، وكون تسميتهم بالمؤمنين باعتبار ما كانوا عليه وخصوصاً على مذهب المعتزلة، فإنهم لا يشترطون في صدق المشتق على حقيقة بقاء المعنى المشتق منه.

ويمكن دفعه بأن الشارع قد منع من جواز إطلاق المؤمن على من تحقق كفره وعكسه، والكلام في خطاب الشارع، فلا نسلم لهم الجواب.


الصفحة 245
ومنه قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين، فإن أمرهم بالتقوى التي لا تحصل إلا بفعل الطاعات والاِنزجار عن المنهيات مع وصفهم بالاِيمان، يدل على عدم حصول التقوى لهم، وإلا لما أمروا بها مع حصول الاِيمان لو صفهم به، فلا تكون الاَعمال نفس الاِيمان ولا جزء منه، وإلا لكان أمراً بتحصيل الحاصل.

ويرد عليه، جواز أن يراد من الاِيمان الذي وصفوا به اللغوي، ويكون المأمور به هو الشرعي وهو الطاعات، أو جزؤه عند من يقول بالجزئية. ويجاب عنه بنحو ما أجيب عما أورد على الدليل الثاني، فليتأمل.

ومنه أيضاً الآيات الدالة على كون القلب محلاً للاِيمان من دون ضميمة شيء آخر كقوله تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الاِيمان، أي جمعه وأثبته فيها والله أعلم. ولو كان الاِقرار غيره من الاَعمال نفس الاِيمان أو جزءه، لما كان القلب محل جمعه، بل هو مع اللسان وحده، أو مع بقية الجوارح على اختلاف الآراء.

وقوله تعالى: ولما يدخل الاِيمان في قلوبكم، ولو كان غير القلب من أعمال الجوارح نفس الاِيمان أو جزءه، لما جعل كله محل القلب، كما هو ظاهر الآية الكريمة.

وقوله تعالى: وقلبه مطمئن بالاِيمان، فإن اطمئنانه بالاِيمان يقتضي تعلقه كله به، وإلا لكان مطمئناً ببعضه لا كله.

أقول: يرد على الاَخير أنه لا يلزم من اطمئنانه بالاِيمان كونه محلاً له، إذ من الجائز كونه عبارة عن الطاعات وحدها، أو مع شيء آخر واطمئنان القلب لاطلاعه على حصول ذلك، فإن القلب يطلع على الاَعمال.

ويرد على الاَولين أن الاِيمان المكتوب والداخل في القلب إنما هو العقائد الاَصوليه، ولا يدل على حصر الاِيمان في ذلك، ونحن لا نمنع ذلك بل نقول باعتبار ذلك في الاِيمان إما على طريق الشرطية لصحته، أو الجزئية له، إذ من يزعم أنه

الصفحة 246
الطاعات فقط لابد من حصول ذلك التصديق عنده أيضاً لتصح تلك الاَعمال، غاية الاَمر أنه شرط للاِيمان أو جزؤه لا نفسه، كما تقدمت الاِشارة إليه.

نعم هما يدلان على بطلان مذهب الكرامية، حيث يكتفون في تحققه بلفظ الشهادتين من غير شيء آخر أصلاً لا شرطاً ولا جزءاً.

قيل: وكذا آيات الطبع والختم تشعر بأن محل الاِيمان القلب، كقوله تعالى: اولئك الذين طبع الله على قلوبهم فهم لا يؤمنون، وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله. وفيه ما تقدم.

وأما السنة المطهرة، فكقوله عليه السلام: يا مقلب القلوب والاَبصار ثبت قلبي على دينك، وجه الدلالة فيه أن المراد من الدين هنا الاِيمان، لاَن طلب تثبيت القلب عليه يدل على أنه متعلق بالاِعتقاد، وليس هناك شيء آخر غير الاِيمان من الاِعتقاد يصلح لثبات القلب عليه بحيث يسمى ديناً، فتعين أن يكون هو الاِيمان، وحيث لم يطلب غيره في حصول الاِيمان علم أن الاِيمان يتعلق بالقلب لا بغيره.

وكذا ما روي أن جبرئيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وآله فسأله عن الاِيمان ؟ فقال: أن تؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر. ومعنى ذلك: أن تصدق بالله ورسله واليوم الآخر، فلو كان فعل الجوارح أو غيره من الاِيمان لذكره له، حيث سأله الرسول صلى الله عليه وآله عما هو الاِيمان المطلوب للشارع.

وإن قيل: ظاهر الحديث فيه مناقشة، وذلك أن الرسول عليه السلام سأله عن حقيقة الاِيمان، فكان من حق الجواب في شرح معناه أن يقال: أن تصدق بالله لا أن تؤمن لاَن أن مع الفعل في تأويل المصدر، فيصير حاصله الاِيمان هو الاِيمان بالله، فيلزم منه تعريف الشيء بنفسه في الجملة، وذلك لا يليق بنفس الاَمر.

والجواب أن المراد من قوله: أن تؤمن بالله، أن تصدق، وقد كان التصديق معلوماً له عليه السلام لغة، فلم يكن تعريف الشيء بنفسه، فهذا إنما يكون بالقياس إلى غيرهما عليهما السلام وإلا فالسائل والمسؤول غنيان عن معرفة المعاني من الاَلفاظ.


الصفحة 247
وأما الاِجماع، فهو أن الاَمة أجمعت على أن الاِيمان شرط لسائر العبادات، والشيء لا يكون شرطاً لنفسه، فلا يكون الاِيمان هو العبادات.

أقول: على تقدير تسليم دعوى الاِجماع، فللخصوم أن يقولوا: نحن نقول بكون التصديق بمسائل الاَصول شرطاً لصحة العبادات التي هي الاِيمان، ولا يلزمنا بذلك أن يكون تلك المسائل هي الاِيمان، فإن سميتموها إيماناً بالمعنى اللغوي فلا مشاحة في ذلك، وإن قلتم بل هي الاِيمان الشرعي، فهو محل النزاع ودليلكم لا يدل عليه.

وأجمعت أيضاً على أن فساد العبادات لا يوجب فساد الاِيمان، وذلك يقتضي كون الاِيمان غير أعمال الجوارح.

أقول: إن صح نقل الاِجماع، فلا ريب في دلالته على المدعى، وسلامته عن المطاعن المتقدمة.

هل يمكن أن يصير المؤمن كافراً

... المؤمن هل يجوز أن يكفر بعد إيمانه أم لا ؟ ذهب إلى الاَول جماعة من العلماء، وظاهر القرآن العزيز يدل عليه في آيات كثيرة، كقوله تعالى: إن الذين آمنوا ثم كفروا، إلى غير ذلك من الآيات، ولو كان التصديق بالمعارف الاَصولية يعتبر فيه الجزم والثبات لما صح ذلك إذ اليقين لا يزول بالاَضعف، ولا ريب أن موجب الكفر أضعف مما يوجب الاِيمان.

قلت: لا ريب أن الاِيمان من الكيفيات النفسانية، إذ هو نوع من العلم على ما هو الحق، فهو عرض، وقبوله للزوال بعروض ضده أو مثله، عند من يقول الاَعراض لا تبقى زمانين كالاَشاعرة ظاهر. وكذا على القول بأن الباقي محتاج إلى المؤثر في بقائه أو غير محتاج مع قطع النظر عن بقاء الاَعراض زمانين، لاَن الفاعل مختار، فيصح منه الاِيجاد والاِعدام في كل وقت. غاية الاَمر أن تبديل الاِيمان بالكفر لا يجوز أن

الصفحة 248
يكون من فعل الله تعالى على ما تقتضيه قواعد العدلية، من أن العبد له فعل، وأن اللطف واجب على الله تعالى، ولو كان التبديل منه تعالى لنافى اللطف. على أنا نقول: قد يستند الكفر إلى الفعل دون الاِعتقاد، فيجامع الجزم اليقين في المعارف الاَصولية، كما في السجود للصنم وإلقاء المصاحف في القاذورات مع كونه مصدقاً بالمعارف.

إن قلت: فعلى هذا يلزم جواز اجتماع الاِيمان والكفر في محل واحد وزمان واحد ، وهو محال، لاَن الكفر عدم الاِيمان عما من شأنه أن يكون مؤمناً.

قلت: الاِيمان هو التصديق بالاَصول المذكورة بشرط عدم السجود وغيره مما يوجب فعله الكفر بدلالة الشارع عليه، وانتفاء الشرط يستلزم انتفاء المشروط.

ثانيها يلزم أن يكون الظان ولو في أحد من الاَصول الخمسة كافراً وإن كان عالماً بالباقي، لاَن الظن من أضداد اليقين فلا يجامعه. فيلزم (القول) بكفر مستضعفي المسلمين بل كثير من عوامهم، لعدم التصديق في الاَول والثبات في الثاني، كما نشاهد من تشككهم عند التشكيك، مع أن الشارع حكم بإسلامهم وأجرى عليهم أحكامه. ومن هاهنا اكتفى بعض العلماء في الاِيمان بالتقليد، كما تقدمت الاِشارة إليه.

ويمكن الجواب عن ذلك: بأن من يشترط اليقين يلتزم الحكم بكفرهم لو علم كون اعتقادهم بالمعارف عن ظن، لكن هذا الاِلتزام في المستضعف في غاية البعد والضعف. وأما إجراء الاَحكام الشرعية فإنما هو للاِكتفاء بالظاهر إذ هو المدار في إجراء الاَحكام الشرعية فهو لا ينافي كون المجرى عليه كذلك كافراً في نفس الاَمر. وبالجملة، فالكلام إنما هو في بيان ما يتحقق به كون المكلف مؤمناً عند الله سبحانه، وأما عندنا فيكفي ما يفيد الظن حصول ذلك له، كإقراره بالمعارف الاَصولية مختاراً غير مستهزيَ، لتعذر العلم علينا غالباً بحصول ذلك له.

ثالثها: أنه إذا كان الاِيمان هو التصديق الجازم الثابت، فلا يمكن الحكم بإيمان

الصفحة 249
أحد حتى نعلم يقيناً أن تصديقه بما ذكر يقيني، وأنى لنا بذلك، ولا يطلع على الضمائر إلا خالق السرائر.

والجواب عن هذا هو الجواب عن الثاني.

رابعها: انتقاض حد الاِيمان والكفر جمعاً ومنعاً بحالة النوم والغفلة وكذا بالصبي لاَنه إن كان مصدقاً فهو مؤمن وإلا فكافر، لعدم الواسطة، مع أن الشارع لم يحكم عليه بشيء منهما حقيقة بل تبعاً.

وأجيب عن الاَولين بأن التصديق باق لم يزل، والذهول والغفلة إنما هو عن حصوله واتصاف النفس به، إذ العلم بالعلم وبصفات النفس غير لازم، ولا عدمه ينافي حصولهما.

على أن الشارع جعل الاَمر المحقق الذي لم يطرأ عليه ما يضاده ويزيله في حكم الباقي، فسمى من اتصف بالاِيمان مؤمناً، سواء كان مستشعراً بإيمان نفسه، أو غافلاً عن ذلك مع اتصاف نفسه به.

وعن الثالث بأن الكلام في الاِيمان الشرعي فهو من أفراد التكليف، فلا يوصف الصبي بشيء منها حقيقة، لعدم دخوله في المكلف، نعم يوصف تبعاً.

هل تزول المعرفة والاِيمان بإنكار الضروري ؟

ـ نهاية الاَفكار ج 2 ص 190

وحيث انجر الكلام إلى هنا ينبغي عطف الكلام إلى بيان أن كفر منكر الضروري هل هو لمحض إنكاره أو أنه من جهة استتباعه لتكذيب النبي صلى الله عليه وآله وتظهر الثمرة فيما لو كان منشأ الاِنكار الاِعتقاد بعدم صدور ما أنكره عن النبي صلى الله عليه وآله أو اشتباه الاَمر عليه فإنه على الاَول يحكم عليه بالكفر ويرتب عليه آثاره بمحض إنكاره، بخلاف الثاني حيث لا يحكم عليه بالكفر في الفرض المزبور.

فنقول: إن ظاهر إطلاق كلماتهم في كفر منكر الضروري وإن كان يقتضي الوجه

الصفحة 250
الاَول، ولكن النظر الدقيق فيها يقتضي خلافه، وذلك لما هو المعلوم من انصراف إطلاق كلماتهم إلى المنكر المنتحل للاِسلام المعاشر للمسلمين. ومن الواضح ظهور إنكار مثل هذا الشخص في تكذيبه للنبي صلى الله عليه وآله ومع هذا الاِنصراف لا مجال للاَخذ بإطلاق كلامهم في الحكم بكفر منكر الضروري حتى مع العلم بعدم رجوع إنكاره إلى تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وبعد عدم دليل في البين على ثبوت الكفر بمحض الاِنكار أمكن الاِلتزام بعدم الكفر فيمن يحتمل في حقه الشبهة وخفاء الاَمر عليه بحسب ظهور حاله كما فيمن هو قريب عهد بالاِسلام عاش في البوادي ولم يختلط بالمسلمين حيث أن إنكار مثله لا يكون له ظهور في تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وبذلك يندفع ما قد يتوهم من اقتضاء البيان المزبور عدم الحكم بالكفر حتى في من نشأ في الاِسلام وعاشر المسلمين مع احتمال الشبهة في حقه خصوصاً مع دعواه عدم اعتقاده بصدور ما أنكره عن النبي صلى الله عليه وآله وأنه من الموضوعات. إذ نقول إنه كذلك لولا ظهور حال مثله في تكذيب النبي صلى الله عليه وآله وعدم خفاء شيء عليه من أساس الدين وضرورياته، حيث أن العادة قاضية بأن من عاشر المسلمين مدة مديدة من عمره لا يخفى عليه شيء من أساس الدين وضرورياته فضلاً عمن كان مسلماً وكان نشوؤه من صغره بين المسلمين، فإنكار مثل هذا الشخص يكشف لا محالة بمقتضى ظهور حاله عن تكذيب النبي بحيث لو ادعى جهله بذلك أو اعتقاده بعدم صدور ما أنكره عن النبي لا يسمع منه بل يحكم بكفره.

وهذا بخلاف غيره ممن كان نشوؤه في البوادي أو البلاد التي لا يوجد فيها المسلم فإن ظهور حاله ربما يكون على العكس، ومن ذلك لا نحكم بكفره بمجرد انكاره لشيء من ضروريات الدين خصوصاً مع دعواه عدم علمه بكون ما أنكره صادراً عن النبي صلى الله عليه وآله.

بل ولعل في جعل مدار الكفر على إنكار الضروري دلالة على ما ذكرنا من طريقية الاِنكار للتكذيب بلحاظ بعد خفاء ما هو أساس الدين وضرورياته على المنتحل

الصفحة 251
للاِسلام المعاشر مع المسلمين بخلاف غير الضروري حيث لا بعد في خفائه وإلا فلا فرق في استلزام الاِنكار للتكذيب بين الضروري وغيره، وحينئذ فيمكن الجمع بين إطلاق كلامهم في كفر منكر الضروري وبين ما هو الظاهر من طريقية الاِنكار للتكذيب بحمل الاِطلاقات على المنكر المنتحل للاِسلام المعاشر مع المسلمين برهة من عمره.

وقد يستدل على استتباع مجرد الاِنكار للكفر بما رواه زرارة عن أبي عبدالله عليه السلام من قوله: لو أن العباد إذا جهلوا وقفوا ولم يجحدوا لم يكفروا، ولكن يدفعه ظهور الرواية في الاِنكار الناشي عن العناد إذ الجحد ليس إلا عبارة عن ذلك ومن المعلوم عدم صلاحية مثله للدلالة على ثبوت الكفر بمحض الاِنكار، ومجرد كون الاِنكار العنادي موجباً للكفر لا يقتضي تسرية الحكم إلى مطلق الاِنكار، ومن ذلك نقول أن الاِنكار العنادي موجب للكفر مطلقاً ولو في غير الضروري.

هذا كله في صورة التمكن من تحصيل العلم والاِعتقاد الجزمي، ولقد عرفت وجوبه عليه فيما يرجع إلى الله جل شأنه وما يرجع إلى أنبيائه ورسله وحججه وأنه مع الاِخلال به يكون معاقباً لا محالة.

نعم يبقى الكلام حينئذ في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وغيرها مع الاِخلال بتحصيل المعرفة، فنقول:

أما مع عدم إظهاره للشهادتين فلا إشكال في كفره وترتيب آثاره عليه من النجاسة وعدم الاِرث والمناكحة. وأما مع إظهار الشهادتين ففيه إشكال ينشأ من كفاية مجرد إظهار الشهادتين مع عدم الاِنكار في الحكم بالاِسلام، ومن عدم كفايته ولزوم الاِعتقاد في الباطن أيضاً.

ولكنه لا ينبغي التأمل في عدم كفايته فإن حقيقة الاِسلام عبارة عن الاِعتقاد بالواجب تعالى والتصديق بالنبي عليه السلام بكونه رسولاً من عند الله سبحانه وأن الاِكتفاء بإظهار الشهادتين من جهة كونه أمارة على الاِعتقاد في الباطن كما يظهر ذلك أيضاً

الصفحة 252
من النصوص الكثيرة. ولا ينافي ذلك ما يترائى في صدر الاِسلام من معاملة النبي صلى الله عليه وآله مع المنافقين معاملة الاِسلام بمجرد إظهارهم الشهادتين مع علمه صلى الله عليه وآله بعدم كونهم مؤمنين بالله ولا مصدقين برسوله واقعاً وأن إظهارهم الشهادتين كان لمحض الصورة إما لاَجل خوفهم من القتل وإما لبعض المصالح المنظورة لهم كالوصول إلى مقام الرياسة والآمال الدنيوية لما سمعوا وعلموا من الكهنة بارتقاء الاِسلام وتفوقه على سائر المذاهب والاَديان، مع أنهم لم يؤمنوا بالله طرفة عين كما نطقت به الاَخبار والآثار المروية عن الاَئمة الاَطهار. إذ نقول إن في معاملة النبي صلى الله عليه وآله والوصي مع هؤلاء المنافقين في الصدر الاَول معاملة الاِسلام بمحض إظهارهم الشهادتين وجوها ومصالح شتى.

منها تكثير جمعية المسلمين وازديادهم في قبال الكفار وعبدة الاَوثان الموجب لازدياد صولة المسلمين في أنظار المشركين.

ومنها حفظ من في أصلابهم من المؤمنين الذين يوجدون بعد ذلك.

ومنها تعليم الاَمة في الاَخذ بما يقتضيه ظاهر القول بالشهادتين في الكشف عن الاِعتقاد في الباطن، فإنه لو فتح مثل هذا الباب في الصدر الاَول لقتل كل أحد صاحبه لاَجل ما كان بينهم من العداوة في الجاهلية بدعوى أن اعتقاده على خلاف ما يظهره باللسان وأن إظهار الشهادتين كان لاَجل الخوف من القتل أو الطمع في الشركة في أخذ الغنيمة ومثله لا يزيد المسلمين وشوكتهم إلا ضعفاً كما يشهد لذلك الآية الشريفة: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً، وقضية أسامة بن زيد في ذلك معروفة.

ومنها غير ذلك من المصالح التي لاحظها النبي صلى الله عليه وآله مع علمه بكونهم حقيقة غير مؤمنين على ما نطق به الكتاب المبين في مواضع عديدة في قوله سبحانه: يحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم، وقوله: وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض.... الخ. وغير ذلك من الآيات الكثيرة.


الصفحة 253
وأين ذلك وزماننا هذا الذي قد كثر فيه المسلمون كثرة عظيمة، وحينئذ فلا يمكن الاِلتزام بترتيب آثار الاِسلام على مجرد إظهار الشهادتين مع العلم بعدم كون إظهارها إلا صورياً محضاً خصوصاً مع ظهور اعتبار القول في كونه لاَجل الحكاية والطريقية عن الاِعتقاد في الباطن، بل لابد من ترتيب آثار الكفر عليه في الفرض المزبور.

هل أن الكافر يعرف الله تعالى ؟

ـ مسالك الاَفهام ج 2 ص 75

النية معتبرة في الكفارة لاَنها عبادة تقع على وجوه مختلفة فلا يتميز المقصد منها بالنية لقوله صلى الله عليه وآله: إنما الاَعمال بالنيات ويعتبر فيها نية القربة لقوله تعالى: وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين، وهذا هو القدر المتفق عليه منها....

إذا تقرر ذلك فقد فرع المصنف على اعتبار نية القربة به أنه لا يصح من الكافر كتابياً كان أم غيره، محتجاً بتعذر نية القربة في حقه، وفيه نظر، لاَنه إن أراد بنية القربة المتعذرة منه نية إيقاع الفعل طلباً للتقرب إلى الله بواسطة نيل الثواب أو ما جرى مجرى ذلك سواء حصل له ما نواه أم لا، منعنا من تعذر نية القربة من مطلق الكافر، لاَن من اعترف منهم بالله تعالى وكان كفره بجحد نبوة النبي صلى الله عليه وآله أو غيره من الاَنبياء أو بعض شرايع الاِسلام يمكن منه هذا النوع من التقرب، وإنما يمتنع من الكافر المعطل الذي لا يعترف بوجود الله تعالى كالدهري وبعض عبدة الاَصنام، وإن أراد بها إيقاعه على وجه التقرب إلى الله تعالى بحيث يستحق بها الثواب طالبناه بدليل على اشتراط مثل ذلك وعارضناه بعبارة المخالف من المسلمين وعتقه فإنه لا يستتبع الثواب عنده مع صحة عتقه، وفي صحة عبادات غيره بحث فُرِد في محله.

وبالجملة فكلامهم في هذا الباب مختلف غير منقح، لاَنهم تارة يحكمون ببطلان عبادة الكافر مطلقاً استناداً إلى تعذر نية القربة منه، ومقتضى ذلك إرادة المعنى

الصفحة 254
الثاني لاَن ذلك هو المتعذر منه لا الاَول، وتارة يجوزون منه بعض العبادات كالعتق وسيأتي تجويز جماعة من الاَصحاب له منه، مع اشتراط القربة فيه نظراً إلى ما ذكرناه من الوجه في الاَول.

وقد وقع الخلاف بينهم في وقفه وصدقته وعتقه المتبرع به ونحو ذلك من التصرفات المالية المعتبر فيها القربة، واتفقوا على عدم صحة العبادات البدنية منه نظراً إلى أن المال يراعي فيه جانب المدفوع إليه ولو بفك الرقبة من الرق فيرجح فيه جانب القربات بخلاف العبادات البدنية، ومن ثم ذهب بعض العامة إلى عدم اشتراط النية في العتق والاِطعام واعتبرها في الصيام، إلا أن هذا الاِعتبار غير منضبط عند الاَصحاب كما أشرنا إليه، وسيأتي له في العتق زيادة بحث.

ثم عد إلى العبارة واعلم أن قوله ذمياً كان الكافر أو حربياً أو مرتداً لا يظهر للتسوية بين هذه الفرق مزية، لاَن الكافر المقر بالله تعالى لا يفرق فيه بين الذمي والحربي، وإن افترقا في الاِقرار بالجزية فإن ذلك أمر خارج عن هذا المطلق، وإنما حق التسوية بين أصناف الكفار أن يقول سواء كان مقراً بالله كالكتابي أم جاحداً له كالوثني، لاَن ذلك هو موضع الاِشكال ومحل الخلاف.

وأما ما قاله بعضهم من أن الكافر مطلقاً لا يعرف الله تعالى على الوجه المعتبر ولو عرفه لاَقر بجميع رسله ودين الاِسلام فهو كلام بعيد عن التحقيق جداً، ولا ملازمة بين الاَمرين كما لا ملازمة بين معرفة المسلم لله تعالى ومعرفة دين الحق من فرق الاِسلام، وكل حزب بما لديهم فرحون.

ـ مسالك الاَفهام ج 2 ص 153

قوله: ويصح اليمين من الكافر.. إلخ. إذا حلف الكافر بالله تعالى على شيَ سواء كان مقراً بالله كاليهودي والنصراني أو من كفر بجحد فريضة من المسلمين، أو غير مقر به كالوثني، ففي انعقاد يمينه أقوال أشهرها الاَول، وهو الذي اختاره المصنف والشيخ في المبسوط وأتباعه وأكثر المتأخرين لوجود المقتضي وهو حلفه بالله تعالى